الصفحة 110
فقال وهو يستدرك كلامه:

ــ " كما أخرج الطبراني عن ابن عباس، حيث قال: إن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، قام يومئذ، فقال: "ما أنا أخرجتكم من قبل نفسي، ولا أنا تركته، ولكن اللّه أخرجكم وتركه، إنّما أنا عبد مأمور، ما أُمِرت به فعلت، إن اتبع إلاّ ما يوحى إلي"(1).

فقلت له عندها:

ــ " كنت كمن أخبرني بأنّ سد الأبواب هذا كان يرتبط بموسى وهارون.. أليس كذلك؟ ".

ــ " أجل، عن سعد بن أبي وقاص، والبراء بن عازب، وابن عباس، وابن عمر، وحذيفة بن أسيد الغفاري، قالوا كُلّهم.. وذلك فيما أخرجه عنهم جميعاً علي بن محمّد الخطيب الفقيه الشافعي، المعروف بابن المغازلي في كتابه: المناقب للخوارزمي، وبالطرق المختلفة، بينما كان قد نقله الثقة المتتبع البلخي في الباب 17 من ينابيعه. حيث قالوا كُلّهم: خرج رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المسجد، فقال: "إنّ اللّه أوحى إلى نبيه موسى أن ابن لي مسجداً طاهراً، لا يسكنه إلاّ أنت وهارون، وأن اللّه أوحى إليّ أن ابني مسجداً طاهراً لا يسكنه إلاّ أنا وأخي علي ".

ــ " إذن قضية موسى وهارون، وعلي ورسول اللّه، كان لها ارتباط عميق؟ ".

ــ " جداً وإلى حد عظيم! بينما ليس بوسعي أن أستوفي كُلّ ما جاء بصدد

____________

1- الصواعق المحرقة: 73.


الصفحة 111
ذلك في النصوص الثابتة عن كُلّ من ابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وزيد بن أرقم، ورجل صحابي من خثعم، وأسماء بنت عميس، وأُمّ سلمة. ".

عندها قلت، وأنا أقطع عليه سلسلة الكلام:

ــ " أسماء وأُمّ سلمة.. ".

ــ " أجل، فإنّ لهنّ نصيباً من حمل الأخبار وترويج علوم الرسالة!.. نعم، فكنت أقول: وأُمّ سلمة،.. وحذيفة بن أُسيد، وسعد بن أبي وقاص، والبراء بن عازب، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، وعبد اللّه بن عمر، وأبي ذر، وأبي الطفيل، وبريدة الأسلمي، وأبي رافع مولى رسول اللّه، وجابر بن عبد اللّه، وغيرهم. وفي المأثور من دعاء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)قال: "اللهم إنّ أخي موسى سألك، فقال: ربِّ اشرح لي صدري ويسر لي أمري، واحلل عقدةً من لساني، يفقهوا قولي، واجعل لي وزيراً من أهلي، هارون أخي، أُشدد به أزري، وأشركه في أمري. فأوحيت إليه سنشد عضدك بأخيك، ونجعل لكما سلطاناً، اللهم وإنّي عبدك ورسولك محمّد، فاشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واجعل لي وزيراً من أهلي علياً أخي "(1).

بينما تابع كلامه وقد شعرت بأنّ التعب قد استبد به هذه المرة، وكأنّ آثار المرض لم تكن قد زالت عن جسمه بعد وبشكل كامل! حتّى كان له أن يكمل ما أراد البوح به، فقال:

ــ " ومثله ما أخرجه البزار من أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، كان قد أخذ بيد علي، فقال: "إنّ موسى سأل ربّه أن يطهر مسجده بهارون، وإنّي سألت ربّي أن يطهر

____________

1- تفسير الثعلبي عن أبي ذر.


الصفحة 112
مسجدي بك.. ".

عندها انتابتني رعدة هزت أوصالي، وعصفت بكياني.. لا أدري لماذا، وكأن قشعريرة ثلجية استبدت بكامل أعضاء بدني، وهي لا ترى أن تغادره، حتّى أسعفتني دفء كلماته، وذلك حينما شعر بأنّ وطء القضية قد أبهضني حتّى عدت لا أحتمل تصوّر الموقف.. تُرى مع من أكون الآن؟ أو مع من أنا حقاً؟! فقال وهو يكمل حديثه:

ــ " نعم! كنت أقول.. وإنّي سألت ربّي أن يطهر مسجدي بك، ثُمّ أرسل إلى أبي بكر أن سدّ بابك، فاسترجع!".

ــ " استرجع؟! ".

سألته، وأجابني بنفس السرعة التي بادرته بها:

ــ " أجل! ثُمّ قال: سمعاً وطاعة، ثُمّ أرسل إلى عمر، ثُمّ أرسل إلى العباس بمثل ذلك، ثُمّ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "ما أنا سددت أبوابكم وفتحت باب علي، ولكن اللّه فتح بابه وسدّ أبوابكم ".


الصفحة 113

الفصل التاسع
مخالفة الشيعة حتى ولو كان ذلك على حساب الشريعة


كنا أشبه بالمغتربين إلاّ أنّ حالة الاغتراب هذه تضاعفت حالما وجدنا أنفسنا خلواً من أيّما هدف أو شعلة يتوخى المرء من خلالها تبيان مقاصده واستجلاء طرائقه. غير أنّ نسيج الزمن الذي جعل سلخ تباعاً كان له هو الآخر أن يفقد وبمرور الأيام وكرور الساعات شيئاً من بريق وجهه الذي صار يلتهب حتّى صار يضحي بلآلئ لمعانه.. فكيف لها أنْ تذوب دون أيّما إذلال للون من إمعان النظر وإنعام البصر لأ نّها بدت باهتة الألوان.. لم يكن كُلّ هذا ليعني لي أ نّي قد غدوت دون هدف حتّى وجدت نفسى البث دون حراك أمام مساءلات عقائدية وتاريخية، ظلت تمور في دواخلي، وهي ما تزال تنبثق وتنمو كأ نّها سحب دفنتها الدهور في أغوار الأرض، فإذا ما عتقت الأيام زال التراب إثر الإنجراف وحملات التعرية الطبيعية، لتبدو بعدها تلك السحب الأرضية واضحة حتّى صار لها أنْ تنتفخ لعد لفحة حبس دامت طويلاً، كانت قد قضتها محتجزة في داخل الأرض عبر سلاسل وقيود مختلفة، إذ كانت ترسف في ربقة اغلالها كُلّ تلك الأيام حتّى إذا ما استتب لها الوضع انتفخت وطارت إلى أعلى، لتمكث هناك وهي تلوّح للجميع بقرب نثر التقدمات والهبات على رؤوس الخلائق كافة.. غير أ نّي ما كنت أشعر بأ نّي لا أمتلك أيّما هدف، يمكن له ان يتحرك في عباب أعماقي، بل إنّي ما كنت لأفيق من سكرة

الصفحة 114
حتّى أشعر بأنّ نبضاً جديداً قد صار يدفق إلى مسامعي، كيما ينسخ ويصحح ويرقى بي بالتالي صوب أعلى قنة، لأصير بعدها أتطلع ومن علو دون الحاجة إلى أن أدفع بعنقي هذا إلى أعلى، علّه يشرئب بي فاصير أشرف على فوهات تلك الأحلام الجديدة والأهداف القصية. ولذلك، فما كان مني إلاّ أن أعيد جردي لكُلّ حساباتي السابقة، وأوراقي التي مضى عليها زمان ليس بالبعيد، فأنا الذي كنت وما زلت أشتغل في كتابة القصة، وأنهمك في مجلاتها وخصائصها حتّى صرت أعاقرها كما يعاقر مدمن المشروبات الخمرة حتّى صار مدلهاً ببنت العناقيد!

أصبحت أتخلى عن كُلّ اهتماماتي، وأطوي كشحاً عن كُلّ اتجاه، ريثما أعثر على طريدتي، وأضع اليد على ضالتي التي أطاردها، أو بالأحرى، فإنّي كنت أحس أ نّها قريبة مني جداً وإلى حد يصعب معه أن أبصرها أو أقنصها بحدقتي الثنتين. فلئن جعل الربّ ينسخ دينه وبعضاً من شريعته، وحسبما يقتضيه لسان حكمته، وثوب الصلاح الذي يراه لعباده، فإنّي شعرت بأنّ الأجواء حولي تثير زوبعة من الزوابع تثبت أن البشر قد غدوا ينشطون وبانفسهم من أجل نسخ شرائعه، ومن دون الرجوع في ذلك إلى اللّه نفسه، واستحصال الإذن منه بذلك، ومن دون أن يختارهم هو لهذا الأمر، أو يأمرهم به ويندبهم لأجله! والأشد والأقسى من هذا كُلّه، هو أنّ الربوة التي تسنم قنّتها هؤلاء الأشاوس من الذين أذهلتهم إمكاناتهم الدنيوية واستعداداتهم المادية، قد ظنوا أنّ بوسعهم أنْ يكايدوا على الدين، وبلون عصري منمق، ومن دون إشعار يمكن أن يثير الأُخرى، ويستوفزهم بشيء من أطراف هذه المناكدة حتّى إذا ما برق البصر، وذهلت كُلّ مرضعة عمّا أرضعت، كان للوافدين عندها

الصفحة 115
أن يحسوا بما فعله الغابرون من البشر، ويشعروا بما أجرمه الماضون من السلف! ذلك أن الأخيرين ما كانوا إلاّ ناسخين لشرعة الرحمن ومن دون الإعلان عن نسخ الآيات القرآنية من قبلهم، فإن كان الرسول يعلن أمام الملأ أنّ اللّه قد دفع إليه بوحي من لدنه يقضي بنسخ الحكم الفلاني، وبعث الحكم الآخر، فإنّ هؤلاء ما كانوا ليعلنوا كذلك! بل شرعوا ينسخون ومن دون التصريح بأ نّهم هم الناسخون أصلاً، إنّما جعلوا يلصقون كُلّ ما وسعهم إلصاقه بجد كُلّ متقي: رسول الأُمّة! وإنّ وحيه كان قد نسخها. وهذا ما يمكن أن يذكره فلان وفلان من الرواة، حتّى صاروا يحدثون بأ نّه لو كان لديكم أيّما شك فأتوا بهم على أعين الأشهاد من الملأ، كيما يقرؤونكم ما سمعوه من رسول الإسلام حتّى مثل بين يدي الناس عشرات من هؤلاء الذين ألهبت بطونهم حرارة الدراهم حتّى جعلوا لا يفهمون كيف يكذبون على سيد الرسل انصياعاً لغايات هؤلاء المتنفذين.. وإذا ما ضاق بهم الحال والانتظار، ريثما يحلّ الصيف والشتاء، ويغدو عليهم من ينتحل لهم الروايات ويؤسس لهم نظرية إبداع وخلق الحكايا عن أقوال الرسول الأكرم، طفقوا يعلنون عن تحريمهم لفلان سنة، وكذا شريعة لأنّ المصالح تدعو إلى نبذها في الوقت الحاضر، ذلك أنّ الماضى ولّى وولّت معه كُلّ مواريثه التي كان يحتاج معها إلى مثل هذه الأحكام.. ظناً منهم أنّ الطريق إلى كسر شوكة الهاشميين هي أقرب طريق إلى تدعيم شوكة حكوماتهم من حيث مخالفة كُلّ ما جاء به عميدهم علي بن أبي طالب! ليغدو بعدها كُلّ راو حتّى ولو لم يكن قد رأى الرسول أو آمن بالإسلام إلاّ حين كان لرسول اللّه أن يرحل إلى الرفيق الأعلى، أو من قبل أن يتوفاه اللّه بعدّة شهور أو بسنة أو اثنتين مثلاً، فإنّ لقول مثل هذا أن

الصفحة 116
يصبح يضاهي قول عَلَم الهواشم من آل الرسول، ويقف ندّاً له في تصويب الرواية وتصحيح مقالة رسول اللّه!

لقد طرأ كُلّ هذا على نفسي في لحظة واحدة من اللحظات، أحسست في أثنائها أ نّي قد أصبت بلوثة ما، ترى هل يصح ما جعلت أفكر به، هل يمكن أن يحدث مثل هذا، أم أنّ ما حصل ومن قبل، هو عين ما كان له أن يلتمع في ذهني حتّى اعشوشبت أزاهيره وأخضرت مزاهيره في مخيلتي، فبدت مغروسة في عروقي، مزروعة في نفس تلك الحدائق التي ظلت أصص الأوراد تداعب تخومها بألوانها المتراقصة ما بين عذب الإنسان وأريج العبائر الفواحة من أقاصيها المنتصبة ببهجة وسعادة.

وفجأة تناءى إلى سمعي الخبر! فإنّ قاسماً قد استبصر، ويحه! ألم يعش دهراً معي ومن قبل، وهو ما يشغله سوى ذم هؤلاء الشيعة، والتفكير في أيّما وسيلة للقدح عليهم والتقريع على عقائدهم.. لقد كنت عنه في شغل شاغل كُلّ هذه الفترة، وما كنت حين أفكر كيف أ نّه لم يفتقدني كُلّ هذه المدّة، أو لِم لا يضيره ما يراه من لقاءاتي المتكررة وحواراتي المتعددة مع طلال عبد الواحد.. بل أين كان كُلّ هذه المدّة، وكأ نّي حقيقة كنت عنه في شغل شاغل.. إلاّ أ نّه هو الآخر لربّما كانت تشغله عنّي أغراض مختلفة.. بيد أ نّه هو نفسه الذي ما كان قد طال به الأمد حتّى شعرت به وكأ نّه كان قد استغل أيامه أجمع كيما يسقيني كُلّ نفثات العلوم المضادة لهؤلاء، بل كأ نّه كان قد جعل أيام عمره وقفاً على مناوأة الجمع الشيعي. ولقد كنت أجالسه وأماشيه.. ولعل كُلّ منّا كان له أن يتوكأ على آراء الآخر، ويستند إليها! بينما كان لنا أن نستقيم كُلّما وجدوا أنفسنا تحيا بفعل حيوية كلام الآخر وأنفاس عباراته. وما كان

الصفحة 117
ليريبني أيّما إحساس قط حياله، إلاّ ما كان قد نبغ الآن، وجعل ينجم في لحن فراستي من أوهمني أ نّه قد غدا فريسة لملاعب تلك الغربة التي أن تضحو سمّاً يطارد الأفعى نفسها بفرية لا تعرفها سوى هذه الفرقة! ولا أعدو إلى هذا الكلام إلاّ لأ نّه طالما كان يذكرني بأمثال هذه الجمل والألفاظ حتّى خلته ما كانت أُمه قد أولدته إلاّ وهي تلحن بمثل هذا الكلام! بينما ما كانت تغدو أفعى لسانه إلاّ ممن صار عليها ومن المحتم أن تخاف على نفسه من لدغة نابها هو وبحد ذاته.. فهل أن قاسماً هذا، كان قد ملأه الغرور وإلى حد ضجت به الأيام حتّى صار يجنح إلى تعمد أغاضتي، وإشباعي بكلمات ليس لي أن أصحو بعدها ومن تلقاء نفسي إلاّ أثر وخز يتعاهد أحدهم صنعه. ولئن فعلت، وصرت أصحو وبحسب بدَهيتي، فهل لي أن أنسى وقع الأسى الذي اختفى لحنه في داخل كُلّ أعضاء بدني، وصار يفيض الماء من كُلّ مسامات جلدي حتّى له أن يتقشر ويتفصد بعد ذلك عرقاً.. وهو الذي انتقلت جدرانه إلى حالة مشبعة باليباس وذلك إثر نوبات من الجفاف. وها هو ينبت قطرات مالحة، ليس لها أن تعتاش إلاّ على تمرير أكف أغضبها الأقربون قبل الأباعد، تساءلت في قرارة نفسي، والألم يعتصر فؤادي:

ــ " كيف لك يا قاسم أن تفعل فعلتك، أو تقدم على مثلها، لقد آمّنا بضرورة التنفس تحت سماء واحدة، فإذا ما أردنا الاقلاع عن التدخين، أقلعنا سوية، أليس كذلك؟! أووه! ".

هل كان قاسم يمثل لي ضوء الحلبة التي يتنافس في داخلها المصارعون المهووسون بنتائج نزالاتهم تلك؟ وهل كان وجود قاسم إلى جانبي يمثل لي سلوى تسرّي عن آلامي ومآسي أوجاعي، أم كان له أن يعبر لي عن دواء

الصفحة 118
ناجع، يمكن له أن يشفي قروحي، ويرقأ جروحي التي ظل الزمان يتعاهد نكئ جروحها كُلّما غارت في عمر الأيام وخلتها قد اندملت؟ أم أنّ حضوره في نفس المكان، كُلّ هذه الأوقات، كان يعد بلسماً ينسيني أسقام غربتي هذه التي ما زلت أعيشها وعلى مضض، لا أنهض بأعبائه إلاّ كما أنهض بلون من ألوان العناء، كان قد أبهضني تحمل طول رسوخه وعدم زواله..، بل إنّ الانتماء إليه كان قد شدد بضرباته إليّ حتّى أورثني الكثير من الندم وألحق بي ومضات الحزن الواحدة تلو الأُخرى، وكأ نّي قد صحوت فجأة على حقيقة مفادها فهل يمكن لقاسم أن يؤثر على طبيعة الاتجاه الذي أتحرك في خلاله، أم هل له أن يطغى بأفعاله أو سلوكياته على كُلّ تصرفاتي ليصل الحد إلى أ نّي لم أتشيع أو أستبصر، ذلك أن قاسماً لم يفعل.. إن مثل ذلك ما كان ليمثل بالنسبة لي إلاّ كُلّ هراء وتهريج ليس أكثر. فكان قاسم يعبر عن عزائي في غربتي، وسلواي في عزلتي، ومن بإمكانه أن يسري عني آيات الحزن، وذلك عندما كنت قد نأيت عن مسقط رأسي، وحلاوة تغذي أعصار أيامي التي نزحت عن موطن آبائي.. ولكن، ما جعل يعتصرني أكثر فأكثر، هو أ نّه كيف بدت منه الجرأة، كُلّ هذه الجرأة وأعلن عن استبصاره، وصرح بتشيعه؟ إلاّ إنّي عللت النفس بأنّ قاسماً هو إنسان سرعان ما يؤخذ بالمظاهر حتّى إذا ما استحل غياض مرتع ما، من بعد أن وجده خصباً، وذلك حينما لا يكون ثمّة من مروج غناء تفوق في الحسن فيكْلف بها ويشغف.. حتّى إذا ما وجد الآخر عدل عن رأيه في الأوّل، وانتقل إلى الثاني. فهل أقصد من ذلك أ نّه يمكن أن يعود يوماً ما إلى مذهبه السنّي أم أ نّه ينتقل ربّما وفي ذات ليلة إلى حضن مذهب مسيحي، يصير يرعاه ويغذوه بفنون الأقانيم الثلاثة حتّى تجعل منه يشهد المراسيم

الصفحة 119
الكاثوليكية، ليخلط بعدها بين عزاءات الكنائس البروتستانتية والأرثوذكسية، ويتيه بناظريه قبل أن تضطرب دقائق الهواء، وتهتز صفحات الفضاء في داخل مناحي أذنيه، فيصوب عندئذ بناظريه إلى أعلى، حيث يصير يرى إلى تلك الأجراس التي تصير تعمل أصواتها في كُلّ الأرجاء.. ليفيق بعدها من سباته، ويعود إلى حياض مراتعه الحقيقية، ويعلم أن الدين ليس ألعوبة، وأ نّه ليس لكُلّ من يضرب على الطبل، ويغري بالأصوات، ويعلي بصرخاته، أن يكون هو الأصح! وهو صاحب الطريقة اللأحبة والمنهج الواضح. فلو كان الأمر كذلك، لو أنّ كُلّ سوفسطائي هو بحق أوّل من له أن يتربع على عرش البطولة، ويتصدر مقامات الدرجة الأُولى، لأ نّه يغلب الخصم بلجاجته وثوراته التهويمية وتغريباته الغامقة في مظاهرها الخاوية في دخائلها.. كحال هذه الاجراس التي تدوي، مع أ نّه لو حقّقنا في ذلك، لكان لنا أن نفهم صوت هذه الأجراس إنّها تدعو حقاً إلى نبذ النصرانية، وتوحيد الخالق، والدعوة إلى دين التوحيد ومنهج الإسلام الحنيفي الحق؟!

إذن قد فعلها قاسم! غير أنّ ما يثيرني، ويوجع صدري، ويقرح فؤادي، ويوغر في عمق دخائلي حتّى لكأنّ جدارات وجودي قد تصدعت ومن الداخل دونما أن تنسل إلى الخارج أيّما قطرة دم.. لأنّ النزيف كان له أن يسري مفعوله داخل البدن ومن دون أن أشعر حتّى صرت أهذي وأبدي مظاهر المرض، وعلامات الحمى التي تثير من حولي، وتدعوهم إلى الاهتمام بي غير أن هذه الأوجاع ما كنت أخالها إلاّ آثاراً ترتبت على حالات مسبقة لم يبد للعيان رسمها أو معنى دائها حتّى التبس الأمر على الجميع. وما كان يحس الأخيرون بما أحس به من أن أيامي هي أيام معدودات.. لأنّ المرض قد

الصفحة 120
تمكن منّي! وهم يتصورون أنّ المرض قد بدأت علاماته تظهر على جسمي وللتو.. ولما يستيقن المرء من أن الموت هو قد لحق به، وصار يهز بجناحيه عند رأسه، وهي ترفرف خفاقة، وتصفق أطراف الهواء، وتعجن ألوان أفكاري بضروب من القيح الذهني.. ذلك أ نّي آنست ناراً لعلي آتي نفسي أول ما آتي بقبس منها، ثُمّ أدفع به إلى أهلي وعشيرتي. لأ نّه لا يمكن أن أمنحهم نفحة من هذا القبس حتّى أعتنق عقيدة الإنسياق وراء أضوائه، لتشع بعد ذلك فيوضه على جنبات وجهي، وتشمل فوديّ، وتطبع صدغيّ بلمسات إنارة مصحوبة بفنون كُلّ الإنعكاسات.. فليس لي أن أدعو أهلي إلى التشيع، وأنا ما زلت أكابد حرّ أوجاع أفكاره، وكيف صار لها أن تنادمني كُلّ ليلة، وتقارع أهوائي، وتخلد إلى كُلّ ما يخلد إليه فكري، وصارت تؤانسني، وتلح علي بالكلام، وبالضبط بعد أن شعرت أنّ قاسماً قد تغيّر، ليس هو قاسم الأمس الذي كنت أعرف. وما كنت لأعني أ نّه انقلب تنيناً إلاّ أن قاسماً الذي كنت أعرف، كان يتهجم على الشيعة، وذلك عندما تتيح له الفرصة مثل ذلك، حينما يطرق سمعه حديث عنهم أو مقالة تتقصد البحث في معتقداتهم وأئمتهم! بينما كان قاسم الذي كنت أعرف، يعمل على مطاردة أخبار الشيعة، ويتسقط ألوان حكاياهم، ويتندر على فعالهم، ويتعقب أحداثهم بلهجات ملؤها السخرية، حتّى كان يعبّ منها دائماً، بل ظل يسقيني من زعافها الحرّيف حتّى أثملني حد الشبع، وبلغ بي عنفوان التخمة. فإذا ما زايلني وأنا على هذا الوضع وهذه الحال، فإذا به يفجأني في ظهيرة أحد الأيام، حينما رأيته مستبشراً، واضح الأسارير، منبلج المحيا، وقد سيطر عليه شعور هو أشبه بشعور من قد عانق أعمدة السجون، وصارع نوافذها المعقضبة حتّى غامر في إختراق الجدر

الصفحة 121
وتكسير جمجمته كيما يتحرر ويصل إلى وجوه أهله ويراهم! وذلك حينما كان قد حكم على مثل هذا الشخص بالسجن مدى الحياة مع الاشغال الشاقة، ومن دون إعطائه الرخصة في أيّما لقاء، أو مواجهة مع أهله حتّى صار الأخيرون ينأون عنه. فكيف إذا ما كان هذا السجن قد انتصب في قوقعة وطن آخر، قد امتدت إليه أعناق الغربة كقضبان السجن! تثلم جباه زجاجاته التي انتفخت والموضوعة إلى أعلى من رأس السجين، ليجدها بالتالي عنقود عنب حتّى يخالها كذلك، ليبصرها ومن بعد ذلك زجاجة مصباح، قد جعل ضياؤه ينوس على محياه، يذكره أضواء مدينته الغائمة، والغارقة في أُتون الأحراش، خلف الكثبان المتصارعة إلى ما وراء الطبيعة المنزلقة أوراق شجيراتها من على أعواد أغصانها، وهي تتجاسر على هدم معاقل تلك الجبال، وصرح غيرانها، لأ نّه تحجب ضوء مدينته عن آفاق عينيه، كيما يستنيم لحظات عند مصباح يتدلى بنوره على عتبة باب بيته، حيث الأهل والأحبة والرفاق هناك، فهم ما زالوا ينتظرون مجيئه، ويشبعون لوح الباب بلمحات من آماق أفئدتهم قبل أعينهم النابضة برحيق ينبع من القلب.. وفجأة، وإذا بقاسم وكأ نّما كان قد أخبره السجان، أ نّه قد أُفرج عنك! وثمة من بطاقة سفر، وتأشيرة عودة إلى وطنك، سيكون بإمكانك الحصول عليهما ريثما ترتدي ملابسك، وتستعد للسفر، وتتهيأ للرحيل! وإذا بقاسم الذي حكم عليه بالموت طوال الحياة، ينقلب إلى إنسان قد حكم عليه بالحياة أبد الدهور.. فلقد غدا قاسم يرتشف من ماء الحياة؟ قد صار يتوضأ وضوء الشيعة، حتّى خلته قد نال وساماً، ما كان قد طال نواله والحصول عليه، ولا حتّى جده ولا أبوه! قد وجدته منح ترخيصة ولوج إلى فردوس الجنان حيث الحور الحسان والولدان المخلّدون،

الصفحة 122
ونيل كُلّ ما لذ وطاب، والحصول على كُلّ غرفة وغرفة، والقعود على كُلّ أريكة وأُخرى.. وكأ نّه قد نبذ الموت، واقتنى عنصر الحياة، وحاز على مفعول البقاء، حتّى منحه الوجود بهجة أبدية.. بينما ما كان منّي إلاّ أن أغامر في التدخل، وأنا أحاول التصدي لهذا الصنيع، وأواجه قاسماً بألوان الخطاب الذي يجعل منه يصحو ويتفقد الخطب الذي أوقع نفسه به، بل المصيبة التي أصابني بها وجرني إلى وهاد فخاخها. قلت في نفسي:

ــ " قاسم! إنك منافق، تغريني بالشيعة حتّى إذا ما أوغرت صدري عليهم، التحقت بركبهم، ونبذت رحلي، وذروت الرماد في عيني حتّى تركت خيلي تصهل ليلا لوحدها. لاُرِيَنَّكَ ما لم تره عيناك حقاً.. سأكيدك حتّى في يوم القيامة.. ".

وفي لحظة واحدة تذكرت ما كان يحدثني به حتّى جاءني في يوم من الأيام (ولقد كان ذلك اليوم... أوه تذكرت.. كانت العلامات قد بدت عليه منذ ذلك اليوم، وأنا الغافل، لم أكد أتبين ما ألمّ به، ولم أشعر أ نّه كان يتحرك بإتجاه التشيع والانقلاب على نفسه والتغير.. حتّى إذا ما أصبح كذلك نسيت مثل ذلك اليوم، وتعاميت بل غفلت حقاً عن أ نّه كان قد وقع تحت تأثيرهم ومنذ ذلك الوقت حتّى إذا طلع علي بثوب آخر، خلته قد أظهر ما لم يبطن وأبطن ما لم يظهر بالفعل! إلاّ أ نّه لربما ما كان كذلك لأ نّه في ذلك اليوم وفد علي) وكأنّ الهمّ قد كاد أن يصرعه حتّى ابتدرته متسائلاً عن سبب تردّي أحواله، فأجابني:

ــ " هل حقّاً نحن على خطأ؟ هل حقّاً كُلّ أولئك العمالقة من الصحابة كانوا خاطئين؟ هل أنّ أبا بكر ما كان له الحق في أن يتصدر أمر هذه الأُمّة، أم أنّ

الصفحة 123
الخليفة عمر بن الخطاب ما كان له الصلاحية في أن يحكم الدولة الإسلامية، وذلك أنّ في الصحابة من هو أعقل منه، وأفصح وأعلم.. وهل أنّ عثمان بن عفان كان غير جدير بالخلافة؟".

فقلت له:

ــ " ما الذي تريد قوله؟ ".

قال:

ــ " ما أُريد أن أقول أيّما شيء، إنّما أردت الإفصاح عن لون الحقيقة، أيمكن أن يكون لونها أزرقاً، وهو في الحقيقة أسود، أو نراه أبيضاً وهو في واقعه على الضدّ من الأوّل؟ ".

بينما تابع وهو يقول:

ــ " إنّي قرأت وجعلت أمعن في دراساتي، ومطالعاتي حتّى صرت أتقلب ما بين موضوعات عنت أساساً في درء مقاليد الحكومة عن هؤلاء، وسعت جهدها في ذودهم عن رحابها، بل كرست كُلّ ما لديها من قوة في إفحام القارئ بأنّ الحق مع الخليفة الرابع فقط لا سواه ".

ــ " علي بن أبي طالب؟! ".

ــ " أجل، فهذه المسألة مسألة حساسة للغاية، فهي التي جعلت من دفة الحكومة تستدير إلى أيّما جهة أرادت! ".

ــ " انتبه إلى كلامك؟ ".

ــ " أنا لا أقول بذلك، إنّهم يعبرون عنه وبكُلّ صراحة.. بل إنّهم قد أحضروا من الأدلة والبراهين ما يمكن أن يحيا به الموتى.. ".

ــ " ماذا تقصد؟ ".