الفصــل الأوَّل لولاك لما خلقت آدم
إنَّ قصَّة خلق آدم طويلة إلاّ أنَّنا نحاول الإشارة إلى بعض الجوانب المهمَّة منها ، قال تعالى : (وإذ قال ربُّك للملائكةِ إنِّي جاعلٌ في الأرض خليفة)(البقره/30) فهاهنا يُذكِّر الله سبحانه نبيَّنا تلك القضيَّةَ التِّي حدثت عند خلق آدم فيقول وإذ أي أُذكر ذلك الحدث ، والظرف إذ منصوب بإضمار أذكر(تفسير الكشاف للزمخشري ج1 ص271). فيستفاد من ذلك أنَّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان قد شهد تلك المشاهد من بداية الخلق حيث يقول سبحانه: (وإذ قال ربّك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) وبطبيعة الحال كان صلوات الله عليه يعلم تفصيلاً وعلى مستوى الجزئيات تلك القضايا والحوادث التي مرَّت من بداية خلق آدم وما حدث بعد ذلك ومهمّة القرآن ليست هي إلاّ تذكيره عليه السلام بها ، ومن هنا نشاهد أنَّه سبحانه يقول: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)(يوسف/3). ولا يخفى الفرق بين الغفلة وبين الجهل فهو صلوات الله عليه لم يكن جاهلاً بتلك القصص بل كان عالماً بها والقرآن إنَّما يُذكِّره بما كان يعلمه وغفل عنه. وقد ذُكرت كلمة إذ بهذا المعنى في أكثر من مائتي موردٍ من القرآن ، كما أنَّه قد صرَّح سبحانه بقوله (واذكر) في موارد عشـرة وهي: 1- (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا)(مريم/16). 2- (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا)(مريم/41). 3- (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا)(مريم/51). 4- (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا)(مريم/54). 5- (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا)(مريم/56). 6- (..وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ)(ص/17). 7- (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ)(ص/41). 8- (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ)(ص/45). 9- (واذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنْ الأَخْيَارِ)(ص/48). 10- (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ..)(الأحقاف/21). فإذاً النبيُّ صلى الله عليه وآله كان عالماً بتأريخ السابقين من الأنبياء والأولياء وغيرهم وذلك لعلمه بالغيب وهذه الحقيقة من عقائدنا المسلَّمة الثابتة عقلاً ونقلاً وليس هنا موضع الحديث عنها. على أنهم أوَّل ما خلق الله كما سيتضح لك فيما بعد وفي الزيارة الجامعة المنقولة في عيون أخبار الرضا عليه السلام مسنداً عن الإمام النقي عليه السلام : (خلقكم الله أنواراً فجعلكم بعرشه مُحدقين حتَّى منَّ علينا بكم فجعلكم في بيوت أذن الله أن ترفع ويُذكر فيها اسمه)(بحار الأنوار ج100 ص103 رواية1 باب6). فهم إذاً قد شاهدوا جميع ما خلق الله من الموجودات وكانوا قد اطَّلعوا عليها .
العلاقة بين الإنسان والملائكة: ينبغي لنا أن نبيِّن مدى العلاقة والارتباط المتواجد بين الملائكة وبيننا نحن البشر ، فهناك ترابط حيوي له دور في حركة الإنسان الرسالي الذي ينطلق من مبدأ العقل والقلب ، فكما أنَّ الاعتقاد بالتوحيد والنبوة والإمامة وسائر الأصول له تأثير في تعامل الإنسان وارتباطه مع ما حولَه من الموجودات كذلك الاعتقاد بالملائكة أيضاً له ذلك الدور الذي يسيِّره نحو الكمال المطلق . ومن هذا المنطلق صار الإيمان بالملائكة من جملة الأمور العقائديَّة التِّي قد آمن بها الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ، وآمن بها كلّ المؤمنين. (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)(البقرة/285). وفي موطن آخر نشاهد أنَّ الله سبحانه حكم علي الكافرين بالملائكةِ، بالضلال البعيد فيقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا)(النساء/136). وأما دور الملائكة ومسئولياتهم الخطيرة تجاه الإنسان فهي كثيرة والملاحظ في القرآن الكريم أنَّ من أهمِّ أدوار الملائكة هو الصلاة المستمرة على النبيِّ تبعاً لصلاة الله تعالى عليه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)(الأحزاب/56). وأيضاً صلاتهم علي المؤمنين (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)(الأحزاب/43). ولابدّ أن نعلم أنَّ هناك مرحلة أهمّ من ذلك وهي التعرُّف على الملائكة الموكَّلةِ علينا خاصَّة لأنه لا محالة سوف نواجههم ويواجهوننا بل نصحبهم ويصحبوننا في كلٍ من عالمي البرزخ والآخرة. ففي تفسير الإمام : (قال عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم … فإنَّ كلَّ واحدٍ منكم معه ملكٌ عن يمينه يكتب حسناته و ملكٌ عن يساره يكتب سيئاته…)(بحار الأنوار ج63 ص271 رواية 158 باب3) كلُّ ذلك أدَّى إلى طرح موضوع خلقة آدم - وخلافة بنيه في الأرض -على الملائكة فقال تعالى لهم: (..إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً..)(البقرة/30). والظاهر أنّه ليس المراد أنّ آدم نفسَه يكون خليفة في الأرض بل كان خلق آدم لأجل تلك الخلافة التّي سوف يمنحها ويجعلها سبحانه لبعضٍ من وُلده وهم الخُلَّص من عباده وهم الذين يجدر أن يطلق عليهم الإنسانُ الكامل بمعنى الكلمة. وبالطبع هم نور واحد وحقيقة فاردة وإن تكثّروا في عالم الطبيعة ومن هنا نشاهد أنّه سبحانه لم يذكر الخليفة بصورة الجمع فلم يقل خلائف أو خلفاء بل جعلها مفردة.
الأمانـة الإلهـيَّة: إنَّ الخلافة الإلهية تعني النيابة عنه تعالى في جميع شئونه وصفاته الجمالية والجلالية وهو أمر عظيم بل هو الأمر كما أنَّ الأوصياء هم أولوا الأمر ولعلها هي الأمانة الإلهية التيِّ يتطرق إليها سبحانه في قوله: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً)(الأحزاب/72). وحيث أنَّ الإنسان قد حمل تلك الأمانة فلا بدَّ إذاً من أن يُمدح ويُحمد على ذلك لا أن يُذمّ ويُعاتب ، وبالفعل قد مدحَه الله سبحانه بأنَّه كان ظلوماً جهولاً ، فانظر إلى لطافة هذا التعبير وتمعَّن في محتواه فإنَّ الإنسان كان من أوّل الأمر ظلوماً بالنسبة إلى ما سوى الله سبحانه ، وجهولاً بجميع الموجودات سوى بارئه تعالى ، فلم يكن يطلب إلاّ الله ولم يكن يعرف إلاّ المطلق . (من بخال لبت أي دوست كرفتار شدم) فالخال كناية عن وحدة الذات المطلقة وهو مبدأ ومنتهى الكثرة الاعتبارية وهو الهوية الغيبية المحتجبة عن الإدراك والشعور. هكذا فسَّر إمامُنا قدِّس سرُّه هذه الآية المباركة وما أعظمه من تفسير!! وقال في بعض أشعاره: (عارفان رخ تو جمله ظلوم اند وجهول....اين ظلومي وجهولي ، سر وسوداي من است) أي عرفاء وجهك كلهم ظلومون وجهولون.... هذا الظلوم والجهول من أعظم ما يختلج في خاطري. قال الإمام قدس الله روحه: (وهاتان الصفتان (أعني الظلومية والجهوليّة) هما أحسنُ صفتين اتصف بهما الإنسان من بين سائر صفاته) أقول: إنَّ هذا التفسير نابعٌ من ذلك الفكر العرفاني الذي يبني عليه إمامُنا سائَر أفكارِه المميَّزة والذي هو أهم أساس لرؤيتِه العرفانيَّة وأفكاره النورانيَّة بل حتّى مواقفه الثورية ضد الطغاة المستكبرين. وهذا الأساس هو (العشق بالكمال المطلق) (الأربعون حديثا ، الحديث11 ص 179 الى 187 و كتاب شرح دعاء السحر) والحديث عن هذا الموضوع ذو جوانب عديدة وشُعب كثيرة لعلِّي وُفقت لإفراد رسالة عنه إنشاء الله تعالى. هذا: الملائكة لم تتوفر لديها أرضيَّة الخلافة وكذا سائر الموجودات حيث أن الملائكة مظاهر جمال الله ليس إلا كما أنّ هناك موجودات كثيرة وبالأخص في جنس الحيوانات هي مظاهر الجلال الإلهي .
الإنسان مظهر الجمال والجلال: أماّ الإنسان فهو مظهر للجمال والجلال معاً وذلك لوجود الجانبين فيه ومن هنا نعلم السرّ في التعبير القرآني حيث يقول سبحانه مخاطباً لإبليس: (..مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ..)(ص/75). دون الملائكة ولاختصاصه بالعشق دون الجن. قال الإمام قدِّس سرُّه: (فهو تعالى بحسب مقام الإلهية مستجمع للصفات المتقابلة كالرحمة والغضب، و البطون والظهور، و الأوّليَّة والآخريّة ، و السخط والرضا، وخليفته لقربه إليه ودنّوه بعالم الوحدة والبساطة مخلوق بيدي اللطف والقهر وهو مستجمع للصفات المتقابلة كحضرة المستخلف عنه . ولهذا اعترض على إبليس بقوله تعالى: (..مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ..)(ص/75). مع أنّك مخلوق بيد واحدة . فكل صفة متعلق باللطف فهي صفة الجمال ، وكل ما يتعلق بالقهر فهو من صفة الجلال . فظهور العالم ونورانيّته وبهائه من الجمال وانقهاره تحت سطوع نوره وسلطة كبريائه من الجلال وظهور الجلال بالجمال واختفاء الجمال بالجلال جمالك في كل الحقايق ساير وليس له إلاّ جلالك ساتر)(شرح دعاء السحر)
ثمَّ: إنَّ إمامنا له بيان آخر أدقّ مما ذكرناه قد بيَّنه في كتابه مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية قال: (نور: لعلّ الأمانة المعروضة على السموات و الأرض والجبال التي أبَينَ عن حملها و حمَلَها الإنسان الظلومُ الجهول هي هذا المقام الإطلاقي فإن السموات و الأرضيين و ما فيهن حدودات مقيدات حتى الأرواح الكلية و من شأن المقيَّد أن يأبى عن الحقيقة الإطلاقية . و الأمانة هي ظلّ الله المطلق وظّل المطلق مطلق يأبى كل متعين عن حملها و أما الإنسان بمقام الظلوميّة التي هي التجاوز عن قاطبة الحدودات و التخطي عن كافّة التعيَينات و اللاَّ مقامى المشار إليه بقوله تعالى شأنه على ما قيل: (يا أهل يثرب لا مقام لكم) والجهولية التي هي الفناء عن الفناء قابل لحملها فحملها بحقيقتها الإطلاقية حين وصوله إلى مقام قاب قوسين و تفكَر في قوله تعالى : ( أو أدنى ) و اطفِ السراج فقد طلع الصبح)(مصباح الهداية إلى الخلافة و الولاية ص96). أقول: إنَّ الفناء عن الفناء من المراتب الراقية للإنسان حيث لا يتوجَّه الإنسان إلى نفسِه أصلاً (بل هو فانٍ في الله) و لا يتوجَّه إلى عدم توجُّهه و فنائه ( لأنَّ التوجُّه إلى الفناء هو نوعٌ من الأنانيَّة ) . قال مولانا جلال الدين الرومي: (در خدا كُم شَو كمال اينست وبس كُم شدن كُم كُن وصال اينست) افن في الله فهو الكمال ليس إلاّ و افن في فنائك فهو الوصال ليس إلاّ.
ماذا يعني ( ربُّـك ) ؟ ولنرجع إلى الآية المباركة فنقول إِنَّ إضافة الربّ إلى ضمير الكاف في قوله ( ربّك ) تشير إلى أنّ القضية راجعة إلى شخص النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، فالله بما أنه ربّ النبي قال للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة، فالخلافة إذاً لها مساس جذري بشخصيّة النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم.
حديث الملائـكة ثمَّ إنَّ لحن كلام الملائكة حيث قالوا: (..أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ..) (البقرة/30). وإن كان الظاهر منه الاحتجاج أو التعجُب إلاّ أنَّهم لم يكونوا بصدد ذلك كيف وهم (..عِبَادٌ مُكْرَمُونَ*لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)(الأنبياء/26،27). فماذا كانوا يهدفون من قولهم هذا ؟ إنَّهم كانوا يريدون أن يطَّلعوا على حقيقة الأمر في مسألة الخلافة الإلهية فكانوا لا يرون عملاً أعظم ممّا يمارسونه هُم من التسبيح بحمده تعالى والتقديس غافلين عن مرحلةٍ أخرى والتِّي هي أعظم من التسبيح والتقديس وهي العبوديَّة التِّي هي جوهرة كنهها الربوبيَّة ! ومن هنا كانوا يتسائلون حول هذه الخلافة ؟ وكانوا يتوقعون الوصول إلى مستوى الإستخلاف كما في الحديث : (عن الصادق عليه السلام ...يا ربِّ إن كنت ولابدَّ جاعلاً في أرضك خليفةً فاجعله منّا)(بحار الأنوار ج 11 ص 108 رواية 17الباب1-ج57 ص 367 رواية 4 باب4-ج 61 ص 299 رواية 7 باب47-ج 63 ص 83 رواية 38 باب2-ج 99 ص 32 رواية 7 باب4) ومن ناحية أخرى كانت الملائكة قد اطلعت ومن قبل أن يُخلق الإنسان أنَّه بخروجه من الجنَّة سوف يرتكب الجرائم البشعة من الإفساد في الأرض بل سفك الدماء حيث يقولون: (..أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ..)(البقرة/30). أما كيف علموا ذلك فلسنا بصدد الحديث عنه هنا - فبناءً على ذلك يكون استفهام الملائكة أمراً طبيعيّاً وفي محلِّه .
إقنـاع الملائـكة وكيف أجابهم الله جلَّ شأنه؟ (..قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)(البقرة/30). فلم يُنكر سبحانه تلك الأمور أعني الإفساد في الأرض وسفك الدماء كظاهرة سوف تصدر من هذا البشر بل الظاهر أنَّه قد قرَّرها ، ولكنه سبحانه بيَّن للملائكة أنَّهم جاهلون بما يعلمه هو . وهاهنا يتوجَّه سؤال وهو: ماذا كان يعلم الله سبحانه وتعالى؟ هذا ما سيتبيَّن من خلال البحث . قال سبحانه: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا..)(البقرة/31). هناك ارتباط وثيق بين الإسم والمُسمّى بحيث كلما يذكر الاسم وكأنَّ المُسمى قد حضر لدى السامع ، لأنَّ الاسم ليس هو إلاّ مرآة للمسمَّى ولهذا قالوا أنَّ وجود الاسم هو وجود المسمى أو بالأحرى تنزيل للمسمّى وتجلٍّ له ولهذا نشاهد انتقال الجمال والقبح من المسمَّى إلى الاسم. وعلى ضوء ذلك أقول: إنَّ الله سبحانه قد علَّم آدم الأسماء كلها وذلك بدليل الآية المباركة حيث التأكيد بـ ( كلِّها ) مضافاً إلى الجمع المحلَّى باللاّم الدال على العموم ، وهذه الأسماء كلَّها كاشفة عن المُسمَّيات العينية الخارجية فهي كانت حقائق لم يتيسَّر للملائكة الوصولُ إليها ولم تعرف الملائكة أسمائها من قبل أن ينبأهم آدم بأهمِّها التّي كانت مستوعبة ومخيِّمة على سائر الأسماء كما سنبيِّن ذلك . والأحاديث المبيِّنة لتلك الأسماء تتلخَّص في طوائف ثلاثة: الأوَّل: (عن الفضل بن عباس عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن قول الله عز وجل وعلم آدم الأسماء كلها ما هي؟ قال: أسماء الأودية والنبات والشجر والجبال من الأرض)(بحار الأنوار ج 11 ص 471 رواية 19 باب2).
الثاني: (عن أبي العباس عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن قول الله وعلم آدم الأسماء كلها ماذا علمه قال الأرضيين والجبال والشعاب والأودية ثم نظر إلى بساط تحته فقال و هذا البساط مما علمه)(بحار الأنوار ج11 ص147 رواية18 باب2) الثالث: (عن داود بن سرحان العطار قال كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فدعا بالخوان فتغدينا ثم جاءوا بالطشت والدست سنانه فقلت جعلت فداك قوله وعلم آدم الأسماء كلها الطست والدست سنانه منه فقال الفجاج والأودية وأهوى بيده كذا وكذا)(بحار الأنوار ج11 ص147 رواية20 باب2).
وأسـمائكم في الأسـماء ولكن حيث أنّه لم تكن لجميع هذه الأسماء علاقة بمقام الخلافة الإلهيّة نجد أنَّه تعالى يعرض قسما مميَّزاً منها خاصَّة أعني مسمَّياتها ومصاديقها وبطبيعة الحال كانت لتلك المُسميّات علاقةً بالمهمِّ أعني الخلافة التِّي كان سبحانه بصدد إفهامها للملائكة لغرض توجيه خلق آدم عليه السلام . أنظُر إلى هذا التعبير وتأمّل في كلمة (ثم) في قوله تعالى : (ثمَّ عرضَهم على الملائكة)(1). فإنها قد فصَّلتْ بين جميعِ الأسماء وبين التّي عُرضَتْ على الملائكة . وتأمَّل أيضاً في الضمير (هم) فإنَّه لو كانت الأسماء هي المعنيَّة والمعروضة عليهم دون المسمَّيات أو كانت تعني المسميات التِّي لا تمتلك التعقُّلَ لكان التعبير الصحيح هو (عَرضَها) لا (عَرضَهُم). وأصرح من ذلك قوله تعالى: (فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين)(2) فهل يحتمل من يعرف ألف باء اللغةِ العربيةِ أنَّ كلمة هؤلاء تعني الموجودات من الجبال والشعاب والأودية والنبات والشجر بأصنافها؟! . أقـول: بل إنَّما هي أسماء من سيَأتون على الأرض من ذريَّة آدم الذين هم محلّ الاحتجاج والنزاع وبوجود تلك الذرِّية يمكن تبرير خلق آدم عليه السلام وجعله خليفة في الأرض ، وبهم تُجبَر جميعُ المفاسد التِّي سوف يرتكبها بعضُ أولاد آدم عليه السلام ولا يخفى أنَّ كلمة هؤلاء تدلُّ على حضورهم بعينهم آنذاك وهم بعرشه محدقين . ولعلَّ قوله عليه السلام في الزيارة الجامعة الكبيرة وأسمائكم في الأسماء إشارة إلى هذه الحقيقة حيث كانت أسمائهم في الأسماء التِّي علَّمها الله آدم عليه السلام . ثمَّ إنَّه على ما ذكرناه يمكننا معرفة ما تروم إليه الأحاديث المتظافرة في هذا المجال، ورعاية للاختصار نذكُر بعضها: ذكر العلامة المجلسي رحمه الله في البحار عنواناً في مساواة علي عليه السلام مع آدم وإدريس ونوح عليهم السلام نقله عن كتاب مناقب آل أبي طالب ، ومن جملة ما ذكر الروايةَ التالية: (بإسناده عن على عليه السلام قال النبي صلى الله عليه وآله: يا على أنت بمنزله الكعبة تُؤتى ولا تأتي، آدم باع الجنة بحبّات حنطة فأُمر بالخروج منها قلنا اهبطوا منها جميعا وعليٌ اشترى الجنة بقرص فأُذن له بالدخول فيها وجزاهم بما صبروا جنة، علم آدم الأسماء كلها وكان اسم علي وأسماء أولاده عليه السلام فعلَّم اللهُ آدم أسماءهم)(بحار الأنوار ج 39 ص 48 رواية 15 باب73)
وفي كتاب الإحتجاج للطبرسي: (عن أبي محمَّد العسكري عليه السلام .... فقال رسول الله وهل شرفت الملائكة إلا بحبِّها لمحمَّد وعليٍّ وقبولها لولايتهما انه لا أحد من محبِّي عليٍّ عليه السلام نظف قلبه من قذر الغش والدغل والغل ونجاسة الذنوب إلا كان أطهر وأفضل من الملائكة، وهل أمر الله الملائكة بالسجود لآدم إلا لما كانوا قد وضعوه في نفوسهم إنه لا يصير في الدنيا خلق بعدهم إذا رفعوهم عنها إلا و هم يعنون أنفسهم أفضل منهم في الدين فضلا و أعلم بالله و بدينه علما، فأراد الله أن يعرفهم أنهم قد أخطئوا في ظنونهم واعتقاداتهم فخلق آدم و علمه الأسماء كلَّها ثم عرضها عليهم فعجزوا عن معرفتها ، فأمر آدم أن ينبئهم بها و عرفهم فضله في العلم عليهم ، ثم أخرج من صلب آدم ذريَّة منهم الأنبياء والرسل و الخيار من عباد الله أفضلهم محمَّد ثم آل محمَّد، ومن الخيار الفاضلين منهم أصحاب محمَّد وخيار أمه محمَّد ، و عرف الملائكة بذلك أنهم أفضل من الملائكة إلى آخر الحديث...)(3) والرواية التالية المنقولة في الكافي خير شاهد على ذلك : (عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن ابن فضال عن أبي جميلة عن محمد الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أن الله مثَّل لي أمتي في الطين و علمني أسماءهم كما علم آدم الأسماء كلها فمرَّ بى أصحاب الرايات فاستغفرت لعلي و شيعته أن ربى وعدني في شيعة علي خصلة ، قيل يا رسول الله و ما هي قال المغفرة لمن آمن منهم..)(4)
أقـول: الظاهر أن قوله عليه السلام ( علَّمني أسمائهم ) ثم تشبيهه صلى الله عليه وآله هذا التعليم بتعليم آدم عليه السلام الأسماء كلّها يدلُّ على أنَّ الأسماء التِّي علمَّها الله آدم عليه السلام ليست هي أسماء الجمادات والنباتات والحيوانات فقط بل هي شاملة للإنسان أيضاً.
أوّل ما خـلق الله أقول: إنهم عليهم السلام أوَّل ما خلق الله ولأجلهم خُلِقت سائر الموجودات (لولاك لما خلقت الأفلاك) وأيضاً (لولاك لما خلقت آدم)(5) وهذه المسألة ثابتة عقلاً ونقلاً ففي الحديث: (عن جابر بن عبد الله قال قلت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أول شئ خلق الله تعالى ما هو ؟ فقال نور نبيك يا جابر خلقَه الله ثم خلق منه كلَّ خير)(6) وقال مولى العارفين الإمام العظيم نوَّر اللهُ ضريحه في كتابه القيِّم مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية(7): (مطلَع: إن الأحاديث الواردة عن أصحاب الوحي والتنزيل في بدء خلقهم عليهم السلام وطينة أرواحهم وأنّ أول الخلق روح رسول الله وعليّ صلى الله عليهما وآلهما، وأرواحهم إشارة إلى تعين روحانيتهم التي هي المشيئة المطلقة والرحمة الواسعة تعيّناً عقليّاً لأنّه أول الظهور هو أرواحهم عليهم السلام ، والتعبير بالخلق لا يناسب ذلك فإن مقام المشيئة لم يكن من الخلق في شيء بل هو الأمر المشار إليه بقوله تعالى: ( ألا له الخلق والأمر)، وأن يُطلق عليه الخلق أيضا كما ورد منهم "خلق الله الأشياء بالمشيئة والمشيئة بنفسها" وهذا الحديث الشريف أيضا من الأدلة على كون المشيئة المطلقة فوق التعيُّنات الخلقية من العقل وما دونه. ونحن نذكر رواية دالّة على تمام المقصود الذي أقمنا البرهان الذوقي عليه بحمد الله تيمّناً بذكره و تبرّكاً به في الكافي الشريف: أحمد بن إدريس عن الحسين بن عبد الله الصغير عن محمد بن إبراهيم الجعفري عن أحمد بن على بن محمد بن عبد الله بن عمر بن على بن أبي طالب عليه السلام عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أن الله كان إذ لا كان فخلق الكان والمكانý خلق نور الأنوار الذي نورت منه الأنوار وأجرى فيه من نوره الذي نورت منه الأنوار وهو النور الذي خلق منه محمداً وعليّاً ، فلم يزالا نورين أولين إذ لا شئ كون قبلهما فلم يزالا يجريان طاهرين مطهرين في الأصلاب الطاهرة حتى افترقا في أطهر طاهرين في عبد الله وأبي طالب عليهما السلام)(8) ثمَّ إنَّه : قد ورد في زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم المنقول عن كلٍّ من الشيخ المفيد والسيد والشهيد: (أوَّل النبيين ميثاقا وآخرهم مبعثاً الذي غمسته في بحر الفضيلة و المنزلة الجليلة و الدرجه الرفيعة و المرتبة الخطيرة فأودعته الأصلاب الطاهرة ونقلته منها إلى الأرحام المطهرة..)(9)
لا يسـبقونه بالقول ثمَّ إنَّ الملائكة قد أظهروا عجزهم في قبال هذا الأمر: (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا انك أنت العليم الحكيم)(10) وكلامهم هذا في غاية الأدب والخضوع حيث ابتدؤا بالتسبيح ثمَّ نفوا العلم بنحو مطلق عن أنفسهم ونَسبوه إلى ربِّهم وفي خصوص الأسماء حيث أنَّه تعالى لم يعلِّمهم ذلك فلا علم لهم ، ثمَّ أكَّدوا على أنَّ الله هو العليم الحكيم وفي ذلك إشارة إلى أنَّهم كانوا يرغبون في معرفة تلك الأسماء إن اقتضت الحكمة الإلهية .
الملائكة اقتنـعوا وهاهنا يأتي دور الخطاب الموَّجَه إلى آدم عليه السلام وهو نهاية المطاف وآخر مراحل الحديث مع الملائكة ومن خلال هذا الخطاب وجوابه وصل الملائكة إلى درجة الاطمئنان إن صح هذا التعبير بخصوص الملائكة!! (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأَهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون)(11) أقول: إنَّ الله سبحانه في هذه المرحلة يخاطب آدم عليه السلام ويطلب منه أن يُنبأ الملائكة بتلك الأسماء، والإنباء ليس هو مجرَّد الإعلام بل يُطلَق على خبرٍ ذي فائدةٍ عظيمة وذلك الذي يحصل منه علم أو غلبة الظن. قال الراغب الاصفهاني في مُفرداته (النبأ خبرٌ ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظنٍّ، ولا يقال للخبر في الأصل نبأ حتَّى يتضمَّن هذه الأشياء الثلاثة..) ومراجعة موارد استعمال الكلمة في القرآن الكريم أحسن دليل على ذلك قال تعالى: (فقد كذبـوا فسيأتيهم أنبـاء ما كانوا به يستهزئون)(12) (ولقد جاءك من نبأ المرسلين)(13) (لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون)(14) (واتـل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه)(15) (قل هو نبأ عظيم)(16) (ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبـال أمرهم ولهم عذاب أليم)(17) (تلك القرى نقص عليك من أنبائها)(18) (نَبِّأْ عبادي إنِّي أنا الغفور الرحيم)(19) (قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا)(20) ومن الواضح أنَّه تعالى كان يريد تثبيت شخصية آدم عليه السلام وبيان منزلته العظيمة لا كآدم عليه السلام فحسب بل باعتبار أنَّه المَنشأ للخلق الجديد الذي يُطلَق عليه إنسان ذو الخصوصيّات المتميِّزة بين سائر الموجودات. وهل الله سبحانه كان يريد أن يتعرف الملائكة على مستوى علم آدم عليه السلام وعلى ضوئه يخضعوا له بالسجود؟ هذا ما اعتقد به جمعٌ من المفسرين مع ما يتوجَّه إليهم من الملاحظات التي لا يمكن التخلُّص من الكثير منها. أقول: هناك احتمال آخر أقوى ممّا ذُكر يتلاءم مع الأحاديث الشريفة أيضاً، وهو أنَّه سبحانه بعد أن عرض على الملائكة تلك الأنوار الطاهرة خلفائَه على البرية وحججه على خلقه ولم يتعرف الملائكة لا على أشخاصهم ولا على أسمائهم، فبطبيعة الحال لم يسكن غليلهم ولم يطمئنوا حيث لم تتمُّ لديهم فلسفة خلق الإنسان، فأراد سبحانه من آدم عليه السلام أن يُعرِّفهم للملائكة بذكر أسمائهم قال يا آدم أنبأهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم أذعنوا بالأمر واستسلموا و انحلت تلك الشبهة الغامضة التي نشأت من رؤيتهم غير الصحيحة بالنسبة إلى خلق آدم وهي أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء! ولابأس بالإشارة إلى حديثين في هذا المجال: 1- ما نقله العلامة المجلسي عن كتاب إكمال الدين: (عن الصادق عليه السلام أن الله تبارك وتعالى علم آدم عليه السلام أسماء حجج الله كلها ثم عرضهم وهم أرواح على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين أنكم أحق بالخلافة في الأرض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال الله تبارك وتعالى يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنباهم بأسمائهم وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله تعالى ذكره فعلموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على بريته ثم غيَّبهم عن أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبتهم وقال لهم ألم اقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون)(21) ما نقله العلامة المجلسي عن تفسير فرات ابن إبراهيم الكوفي: (عن أبي عبد الله عليه السلام قال إن الله تبارك وتعالى كان ولا شئ فخلق خمسة من نور جلاله واشتق لكل واحد منهم اسما من أسمائه المنزلة فهو الحميد وسمّاني محمَّدا وهو الأعلى وسمى أمير المؤمنين عليا وله الأسماء الحسنى فاشتق منها حسنا وحسينا وهو فاطر فاشتق لفاطمة من أسمائه فلما خلقهم جعلهم الميثاق عن يمين العرش وخلق الملائكة من نور فلما أن نظروا إليهم عظموا أمرهم وشأنهم ولقنوا التسبيح فذلك قوله تعالى وإنا لنحن الصافون وإنّا لنحن المسبحون فلما خلق الله تعالى آدم عليه السلام نظر إليهم عن يمين العرش فقال يا رب من هؤلاء قال يا آدم هؤلاء صفوتي وخاصتي خلقتهم من نور جلالي وشققت لهم اسما من أسمائي قال يا رب فبحقك عليهم علمني أسماءهم قال يا آدم فهم عندك أمانة سرّ من سرِّى لا يطَّلع عليه غيرك إلا بإذني قال نعم يا رب قال يا آدم أعطني على ذلك العهد فاخذ عليه العهد ثم علمَّه أسماءهم ثم عرض على الملائكة ولم يكن علمهم بأسمائهم فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال و أوفوا بولاية علي عليه السلام فرضا من الله أوف لكم بالجنَّة)(22) أقول: يستفاد من هذا الحديث أنَّ الملائكة كانوا قد شاهدوا هذه الأنوار قبل أن يُخلق آدم عليه السلام و ذلك بعد أن خلقهم الله حيث ورد في الحديث: (وخلق الملائكة من نور فلما أن نظروا إليهم عظَّموا أمرهم وشأنهم ولقنوا التسبيح فذلك قوله تعالى وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون) فكانوا يعرفون شأنهم ومرتبتهم عند الله ولكنَّهم لم يتوقَّعوا أنَّ هناك علاقة بينهم وبين خلق آدم عليه السلام ومن هنا نشاهد أنَّهم وبمجرَّد أن عَرفوا أسمائهم وصلوا إلى القناعة الكاملة وقالوا: (سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علَّمتنا إنَّك أنت العليم الحكيم) ولعلَّهم أشاروا بقولهم هذا أنَّه لا علم لنا أنَّ خلق آدم عليه السلام له علاقة بتلك الأنوار التي رأيناها سابقاً ولو كنّا نعلم ذلك لما اعترضنا أصلاً. والجدير بالذكر أنَّه ورد حديث في الكافي الشريف يقول: (محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن محمد بن أبي عمير أو غيره عن محمد بن الفضيل عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام قال قلت له جعلت فداك إن الشيعة يسألونك عن تفسير هذه الآية عمَّ يتساءلون عن النبأ العظيم قال: ذلك إليَّ، إن شئتُ أخبرتهم وإن شئت لم أخبرهم ثم قال: لكنِّى أخبرك بتفسيرها قلت عمَّ يتساءلون قال: فقال هي في أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول ما لله عز و جل آيه هي أكبر مني و لا لله من نبأ أعظم مني)(الكافي ج1 ص207 رواية3). والحديث ينطبق مع ما نحن فيه حيثُ أنَّ الولاية العظمى هي التِّي كانت السبب لخلق آدم عليه السلام ومن هنا قال (أنبأهم بأسمائهم)
غيب السـموات والأرض هذا: وبعد أن أنباهم آدم بأسمائهم عليهم السلام: (قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات و الأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) والظاهر أنَّ علم الله بغيب السموات والأرض هو نفس العلم الذي جاء في الآية 30 حيث قال إنِّي أعلمُ ما لا تعلمون. ومن هنا يُعلم أنَّ تلك المسمَّيات الخاصَّة التِّي عرضت على الملائكة هي أمور غيبية عن العوالم المختلفة السماوية والأرضية، وهي على ما ذكرنا أرواحُ أئمتنا الأطهار عليهم السلام حيث أنَّها فوق السموات والأرض وفوق جميع الموجودات حيث أنَّ جميع الموجودات تُعدُّ من عالم الخلق، وأمّا تلك الأرواح فهي من عالم الأمر والمشيئة كما لاحظت في تعبير الإمام قدس سرُّه فتأمَّل في ذلك. ولعلَّ الرواية الأولى تشير إلى هذا الأمر حيث جاء فيها: (علم آدم الأسماء كلها ما هي قال أسماء الأودية والنبات والشجر والجبال من الأرض) وهذا التعبير يُشير إلى أنَّ تلك الأسماء لم تكن من الأرض بل هي غيب الأرض.
عـلم الغيـب: هذا: وينبغي لنا أن نتحدَّث ولو باختصار حول علم الغيب فنقول: إنَّ هناك تعابير مختلفة في القرآن الكريم تتعلَّق بغيب السماوات والأرض.
ألف: أنّ الله عالم بغيب السماوات والأرض وهي ثلاث آيات: 1- (قال ألم اقل لكم إني أعلم غيب السموات و الأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون)(23) 2- (إن الله عالم غيب السماوات و الأرض إنه عليم بذات الصدور)(24) 3- (إن الله يعلم غيب السماوات و الأرض والله بصير بما تعملون)(25)
ب: أنَّ غيب السماوات والأرض لله خاصَّة وهي أيضاً ثلاث آيات: 1- (و لله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون)(26) 2- (و لله غيب السماوات والأرض و ما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إنَّ الله على كل شيء قدير)(27) 3- (قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات و الأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي و لا يشرك في حكمه أحدا)(28) فهل يمكن للآخرين أن يطلِّعوا على علم الغيب أم لا ؟ فماذا يعني إذاً قوله تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلاّ من ارتضى من رسول فإنَّه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا)(29) لا يهمنا البحث عنه هنا حيث أنَّه لا يتعلق بما نحن بصدد بيانه .
ما كانت الملائـكة تكتمه؟ وأمّا قوله تعالى وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون وما كانوا يبدونه فواضح وأمّا الذي كانوا يكتمونه فغير معلوم إلاّ أنَّ هناك حديث عن الإمام السجاد عليه السلام يبيّن لنا ذلك وهو: (قال عليه السلام : .. وما كنتم تكتمون ظناً أنّ لا يخلق الله خلقاً أكرم عليه منّا)(30) وهذا الكلام لا يُنافي ما كانوا يعلمونه سابقاً من خلق الأنوار كما مرَّ لأنَّهم في كلامهم هذا يُشيرون إلى عالم الخلق لا عالم الأمر حيث أنَّ الملائكة من عالم الخلق فلم يكونوا يتوقَّعون أن يخلق الله خلقاً أكرم عليه منهم فيأمرهم بالسجود له ففوجئوا بذلك.
|
1 ـ البقرة 31. 2 ـ البقرة 31. 3 ـ بحار الأنوار ج 11 ص 137 رواية 1 باب 2، ج 21 ص 227 رواية 6 باب 29، ج 26 ص 338 رواية 4 باب 8. 4 ـ الكافي ج 1 ص 443 رواية 15. 5 ـ بحار الأنوار ج 16 ص 406 رواية 1 باب 12، ج 40 ص 20 رواية 36 باب 19. 6 ـ بحار الأنوار ج 15 ص 24 رواية 43 باب 1، ج 25 ص 21 رواية 37 باب 1، ج 57 ص 170 رواية 116 باب 1. 7 ـ مصباح الهداية إلى الخلافة و الولاية ص 105. 8 ـ الكافي ج 1 ص 441 رواية 9. 9 ـ بحار الأنوار ج 100 ص 183 رواية 11 باب 2 . 10 ـ البقرة 32. 11 ـ البقرة 33. 12 ـ الشعراء 6. 13 ـ الأنعام 34. 14 ـ الأنعام 67. 15 ـ يونس 71. 16 ـ ص 67. 17 ـ التغابن 5. 18 ـ الأعراف 101. 19 ـ الحجر 49. 20 ـ الكهف 78. 21 ـ بحار الأنوار ج 11 ص 145 رواية 15 باب 2، ج 26 ص 183 رواية 38 باب 6. 22 ـ بحار الأنوار ج 37 ص 62 رواية 31 باب 50. 23 ـ البقرة 33. 24 ـ فاطر 38. 25 ـ الحجرات 18. 26 ـ هود 123. 27 ـ النحل 77. 28 ـ الكهف 26. 29 ـ الجن 26. 30 ـ قد مرّ في الهامش رقم 6. |