الصفحة 139

الفصل الحادي عشر
نفسي والسؤال الملحّ: لِمَ لَمْ يُباهل الرسول بالخلفاء؟


ظللت أتساءل:

ــ " ما هو المقياس لتشجيع الفرق؟ وما هو المعيار لاتخاذ مثل هذه السياسات؟.. فهل المقياس هو يتحدد في أنّ هذا الفريق هو فريق وطني؟ إذن الحس الوطني يملأ نفسي، وليس من حس إيماني يغمر قلبي، هذا مع أنّ حب الوطن من الإيمان، وما كان ذلك إلاّ بشرطه وشروطه! غير أنّ سباقات الأندية التي تجري في داخل نطاق القطر، كيف لها أن تجرّ الويلات والمصائب على مشجعي مثل هذه الفرق حتّى تنقلب مثل هذه التناحرات إلى تأليبات ماكرة وعصبيات شيطانية ثائرة، ليس الغرض منها إلاّ صرف الوقت الثمين، وتبديد مقومات وأهداف الحرية الفردية، واختلاق جملة من التهم، وحبّ ألوان الأباطيل، وإثارة النعرات والفتن والمشاحنات، وضروب المحاربات والقتال! دون سبب سوى أ نّي أشجع فلان والآخر يشجع غيره؟".

ولكن! لكلٍّ منّا غرضه، وعقيدته! ولو فاز فلان، أو غلب كذا أحد، فليس من حقّ آخر أن يعترض، لأنّ كلاًّ منهما قد قدم ما عليه، وساهم بجلاء في حربه المقدسة والغنية، وبكُلّ خلق ومهارة مثلاً! فالكُلّ يعرض مهارته، والآخر هو الذي يغلب، حتّى يصير هو المؤهل لتصدر مثلاً بطولة المصارعة أو الملاكمة، أو الصعود إلى الدوري النهائي. فلماذا نغضب؟ بينما لا نغضب حتّى

الصفحة 140
نكون قد استقنا عصبياتنا الفانية إلى طرق مسدودة ما كان أساسها إلاّ التعصب لفريق الوطن.. حتّى انسقنا إلى فرق المحافظات، والمدن، والأندية المتعددة داخل هذه الأمصار والتحزب للمدن والمحافظات نفسها، وإثارة النعرات المذهبية من خلال ذلك، وابراز نقاط الضعف التي يمكن أن يتصف بها أهل فريق تلك المدينة الفائزة، للنيل من فوزه واحباط كُلّ مساعي ابتهاجه بهذا النصر! حتّى ينجر ذلك إلى طرق متعددة ليس لها من نهاية سوى الانغلاق على النفس المريضة، ومن ثُمّ الانفجار، حينما تؤدي إلى طريق مسدودة، ينحصر فيها المجموع، حتّى يلهبه الانتظار، ويضجره الملل من التفكر في سياق واحد ليس إلاّ،.. حتّى تنفجر نفوس هذا الجمع البشري الهائل، كما تنفجر الطرق المسدودة، وذلك بعد أن تؤدي بالآهلين في المساكن والبيوت التي تشرف عليها إلى الفناء والاقتتال! وثانية، فلماذا نغضب؟ أنغضب لأ نّه لم يتخلّ المنتصر عن مهارته، أو أ نّه جسّد كُلّ قابلياته، وأظهر كُلّ لياقته، وأبدع في مختلف الأوضاع حتّى أبرز كُلّ فنونه، وعرض كُلّ أخلاقياته، وأبدى كُلّ استعداداته في اللعب.. بينما ما كان كُلّ ذلك إلاّ مدعاة ضرورية، وسوقاً ملحاً يدعو بكُلّ من يبصر مثل هذه الحقائق، إلى التعجب والانشداه، ذلك أ نّه قد اطلع إلى قدرات ومهارات مثل هذا الفريق، وإنّ مثل ذلك هو خليق به أن يدعه يتطلع إلى أن يكون لفريقه من هذه المهارات حظ ونصيب! لا أن يحسده، فيترجم حسده إلى مظاهر من العنف والصخب والحقد الضروس، لتنقلب أثار كُلّ ذلك إلى ألوان من الفوضى الشخصية، وأشكال من الهوس العام، لتنحسر أضواء هذه الانغمارات الفارهة عن غضبة شيطانية مهووسة، ولعنة إبليسية موبوءة؟!


الصفحة 141
وإلاّ، فماذا كنّا ننتظر؟ هل كنّا ننتظر من هذا الفريق أن ينسحب من المباراة، أو أن يتنازل عن التطلع إلى الفوز، أو أن يتخلى عن اللعب بجسارة وإقدام، أو أن ينسحب كُلّياً من الساحة من بعد أن يتركها لخصمه، أو أن يتراجع عن التفكير بالفوز مطلقاً؟ وإلاّ، فما كان لمثل كُلّ ذلك أن يعد لعباً مثيراً، ومسابقة مشوقة! أو أ نّه ما كان من احتمال ثان لإجراء مثل هذه المسابقات سوى فوز أحد الفريقين أو تعادلهما حتّى يتقرر الحل والعقد في مثل هذا الأخير، في أثناء نزال آخر، أو مباراة أُخرى قادمة، أو معادلات حسابية خاصّة! وإذن، فلا بدّ من التسليم إلى قاعدة الفوز والخسارة.. والاعتقاد بضرورة حصولها (خارج اطار التحيزات التي يمكن أن تحصل من بعض حكام المباريات، أو حدوث بعض الأخطاء غير القابلة للاصلاح من قِبَلهم، أو عدم جدارتهم بتولي تحكيم مثل تلك الألعاب والمباراة حتّى ينقلب ظالماً، وذلك حينما تبعث قراراته على خسارة الجانب الأكثر فعالية، والأكثر جدارة بالفوز والنصر).. لأنّ من يقبل بمقدمات الأشياء، عليه أن يرضى بنتائجها.. فما كان للمشجع أن يقبل على مشاهدة مثل هذه الألعاب ثُمّ يخر مغشياً عليه، لأ نّه فوجئ مثلاً بخسارة من يشجعه أو يتحزب له، وإلاّ فما كان ثمة من معنى لحضوره من الأوّل وبالكامل.. وكأ نّه ما كان يتوقع من الخصم أو الفريق المقابل إلاّ أن يتنازل عن الفوز أو اللعب إجمالاً، أو أن يمنح نفسه خسارة مصطنعة، لا يمكن التعبير عنها إلاّ كما يمكن التعبير عن أيّما أضحوكة وطريفة! لماذا؟ أما كانت ساحة اللعب ساحة مشرفة، كُلّ يثبت عنفوان أهبته واستعداده، ويلقي بأضواء مهارته حتّى يتفنن كيف يلصق براهين حكمته وقدرته وقوته.. دون إيذاء الخصم، أو الغريم، إذا ما كان يبتغي من هذه

الصفحة 142
العروض إلاّ ممارسة الشحذ للطاقات الإسلامية واختبار مختلف الطاقات الاستعراضية، وإلاّ لو كان الأمر يتطلب عصبية، لكان لكُلّ لاعب أن يحمل معه سلاحاً، فيقتل خصمه حالما يتمكن منه دون الحاجة إلى نزال وحضور.. وما كان من الأخيرين الالتزام بالتشجيع دون حضور وروية وإمعان.. فالذي يلعب أفضل هو الذي يستحق الفوز ونوال الجائزة، والمقام الأوّل.. أو احراز حتّى الثاني في المسابقات.. أو الثالث.. وبالتالي ليس له أن يبقى في الظل أو تبتلعه أجواء الكواليس، مع أنّ هذا الذي لم يحالفه الحظ، فما كانت لتشكل له مثل هذه المسابقات إلاّ فرصة لاستعادة الثقة، ومعرفة ألوان الخلد التي يعيشها أو التعرف على جزئيات ما يملك، أو اختيار كُلّ ما لديه، مثل ما يحصل في المشاورات الحربية والتمارين الحية والفرضيات غير الحية..

كذلك شعرت بحالي مع شيعة لأهل البيت.. كذلك هو حال الأديان والمذاهب عموماً.. فما كان للمرء أن يشتق له لون سعادة حتّى ينبذ الشقاء المر الذي لا يتمثل إلاّ في العصبية المستعملة في قبور القلوب البشرية والمتنوعة في ألوانها وضروب تخيلها الطائفي منها والعرفي والعنصري والمذهبي والشعبي وما إلى ذلك.. حتّى كان لها أن تجر الويلات على الأُمّة الإسلامية نفسها، وتقسم شعوبها إلى دول ومقاطعات وامارات وممالك.. فلماذا لا تتحد البلدان العربية، وهم ينادون بالقومية العربية؟ ولماذا لا تتحد شعوب الدول الإسلامية، وهم ينادون بالإسلام، وذلك الدين وطريقة المذاهب حتّى غدونا جميعاً وقلوبنا شتى..

ولماذا تنوعت المذاهب وتعددت طرائقها.. وأصبحنا دعاة للشافعية والحنبلية والمالكية والحنفية دون أن نمنح الفرصة للشيعة كذلك بأن يُدعوا هم

الصفحة 143
الآخرون علمياً إلى اتباع مذهب خاصّ؟ فلماذا قصرنا السياسة الديمقراطية والحرية الدينية على هذه المذاهب فقط، وحرم منها حزب الشيعة؟ فهي الأُخرى تشبه حرية الأحزاب، نبطل حركة ونعمل بحزب وتقدم أحزاب على أُخرى، ولا نسمح لأخريات بالمشاركة بالتحرك على صعيد الديمقراطية.

كُلّ هذه التساؤلات صارت تضرب في رأسي حد النخاع، فأصابت مخي وأجهضت على كُلّ عصبياتي السابقة، وذلك الطريق أكثر فأكثر للعب في سابقه، خاصّة بالمذاهب والدخول إلى ساحة الملعب للاشتراك في لعبة نزيهة، لا يمكن أن تتولى إلاّ من يلعب أفضل بما يمتلك من قدسية وطهارة، وخلق وعظمة في النفس وتفان في الصدق ونهاية في الإخلاص، وغاية في التفكر والتخطيط.. غير أنّ تساؤلاً عظيماً ألحّ على مخي حتّى أهلكني، وطوّح بكُلّ معادلاتي ذلك أ نّي حين تذكرت آية المباهلة، سألت نفسي، لِمَ لم يباهل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) نصارى نجران بأبي بكر وعمر وعثمان، مع أ نّهم خلفاءه المستقبليون، أو أن تاريخنا يحكي لنا كذلك، فيقص علينا هكذا قصة الخلافة؟! بل إنّه ما كان قد أتى بأهل بيته كذلك، إلاّ بمن عناهم في الحادثة، وما كانوا إلاّ علي وفاطمة والحسن والحسين. فقلت لنفسي بعد أن تنبهت إلى بعض المسائل وأنا أحدثها:

ــ " إذن، فما كانوا هم خلفاءه الذين عينهم، ولو كانوا لأتى بهم.. إذن منزلة أهل بيته أعلى وأعظم.. ".

أضفت وأنا أحدثها:

ــ " وإلاّ فإنّ آية المباهلة.. ".

قالت:


الصفحة 144
ــ " آية المباهلة.. ما هي؟ ".

قلت:

ــ " هي الآية 61 من سورة آل عمران: { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ } ".

قالت:

ــ " ما هي المحاجّة؟ ".

قلت:

ــ " المحاجة: هي تبادل الحجّة، وهى ما يقصد به إثبات المدعى سواء كان دليلا حقاً أو مغالطة باطلة ".

بينما عادت تسأل:

ــ " والإبتهال؟ ".

ــ " أما الإبتهال: فهو الاسترسال في الدعاء والتضرع. وقيل: هي كلمة مأخوذة من البهلة أي اللعنة ".

ــ " ما الذي يسبق هذه الآية؟ ".

ــ " يسبق هذه الآية قوله تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ.. }".

ــ " وهل احتج اللّه هنا على النصارى؟ ".

ــ " احتج القرآن على النصارى الذين جعلوا ولادة المسيح(عليه السلام) من غير أب دليلاً على كونه ابن اللّه، فرد اللّه عليهم بأنّ مثله كمثل آدم(عليه السلام) إذ خلقه من غير أب وأُم، ولم يكن هذا دليلاً على بنوّته للّه تعالى أو ألوهيته، وكذلك الأمر

الصفحة 145
في عيسى بن مريم(عليه السلام) ".

ــ " وهل أن النصارى كانوا لا يقبلون هذه المحاجة؟ ".

ــ " إنّ هذه الحجّة بقطع النظر عن كونها وحياً إلهياً هي حجّة عقيلة لا تقبل المعارضة. إلاّ أنّ النصارى كانوا يجادلون ويبالغون في الجدال، يصرون على الضلال، فلم يكن ثمة سبيل إلاّ بارجاع الأمر إلى اللّه تعالى حتّى يحكم بالحق وهو خير الحاكمين. ومن هنا فقد أمر اللّه تعالى رسوله أن يعرض عليهم مسألة الإبتهال إلى اللّه كي يجعل لعنته على الكاذبين، ويعلن صدق الصادقين ".

ــ " وهل كان تحدياً صارخاً؟ ".

ــ " لقد كان هذا التحدى الحسي الكبير يشكل حداً ومنعطفاً تاريخياً كبيراً للدعوة الإسلامية وموقفها من أعدائها... لأ نّه الدليل الحاسم الذي لا يمكن تكذيبه ".

ــ " ولماذا طلبت الآية دعوة المتباهلين إلى الحضور؟ ".

ــ " فإنّه ولكي يبدو بوضوح، اطمئنان صاحب الدعوة المباهل، بدعوته وصدقه، طلبت الآية أن يحضر كُلّ من المتباهلين خاصته من أهله وولده، ليبدو الحق جلياً وينكشف صدق النوايا، في حين يكون الاحجام عن ذلك دليل التزلزل والارتياب. إذ قد يحسم الأمر قبل الوصول إلى اللحظة الأخيرة، حيث يرى الخصم اطمئنان صاحب الدعوة بدعوته وتعريض نفسه وإحبائه لمثل هذا الأمر الخطير، فيكشف له أ نّه على الحق، وقد يستسلم له ويرتدع عن ضلاله ".

ــ " وكيف كان للآية أن تعبّر عن ذلك؟ ".


الصفحة 146
ــ " لقد عبّرت الآية بتعبير موجز عن هذه الدعوة فقال تعالى: { تَعالَوْا نَدْعُ.. } بمعنى تعالوا كي ندعو نحن وأنتم خاصتنا وأهلينا للمشاركة في الإبتهال. ولعله لبيان شدّة الاطمئنان قدمت الآية ذكر الأبناء، ثُمّ ذكرت النساء، ثُمّ ذكرت الخاصّة، باعتبار أنّ عناية الإنسان بحفظ ولده الصغير والغيرة على نسائه أشد منها بالنسبه لسائر خاصته ".

ــ " وهل أكدت الروايات على وقوع مثل هذه الحادثة قطعياً؟ ".

ــ " لقد اتفقت الروايات وأطبق المفسرون والمؤرخون على أن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) دعا وفد النصارى إلى المباهلة، وأحضر بنفسه أهل بيته علي وفاطمة والحسنين(عليهم السلام)، إلاّ أن النصارى أحجموا عن المباهلة عندما شاهدوا هؤلاء الصفوة، واقترحوا أن يعطوا الجزية، فقبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)ذلك منهم ".

ــ " وهل يمكن أن تعود الآية بالفضل الكريم على صاحب الرسالة؟ ".

ــ " إنّ مما لاريب فيه أنّ الآية تدلّ على فضل عظيم وكرامة باهرة لأهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو أمر اعترف به أعاظم المفسرين والمحدّثين من السنّة، بعد أن اعترفوا باتفاق الرواة وصحة رواياتهم في ذلك فقد قال العلامة الجصاص في أحكام القرآن: نقل رواة السير ونقلة الأثر ـ لم يختلفوا فيه ـ أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ بيد الحسن والحسين وعلي وفاطمة ـ رضي اللّه عنهم ـ ثُمّ دعا النصارى الذين حاجوه إلى المباهلة، فأحجموا عنها، وقال بعضهم لبعض: إن باهلتموه اضطرم الوادي عليكم ناراً، ولم يبق نصراني ولا نصرانية إلى يوم القيامة "(1).

____________

1- أحكام القرآن 2: 14، وأُنظر تفسير الرازي لذيل الآية، الكشاف الزمخشري 1: 370، روح المعاني للآلوسي 3: 167.


الصفحة 147
ــ " هل لك أن تخبرني: كيف أنّ للآية أن تدل على فضل أهل بيت رسول اللّه؟ ".

ــ " الآية تأمر بدعوة الأبناء والنساء والأنفس ـ بصيغ الجمع في الجميع ـ وامتثال هذا الأمر يقتضي احضار ثلاثة أفراد من كُلّ عنوان لا أقل منها، تحقيقاً لمعنى الجمع. لكن الذي أتى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقام امتثال هذا الأمر على ما يشهد به صحيح الحديث والتاريخ لم يكن كذلك ".

ــ " وإذن، فإنّك تعني أنّ لفعله كان ثمة وجه انحصار؟ ".

ــ " ليس لفعله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجه، إلاّ انحصار المصداق في ما أُتى به. فالآية بالنظر إلى كيفية امتثالها بما فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تدلّ على أنّ هؤلاء هم الذين كانوا صالحين للاشتراك معه في المباهلة وأ نّهم أحب الخلق إليه، وأعزهم عليه، أخص خاصته لديه، وكفى بذلك فخراً وفضلاً ".

ــ " وما الذي يؤكد دلالتها على ذلك؟ ".

ــ " يؤكد دلالتها على ذلك أ نّه (صلى الله عليه وآله وسلم) له عدّة نساء ولم يأت بواحدة منهن سوى بنت له، فعَلامَ يحمل ذلك إلاّ على شدّة اختصاصها به، وحبه لها، لأجل قربها إلى اللّه وكرامتها عليه؟ ".

ــ " كذلك؟ ".

ــ " كما إنّ انطباق عنوان: النفس على علي بن أبي طالب، لاغير يدل على أعظم وأكرم مزية، حيث نزل منزلة نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ".

ــ " ويؤيده ما رواه الفريقان عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث قال لعلي بن أبي طالب: "أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلاّ أ نّه لا نبيّ بعدي ".

ــ " وقوله: "أنت مني وأنا منك ".


الصفحة 148
ــ " وقوله: "علي نفسي" فمن رأيته يقول في نفسه شيئاً؟! ولقد احتج مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ بهذه الفضيلة يوم الشورى، واعترف القوم بها ولم ينكروا عليه، وقد بلغ الأمر من الوضوح مبلغاً لم يبق فيه مجال للإنكار.. واعترف ابن تيمية بصحة الحديث القائل بأن نفس رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية هو علي(عليه السلام)، إلاّ أ نّه جعل ملاك التنزيل هو القرابة. ولما التفت إلى انتقاضه بعمه العباس حيث إنّ العم أقرب من ابن العم قال: إنّ العباس لم يكن من السابقين، ولا كان له اختصاص بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)كعلي. فاضطر إلى الاعتراف بأنّ مناط تنزيل علي ـ رضي اللّه عنه ـ منزلة نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ليس هو القرابة فقط، بل سبقه إلى الإسلام واختصاصه بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم). وهل يكون اختصاصه بالأمر من قبل اللّه إلاّ لأجل أفضليته من غيره، وأقربيته إلى اللّه سبحانه كما أن في قوله تعالى: { نَدْعُ أبْنَاءَنَا.. }إشارة إلى أنّ لغيره (صلى الله عليه وآله وسلم) شأناً في الدعوة إلى المباهلة، حيث أضاف الأبناء والنساء إلى ضمير المتكلم مع الغير مع أنّ المحاجة كانت مع النبي(صلى الله عليه وآله) خاصّة، كما يدل عليه قوله تعالى: { فَمَنْ حَاجَّكَ }. وهذا هو الذي يستفاد من قوله تعالى في سورة هود الآية: 17، حيث جاء فيها: { وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ }، كذلك قوله تعالى في الآية 108 من سورة يوسف: { قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللّهِ عَلى بَصِيرَة أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي }. كما يؤيده ما ورد فيها من الروايات، وهو مقتضى اطلاق التنزيل في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم)لعلى ـ كرم اللّه وجهه ـ: "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى". كما أنّ قوله تعالى: { فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ }، ليؤيد بأنّ المراد بالكاذبين هنا، ليس كُلّ من هو كاذب في كُلّ أخبار ودعوي، بل المراد هم الكاذبون المفروضون في أحد طرفي المحاجة والمباهلة، فلا محالة يكون

الصفحة 149
المدعي في كلا الجانبين أكثر من واحد، وإلاّ لكان حقّ الكلام أن يقال مثلاً: فنجعل لعنة اللّه على من هو كاذب، حتّى يصح انطباقه على الفرد أيضاً. فالمشتركون مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المباهلة شركاء في الدعوى.

وإنّ من الواضح البيّن أ نّه مع الاعتراف بصحة الروايات لا يبقى مجال لإنكار دلالة الآية على فضل أهل البيت ".


الصفحة 150