الفصل السابع عشر
الحنين ما بين فراق الأحبة وغربة الإمامة
كانت رسائل الأهل تصلني بين الحين والآخر، بينما عزّ علي أن لا يكون بمستطاعي أن أبوح لهم بما نبغ في صدري، وعلق في دخائلي، لأ نّي ما كنت أهوى أن أثقل عليهم، واجعلهم يقاسون أشد مما يقاسونه من فراقي عنهم، وبعدي، وأنا الذي لم يعد بمستطاعه نسيانهم.. فما كان بميسورى أن أسلاهم حتّى وجدت في هذا الموضوع ما يسلّيني ويُسرِّي عن همومي وأتراحي التي كان لها ان تلتمع بين الحين والآخر حتّى أنّ لها أن تخبو دون أن يخمد عنوانها.. وذلك لأ نّي وجدت أ نّه من غير العسير على المرء ان يحمل جلّ وقته على الإنفاق فيها، لو أراد أن يدفع عنهم تباريح أيامه الحزينة، وصروف دهره الكئيبة حتّى قيض لي اللّه فحوى الأمر بعدوى الاهتمام بمثل هذه الأبحاث، وجعلت أصوغ مفردات العقل، وأفنّد الآن الفكر كيما استاق وحي شآبيب الطلعات، وأرخي بها صوب سماويات الذهن حتّى تئن وتضطرب عند اختلاج غمامها الأجدب، وقزعاتها المتخاتلة، وهي تصوب بأفانين رقصاتها إلى أفنان تلك الأعناق الفضية التي غذت عمرها من ريع الأيام الآتية حينما جلت عنها غبرة الليالي الحالكات، وهي تتحسس أريج إزهار ذلك الأُفق الفضية وترقب ألوانه المتماوجة ما بين أنواء المجد الملكوتي.. وكيف لها أن تتفتق عنها صبابة حالمة، كأ نّها ضروب من فحوى النسك ومعنى
بل لم يكن بوسعي أن أتميز لون مذهبي.. إنّما كنت أتعبد، ولم يكن أحد ليسألني ما هو مذهبك؟.. ولو كنت أقول شافعي أنا، أو حنفي أنا، أو مالكي كنت، أو حتّى حنبلي! لما كان لأيّما أحد أن يرشقني بوابل من ألحاظ الشزر وألوان الامتهان، أو أن يمطرني بصبٍّ من نظرات الويل والأسف والتي لها أن تتبعها أكوار من فوهات الحمم الناضحة بسحب البركان ومواد الانفجار، لا تضوع إلاّ بلغة ملؤها الحرمان، سادرة في غيٍّ جملة من الحماقات، هي ليس لها أن تنتهي حتّى ينتهي يوما الدهر، ويؤوب الناس أجمع إلى لذعة الحمام.. بينما لو نطقت بالجعفري أو الشيعي، لكانت أعين القوم تدور حزناً وأسىً، وكأ نّها لتبعث على ذكر الموت، وهل هو شيء أعز عند اللّه من ذكر الموت الذي يدع النفس تؤوب إلى بارئها، وتثوب إلى خالقها، وذلك ريثما تعود إلى رشدها، فتستفيق وهي لما تنهل كُلّ ما أرادت نهله، آسفة على ما ضيعته من سنّي عمرها، وطحنته في بيداء، كانت قد خالتها غياضاً غنّاء، بيد أ نّها ما كانت لتتكشف لها حالئذ وعند مطارف الموت، إلاّ بيداء قفرة، خلو من أهلها، مدقعة من أيّما لون حياة، قد استلّها الفقر كُلّ ألوان الحياة حتّى استحالت جدباء غبراء، مكلومة من شدة الجراح الموغرة في جسدها، سقيمة من قوة الآلام البغيضة.
ولكن، كلمة إمام، هذه الكلمة، كيف عدت استقي من وحي مناقشاتي، إذ أثارتني حينما عرضت بها على صاحبي في الجامعة عبد الرزاق حتّى أقر معتقداً بامامة علي بن أبي طالب.. فعدت الآن أسائل نفسي:
ــ " فكيف لا يغدو كذلك، ونحن قد جعلنا من رؤساء المذاهب أجمع
حتّى جعل آخر يذكّرني وهو ماجد! ماجد الذي وجدته لا يحمل تلك الشهادات الدراسية العالية، بل استحقرت إمكانية إجراء أيّما مناظرة معه، أو مساءلة. بدرني بالقول:
ــ " ألا يقول القرآن: { يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناس بِإِمامِهِمْ.. } فهو قد شمل كافة الناس بقوادهم حينما أطلق على الأخيرين بلفظ الإمام. كما أ نّه لما نجد أ نّه من البدهي أن لا يكون جمع الناس مؤمنين، بل أكثرهم كافرين.. فما كان ذلك سيدعونا إلاّ إلى التسليم، بأنّ الإمام هو لا يشمل فقط القائد المؤمن، بل له أن يصطلح عليه بقائد الكفرة كذلك، أي من يضلّهم حتّى الناس بنهجه، ويقتفي البشر رأيه ليتقصون بعد ذلك طريقه والعمل بسلوكه، وما قاله أو أتاهم به.. لأنّ اللّه تعالى، وفي آية أُخرى يقول: { فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ }! فهذا تصريح شامل يعتني ببيان مثل ذلك خير بيان. فلِمَ تستكثرها على الخليفة الرابع؟! ".
سألني وأنا الذي صرت أبحث لعيني عن مرتع ومحل، أناهض ومن خلالهما، وعند أي منهما نظراتي، وأنزع بهما صوبهما كيما لا تقع تلويحاته المطرقة تلك في أحداقي الملتهبة.
لقد أيقنت بعدها أن كافة علومي وما توصلت إلى حمله من معارف وتلقيته في صفوف الكُلّية، وعرفته وأدركته في قاعات الجامعة، كُلّه ما كان بوسعه ولا بميسوره أن ينجدني من هذه الأزمة، ولا أن يخلّصني من هذه المعمعة والتي غدا لها دبدبات خارقة.. تتعاهدني بين الفينة والأُخرى كأ نّها
بدأت أخاف مثل هذا التراكم من أوجاع الرأس حتّى مللت التفكير في غيب هذه الاطلاعات والابحاث. لقد ساورتني الشكوك في كُلّ ما أوتيته من قوة وعزم. لقد ملأني رعب قاس، كأ نّما أضطرم بين أحشائي، ألمّ بي كأ نّه يريد افتراسي حتّى ظل ينتابني مرة بعد أُخرى.. بينما كنت أُتعِب نفسي في معاندته، إلاّ أ نّه تمكن منّي! وبتُّ أسائل أهلي من البعد إلى البعد.. وأنا الذي ما كان لتخفى عني اهتماماتهم، أو سحابات تعلقاتهم التي ما كان لها أن يتمسح بجبيني شيء من هذه العوالق الذهنية الخطيرة والتي لها أن تغير مجرى حياة المرء بين ليلة وضحاها.
بادرتني فكرة ما، أو بالأحرى انتبهت إلى تاريخ البشرية وإلى ما كنت أعيشه وتعيشه ذهنيتي، وأسمعه وأراه، وما زلت أعتقد به، من كُلّ ما له أن يتعلق بمجتمع النساء وتأثيرهن على قلوب أقوى الرجال الشجعان وأعتى الأبطال الأشاوس! وكيف كان للنساء أن يلعبن وعلى مرّ التاريخ، دوراً مؤثراً! وكيف كان لهن أن يدرجن على إرعاب كُلّ من كان يهوى الحياة، وإغراقه في عرض دوامة من سلسلة موجية هي أخطر، تلهبه أسواط القتل وما
كنت أرى إلى مثل هذه الذكريات الأليمة، وأتطلع إلى مجد النساء الذي كان له أن يصارع كُلّ أمواج الحاضر والماضي والمستقبل. وكنت أذكر وما زلت، أترع بمثل هذه الأوراق التي تملأها ألوان من البطولات النسوية والقهروت الأنثوي.. وهي ـ أعني المرأة ـ إذ ما زالت تدور حوالي لتتوزع خطاها أمام ناظري، وهي التي ما برحت تعكف على إرساء أطواد غرورها في بواخر الرجال، وذلك كُلّما عنت الوجوه لها، دون الحي! وهي تلين لنظراتها وتسترشد بمفاكهاتها التي تغزل عيون الرجال من أورادها كُلّ قرعة وقرعة، وذلك كُلّما قرع الثغر الثغر، وجعلت القرارات تنشد غير ما يطفح به العقل، وترسمه رؤى الذهن الرشيد، بل تصير تنحو غير السبيل التي ارتآها الربّ العزيز لعباده من خلقه من الائبين إلى مجد عليائه واللائذين بكتف ستره ورأفته.. حتّى كنت أرى الرجال من ذوي البأس الشديد يكادون يخضعون هم بالقول إلى ربات الحجال، ويقمن كُلّ ما يرين إلى ضرورة إقامته، ولا ينسفن إلاّ ما ارتأين نسفه ليكون بعدها رميماً كالهشيم تذروه الرياح! فقلت في نفسي:
ــ " فلو كان لمثل هاتيك النسوة أن يعتملن مجدهن حين يكون له أن تركم
(هكذا خلت حالي) أروم مجاهداتها، وفي ظل ذلك الأحد الآخر هو ممن كنت أصادقه في الماضي، وهو ممن جعل يعد من ضمن أترابي وأقراني. فأيّما فوز أنالني إياه علياء هذه الدنيا؟ أو أيّما زخرف من سنا المجد تبعني إليه طعم الوجد الذي أثكل صبابة الشوق في وجد عيوني حتّى درجت لا تنثني المقل
إذن! فلماذا نحرم أنفسنا حرية الانتقادات الأُخروية، وما كانت الدنيوية منها لتكون غير معابر باهتة تنسحب على مراقي تؤدي بالتالي إلى الثانية ليس إلاّ.. فما كانت الأُولى إلاّ وسيلة للثانية، وما كانت الأخيرة إلاّ غاية للأُولى.
الفصل الثامن عشر
المذهب الجعفري ما بين ضغوط السلطات
وضروب المذاهب
جلست ذات أصيل أتعرض لمناقشة أحدهم، كان هو الأستاذ الجامعي عبد السلام الربيعي.. حيث كان قد حاز على درجة الدكتوراه من جامعة أكسفورد في بريطانيا وذلك في اختصاص الهندسة المعمارية.. ولقد رأيته مستبصراً منذ أمد ليس ببعيد جداً.. فكان قد ترك مذهب أهل السنّة وبالأخص مذهبه الشافعي وانتمى إلى مذهب أهل البيت، مذهب الأئمة الاثني عشرية.. سألته، وذلك حينما ابتدرته بالكلام وأنا أقول له:
ــ " كيف انغرست بذرة التشيع، بل كيف اعتمل نموها؟ ".
فقال:
ــ " مهما يكن من أمر فقد نشأ مذهب أهل البيت وتكوّن في عهد صاحب الرسالة (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو أوّل من وضع بذرة التشيع في حقل الإسلام، يوم غرس دوحة شريعته الغراء جنباً إلى جنب وسواء بسواء، ولم يزل غارسها (صلى الله عليه وآله وسلم)يتعاهدها بالسقي والعناية حتّى ثبتت ونمت في حياته، ثُمّ أثمرت بعد وفاته، حيث كان يتعاهدها أهل بيته وخلّص أصحابه، وقد قام كُلّ بما يجب عليه من رعايتها، وتحمل من نكبات واضطهاد في سبيل حفظها من تلك السلطات التي كانت تحاول القضاء عليها لمحو ذكر آل محمّد(عليهم السلام) ".
ــ " وقد وقفوا أمام تلك التيارات وقفة إخلاص وإيمان وثبات على مبدأ الحق، ولم يأبهوا يوماً ما إلى سلطة أو سياسة، ومرت تلك الأدوار العصيبة المظلمة، ولم يزل ذلك الغرس ثابت الجذور نامي الفروع يسقى من ماء غير آسن، حتّى أفرعت دوحته وامتدت أغصانه وأينع ثمره بحفيد النبيّ الكريم ووارث علمه الإمام جعفر بن محمّد الصادق ".
فقلت له:
ــ " والإمام الصادق، ما كان دوره على وجه التحديد؟ ".
فقال:
ــ " كان الإمام الصادق مهتماً في تلك الفترة المارة الذكر ببث العلوم ونشر المعارف الإسلامية بين طبقات المجتمع، فأقبل الناس على مدرسته وازدحموا على أبوابها ينتهلون من علومه، ويقتبسون من أنوار معارفه، وأقبلت وفود طلاب العلم من الأقطار الإسلامية، حتّى أصبح عدد تلاميذه والمنتمون إلى مدرسته أربعة آلاف، منهم أئمة مذاهب ".
ــ " أئمة مذاهب؟ ".
سألته مع أ نّي كنت أعلم العلم السابق بذلك، إلاّ أ نّي أحسست بأنّ تعبيره كان يمتد أكثر من هذا وأقصى بعداً. فقال:
ــ " أجل، كأبي حنيفة، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري، وابن عيينة، والأعمش، وغيرهم وكذلك منهم رؤساء طوائف وأعلام الحديث والفقه ".
ــ " وكثر التأليف في عصره، دون فقه أهل البيت وحديثهم بصورة واسعة، حتّى أحصى ما دونوه في عصره فكان أربعمائة مؤلَّف لأربعمائة مؤلِّف ممن سمعوا الحديث منه، فدونوه وعرفت بالأُصول الأربعمائة.
ــ " فبالجملة فإنّ مذهب أهل البيت(عليهم السلام) هو أقدم المذاهب، وقد تخطى في العصر الأموي تلك العقبات التي حاول الأمويون بها أن يعرقلوا سيره، ويقفوا في طريق انتشاره، فضلاً عن مقاومة العباسيين له، ومعارضتهم لانتشاره ".
ــ " بأي نتيجة يمكنك أن تخرج، فيما لو درست كتب المؤرخين..؟".
ــ " مثل مَن؟ ".
ــ " مثل ابن خلدون؟ ".
ــ " أود هنا أن أعود للإشارة عما تجناه ابن خلدون على الحقائق التاريخية إذ يصف هذا المذهب بالبدعة حيث يقول في مقدمته: وشذّ أهل البيت في مذاهب ابتدعوها، وفقه انفردوا به ".
ــ " ذكر مثل ذلك في مقدمته؟ ".
ــ " نعم.. في الصفحة: 274 ".
بينما استطرد وهو يقول:
ــ " وليس من الغريب صدور مثل هذا القول من رجل كان يحقد على العرب ويضمر لهم كُلّ سوء، وليس ببعيد تحامله على سادة أهل البيت من أئمة المسلمين فهو يتعصب عليهم، ويتجاهل مكانتهم، هذا مع جهله بمذهبهم فإنّه لم يقرأ كتب المذهب وإنّما قرأ كتب الخصم، ولم يتصل بزعمائه، وإنّما اتصل بأعدائه، فراق له ما سمع من قالة السوء، واستعذب ما قرأ في كتب المناوئين
ــ " ولكن ابن خلدون ليعد من المؤرخين الكبار؟! ".
ــ " ولعل هالة الإكبار والتقدير لابن خلدون التي أحاطت بشخصيته من قبل بعض الكتاب أبعدتهم عن الوقوف على شخصية هذا الرجل بواقعها والتعرف على ما تضمنته مقدمته من أخطاء ومخالفات للحقيقة ".
فأمعن حينها النظر في وجهي، ثُمّ أردف كلامه وهو يقول:
ــ " ولقد رأينا دوماً أنّ ابن خلدون موضع إجلال أكثر الباحثين والكتاب، سيراً على طريقة السلف، ونجد برغم ما تضمنته مقدمته من علوم في الاجتماع والعمران. إلاّ أنّ ذلك لا يبيح لنا أن نتغاضى عن مواقف وقفها تجاه العرب وحضارتهم، فيجردهم من ذلك ويسلبهم فضائلهم فيصفهم بأ نّهم أُمّة متوحشة، وهم أهل نهب وعبث، بل هم أداة خراب للأوطان التي يتغلبون عليها إلى غير ذلك مما يدلنا بكُلّ وضوح على تعصبه أو تجاهله كما يصفه لنا الأستاذ موسى سلامة ".
ــ " وماذا قال الأستاذ سلامة؟ ".
ــ " إنّه قال: والخطأ البارز في ابن خلدون، هو تنقصه حضارة العرب، فإنّه هنا أعمى كامل العمي، لا يرى بصيصاً من نور...، هذا مع أ نّي أحتفظ له بخيانات شخصية وثقافية، فإنّه مثلاً خان معظم الأمراء والملوك الذين خدمهم ثُمّ إنّه سرق كُلّ ما كتبه إخوان الصفا وعزاه إلى نفسه ".
وهنا عاد إلى القول:
ــ " ولا أدل على تجاهله أو تحامله من كلمته هذه في مذهب أهل البيت وصفه لهم بالشذوذ. ولو كان له قليلاً من التأمل لما قال هذا القول الذي لم