فهرس الكتاب

مكتبة الإمام المهدي

 

2- المنهج العقلي

( منهج الشهيد الصدر (رض))

 لم ينطلق الشهيد الصدر في بحثه ( قضية المهدي (ع)) من بديهات و مقدمات مسلّم بها عند الأطراف ، و لم يعتمد تتبع القضية في كتب التفسير و الرواية ، أو مناقشة ما ورد بشأنها من أسانيد ، و إنما سلك مسلك آخر ، فبدأ بطرح الإثارات حول القضية و عرض التساؤلات و الإشكالات المنتزعة مما قيل و يقال حول القضية ، ثم بدأ بالمناقشة العميقة و الدقيقة معتمداً الدليل العقلي ، و مستنداً إلى معطيات العلم و الحضارة المعاصرة ، و نعرض معالم هذا المنهج كما يأتي :

ألف : لقد مهد السيد الشهيد لبحثه بإعطاء تصور واضح لفكرة المهدي(ع)[1] في جذورها الممتدة إلى التراث الديني و الإنساني ، ثم انتقل إلى تأصيلها في الفكر الإسلامي ، ثم عرضها في التصور الإسلامي على أنها ليست مجرد فكرة و أمل يداعب الشعور ، و يجد عنده الإنسان المسلم استراحة تخلصه من حالة التوتر النفسي عندما تشتد و تتعاظم المحنة – كما هو زعم بعض الباحثين – و إنما ( المهدي (ع)) يتجسد في إنسان معين [2] حي يعيش مع الناس و يشاركهم همومهم وآلامهم ،ب-إن هناك صعوبة في استيعاب هذا التصور الأصيل ،فقد أثار إشكالات الشهيد الصدر (رض)يطرح هذه التساؤلات والإثارات بكل صراحة و وضوح ، ثم يشرع في معالجتها باسلوبه الخاص ، و ذلك ليضع القضية في محلها الطبيعي ضمن إطار العقيدة الإسلامية التي تقوم أساساً على العقلانية و الواقعية و البرهان .

أ- و التساؤل الأول الذي يطرحه السيد الشهيد هو :

" إذا كان المهدي(ع) يعبر عن إنسان حي عاصر كل تلك الأجيال المتعاقبة منذ أكثر عشرة قرون ، و سيظل يعاصر امتداداتها ، فكيف تأتى له هذا العمر الطويل ؟؟  و كيف نجا من القوانين الطبيعية التي تحتم مروره بمرحلة الشيخوخة و الهرم ؟؟ " ثم ينتقل من سؤال إلى سؤال ، و من إثارة إلى إثارة بترتيب منطقي يمهد الجواب السابق للاحق ، و تترابط المضامين و المباحث ترابطاً منهجياً محكماً .

و بالنسبة إلى السؤال الأول أعاد طرحه كالآتي : هل بالإمكان أن يعيش الإنسان قروناً متطاولة كما هو المفترض في المهدي (ع) الذي طوى من العمر أكثر من ألف و مئة و أربعين سنة [3] ؟ و هذه الصياغة للسؤال لا تختلف بشيء عن السابق ، و تمهيداً للجواب أعطى إيضاحاً لأنواع الإمكان المتصورة أو المعروفة و هي الإمكان العملي ، و الإمكان المنطقي أو الفلسفي ، و بعد أن بين المقصود بها خلص إلى القول : " أن امتداد عمر الإنسان آلاف السنين ممكن منطقياً ، لأن ذلك ليس مستحيلاً من وجهة نظر عقلية تجريدية " ، و أن الإمكان العملي بالنسبة إلى نوع الإنسان ليس متاحاً الآن ، و التجربة المعاصرة لا تساعد عليه .

أما الإمكان العلمي فلا يُوجد ما يبرر رفض ذلك من الناحية النظرية ، لأن التجارب آخذه بالازدياد لتحويل الإمكان العلمي إلى إمكان عملي ، و هي سائرة بهذا الاتجاه من زاوية محاولاتها لتعطيل قانون الشيخوخة . و في ضوء هذا لا يبقى مبرر منطقي للاستغراب و الإنكار اللهم إلا من جهة أن يسبق ( المهدي (ع)) العلم نفسه فيتحول الإمكان النظري إلى إمكان عملي في شخصه قيل أن يصل العلم في تطوره إلى مستوى القدرة الفعلية . و هذا أيضاً لا يوجد مبرر عقلائي لاستبعاده و إنكاره ، إذ هو نظير من يسبق العلم في اكتشاف دواء السرطان أو غيره مثلاً .

إن هذا السبق – كما يقول السيد الشهيد – في الأطروحة الإسلامية عموماً – التي صممت قضية المهدي (ع) – قد وقع و حصل في أكثر من مفردة و عنوان ، و قد سجل القرآن الكريم نظائر ذلك حين أورد و أشار إلى حقائق علمية تتعلق بالكون و الطبيعة و جاء العلم فأزاح الستار عنها أخيراً ، و الأكثر صراحةً أن القرآن قد دون أمثال ذلك كما في مسألة عمر النبي نوح (ع) ، قال تعالى ( فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ) سورة العنكبوت : 14 ، ثم ينتقل السيد الشهيد إلى افتراض آخر ينشأ عن السابق و هو :

ماذا لو افترضنا أن قانون الشيخوخة قانون صارم ، و أن إطالة العمر أكثر من الحد الطبيعي و المعتاد خلاف القوانين الطبيعية التي دلنا عليه الاستقراء ؟! .

و جوابه : أنه حينئذ يكون من فبيل المعجزة ، و هي ليست حالة فريدة في تاريخ الأنبياء و المرسلين ، والأمر بالنسبة للمسلم الذي يتمد عقيدته من القرآن و السنة المشرفة ليس أمراً منكراً ، إذ هو يجد أن القانون الذي هو أكثر صرامة قد عطل ، كما حدث بالنسبة إلى النبي إبراهيم الخليل عليه السلام في نجاته من النار العظيمة بعد أن ألقي فيها ، و قد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله ( قلنا يا نار كوني برداً و سلاماً على إبراهيم ) سورة الأنبياء : 69 .

ثم يبين السيد الشهيد بعد ذلك أن مسألة المعجزة بمفهومها الديني قد أصبحت في ضوء المنطق العلمي الحديث مفهومةً بدرجةٍ أكبر مما كانت عليه . و شرع في تقديم المعالجة الفلسفية المتينة مستنداً إلى النظريات الفلسفية الحديثة .

ب- و ينتقل السيد الشهيد إلى سؤال آخر و هو :

لماذا كل هذا الحرص على إطالة عمر المهدي(ع) إلى هذا الحد ، فتعطل القوانين لأجله ؟ و لماذا لا نقبل الافتراض الآخر الذي يقول : إن قيادة البشرية في اليوم الموعود يمكن أن تترك لشخص آخر يتمخض عنه المستقبل و تنضجه إرهاصات ذلك اليوم ؟ و يعيد صياغة السؤال كالأتي :

ما هي فائدة هذه الغيبة الطويلة ؟ و ما هو المبرر لها ؟ و يعقب هنا قائلاً : إن الناس لا يريدون أن يسمعوا جواباً غيبياً أي أنهم يطالبون بتفسير اجتماعي للموقف على ضوء الحقائق المحسوسة لعملية التغيير الكبرى نفسها .

و للإجابة عن هذا السؤال ، يتقدم السيد الشهيد و هو متسلح بالمعرفة بقوانين الاجتماع ، و بمتطلبات التغيير الاجتماعي و قوانينه ، فيبدأ بطرح سؤال يمهد به للإجابة ، وهو :

هل يمكن أن نعتبر هذا العمر الطويل للقائد المدخر عاملاً من عوامل نجاحه في عملية التغيير المرتقب ؟ ثم يجيب بالإيجاب ، و يقدم أدلةً تستند إلى فهم عميق لحركة التاريخ ، و مستلزمات التغيير الحضاري الشامل ، و أثر الحضارات التي ينشأ الإنسان في ظلها على مستوى تفكيره و رؤاه و دوره الحضاري ، ثم يكيف المسألة في ضوء رسالة الإسلام و النقلة الحضارية التي يريدها .

و هكذا يحول السيد الشهيد البحث إلى دراسة اجتماعية تعتمد المقولات و المفاهيم الاجتماعية ، فضلاً عن تأصيل مفاهيم و نظرات اجتماعية مهمة .

ج- ينتقل الشهيد الصدر (رض) بعد ذلك إلى معالجة قضية أكبر ترتبط بقضية المهدي (ع) و هي :

( الإمامة المبكرة ) أو ( كيفية إعداد القائد الرسالي ) في نظرية الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية ، فيذكر أن هذه الظاهرة ( الإمامة المبكرة ) عاشتها الأمة فعلاً[4] ، و قد بلغت ذروتها في الإمام المهدي و الإمام الجواد عليهما السلام من قَبلِه .

و هذه الظاهرة – كما يقول رضوان الله تعالى عليه – " تشكل مدلولاً حسياً عملياً عاشه المسلمون و وعوه في تجربتهم مع الإمام بشكل و آخر ، و لا يمكن أن نطالب بالإثبات لظاهرةٍ من الظواهر هي أوضح و أقوى من تجربة أمة " [5].

و يورد السيد الشهيد كثيراً من الحقائق التاريخية التي تؤكد هذه الظاهرة ، ثم يخلص إلى القول : بأنها أي الإمامة المبكرة في ضوء ذلك كانت ظاهرةً واقعية و ليست وهماً أو مجرد افتراض ، و أن لها أمثلةً في القرآن الكريم ، كما هو الأمر بالنسبة إلى النبي يحي (ع) ، في قوله تعالى ( و آتيناه الحكم صبياً ) سورة مريم : 12 . و هذا ما لا يسع المسلم إنكاره .

د-و ينتقل السيد الشهيد إلى البحث الروائي و إلى ما ردده و أثاره المشككون و الخصوم قديماً و حديثاً بقوله :

" كيف نؤمن فعلاً بوجود المهدي (ع) ؟ و هل تكفي بضع روايات تُنقل في بطون الكتب عن الرسول الأعظم (ص) للإقتناع الكامل بالإمام الثاني عشر (ع) على الرغم مما في هذا الافتراض من غرابة و خروج عن المألوف ؟ بل كيف يمكن أن نثبت أن للمهدي وجوداً تأريخياً حقاً ، و ليس مجرد افتراض توفرت ظروف نفسية لتثبيته ؟ "

هكذا يطرح السيد الشهيد هذا السؤال بكل تفرعاته الممكنة و المنتزع بعضها مما أثاره أو يثيره بعض المتأثرين بمناهج الغرب في دراسة تاريخنا الإسلامي و قضيانا الإسلامية مثل أحمد أمين في دراسته ( المهدي و المهدوية) و من سلك هذا المسلك من الخصوم [6] .

و يتصدى السيد الشهيد للإجابة عن هذا السؤال متسلحاً و متوسلاً بمنطق العقل و الدليل العقلي و عندما يعرض الدليل الروائي أيضاً في المقام نجده يعرضه مدعوماً بالوثائق و الواقع و التجربة التاريخية ، و لنسمعه يقول : " إن فكرة المهدي (ع) بوصفه القائد المنتظر لتغيير العالم إلى الأفضل قد جاءت في أحاديث الرسول الأعظم (ص) عموماً ، و في روايات أئمة أهل البيت (ع) خصوصاً ، و أكدت في نصوص كثيرة بدرجة لا يمكن أن يرقى إليها الشك ، و قد أحصي أربعمائة حديث عن النبي (ص) من طرق إخواننا أهل السنة ، كما أحصي مجموع الأخبار الواردة في الإمام المهدي(ع) من طرق الشيعة و السنة فكانت أكثر من ( ستة آلاف رواية) ، و هذا – كما يقول السيد الشهيد – رقم إحصائي كبير لا يتوفر نظيره في كثير من قضايا الإسلام البديهية التي لا يشك فيها مسلم عادة " [7] .

ج- يتخذ السيد الشهيد (رض) هنا مسلكاً جديداً في الإستدلال على ( الخصوصية المذهبية ) أي مسألة تجسيد الفكرة ( فكرة المهدي) في إنسان معين هو الإمام الثاني عشر (ع) ، مستفيداً من الروايات و البحث الروائي ، و موظفاً ذلك بصورة مبدعة في إثبات ( المهدي (ع)) ، فيطرح أولاً المبرارات التي يراها كافية للإقتناع و يلخصها في دليلين أحدهما أطلق عليه ( الدليل الإسلامي ) و الآخر ( العلمي ) فيقول : " فبالدليل الإسلامي نثبت وجود القائد المنتظر ، و بالدليل العلمي نبرهن على أن المهدي (ع) ليس مجرد اسطورة و افتراض ، بل هو حقيقة ثبت وجودها بالتجربة التاريخية " .

و يشرع بتقديم الدليل الإسلامي فيراه متمثلاً بمئات الروايات الواردة عن الرسول الأكرم (ص) ، و الأئمة من أهل البيت (ع) و التي تدل على تعين المهدي (ع) و كونه من أهل البيت (ع) ، و من ولد فاطمة (ع) ، و من ذرية الحسين (ع) و ليس من ذرية الحسن ، و أنه التاسع من ولد الحسين (ع) ، و أن الخلفاء اثنا عشر . فإن هذه الروايات تحدد تلك الفكرة العامة و تشخصها في الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت (ع) .

ثم يقول رضوان الله تعالى عليه بشأن تلك الروايات : " و هي روايات بلغت درجةً كبيرة من الكثرة و الإنتشار – كما ورد عن طرقنا – على الرغم من تحفظ الأئمة و إحتياطهم في طرح ذلك على المستوى العام وقاية للخلف الصالح من الإغتيال . . . " .

إن الروايات الكثيرة جداً التي تشكل رقماً إحصائياً كبيراً – أي بلوغها حدّ التواتر كما حكى غير واحدٍ من العلماء – يرى السيد الشهيد أن الأساس في قبولها ليس مجرد الكثرة العددية على الرغم من أنه قد استقر في الأوساط العلمية الروائية إعتبار مثل هذه الكثرة ، بل هناك إضافة إلى ذلك مزايا و قرائن تبرهن على صحتها .

فالحديث الشريف عن الأئمة أو الخلفاء أو الأمراء بعده (ص) ، و أنهم اثنا عشر إماماً أو خليفةً أو أميراً على اختلاف متن الحديث في طرقه المختلفة ، قد أحصى بعض المؤلفين رواياته فبلغت أكثر من مئتين و سبعين رواية مأخذوة من أشهر كتب الحديث عند الشيعة و السنة بما في ذلك البخاري ومسلم و الترمذي و أبي داود و مسند أحمد و مستدرك الحاكم ، و قد لاحظ الشهيد الصدر (رض) هنا أن البخاري ( المولود 194 ، و المتوفى 256 هـ) الذي نقل الحديث كان معاصراً للإمام الجواد (ع) و الإمامين الهادي و العسكري (ع) و في ذلك مغزى كبير ، لأنه يبرهن على أن الحديث قد سجل عن النبي (ص) قبل أن يتحقق مضمونه ، و هذا يعني أن نقل الحديث لم يكن متأثرأً بالواقع الإمامي الإثني عشري أو يكون انعكاس له ، لأن الروايات المزيفة التي تنسب إلى النبي (ص) و هي انعكاسات أو تبريرات لواقع متأخراً زمنياُ لا تسبق في ظروفها و تسجيلها كتب الحديث ، و لقد جاء الواقع الإمامي الإثنا عشري ابتداءاً بالإمام علي (ع) و انتهاء بالمهدي (ع) ليكون التطبيق الوحيد المعقول لذلك الحديث النبوي الشريف .

هذا هو الدليل الإسلامي ، كما اصطلح عليه السيد الشهيد ، أي الدليل الروائي في اثبات المهدي (ع) .

أما الدليل الآخر الذي اصطلح عليه بـ( العلمي ) و الذي يسوقه السيد الشهيد لإثبات الوجود التاريخي للمهدي (ع) ، و انه إنسان بعينه ولد و عاش و اتصل بقواعده الشعبية و بخاصته ، فإن هذا الدليل يتكون كما يرى السيد الشهيد من التجربة التي عاشتها أمةً من الناس فترةً امتدت سبعين سنة تقريباً و هي فترة الغيبة الصغرى .

و يعطي السيد الشهيد هنا فكرة عن هذه الغيبة ، و يفلسفها ، مبيناً دور القائد المهدي (ع) ، و دور سفرائه الأربعة ، و ما صدر عنه من ( توقيعات ) أي رسائل و إجابات كلها جرت على اسلوب واحد ، و بخطٍ واحد و سليقة واحدة طيلة نيابة النواب الأربعة المختلفين اسلوباً و سليقة و ذوقاً و خطاً و بياناً ، و مثل هذا كاشف بالضرورة عن وجود ( الرجل ) ، لأنه ثبت و استقر في الأوساط الأدبية و بما لا يقبل الشك أن الأسلوب هو الرجل ، و كل الدارسين و المتذوقين للأدب يدركون هذه الحقيقة بوضوح .

و بعد هذه القرينة و الشواهد القوية على وجود الإمام المهدي (ع) كما يؤكدها السيد الشهيد يتجه إلى منطق الإستقراء و نظرية الإحتمال لتعزيز ذلك فيقول : " و قد قيل قديماً : إن حبل الكذب قصير ، و منطق الحياة يثبت أيضاً أن من المستحيل عملياً بحساب الإحتمالات أن تعيش اكذوبة بهذا الشكل ، و كل هذه المدة ، و ضمن تلك العلاقات و الأخذ و العطاء ثم تكسب ثقة جميع من حولها " .

و هكذا يخلص السيد الشهيد إلى القول أخيراً : " أن ظاهرة الغيبة الصغيرة يمكن أن تعتبر بمثابة تجربة علمية لإثبات ما لها من واقع موضعي ، و التسليم بالإمام القائد (ع) ، بولادته و حياته و غيبته و إعلانه العام عن الغيبة الكبرى التي استتر بموجبها عن المسرح و لم يكشف نفسه لأحد " [8] أي حتى يأذن الله تعالى له بالظهور لتأدية دوره و وظيفته التغييرية الكبرى " فيملأ الأرض عدلاً و قسطاً بعدما ملئت ظلماً و جوراً " ، كما بشر بذلك خاتم الأنبياء و المرسلين نبينا محمد (ص9) و هذا هو ما عليه اعتقاد الإمامية ، و مقتضى توقيع الإمام الثاني عشر (ع) ، بإعلانه الغيبة الكبرى .

و أخيراً و استكمالاً للبحث ، ربما يثير بعضهم سؤالاً حول المنهج الذي اتبعه الإمام الشهيد – كما حددناه ، و كما هو في واقعه – و السؤال هو :

لماذا لم يسلك السيد الشهيد منهج المتقدمين في البحث الروائي ، و يفضي عليه من إبداعاته و التفاتاته ما يزيل الشكوك و التقولات التي تثار حول أسانيد الروايات ، و تضعيف بعضهم لها ؟

و في الجواب عن ذلك نسجل الملاحظات الآتية :

أولاً : لقد ذكر السيد الشهيد أن هناك عدداً هائلاً من الروايات بلغت رقماً إحصائياً لم يتوفر لأي قضية مشابهة من قضايا الإسلام ، بل إن بعضهم حكى التواتر فيها ، و عليه فليس بوسع مسلم إنكار ذلك أو عدم الإعتقاد بموجبه اللهم إلا لجهة أخرى ، و ليس هي إلا جهة تعقل المسألة ، و قد حظيت بإهتمامه و بالتركيز عليها .

ثانياً : إن أكثر المنكرين المعاصرين إنما أنكروها من زاوية عدم تعقل الفكرة أو تشخيصها و تجسيدها في إنسان وُلد قبل القرون ، و ما يزال ذا وجودٍ حي حقيقي ، و من هنا اتجه السيد الشهيد – بلحاظ أن القضية في حقيقتها إسلامية و ليست مذهبية فحسب – إلى ( عقلنتها ) من جميع جهاتها أو ما يلابسها ، تصوراً و قبولاً و واقعاً .

ثالثاً : إن شأن الإيمان بالمهدي (ع) شأن الإيمان بمطلق ما ورد من المغيبات مما ثبت عن طريق الرواية كسؤال منكر و نكير في القبر و نحو ذلك مما لم يرد في البخاري و مسلم [9] ، و مع ذلك فإن أحداً من أبناء الإسلام لا يسعه إنكاره .

رابعاً : إن الإختلاف بين المتعبدين بحجية الخبر الصحيح و الإيمان بموجبه ، و عدم جواز تكذيبه ، إنما كان في مصداق القضية المتجسد في إنسان لا في أصل قضية المهدي (ع) ، و هو مما احتاج إلى تقديم المبررات المنطقية و العلمية لقبوله .

خامساً : إن الذين أنكروا أو شككوا بالروايات الواردة في المهدي ، و حاولوا تضعيفها ليسوا من أهل الفن و العلم بالرواية و بالأسانيد [10] ، و لذلك فليس ما يدعو إلى إتعاب النفس معهم كثيراً ، بل لا بد من الاتجاه إلى تثبيت العقيدة في نفوس المؤمنين و ذلك ( بعقلنتها ) و توظيفها لإصلاح شأنهم و شؤونهم . و لقد تعامل السيد الشهيد مع قضية المهدي (ع) على انها تجربة أمة ، و قضية أمة ، و كحقيقة ثابتة تاريخية تعيشها الأمة شعوراً و أملاً و ترقباً و انتظاراً إيجابياً فاعلاً و مؤثراً في حياتها و جهادها المستمر بلا هوادة في مواجهة الظلم و الظالمين و الطغاة و الجبارين ، هذا فضلاً على أن العلماء المتقدمين و المتأخرين قد أشبعوا هذا الموضوع بحثاً و تحقيقاً و ناقشوا مناقشات وافية شافية كل الطعون و الأقوال و التضعيفات المزعومة ، و قد أشرنا إلى ذلك آنفاً .

سادساً : إن من التهافت ، و الخطل في الرأي بالنسبة إلى من يؤمن بموجب الخبر الصحيح ، و يوجب تصديقه لمجرد وروده في البخاري حتى لو كان مصادماً لبعض الحقائق الطبيعية أو منافياً للعقل أو للذوق إذ يوجب تأويله حينئذٍ [11] ، حيث وردت مجموعة من الأحاديث و الروايات مما يتنافى مع العقل و الذوق في صحيح البخاري . ثم عندما تصل النوبة إلى مسألة ( المهدي المنظر (ع)) على تعدد طرقها ، و صحة أسانيدها في السنن و المسانيد ، و على شرط البخاري و مسلم ، نراه يتوقف أو يتحفظ أو يتردد ، و ليس لديه حجة إلا أن المسألة – حسب تصوره القاصر- من معتقدات الشيعة [12] ، مع أنها كما ثبت عقيدة السلف و الخلف من جمهور الأمة على امتداد القرون ، كما نبه إلى ذلك الشيخ منصور علي ناصف في غاية المأمول على التاج الجامع للأصول في الجزء الخامس و في الصحيفة ثلاثمئة و احدى و ستين .

سابعاً : إن بحث السيد الشهيد (رض) هو مقدمة لموسوعة ضخمة تتناول بالبحث الروائي مسألة المهدي (ع) ألفها العلامة السيد محمد الصدر ، و السيد الشهيد (رض) عبّر عن أمله بالمؤلف و بأنه أوفى المسألة حقها و من جميع جوانبها ، و لذا فلا مبرر للبحث الروائي عنده .

 

[1]  راجع الصحيفة 55 و ما بعدها من هذا الكتاب .

[2]  راجع الصحيفة 55 –56 من هذا الكتاب .

[3]  هذا التاريخ إشارة الفترة من ولادة الإمام المهدي عليه السلام إلى تاريخ كتابة البحث و إنجازه في سنة 1397 هـ .

[4]  راجع : الإرشاد / الشيخ المفيد : ص 319 و ما بعدها ، و أيضاً الصواعق المحرقة لابن حجر : ص 223 و 224 .

[5]  راجع : الصواعق المحرقة كما سيذكر في محله من الكتاب المحقق ص 94 .

[6]  أشرنا إلى طائفة منهم في الصحيفة 16 .

[7]  راجع الصحيفة 103_ 104 من هذا الكتاب .

[8]  راجع الصحائف 104- 111 من هذا الكتاب .

[9]  راجع بحث الشيخ عبدالمحسن العباد المنشور في مجلة الجامعة الإسلامية الصادرة بالمدينة المنورة / سنة 1969 م .

[10]  راجع البحث السابق للشيخ العباد ، و دفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي 1: 205- 523 .

[11]  راجع : تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة : ص 276 ، طبعه القاهرة 1326 هـ ، أضواء على السنة المحمدية / الشيخ محمود أبو رية ، دراسات في البخاري و الكافي / هاشم معروف الحسني .

[12]  راجع ما نقله الشيخ عبد المحسن العباد في بحثه المذكور سابقا ً .