فهرس الكتاب

مكتبة الإمام المهدي


 

الفصل الثالث

تكاليف عصر الغيبة الكبرى

اهتمت الأحاديث الشريفة بقضية تكاليف عصر الغيبة بحكم الأبعاد العملية التي تشتمل عليها فيما يرتبط بتحرك الإنسان في هذه الفترة المتميزة بفتن كثيرة وصعوبات في مواجهتها ناتجة عن عدم الحضور الظاهر لإمام العصر وعدم تيسر الرجوع إليه بسهولة.

في هذا الفصل نذكر على نحو الإيجاز أبرز هذه التكاليف طبق ما حددته الأحاديث الشريفة مع تفصيل الحديث عن أهمها والذي ينطوي على تجسيد التكاليف الأخرى ألا وهو واجب انتظار ظهور الإمام ـ عجل الله فرجه ـ لأنه عُرّض للكثير من أشكال سوء الفهم.

وأبرز التكاليف الاُخرى فكما يلي:

1 ـ ترسيخ المعرفة بإمام العصر ـ عجل الله فرجه ـ وغيبته وحتمية ظهوره وأنه حي يراقب الأمور ويطّلع على أعمال الناس وأوضاعهم وينتظر توفر الشروط اللازمة لظهوره، وإقامة هذه المعرفة على أساس الأدلة النقلية الصحيحة والبراهين العقلية السليمة.

وأهمية هذا الواجب واضحة في ظل عدم الحضور الظاهر للإمام في عصر الغيبة والتشكيكات الناتجة عن ذلك، كما أن لهذه المعرفة تأثيراً مشهوداً في دفع الإنسان المسلم نحو العمل الإصلاحي البنّاء على الصعيدين الفردي والاجتماعي، فهي تجعل لعمله حافزاً إضافياً يتمثل بالشعور الوجداني بأن تحركه يحظى برعاية ومراقبة إمام زمانه الذي يسرّه ما يرى من المؤمنين من تقدم ويؤذيه أي تراجع أو تخلف عن العمل الإصلاحي البناء والتمسك بالأحكام والأخلاق والقيم الإسلامية التي ينتظر توفر شروط ظهوره لإقامة حاكميتها في كل الأرض وإنقاذ البشرية بها.

وقد التقينا في الأحاديث الشريفة التي أخبرت عن غيبة المهدي قبل وقوعها بإشارات صريحة الى هذا الواجب وسنلتقي ضمن الحديث عن واجب الانتظار بنماذج أخرى. يُضاف الى ذلك معظم الأدعية المندوب تلاوتها في عصر الغيبة تحفز على القيام بهذا الواجب وترسيخ المعرفة بالإمام، فمثلاً الكليني في «الكافي» عن زرارة أن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «إن للقائم غيبة... وهو المنتظر وهو الذي يشكّ الناس في ولادته... ]فقال زرارة[: جُعلت فداك إن أدركت ذلك الزمان أي شيء أعمل؟ قال: يازرارة متى أدركت ذلك الزمان فلتدع بهذا الدعاء: اللَّهُمَّ عرّفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك، اللَّهُمَّ عرّفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللَّهُمَّ عرّفني حجتك فإنك إن لم تعرّفني حجتك ضللتُ عن ديني...»[1] وفي الحديث إشارة الى الأسس العقائدية للإيمان بإمام العصر وثمار معرفته.

2 ـ ومن التكاليف المهمة الأخرى التي أكدتها الأحاديث الشريفة لمؤمني عصر الغيبة هو تمتين الارتباط الوجداني بالمهدي المنتظر والتفاعل العملي مع أهدافه السامية والدفاع عنها والشعور الوجداني العميق بقيادته وهذا هو ما تؤكده أيضاً معظم التكاليف التي تذكرها الأحاديث الشريفة كواجبات للمؤمنين تجاه الإمام مثل الدعاء له بالحفظ والنصرة وتعجيل فرجه وظهوره وكبح أعدائه والتصدق عنه والمواظبة على زيارته وغير ذلك مما ذكرته الأحاديث الشريفة وقد جمعها آية الله السيد الإصفهاني في كتابه «مكيال المكارم في فوائد الدعاء للقائم» وكتابه «وظائف الأنام في غيبة الإمام».

3 ـ إحياء أمر منهج أهل البيت(عليهم السلام)[2] الذي يمثله ـ عجل الله فرجه ـ بما يعنيه ذلك من العمل بالإسلام النقي الذي دافعوا عنه ونشر أفكارهم والتعريف بمظلوميتهم وموالاتهم والبراءة من أعدائهم والعمل بوصاياهم وتراثهم وما تقدم من تعاليمهم ونبذ الرجوع الى الطاغوت وحكوماته والرجوع الى الفقهاء العدول الذين جعلوهم حجة على الناس في زمن الغيبة والاستعانة بالله في كل ذلك كما ورد في النص:

«وإن أصبحتم لا ترون منهم ]الأئمة(عليهم السلام) [أحداً فاستغيثوا بالله عز وجل وانظروا السنة التي كنتم عليها واتبعوها وأحبوا ما كنتم تحبون وابغضوا مَن كنتم تبغضون فما أسرع ما يأتيكم الفرج»[3].

4 ـ تقوية الكيان الإيماني والتواصي بالحق الإسلامي النقي والتواصي بالصبر، وهو من التكاليف التي تتأكد في عصر الغيبة بحكم الصعوبات التي يشتمل عليها; والثبات على منهج أهل البيت(عليهم السلام): «يأتي على الناس زمان يغيب عنهم إمامهم، فياطوبى للثابتين على أمرنا في ذلك الزمان...»[4].

هذه عناوين أبرز التكاليف الخاصة بعصر الغيبة وثمة تكاليف خاصة ببعض الحوادث التي تقع فيه أو بعض علائم الظهور مثل مناصرة حركة الموطئة ـ الذين يوطّئون للمهدي سلطانه ـ أو اجتناب فتنة السفياني أو تشديد الحذر عند ظهور بعض العلائم القريبة من أوان الظهور وغير ذلك.

وبعد هذا العرض السريع ننتقل للحديث عن واجب الانتظار الذي يمثل أهم هذه التكاليف ويشتمل العمل به على معظم التكاليف السابقة، ونتناوله ضمن الفقرات التالية.

أهمية الانتظار

تؤكد الأحاديث الشريفة وباهتمام بالغ على عظمة آثار انتظار الفرج; بعنوانه العام الذي ينطبق على الظهور المهدوي كأحد مصاديقه البارزة; وكذلك على انتظار ظهور الإمام بالخصوص. فبعضها تصفه بأنه أفضل عبادة المؤمن كما هو المروي عن الإمام علي(عليه السلام): «أفضل عبادة المؤمن انتظار فرج الله»[5]، وعبادة المؤمن أفضل بلا شك من عبادة مطلق المسلم، فيكون الانتظار أفضل العبادات الفضلى إذا كان القيام به بنية التعبد لله وليس رغبة في شيء من الدنيا; ويكون بذلك من أفضل وسائل التقرب الى الله تبارك وتعالى كما يشير الى ذلك الإمام الصادق(عليه السلام) في خصوص انتظار الفرج المهدوي حيث يقول: «طوبى لشيعة قائمنا، المنتظرين لظهوره في غيبته والمطيعين له في ظهوره، أولئك أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون»[6]. ولذلك فإن انتظار الفرج هو «أعظم الفرج»[7] كما يقول الإمام السجاد(عليه السلام)، فهو يدخل المنتظر في زمرةِ أولياء الله.

وتعتبر الأحاديث الشريفة أنّ صدق انتظار المؤمن لظهور إمام زمانه الغائب يعزز إخلاصه ونقاء إيمانه من الشك، يقول الإمام الجواد(عليه السلام): «...له غيبة يكثر أيامها ويطول أمدها فينتظر خروجه المخلصون وينكره المرتابون..»[8]وحيث إن الانتظار يعزز الإيمان والإخلاص لله عز وجل والثقة بحكمته ورعايته لعباده، فهو علامة حسن الظن بالله، لذا فلاغرابة أن تصفه الأحاديث الشريفة بأنه: «أحب الأعمال الى الله»[9]، وبالتالي فهو «أفضل أعمال أمتي»[10] كما يقول رسول الله(صلى الله عليه وآله).

الانتظار يرسخ تعلق الإنسان وارتباطه بربه الكريم وإيمانه العملي بأن الله عز وجل غالب على أمره وبأنه القادر على كل شيء والمدبر لأمر خلائقه بحكمته الرحيم بهم، وهذا من الثمار المهمة التي يكمن فيها صلاح الإنسان وطيّه لمعارج الكمال، وهو الهدف من معظم أحكام الشريعة وجميع عباداتها وهو أيضاً شرط قبولها فلا قيمة لها إذا لم تستند الى هذا الايمان التوحيدي الخالص الذي يرسخه الانتظار، وهذا أثر مهم من آثاره الذي تذكره الأحاديث الشريفة نظير قول الإمام الصادق(عليه السلام): «ألا أخبركم بما لا يقبل الله عز وجل من العبادة عملاً إلاّ به... شهادة أن لا اله إلاّ الله وأن محمداً عبدُه ورسوله والاقرار بما أمر الله والولاية لنا والبراءة من أعدائنا ـ يعني الأئمة خاصة ـ والتسليم لهم، والورع والاجتهاد والطمأنينة والانتظار للقائم(عليه السلام)...»[11].

وتصريح الأحاديث الشريفة بأن التحلي بالانتظار الحقيقي يؤهل المنتظر ـ وبالآثار المترتبة عليه المشار اليها آنفاً ـ للفوز بمقام صحبة الإمام المهدي كما يشير الى ذلك الإمام الصادق في تتمة الحديث المتقدم حيث يقول: «مَن سره أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر»، وكذلك يجعله يفوز بأجر هذه الصحبة الجهادية وهذا ما يصرح به الصادق(عليه السلام) حيث يقول: «مَن مات منكم على هذا الأمر منتظراً له كان كمن كان في فسطاط القائم(عليه السلام)...»[12]، ويفوز أيضاً بأجر الشهيد كما يقول الإمام علي(عليه السلام): «الآخذ بأمرنا معنا غداً في حظيرة القدس والمنتظر لأمرنا كالمتشحّط بدمه في سبيل الله»[13]، بل ويفوز بأعلى مراتب الشهداء المجاهدين، يقول الصادق(عليه السلام): «مَن مات منكم وهو منتظر لهذا الأمر كمن كان مع القائم في فسطاطه; قال الراوي: ثم مكث هنيئة، ثم قال: لا بل كمن قارع معه بسيفه، ثم قال: لا والله إلاّ كمن استشهد مع رسول الله(صلى الله عليه وآله)»[14].

والأحاديث المتحدثة عن آثار الانتظار كثيرة ويُفهم منها أن تباين هذه الآثار في مراتبها يكشف عن تباين عمل المؤمنين بمقتضيات الانتظار الحقيقي، فكلما سمت مرتبة الانتظار تزايدت آثارها المباركة وبالطبع فإن الأمر يرتبط بتجسيد حقيقة ومقتضيات الانتظار، ولذلك يجب معرفة معناه الحقيقي، وهذا مانتناوله في الفقرة اللاحقة.

[1] الكافي: 1/ 337، غيبة النعماني: 166 ـ 167، كمال الدين: 2/ 342، غيبة الطوسي: 202 .

[2] المحاسن للبرقي: 173، الكافي: 8/ 80، كمال الدين: 664 وفي الحديث الشريف ثناء جليل من الإمام الباقر(عليه السلام) على مَن يجند نفسه لأحياء أمر أهل البيت(عليهم السلام).

[3] كمال الدين: 328 وعنه في بحار الأنوار: 51/ 136.

[4] كمال الدين: 330، بحار الأنوار: 52/ 145.

[5] المحاسن للبرقي وعنه في بحار الأنوار: 52/ 131 .

[6] كمال الدين: 357.

[7] كمال الدين: 320 .

[8] كفاية الأثر: 279، كمال الدين: 378.

[9] الخصال للشيخ الصدوق: 2/ 610، كمال الدين: 645، تحف العقول: 106.

[10] كمال الدين: 644.

[11] غيبة النعماني: 200، إثبات الهداة: 3/ 536.

[12] كمال الدين: 645.

[13] في الخصال: 625 وعنه في بحار الأنوار: 52/ 123.

[14] المحاسن للبرقي: 1/278، 279 ح153 وعنه في بحار الأنوار: 52/126 ح 18 .