الفصل الحادي عشر
نفسي والسؤال الملحّ: لِمَ لَمْ يُباهل الرسول بالخلفاء؟
ظللت أتساءل:
ــ " ما هو المقياس لتشجيع الفرق؟ وما هو المعيار لاتخاذ مثل هذه السياسات؟.. فهل المقياس هو يتحدد في أنّ هذا الفريق هو فريق وطني؟ إذن الحس الوطني يملأ نفسي، وليس من حس إيماني يغمر قلبي، هذا مع أنّ حب الوطن من الإيمان، وما كان ذلك إلاّ بشرطه وشروطه! غير أنّ سباقات الأندية التي تجري في داخل نطاق القطر، كيف لها أن تجرّ الويلات والمصائب على مشجعي مثل هذه الفرق حتّى تنقلب مثل هذه التناحرات إلى تأليبات ماكرة وعصبيات شيطانية ثائرة، ليس الغرض منها إلاّ صرف الوقت الثمين، وتبديد مقومات وأهداف الحرية الفردية، واختلاق جملة من التهم، وحبّ ألوان الأباطيل، وإثارة النعرات والفتن والمشاحنات، وضروب المحاربات والقتال! دون سبب سوى أ نّي أشجع فلان والآخر يشجع غيره؟".
ولكن! لكلٍّ منّا غرضه، وعقيدته! ولو فاز فلان، أو غلب كذا أحد، فليس من حقّ آخر أن يعترض، لأنّ كلاًّ منهما قد قدم ما عليه، وساهم بجلاء في حربه المقدسة والغنية، وبكُلّ خلق ومهارة مثلاً! فالكُلّ يعرض مهارته، والآخر هو الذي يغلب، حتّى يصير هو المؤهل لتصدر مثلاً بطولة المصارعة أو الملاكمة، أو الصعود إلى الدوري النهائي. فلماذا نغضب؟ بينما لا نغضب حتّى
كذلك شعرت بحالي مع شيعة لأهل البيت.. كذلك هو حال الأديان والمذاهب عموماً.. فما كان للمرء أن يشتق له لون سعادة حتّى ينبذ الشقاء المر الذي لا يتمثل إلاّ في العصبية المستعملة في قبور القلوب البشرية والمتنوعة في ألوانها وضروب تخيلها الطائفي منها والعرفي والعنصري والمذهبي والشعبي وما إلى ذلك.. حتّى كان لها أن تجر الويلات على الأُمّة الإسلامية نفسها، وتقسم شعوبها إلى دول ومقاطعات وامارات وممالك.. فلماذا لا تتحد البلدان العربية، وهم ينادون بالقومية العربية؟ ولماذا لا تتحد شعوب الدول الإسلامية، وهم ينادون بالإسلام، وذلك الدين وطريقة المذاهب حتّى غدونا جميعاً وقلوبنا شتى..
ولماذا تنوعت المذاهب وتعددت طرائقها.. وأصبحنا دعاة للشافعية والحنبلية والمالكية والحنفية دون أن نمنح الفرصة للشيعة كذلك بأن يُدعوا هم
كُلّ هذه التساؤلات صارت تضرب في رأسي حد النخاع، فأصابت مخي وأجهضت على كُلّ عصبياتي السابقة، وذلك الطريق أكثر فأكثر للعب في سابقه، خاصّة بالمذاهب والدخول إلى ساحة الملعب للاشتراك في لعبة نزيهة، لا يمكن أن تتولى إلاّ من يلعب أفضل بما يمتلك من قدسية وطهارة، وخلق وعظمة في النفس وتفان في الصدق ونهاية في الإخلاص، وغاية في التفكر والتخطيط.. غير أنّ تساؤلاً عظيماً ألحّ على مخي حتّى أهلكني، وطوّح بكُلّ معادلاتي ذلك أ نّي حين تذكرت آية المباهلة، سألت نفسي، لِمَ لم يباهل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) نصارى نجران بأبي بكر وعمر وعثمان، مع أ نّهم خلفاءه المستقبليون، أو أن تاريخنا يحكي لنا كذلك، فيقص علينا هكذا قصة الخلافة؟! بل إنّه ما كان قد أتى بأهل بيته كذلك، إلاّ بمن عناهم في الحادثة، وما كانوا إلاّ علي وفاطمة والحسن والحسين. فقلت لنفسي بعد أن تنبهت إلى بعض المسائل وأنا أحدثها:
ــ " إذن، فما كانوا هم خلفاءه الذين عينهم، ولو كانوا لأتى بهم.. إذن منزلة أهل بيته أعلى وأعظم.. ".
أضفت وأنا أحدثها:
ــ " وإلاّ فإنّ آية المباهلة.. ".
قالت:
قلت:
ــ " هي الآية 61 من سورة آل عمران: { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ } ".
قالت:
ــ " ما هي المحاجّة؟ ".
قلت:
ــ " المحاجة: هي تبادل الحجّة، وهى ما يقصد به إثبات المدعى سواء كان دليلا حقاً أو مغالطة باطلة ".
بينما عادت تسأل:
ــ " والإبتهال؟ ".
ــ " أما الإبتهال: فهو الاسترسال في الدعاء والتضرع. وقيل: هي كلمة مأخوذة من البهلة أي اللعنة ".
ــ " ما الذي يسبق هذه الآية؟ ".
ــ " يسبق هذه الآية قوله تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ.. }".
ــ " وهل احتج اللّه هنا على النصارى؟ ".
ــ " احتج القرآن على النصارى الذين جعلوا ولادة المسيح(عليه السلام) من غير أب دليلاً على كونه ابن اللّه، فرد اللّه عليهم بأنّ مثله كمثل آدم(عليه السلام) إذ خلقه من غير أب وأُم، ولم يكن هذا دليلاً على بنوّته للّه تعالى أو ألوهيته، وكذلك الأمر
ــ " وهل أن النصارى كانوا لا يقبلون هذه المحاجة؟ ".
ــ " إنّ هذه الحجّة بقطع النظر عن كونها وحياً إلهياً هي حجّة عقيلة لا تقبل المعارضة. إلاّ أنّ النصارى كانوا يجادلون ويبالغون في الجدال، يصرون على الضلال، فلم يكن ثمة سبيل إلاّ بارجاع الأمر إلى اللّه تعالى حتّى يحكم بالحق وهو خير الحاكمين. ومن هنا فقد أمر اللّه تعالى رسوله أن يعرض عليهم مسألة الإبتهال إلى اللّه كي يجعل لعنته على الكاذبين، ويعلن صدق الصادقين ".
ــ " وهل كان تحدياً صارخاً؟ ".
ــ " لقد كان هذا التحدى الحسي الكبير يشكل حداً ومنعطفاً تاريخياً كبيراً للدعوة الإسلامية وموقفها من أعدائها... لأ نّه الدليل الحاسم الذي لا يمكن تكذيبه ".
ــ " ولماذا طلبت الآية دعوة المتباهلين إلى الحضور؟ ".
ــ " فإنّه ولكي يبدو بوضوح، اطمئنان صاحب الدعوة المباهل، بدعوته وصدقه، طلبت الآية أن يحضر كُلّ من المتباهلين خاصته من أهله وولده، ليبدو الحق جلياً وينكشف صدق النوايا، في حين يكون الاحجام عن ذلك دليل التزلزل والارتياب. إذ قد يحسم الأمر قبل الوصول إلى اللحظة الأخيرة، حيث يرى الخصم اطمئنان صاحب الدعوة بدعوته وتعريض نفسه وإحبائه لمثل هذا الأمر الخطير، فيكشف له أ نّه على الحق، وقد يستسلم له ويرتدع عن ضلاله ".
ــ " وكيف كان للآية أن تعبّر عن ذلك؟ ".
ــ " وهل أكدت الروايات على وقوع مثل هذه الحادثة قطعياً؟ ".
ــ " لقد اتفقت الروايات وأطبق المفسرون والمؤرخون على أن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) دعا وفد النصارى إلى المباهلة، وأحضر بنفسه أهل بيته علي وفاطمة والحسنين(عليهم السلام)، إلاّ أن النصارى أحجموا عن المباهلة عندما شاهدوا هؤلاء الصفوة، واقترحوا أن يعطوا الجزية، فقبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)ذلك منهم ".
ــ " وهل يمكن أن تعود الآية بالفضل الكريم على صاحب الرسالة؟ ".
ــ " إنّ مما لاريب فيه أنّ الآية تدلّ على فضل عظيم وكرامة باهرة لأهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو أمر اعترف به أعاظم المفسرين والمحدّثين من السنّة، بعد أن اعترفوا باتفاق الرواة وصحة رواياتهم في ذلك فقد قال العلامة الجصاص في أحكام القرآن: نقل رواة السير ونقلة الأثر ـ لم يختلفوا فيه ـ أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ بيد الحسن والحسين وعلي وفاطمة ـ رضي اللّه عنهم ـ ثُمّ دعا النصارى الذين حاجوه إلى المباهلة، فأحجموا عنها، وقال بعضهم لبعض: إن باهلتموه اضطرم الوادي عليكم ناراً، ولم يبق نصراني ولا نصرانية إلى يوم القيامة "(1).
____________
1- أحكام القرآن 2: 14، وأُنظر تفسير الرازي لذيل الآية، الكشاف الزمخشري 1: 370، روح المعاني للآلوسي 3: 167.
ــ " الآية تأمر بدعوة الأبناء والنساء والأنفس ـ بصيغ الجمع في الجميع ـ وامتثال هذا الأمر يقتضي احضار ثلاثة أفراد من كُلّ عنوان لا أقل منها، تحقيقاً لمعنى الجمع. لكن الذي أتى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقام امتثال هذا الأمر على ما يشهد به صحيح الحديث والتاريخ لم يكن كذلك ".
ــ " وإذن، فإنّك تعني أنّ لفعله كان ثمة وجه انحصار؟ ".
ــ " ليس لفعله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجه، إلاّ انحصار المصداق في ما أُتى به. فالآية بالنظر إلى كيفية امتثالها بما فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تدلّ على أنّ هؤلاء هم الذين كانوا صالحين للاشتراك معه في المباهلة وأ نّهم أحب الخلق إليه، وأعزهم عليه، أخص خاصته لديه، وكفى بذلك فخراً وفضلاً ".
ــ " وما الذي يؤكد دلالتها على ذلك؟ ".
ــ " يؤكد دلالتها على ذلك أ نّه (صلى الله عليه وآله وسلم) له عدّة نساء ولم يأت بواحدة منهن سوى بنت له، فعَلامَ يحمل ذلك إلاّ على شدّة اختصاصها به، وحبه لها، لأجل قربها إلى اللّه وكرامتها عليه؟ ".
ــ " كذلك؟ ".
ــ " كما إنّ انطباق عنوان: النفس على علي بن أبي طالب، لاغير يدل على أعظم وأكرم مزية، حيث نزل منزلة نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ".
ــ " ويؤيده ما رواه الفريقان عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث قال لعلي بن أبي طالب: "أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلاّ أ نّه لا نبيّ بعدي ".
ــ " وقوله: "أنت مني وأنا منك ".
وإنّ من الواضح البيّن أ نّه مع الاعتراف بصحة الروايات لا يبقى مجال لإنكار دلالة الآية على فضل أهل البيت ".