الفصل الثالث إنجازات الإمام المهدي(عليه السلام) في الغيبة الصغرىإثبات وجوده و إمامته عليه السلاموهو الهدف الذي توخاه من حضوره للصلاة على ابيه ـ سلام الله عليهما ـ كما تحدثنا عن ذلك سابقاً، وهو من أهم خطواته وتحركاته في غيبته الصغرى، وتبرز أهمية هذا الهدف من كونه يوفر القاعدة الأساس التي يستند اليها تحرّك المهدي في عصر الغيبة، إذ أنّ من الواضح من النصوص الشرعية أنّ النجاة من الضلالة وميتة الجاهلية تكمن في معرفة إمام العصر والتمسك بطاعته، وهذا الإمام مستور غير ظاهر في عصر الغيبة الكبرى لذا فإن الإيمان به ـ وهو مقدمة طاعته والتمسّك بولايته ـ فرع الاطمئنان والثقة بوجوده الى درجة تمكّن المؤمن من مواجهة التشكيكات الناتجة من عدم مشاهدته بصورة حسيّة ظاهرة. وهذا الاطمئنان هو الذي أكملت أسبابه تحركات الإمام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ في فترة الغيبة الصغرى بما أتم من الحجة في التقائه بالثقات وإظهار الكرامات التي لا يمكن تصور صدورها عن غير الامام وغير ذلك مما سجلته الروايات المتحدثة عن هذه الفترة والتي دوّنها العلماء الإثبات في كتبهم[1]. إكمال ما تحتاجه الأمة من معارف الاسلامطوال ما يزيد على القرنين قام أئمة أهل البيت النبوي ـ صلوات الله عليهم ـ بتبليغ معظم ما تحتاجه الأمة خلال عصر الغيبة الكبرى من معارف القرآن الكريم وسنّة جدهم سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله) والتي تمثل بمجموعها الإسلام النقي والدين القيّم الذي أمر الله تبارك وتعالى باتباعه والعمل على وفقه، والعروة الوثقى المعبّرة عن التمسك بالثقلين اللذين تكون بهما النجاة من الضلالة وميتة الجاهلية، وتضمن هذا التراث تحديد وتوضيح قواعد وأصول استنباط الأحكام الشرعية والمعارف الإسلامية من هذا التراث الروائي الثر لسنّة الرسول(صلى الله عليه وآله) وأئمة عترته(عليهم السلام) الذين أمروا أصحابهم بحفظه وتدوينه ليكون مصدراً ـ الى جانب القرآن الكريم ـ لجميع المعارف والأحكام الإسلامية التي تحتاجها الأمة الإسلامية الى ظهور الإمام المهدي(عليه السلام)، وكانت ثمرة هذا الأمر تلك الروايات الشريفة من قبل أصحاب الأئمة حيث عُرفت بالأصول الأربعمائة التي تم تدوينها في عصر الأئمة السابقين للإمام المهدي (عليه السلام)، وحفظت فيها جل نصوص السنة النبوية الشريفة[2]. وخلال الغيبة الصغرى أكمل الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر(عليه السلام) ما تبقّى مما تحتاجه الأمة خلال الغيبة الكبرى من تلك المعارف وما يعين المؤمنين على التحرك والاستقامة على الصراط المستقيم ويحفظ للاُمة استمرار مسيرتها التكاملية; وهذا هو الهدف العام الثاني لسيرته (عليه السلام) في فترة الغيبة الكبرى كما يتجلى في الكثير من الرسائل الصادرة عنه فيها. تثبيت نظام النيابةقام الإمام المهدي(عليه السلام) في هذه الفترة بتعيين عدد من الثقات المخلصين في إيمانهم من شيعته وكلاء عنه يتحركون بإذنه وبأمره ويشكلون جهازاً للارتباط بالمؤمنين، وقد مهد له في ذلك جده الإمام الهادي ومن قبله الإمام الجواد (عليه السلام) ثم تابعه الإمام العسكري (عليه السلام) الذي رسّخ نظام الوكلاء تمهيداً لغيبة ولده. فكان يُعلن توثيق بعض وجوه أصحابه وأنه وكيل عنه، فمثلاً قال(عليه السلام) بشأن عثمان بن سعيد العمري وكيله الذي أصبح فيما بعد وكيلاً لولده الإمام المهدي(عليه السلام)، وكان وكيلاً للإمام الهادي(عليه السلام) أيضاً: «هذا أبو عمرو الثقة الأمين ثقة الماضي وثقتي في المحيا والممات، فما قاله لكم فعنّي يقوله، وما أدى إليكم فعنّي يؤديه »[3]. وقد ذكر الشيخ الصدوق أسماء إثني عشر شخصاً من وكلاء ونواب الإمام المهدي(عليه السلام) في الغيبة الصغرى وأضاف اليهم السيد محمد الصدر أسماء ستة آخرين استناداً الى ماورد في المصادر التأريخية وكتب الرجال[4]، وكان الإمام يتولّى تنصيبهم مباشرة ويصدر بيانات «توقيعات» في ذلك وفي نفي الوكالة عمّن يدّعيها ولم يكن منهم[5]. وثمة تغيير مهم حدث في نظام الوكلاء في هذه الفترة عما كان عليه في زمن الإمام العسكري(عليه السلام)، وهو استحداث الإمام المهدي(عليه السلام) منصب الوكيل الخاص أو السفير العام بينه وبين المؤمنين وهو منصب لم تكن الحاجة إليه قائمة في السابق حيث كان بامكان الوكلاء أو غيرهم الاتصال بالإمام بصورة أو بأخرى، وكان الإمام ظاهراً فلا حاجة لوكيل أو نائب خاص ينوب عنه، أما في عهد الغيبة الصغرى فقد اقتضى عدم ظهور الإمام ايجاد هذا المنصب ليكون محوراً لرجوع المؤمنين خاصةً وأنهم كانوا قد اعتادوا في السابق أن يكون الإمام واحداً في كل عصر. وكان تعيين الوكيل الخاص أو السفير من قبل الإمام المهدي(عليه السلام) مباشرة وعادة ما يكون عبر توقيع يصدره ويبلّغه مباشرة كما هو الحال في الوكيل الأول أو عبر الوكيل السابق فيما بعد. إن الزعماء الشيعة، والأصحاب الأربعة الذين تعاقبوا على هذا المنصب هم: عثمان بن سعيد العمري الذي كان كما عرفنا وكيلاً للإمامين الهادي والعسكري(عليهما السلام)، ثم خلفه إبنه عمرو بن عثمان ثم الحسين بن روح، وخاتمهم كان علي بن محمد السمري ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ . وكان توجيه الإمام لعمل هؤلاء السفراء مباشراً ومستمراً في كل ما كانوا ينوبون عنه من مهام الإمامة حتى فيما يرتبط بأجوبتهم على الأسئلة العقائدية للمؤمنين التي قد يكون من الممكن أن يجيبوا عنها بما يعرفون، إلاّ أنهم ما كانوا يفعلون شيئاً من ذلك إلاّ بتعليم مباشر منه(عليه السلام) الأمر الذي يضفي صبغة الحجة الشرعية على ما صدر عنهم، وهذا ما تدل عليه عدة روايات منها مثلاً مارواه الشيخ الطوسي في الغيبة ضمن حديث طويل بشأن اجابة السفير الثالث الحسين بن روح على سؤال عقائدي لأحد المؤمنين بشأن استشهاد الإمام الحسين(عليه السلام)، إذ ينقل عن راوي الحديث محمد بن ابراهيم الذي كان قد حضر المجلس الذي اجاب فيه الحسين بن روح على السؤال: قال محمَّد بن ابراهيم ابن اسحاق (رضي الله عنه) فعدت إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (قدس سره) من الغد وأنا أقول في نفسي أتراه ذكر لنا يوم أمس من عند نفسه؟ فابتدأني فقال: يا محمَّد بن إبراهيم لَئِن أخر من السماء فتخطفني الطير أو تهوي بي الريح من مكان سحيق أحب إليّ من أن أقول في دين الله برأيي ومن عند نفسي، بل ذلك من الأصل ومسموع من الحجة صلوات الله وسلامه عليه[6]. وواضحٌ أن الأوضاع السياسية القائمة التي أوجبت غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) لم تكن تسمح بأن يكون عمل الوكلاء علنياً، لذلك كان الشرط الأول في الوكلاء وخاصة السفراء أن يكونوا على مرتبة عالية من الالتزام بالكتمان وعدم الكشف عن مكان بل عن وجود الإمام ولذلك كان اختيار الحسين بن روح مثلاً للسفارة رغم وجود مَن هم أعلم منه وأكثر وجاهة بين الأصحاب[7]. لقد قام الإمام(عليه السلام) بتثبيت نظام الوكالة والنيابة الخاصة في الغيبة الصغرى كمقدمة لإرجاع المؤمنين في عصر الغيبة الكبرى الى النائب العام الذي حددت النصوص الشرعية الصفات العامة له وأمر الإمام بالرجوع إليه في عصر الغيبة الكبرى ومهّد له في الغيبة بتعيين أشخاص تتوفر فيهم هذه الصفات لتتعرف الأمة على مصاديق من له الأهلية للنيابة العامة عن الإمام وتستعين بها لمعرفة من تتوفر فيه نظائرها في الغيبة الكبرى، وبعبارة أخرى كانت تجربة السفراء الأربعة نموذجاً معيّناً من قبل الإمام المعصوم(عليه السلام) يبين للاُمة، شرعية الرجوع الى نائب الإمام في غيبته من جهة ومن جهة ثانية تقدم لها نموذجاً تقوّم به من يدعي النيابة عن الإمام في الغيبة الكبرى استناداً الى الصفات التي ذكرتها النصوص الشرعية كشروط للنيابة عن الإمام. حفظ الكيان الايمانيولكن مهمة إثبات وجود الامام(عليه السلام) والتعريف بوكلائِهِ كانت تؤدي أحياناً الى تسرب بعض الأخبار للسلطة فيتدخل الإمام لحفظ نظام الوكلاء حتى ينجز دوره المطلوب في الغيبة الصغرى. فمثلاً يروي ثقة الإسلام الكليني في الكافي عن الحسين بن الحسن العلوي قال: «كان رجل من ندماء روز حسني وآخر معه فقال له : هوذا يجبي الاموال وله وكلاء وسمّوا جميع الوكلاء في النواحي وأنهى ذلك إلى عبيد الله بن سليمان الوزير، فهمَّ الوزير بالقبض عليهم، فقال السلطان: اُطلبوا أين هذا الرجل؟ فانّ هذا أمر غليظ، فقال عبيد الله ابن سليمان: نقبض على الوكلاء، فقال السلطان: لا، ولكن دسوا لهم قوماً لا يعرفون بالأموال، فمن قبض منهم شيئاً قبض عليه قال: فخرج بأن يتقدم إلى جميع الوكلاء أن لا يأخذوا من أحد شيئاً وان يمتنعوا من ذلك ويتجاهلوا الأمر، فاندس لمحمد بن أحمد رجل لا يعرفه وخلا به فقال: معي مال اُريد أن اُوصله، فقال له محمد: غلطت أنا لا أعرف من هذا شيئاً، فلم يزل يتلطفه ومحمد يتجاهل عليه وبثّوا الجواسيس وامتنع الوكلاء كلهم لما كان تقدّم اليهم»[8]. يُستفاد من الروايات الواردة بشأن سيرة الإمام(عليه السلام) في غيبته الصغرى أن جهوده لدفع أذى ارهاب السلطات العباسية لم يقتصر على الوكلاء كما رأينا في الفقرة السابقة، بل شملت أيضاً حفظ سائر المؤمنين من البطش العباسي، وهذه سنّة ثابتة في سيرةِ آبائِه(عليهم السلام) جميعاً، فقد جدوا في رعاية المؤمنين ودفع الأذى عنهم ما استطاعوا الى ذلك سبيلاً. ومن نماذج رعايته للمؤمنين في هذا الجانب مارواه الكليني في الكافي: عن عليّ بن محمد قال: «خرج نهي عن زيارة مقابر قريش والحيرة، فلما كان بعد أشهر دعا الوزير الباقطائي فقال له: الق بني الفرات والبرسيين وقل لهم: لا يزوروا مقابر قريش فقد أمر الخليفة أن يتفقد كل من زار فيقبض عليه»[9]. كما شملت هذه الرعاية قضاء حوائج المؤمنين الشخصية والاجتماعية والإصلاح بينهم والدعاء لهم وتزويدهم بالوصايا التربوية والإجابة على أسئلتهم الدينية وتعليمهم الأدعية وغير ذلك مما سجلته المصادر التأريخية المختصة بهذه الفترة[10]. وثمة أهداف أخرى سعى الإمام لتحقيقها في فترة الغيبة الصغرى مثل كشف التيارات المنحرفة داخل الكيان الشيعي منها: خط عمه جعفر ومنها تيار الوكلاء المنحرفين. وقد أثبت التأريخ نجاح الإمام (عليه السلام) في القضاء عليها إذ انقرض أتباعها سريعاً قبل انقضاء فترة الغيبة الصغرى. وفي الفقرة اللاحقة نلتقي بنموذجين من تحرك الإمام في هذه الفترة لتحقيق الأهداف المذكورة وهما: إصدار التوقيعات والإلتقاء بالمؤمنين. |
|
![]() |