فهرس الكتاب

 

ثالثا: المقدمات العمريه والنتائج الامويه
1- الامر بروايه الحديث

امرت الدعوه الال-هيه الخاتمه بتدوين ما بين الناس حفظا للحقوق، قال تعالى: (يا ايها الذين آمنوا اذا تداينتم بدين الى اجل مسمى فاكتبوه)، الى قوله تعالى: (ذلكم اقسط عند اللّه واقوم للشهاده وادنى الا ترتابوا) «البقره: 282»، قال الخطيب البغدادى: (ادب اللّه-تعالى- عباده بقيد ما بينهم من معاملات فى بدايه التعامل حفظا للدين واشفاقا من دخول الريب فيه، فلما امر اللّه-تعالى- بكتابه الدين حفظا له، كان العلم الذى حفظه اصعب من حفظ الدين، احرى ان تباح كتابته خوفا من دخول الريب والشك فيه)(92)، والكتابه اوكد الحجج، ببطلان ما يدعيه اهل الريب والضلال، فالمشركون لما ادعوا بهتانا اتخاذ اللّه -سبحانه- بنات من الملائكه، امر اللّه-تعالى- رسوله ان يقول لهم: (فاتوا بكتابكم ان كنتم صادقين) «الصافات: 157».
والنبى(ص) امر بكتابه العلم، وقال: (قيدوا العلم بالكتاب)(93)، وعن رافع قال: (خرج علينا رسول اللّه(ص) فقال: تحدثوا، وليتبوا من كذب على مقعده من النار، قلت: يا رسول اللّه، انا لنسمع منك اشياء فنكتبها؟ قال: اكتبوا ولا حرج)(94)، وعن ابى هريره قال: (ليس احد من اصحاب النبى(ص) اكثر منى حديثا عن رسول اللّه الا ابن عمرو، فانه كان يكتب ولا اكتب)(95).
وروى ان النبى(ص) قال: (الا انى اوتيت الكتاب ومثله معه)(96)، وكان يقول: (نضر اللّه امرا سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه الى من هو افقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه)(97)، وقال: (تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن سمع منكم)(98).
ولقد وقف البعض من قريش فى طريق الروايه والكتابه، ومن المحفوظ ان اللّه-تعالى- لعن على لسان رسوله(ص) بعض الافراد والقبائل، وان الرسول ذكر اسماء رووس الفتن وهو يخبر بالغيب عن ربه، حتى ان حذيفه قال: (واللّه ما ترك رسول اللّه(ص) من قائد فتنه الى ان تنقضى الدنيا بلغ معه ثلاثمائه فصاعدا، الا قد سماه لنا باسمه واسم ابيه واسم قبيلته)(99)، ويشهد بصد قريش عن الروايه، ما روى عن عبداللّه بن عمرو قال: (قلت: يا رسول اللّه، اقيد العلم؟ قال: نعم، قلت: وما تقييده؟ قال: الكتابه)(100)، وروى عنه انه قال: (كنت اكتب كل شى‏ء اسمعه من رسول اللّه(ص) اريد حفظه، فنهتنى قريش، فقالوا: انك تكتب كل شى‏ء تسمعه من رسول اللّه(ص)، ورسول اللّه بشر يتكلم فى الغضب والرضا، فامسكت عن الكتابه، فذكرت ذلك لرسول اللّه(ص)، فقال: اكتب، والذى نفسى بيده ما يخرج منى الا حق -واشار الى فيه)(101)، وما حدث مع عبداللّه، حدث مع ابن شعيب، فعن عمر بن شعيب عن ابيه عن جده قال: (قلت: يا رسول اللّه، اكتب كل ما اسمع منك؟ قال: نعم، قلت: فى الرضا والغضب؟ قال: نعم، فانى لا اقول فى ذلك كله الا حقا)(102).
وبينما كان النبى(ص) يحث على الروايه والكتابه على امتداد عهد البعثه، كان يخبر بالغيب عن ربه بانه يوشك ان يكذبه احدهم، وان الروايه سيتم تعطيلها الى ان يشاء اللّه، فعن معد يكرب قال: (قال رسول اللّه(ص): يوشك احدكم ان يكذبنى وهو متكى على اريكته، يحدث بحديث من حديثى فيقول: بيننا وبينكم كتاب اللّه، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، الا وان ما حرم رسول اللّه مثل ما حرم اللّه)(103). وقال(ص) لاصحابه: (لالفين احدهم متكئا على اريكته، ياتيه الامر من امرى بما امرت به او نهيت عنه، فيقول: لا ادرى ما وجدناه فى كتاب اللّه اتبعناه)(104)، وقوله: يوشك، اشاره الى ان الامر قريب، وقوله: متكى على اريكته، المتكى: كل من استوى قاعدا على وطاء متمكنا.

 

ا- اجتهادات الصحابه فى روايه الحديث وتدوينه
اجتهد ابو بكر -رضى اللّه عنه- فى روايه الحديث وتدوينه، فقد روى الحافظ عماد الدين بن كثير عن ام المومنين عائشه انها قالت: (جمع ابى الحديث عن رسول اللّه(ص)، فكانت خمسمائه حديث، فبات ليله يتقلب كثيرا، فغمتنى، فقلت: تتقلب بشكوى او بشى‏ء بلغك؟ فلما اصبح قال: اى بنيه هلمى الاحاديث التى عندك، فجئت بها، فدعا بنار فاحرقها، وقال: خشيت ان اموت وهى عندك، فيكون احاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدثنى، فاكون قد تقلدت ذلك)(105)، وذكر الذهبى فى تذكرته عن ابى بكر انه قال: (انكم تحدثون عن رسول اللّه(ص) احاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم اشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسول اللّه شيئا، فمن سالكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب اللّه، فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه)(106).

وروى ان عمر بن الخطاب قال فى خلافته: (انى كنت اريد ان اكتب السنن، وانى ذكرت قوما كانوا قبلكم، كتبوا كتبا فاكبوا عليها وتركوا كتاب اللّه، وانى -واللّه- لا اشوب كتاب اللّه بشى‏ء ابدا)(107)، وروى عن مالك ان عمر قال: (لا كتاب مع كتاب اللّه)(108)، وعن يحيى بن جعده قال: (اراد عمر ان يكتب السنه ثم بدا له ان لا يكتبها، ثم كتب فى الامصار: من كان عنده شى‏ء من ذلك فليمحه)(109)، وعن القاسم بن محمد ان عمر قال: (لا يبقى احد عنده كتاب الا اتانى به فارى فيه رايى، فظن الناس انه يريد ان ينظر فيها ويقومها على امر لا يكون فيه اختلاف، فاتوه بكتبهم، فاحرقها بالنار)(110).

وعن سعد بن ابراهيم عن ابيه ان (عمر بن الخطاب قال لابن مسعود ولابى ذر ولابى الدرداء: ما هذا الحديث عن رسول اللّه(ص)؟ واحسبه حبسهم بالمدينه حتى اصيب)(111)، وعن السائب بن يزيد قال: (سمعت عمر بن الخطاب يقول لابى هريره: لتتركن الحديث عن رسول اللّه(ص)، او لالحقنك بارض دوس)(112)، وعن الزهرى عن ابى سلمه قال: (سمعت ابا هريره يقول: ما كنا نستطيع ان نقول: قال رسول اللّه(ص)، حتى قبض عمر بن الخطاب)(113).
وبعد عمر بن الخطاب بدا بعض الصحابه يروون بعض ما عندهم، فاخذ عثمان بن عفان بسنه عمر فى عدم الروايه، فعن محمود بن لبيب قال: (سمعت عثمان بن عفان يقول: لا يحل لاحد يروى حديثا لم يسمع فى عهد ابى بكر ولا عهد عمر)(114)، ثم اخذ معاويه بن ابى سفيان بهذه السنه، فقال: (ايها الناس، اقلوا الروايه عن رسول اللّه(ص)، وان كنتم تتحدثون فتحدثوا بما كان يتحدث به فى عهد عمر)(115).

وعندما جاء عهد الامام على بن ابى طالب، لم يكن السواد الاعظم من الامه يعرفون عنه الا القليل، وذلك لان عهده جاء بعد وفاه النبى(ص) بربع قرن تقريبا، عمم فيها عدم الروايه على منزلته ومناقبه، وفى عهده بدا الصحابه يروون الاحاديث عن رسول اللّه(ص)، وكان على يقول: (خرج علينا رسول اللّه(ص) فقال: اللهم ارحم خلفائى، اللهم ارحم خلفائى، اللهم ارحم خلفائى، قالوا: يا رسول اللّه، ومن خلفاوك؟ قال: الذين ياتون من بعدى ويروون احاديثى ويعلمونها للناس)(116)، وعن الحسن بن على قال: (قال رسول اللّه(ص): رحمه اللّه على خلفائى، قالوا: ومن خلفاوك يا رسول اللّه؟ قال: الذين يحبون سنتى ويعلمونها للناس)(117)، وعن سعيد بن المسيب قال: (ما كان احد من الناس يقول: سلونى، غير على بن ابى طالب)(118)، وكان على يحض الناس على السوال، ويقول: (الا رجل يسال فينتفع، وينتفع جلساوه)(119)، وكان يقول: (تزاوروا وتدارسوا الحديث، ولا تتركوه يدرس (اى: تعهدوه لئلا تنسوه)(120)، وقال: (تعلموا العلم، فاذا علمتموه فاكظموا عليه ولا تخالطوه بضحك وباطل فتمحه القلوب)(121).

وبالجمله، بينت الدعوه الال-هيه الخاتمه، ان الحديث عن النبى الخاتم(ص)، لا غنى للمسيره عنه، لانه مكمل للتشريع ومبين لمجملات القرآن، ومخصص لعموماته ومطلقاته، كما ان الحديث تكفل بكثير من النواحى الاخلاقيه والاجتماعيه والتربويه، واخبر فيه النبى(ص) بالغيب عن ربه جل وعلا، فبين للناس ما يستقبلهم من احداث لياخذوا باسباب النجاه من مضلات الفتن، وبعد رحيل النبى الخاتم(ص) اجتهد بعض الصحابه فى امر الروايه والتدوين، ولقد تواترت الاخبار فى منع عمر بن الخطاب الصحابه، وهم الثقات العدول، وردعهم عن روايه العلم وتدوينه، وفى هذا يقول ابن كثير: (هذا معروف عن عمر)(122)، ثم سار على سنه عمر خلفاء وملوك بنى اميه، ولم ترو الاحاديث الجامعه للعلم والمبينه للناس ما يستقبلهم من احداث، الا فى عهد الامام على بن ابى طالب(123).

 

ب- من آثار عدم الروايه والتدوين
كانت اهم آثار عدم الروايه، ظهور القص فى المساجد، ومن خلال القص دخلت الاحاديث الاسرائيليه، ورفع القص من شان افراد وقبائل ذمهم اللّه على لسان رسوله، وفى الوقت نفسه عتم القص على افراد اذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وفى عهد الامام على -وعندما اظهر الامام احاديث رسول اللّه- قابله اهل الشام وغيرهم باحاديث يجرى القص فى عروقها، وترتب على ذلك اختلاط الامور على السواد الاعظم من الامه، ولم يكونوا من الصحابه حتى يميزوا بين الصالح والطالح، وجرت المعارك، ثم اختلفت الامه وتفرقت، وكان فى حوزه كل فرقه احاديث تتفق مع اهواء شيوخهم.


1) اضواء على القص
قال رسول اللّه(ص): (ان بنى اسرائيل لما هلكوا قصوا)(124)، وقال: (سيكون بعدى قصاص لا ينظر اللّه اليهم)(125)، واول من امر بالقص، كان عمر بن الخطاب، روى الامام احمد عن السائب بن يزيد قال: (انه لم يكن يقص على عهد رسول اللّه(ص)، ولا ابى بكر، كان اول من قص تميم الدارى، استاذن عمر ان يقص على الناس قائما فاذن له)(126).

واستلم بنو اميه اعلام القص بعد ذلك، روى ان عبد الملك بن مروان قال: (انا جمعنا الناس على امرين: رفع الايدى على المنابر يوم الجمعه، والقصص بعد الصبح والعصر)(127)، ولبس القص الزى الدينى فى عهد بنى اميه، وذلك ان النبى(ص) كان يبدا بالصلاه فى العيدين ثم يخطب بعد ذلك، ففعل بنو اميه العكس، وبداوا بالخطبه لينشروا بذلك مذهبهم السياسى بين الناس، روى الامام مسلم عن ابى سعيد الخدرى ان رسول اللّه(ص) كان يخرج يوم الاضحى ويوم الفطر، فيبدا بالصلاه، فاذا صلى صلاته وسلم، قام فاقبل على الناس وهم جلوس فى مصلاهم، فان كان له حاجه ببعث ذكره للناس، او كانت له حاجه بغير ذلك امرهم بها(128).
اما التغيير ففى ما رواه مسلم عن ابى سعيد الخدرى: (ان مروان خطب قبل الصلاه، فقال له ابو سعيد: غيرتم واللّه، قال مروان: يا ابا سعيد قد ذهب ما تعلم، فقال: ما اعلم -واللّه- خير مما لا اعلم، قال مروان: ان الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاه، فجعلتها قبل الصلاه)، وقد اختلف فى اول من سن هذه السنه، قال فى تحفه الاحوازى: (اختلف فى اول من غير ذلك، فروايه الامام مسلم صريحه فى ان مروان اول من بدا الخطبه قبل الصلاه، وقيل: سبقه الى ذلك عثمان بن عفان، روى ابن المنذر باسناد صحيح الى الحسن البصرى، قال: اول من خطب قبل الصلاه عثمان، وروى ان مروان فعل ذلك تبعا لمعاويه، ومعاويه عندما قدم المدينه قدم الخطبه)(129).
وكان الامام على يتصدى للقصاصين وينهاهم عن القص، فعن ابى البحترى قال: (دخل على بن ابى طالب المسجد، فاذا رجل يخوف، فقال: ما هذا؟ قالوا: رجل يذكر الناس، فقال: ليس برجل يذكر الناس، ولكنه يقول: انا فلان بن فلان، اعرفونى، فارسل اليه فقال: اتعرف الناسخ من المنسوخ، قال: لا، فقال: اخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه)(130).
وبالجمله، قال فى الفتح الربانى: القص: هو اخبار الناس بقصص الماضين، وعمل ذلك مذموم شرعا، لانه يصرف الناس عن الاشتغال بالعلوم الدينيه، ولم يعهد ذلك فى عصر النبى(ص)، وقال ابن حبان: (قال ابو حاتم: كان القصاصون يضعون الحديث فى قصصهم، وكانوا اذا دخلوا بمساجد الجماعات ومحافل القبائل من العوام والرعاع اكثر جساره على وضع الحديث)(131)، كما وضعوا احاديث تنافى عصمه الانبياء، فجعلتهم يخطئون، ونسبوا الى النبى(ص) انه كان يسب ويلعن ويجلد بغير سبب، ونسبوا اليه انه كان يسهو فى الصلاه، وانه كان ينسى آيات القرآن الكريم، وارادوا من وراء تجريد النبى من العصمه ان يبرروا اخطاء الامراء الذين جلدوا الشعوب وضيعوا الصلاه، وان يعطوا للذين لعنهم اللّه على لسان رسوله(ص) جواز المرور لتولى المراكز القياديه.

ووضع القصاصون احاديث تحمل بصمه اهل الكتاب، والصق بالتفسير روايات وقصص لا يتصورها عقل، ولا يجوز ان يفسر بها كتاب اللّه، ووضعوا فى هذه الاحاديث ان اللّه يشغل حيزا من المكان، ويضحك، وينتقل من مكان الى آخر، وانه يتالف من اعضاء، وهو عباره عن هيكل مادى، وعين ويد واصابع وساق وقدم.


وبالجمله، كان القص وراء تغييب العقل ووطئه
بالاقدام، وتحت سقفه اختل منهج البحث ومنهج التفكير ومنهج الاستدلال، وعلى موائده لا تظهر القراءه النقديه المتفحصه التقييميه الا بعد عناء شديد، وكان القص وراء اهمال الواجبات، والتسامح فى المحرمات، والتهاون بالسنن والمستحبات، وكان البذره الاولى لظهور المبادى والمنظمات الباطله التى وضعت القوانين على طبق اهوائهم وآرائهم، وعلى هذه المبادى انقسمت الامه الى قوافل، وكل قافله تتولى حزبا وتدعمه، لانها تميل الى قوانينه، وتحب القائمين عليه، وعلى رووس الجميع الحجه قائمه. واللّه-تعالى- ينظر الى عباده كيف يعملون. 2) الخفوت والظهور وكان من آثار عدم الروايه التعتيم على اهل البيت، وذلك لان الامر بحرق الكتب اطاح بالعديد من الاحاديث التى تبين منزله اهل البيت ومناقبهم، ويشهد على ذلك ما رواه الخطيب البغدادى عن عبد الرحم-ن بن الاسود عن ابيه، قال: (جاء علقمه بكتاب من مكه او اليمن، صحيفه فيها احاديث فى اهل بيت النبى(ص)، فاستاذنا على عبداللّه، فدخلنا عليه، فدفعنا اليه الصحيفه، فدعا الجاريه ثم دعا بطست فيها ماء، فقلنا له: يا ابا عبد الرحم-ن، انظر فيها، فان فيها احاديث حسانا، فجعل يميثها فى الماء، ويقول: (نحن نقص عليك احسن القصص بما اوحينا اليك هذا القرآن) «يوسف: 3»، القلوب اوعيه فاشغلوها بالقرآن، ولا تشغلوها بما سواه)(132).
ويشهد بذلك ان عليا عندما تولى الخلافه لم يكن السواد الاعظم يعلم عن منزلته ومناقبه شيئا، حتى انشد باللّه كل امرى مسلم سمع النبى(ص) يقول: (من كنت مولاه فعلى مولاه)، ان يقوم، وكان قد جمعهم فى الرحبه، ولم يعرف العوام مناقبه الا من خلال ما رواه الصحابه بعد ذلك، وكان العديد من الصحابه يتحدثون فى مجالسهم الخاصه عن مناقبه، ولكن هذا الحديث لم يكن يخرج الى الساحات العامه، وفى مقابل هذا التعتيم، كان لعدم الروايه الاثر الكبير فى ظهور الذين حذر منهم النبى(ص) وهو يخبر بالغيب عن ربه، ويشهد بذلك ما روى عن حذيفه انه قال: (واللّه ما ادرى انسى اصحابى ام تناسوا، واللّه ما ترك رسول اللّه(ص) من قائد فتنه الى ان تنقضى الدنيا بلغ من معه ثلاثمائه فصاعدا، الا وقد سماه لنا باسمه واسم ابيه واسم قبيلته)(133)، ومعنى (ام تناسوا) اى اظهروا النسيان لمصلحه، ومعنى (باسمه واسم ابيه)، يعنى وصفا واضحا مفصلا لا مبهما، مجملا، فالاستقصاء متصل.
وروى عن حذيفه انه قال: (ان المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبى(ص)، كانوا يومئذ يسرون واليوم يجهرون)(134)، وقال: (انما كان النفاق على عهد النبى(ص)، فاما اليوم فانما هو الكفر بعد الايمان)(135)، وحذيفه مات بعد مقتل عثمان باقل من شهر، وكان مريضا، وعندما علم بان الناس بايعوا على بن ابى طالب، بايع وهو على فراش المرض، وحث الناس على الالتفاف حول على بن ابى طالب وعمار بن ياسر، وامر ولديه بالقتال مع على، فقاتلا تحت اعلام الامام على، حتى قتلا(136).
وبعد ظهور النفاق فى ظل سياسه اللاروايه، خاف الصحابه فلم يحدثوا بالاحاديث الكاشفه، ويشهد بذلك، ما رواه البخارى عن ابى هريره قال: (حفظت من رسول اللّه(ص) وعاءين، فاما احدهما فبثثته، واما الاخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم)(371)، وعنه انه قال: (قال رسول اللّه(ص): (هلاك امتى على يدى غلمه من قريش)، ان شئت ان اسميهم بنى فلان وبنى فلان)(138)، وعنه انه قال: (انى لاحدث احاديث، لو تكلمت بها فى زمان عمر، او عند عمر، لشج راسى)(139).

ويشهد به ايضا، ما روى عن بجاله، قال: (قلت لعمران بن حصين: حدثنى عن ابغض الناس الى رسول اللّه(ص)، فقال: تكتم على حتى اموت؟ قلت: نعم، قال: بنو اميه وثقيف وبنو حنيفه)(140). ومن الثابت والمعروف ان بنى اميه شقوا طريقهم نحو السلطه بعد وفاه النبى(ص)، فامر ابو بكر -رضى اللّه عنه- يزيد بن ابى سفيان على الشام(141)، وبعد وفاه يزيد، قام عمر بتامير معاويه(142)، وروى ان عمر كان يقول للناس: (اتذكرون كسرى وعندكم معاويه؟!)(143)، وقال لهم عندما ذكروا معاويه: (دعوا فتى قريش وابن سيدها، انه لمن يضحك فى الغضب، ولا ينال منه الا على الرضا)(144).
واحاديث النبى(ص) التى يحذر فيها من بنى اميه، احاديث كثيره، منها: ما روى عن ابى ذر انه قال: قال رسول اللّه(ص): (اذا بلغ بنو اميه اربعين رجلا، اتخذوا مال اللّه دولا، وعباد اللّه خولا، ودين اللّه دغلا)(145)، ومعنى (مال اللّه دولا)، اى: يكون لقوم دون قوم، (وعباد اللّه خولا)، اى: خدما وعبيدا، (ودين اللّه دغلا)، اى: يدخلون فى الدين امورا لم ترد بها السنه. والحديث روى عن ابى سعيد الخدرى، وابن عباس، وابى ذر، ورواه الامام احمد، والحاكم، وابو يعلى، والطبرانى، والبيهقى، وروى بلفظ: (اذا بلغ بنو ابى العاص)، وبلفظ: (اذا بلغ بنو فلان)، وقال الحاكم بعد روايته للحديث: (ليعلم طالب العلم ان هذا باب لم اذكر فيه ثلث ما روى، وان اول الفتن فى هذه الامه فتنتهم، ولم يسعنى فيما بينى وبين اللّه-تعالى- ان اخلى الكتاب من ذكرهم)(146).
والخلاصه، انه كان لسياسه اللاروايه واللاتدوين آثار جانبيه، منها: اكتفاء الناس بتلاوه القرآن دون الوقوف على معانيه واهدافه، وادى ذلك الى ظهور الذين يقراون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وفى عهد الامام على ظهرت حقيقتهم امام الناس، وحاربهم الامام فى موقعه النهراوين، وما زالت بقيتهم فى اصلاب الرجال وارحام النساء، لان منهجهم وثقافتهم لن تموت حتى يخرج الدجال، ومنها: ظهور الذين لعنهم اللّه على لسان نبيه بعد ان ضاع التحذير منهم فى عالم اللاروايه، ومنها التعتيم على الهداه، واقتصر ذكرهم فى المجالس الخاصه، ومنها: ظهور القص وعلى مائدته صنعت مناقب وتواريخ لقوافل لا تحمل من العلم الا قشوره، وعلى القص ظهرت ثقافات التحمت مع ثقافه اهل الكتاب، وتشهد بذلك عقيده الجبريه، يقول الشيخ محمد ابو زهره: (اول من دعا الى هذه النحله من المسلمين الجعد بن درهم، وقد تلقى ذلك عن يهودى بالشام، لان اليهود اول من فعل ذلك وعلموه بعض المسلمين، وهولاء اخذوا ينشرونه)(147)، ولقد استغل بنو اميه هذه العقيده فى اخضاع المسلمين، بحجه ان قيادتهم مفروضه عليهم بقضاء اللّه وقدره، وان اى تمرد عليهم هو تمرد على قضاء اللّه، ولقد قامت هذه العقيده على احاديث وضعها القصاص، كان الهدف من ورائها تزييف النشاط الانسانى منذ بدء الخلق الى قيام الساعه، وتحت اعلام عقيده الجبر انطلقت جحافل بنى اميه الى ديار المسلمين، بعد ان مهد القص والاحاديث الموضوعه طريقهم نحو اتخاذ دين اللّه دغلا، ليتخذوا مال اللّه دولا، وعباد اللّه خولا، وقتلوا الذين يامرون بالقسط من الناس، من امثال: حجر بن عدى، والحسين بن على، وغيرهما.

ولم تكن عقيده المرجئه بعيده عن نسيج القصاص، لان الاحاديث الموضوعه هى التى غذتها، وعلى ذروه عقيده المرجئه يجلس يوحنا الدمشقى، وهو آخر كبار علماء النصرانيه على مذهب الكنيسه الاغريقيه، وكان ابوه صاحب عبد الملك بن مروان، وصنف يوحنا كتابا فى فضائل النصرانيه على منهج محادثه بين مسلم ونصرانى(148)، وقال الشيخ ابو زهره: (كان يوحنا يبث بين علماء النصارى فى البلاد الاسلاميه طرق المناظرات التى تشكك المسلمين فى دينهم، وظهرت آراء يوحنا بالشام)، بعد ان وجدت لها حصنا صنعه القص والاحاديث الموضوعه، ومن خلال هذا الالتقاء تطرق البحث حول مرتكب الكبيره، هل هو مومن ام غير مومن؟ وهل يضر مع الايمان ذنب؟ وعلى مائده البحث خرجت العقيده التى تعتذر عن بنى اميه فى ما ارتكبوه من جرائم، بمعنى: لقد ضربوا بعقيده الجبريه، واعتذروا بعقيده المرجئه، التى تقول بانه لا ينبغى المفاضله بين المسلمين، ولا الحكم على احد بتقوى وغير تقوى، فالمسلم يكفى ان يكون مسلما، وبهذه العقيده تم الافتراء على اللّه ورسوله بتغيير الاحكام الشرعيه، واظهار البدع والباطل، وقولهم: ان الامه مرحومه، واللّه رفع العذاب عنها، وانهم فى امن من عذاب اللّه وان انهمكوا فى كل اثم وخطيئه، وهتكوا كل حجاب، والامه مغفور لها، محسنهم ‏ومسيئهم، وان لهم الكرامه فى الدنيا، ولهم ان يفعلوا ما شاءوا بعد ان استظلوا بمظله حجاب الامن، ولهم فى الاخره مغفره توجب فتح ابواب الجنه امامهم، وبعقيده المرجئه اشتد الساعد بعد ان ارتدى قفازا من حرير فى الوقت الذى يحتفظ فيه بقبضته الحديديه، وملئت الارض ظلما وجورا.

92-تقييد العلم، الخطيب البغدادى، ص: 34.
93-
رواه الطبرانى، وقال الهيثمى: رجاله رجال الصحيح، الزوائد: 1/152،وابن عبد البر، جامع العلم: 11/86.
94-
رواه الطبرانى، الزوائد: 1/151،والخطيب وسمويه، كنز العمال: 10/232.
95-
رواه الترمذى وصححه، الجامع: 5/40.
96-
رواه احمد، الفتح الربانى: 1/191،والحاكم، المستدرك: 1/109.
97-
رواه احمد، كنز العمال: 10/220،والترمذى، وابن حبان فى صحيحه، كنز: 10/221.
98-
رواه احمد وابو داود والحاكم، كنز: 10/223.
99-
رواه ابو داود، حديث رقم 4243.
100-
رواه الطبرانى، الزوائد: 1/152.
101-
رواه احمد، الفتح الربانى: 1/173،والحاكم، واقره الذهبى، المستدرك: 1/106،وابو داود، حديث رقم 3646،والدارمى فى سننه: 1/125.
102-
رواه ابن عبد البر، جامع العلم: 1/85،والخطيب، تقييد العلم، ص: 74.
103-
رواه احمد، الفتح الربانى: 1/191،والحاكم وصححه، المستدرك: 1/109،والترمذى وصححه، الجامع: 5/38.
104-
رواه احمد وابو داود وابن ماجه والحاكم وصححه، كنز: 1/174،والترمذى وصححه، الجامع: 5/37.
105-
رواه ابن كثير، كنز العمال: 10/285، 286.
106-
تذكره الحفاظ: 1/352.
107-
رواه ابن عبد البر، كنز: 10/292،وابن سعد، كنز: 10/293،والخطيب، تقييد العلم، ص: 49.
108-
رواه ابن عبد البر، كنز: 10/292.
109-
رواه خيثمه وابن عبد البر، كنز: 10/292،والخطيب، تقييد العلم، ص: 53.
110-
رواه الخطيب، تقييد العلم، ص: 52.
111-
رواه ابن عبد البر، كنز العمال: 10/292،وابن سعد، كنز: 10/293،والخطيب، تقييد العلم، ص: 49.
112-
رواه ابن عساكر: 10/291.
113-
رواه ابن كثير، البدايه والنهايه: 8/107.
114-
رواه ابن سعد، الطبقات: 2/336،وابن عساكر، كنز: 10/295.
115-
رواه ابن عساكر، كنز: 10/291.
116-
رواه الطبرانى والرامهرمزى والخطيب والديلمى وابن النجار والدينورى والقشيرى ونصر، كنز العمال: 10/294.
117-
رواه ابن عساكر وابو نصر السجزى، كنز: 10/229.
118-
رواه ابن عبد البر، جامع العلم: 1/137.
119-
المصدر نفسه.
120-
رواه الخطيب، كنز العمال: 10/304.
121-
رواه عبداللّهبن احمد والخطيب، كنز: 10/304.
122-
البدايه والنهايه: 8/107.
123-
انظر: معالم الفتن، سعيد ايوب، ط. دار الكرام بيروت.
124-
رواه الطبرانى ورجاله موثقون، وفيه الاجلح الكندى والاكثر على توثيقه، الزوائد: 1/189.
125-
رواه ابن فضاله فى اماليه، كنز العمال: 10/282.
126-
رواه احمد والطبرانى، الزوائد: 1/190،والعسكرى عن بشربن عاصم، كنز: 10/281،والمروزى عن ابى نضره، كنز: 10/281.
127-
رواه احمد والبزار، وقال ابن حجر: اسناده جيد، الفتح الربانى: 1/194.
128-
رواه مسلم، الصحيح: 3/20.
129-
تحفه الاحوازى: 3/74.
130-
رواه العسكرى والمروزى، كنز العمال: 10/281،وانظر: كنز العمال: 10/282.
131-
كتاب المجروحين، ابن حبان: 1/88.
132-
تقييد العلم، الخطيب، ص: 54.
133-
رواه ابو داود، حديث رقم 4243.
134-
رواه البخارى، الصحيح: 4/230.
135-
رواه البخارى، الصحيح: 4/230.
136-
انظر: معالم الفتن، سعيد ايوب.
137-
البخارى، الصحيح: 1/34.
138-
المصدر نفسه: 2/280.
139-
رواه ابن عبد البر، جامع العلم: 1/148،وابن كثير، البدايه والنهايه: 8/107.
140-
رواه نعيم بن حماد، كنز العمال: 11/274.
141-
تاريخ الامم والملوك: 4/28.
142-
ابن سعد، كنز العمال: 13/606،البدايه والنهايه: 8/118،تاريخ الامم والملوك: 5/69،الاستيعاب: 3/596.
143-
تاريخ الامم: 6/184،الاستيعاب: 3/596.
144-
الديلمى، كنز: 13/587،البدايه والنهايه: 8/125،الاستيعاب: 3/597.
145-
الحاكم وصححه، المستدرك: 3/479.
146-
المصدر نفسه: 4/482.
147-
تاريخ المذاهب الاسلاميه، ابو زهره: 2/102.
148-
تاريخ الادب العربى، بروكلمان: 1/256.