فقاطعني من جديد، وهو يقول:
ــ " إذن، أنا في قعر البئر ".
إلاّ إنّي أسهبت في الكلام ومن دون أن أعتني بما قال، غير أ نّي ابتسمت له كأني أطالبه بالتريث، ريثما أحكي له قصة لوعتي، وقصيد أشجاني الحقيقي، لأنّ المسألة ما كانت تحتمل لمسة عناد، أو مهملة لجاجة.. لأنّ الواقع يفترض بنا أن نكون جادين بقدر ما نكون عاطفيين، نرتبط بآبائنا، وبقدر ما لنا أن نرتبط بالعالم من حولنا، ولو كان لنا أن نثبت لهم وقادن بأكثر مما نثبته للآخرين، ونكون لهم خير خلف لخير سلف.. فقلت له، وأنا أُتابع حديثي:
ــ " لأنك كنت قد صورت نفسك كالقمر، وشبهت حالك بحاله، عملاً عرضك للظهور كما ظهر آباؤك من قبل، رجاء أن تدفع عنهم الرِّيَب والتهم، وتبري ساحتهم بنفس الدليل والبرهان الذي صرت تدفع بهما عن نفسك، لأنك ما طمحت إلى أن تكون أفضل منهم. ولربما كان اللّه قد آتاك من العلم ما لم يؤتهم هم أنفسهم، إلاّ أنك مع ذلك رضيت بهذا القدر اليسير، واكتفيت به، كما لو أدرت القول بأ نّك ترضى لنفسك من العيش ما رضيه السلف من الماضين، والسابقون من القدماء، من حيث سكنى الكهوف، والاشتغال بالزراعة وبعض الصناعات فقط، والاكتفاء بضوء الشموع بدلاً عن أضواء
وعندها صاح، وكأ نّه قد وقع على أصل الحل، وربح المعركة:
ــ " وها أنت من جديد، تعينني على نفسك! ".
ــ "؟! ".
نظر إليّ مليّاً، ثُمّ عاد وهو يستدرك القول:
ــ " ومن أين لي أن اتطلع إلى الأرض وأنا أقف على سطحها، بل إنّي ما أرى سوى القمر! أرأيت؟ فإنك صرت تطالبني بعلم الغيب الذي لم يطلع عليه أحد.. ".
فعاجلته أنا الآخر:
ــ " أرأيت.. فإنك أنت الذي تعينني على نفسك، بل إنك ومن جديد تصير إلى فعل مثل ذلك، وبكُلّ ما توقعته، نتيجة عما ظننته ظن اليقين أ نّه حاصل عن مقدمات كنت قد اعنتك بها على نفسي.. فإنّك حين لم يكن بوسعك أن ترى الأرض، فإنّه ما كان بميسورك أن تبصر سوى القرم، وكنت لتجد أ نّه يتعين عليك أن لا تأخذ الأحكام إلاّ من القمر، وتجتزئ بما تراه منه وتعقله.. ".
فساءلني:
ــ " وأنت! أكنت قد رأيت الأرض؟ ".
ــ " لقد صوّروها من على سطح القمر! ".
ــ " ولكن غيري كان بوسعه أن يراها، وذلك بفعل سلطان العلم ".
ــ " إلاّ أنهم ما كانوا مسلمين ".
ــ " ولقد كان من المسلمين من أبصرها بفعل سلطان العلم الإلهي ".
ــ " إنّي أحدثك عمّا يمكنه أن يصلك بأسبابه الطبيعية ".
ــ " وأنا الآخر، أُحدثك عمّا يصلني بأسبابه الحياتية، لأ نّه لولا الظلمة، ما كان لنا أن نفهم معنى لضوء القمر! ".
ــ " إلاّ انّا فهمنا معنى لضوء الشمس، مع أنّه ما ثمة من ظلمة تغشى السماء، لأ نّه أصل النور ".
فقال لي، وكأنه تصور بأنه قد توصل إلى صيدي، والايقاع بي:
ــ " بل إنّ اللّه هو أصل النور، ولولا اللّه، لما كان ثمة من ضوء للشمس، ولا من قوة نارية يشتعل أوارها في خلالها،.. وتضيء.. ".
فقلت له:
ــ " وإذن، فأنت تقر وتعترف بأنّ الشمس هي نفسها ما كانت إلاّ أصل الوجود ".
ــ " وهل كنت تظنني أن أقول لك مثلما قاله قوم إبراهيم لرسول اللّه، بأنا نسجد للشمس، ذلك لأ نّها الهنا الحق! ".
ــ " لا أقول هذا، ولكنك بُحت بشيء، ربما أقنعني بأن أتلمس الإيجاز في طي مثل هذا الطريق، كيما يسعني الوصول إلى بغيتي وبأسرع ما يمكن ".
ــ " هات ما عندك؟! ".
ــ " إنّك لا ترى الأرض، بينما هو بوسعك أن ترى القمر!.. وتبصر للقمر
سكت، ولم يحر جواباً.. بينما تابعت حديثي:
ــ " ثُمّ استدللت على بطلان مقالتك، حينما ناضلت في الدفاع عن نفسك، وذلك من خلال استذكارك لقوم إبراهيم، وما أرى إلاّ أ نّك تحاول أن تنزل نفسك منزلتهم، ومن حيث لا تدري! ".
ــ " أتجعلني مشركاً عابداً لصنم؟! ".
ــ " لا، معاذ اللّه! ولكنك أنزلت نفسك منزلهم ومن حيث إنّك صدّقت بالقمر، ولم تصدق بالأرض، ولو كان القمر يستحق العبادة والسجود له، لكانت الأرض نفسها هي أجدر وأخلق منه بذلك! ".
ــ ".. ولكانت الشمس هي الأخلق منهما أجمع.. لأ نّها أكبر.. غير أنها بعيدة، فلا نراها إلاّ أصغر ".
ــ " والشمس كذلك.. ".
عاجلني بهذه الجملة المقتضبة، وكأنه كان قد شعر أ نّه قد أمطرني بحجة تفي بالغرض، وتدعوه إلى الوقوف على قدميه، وذلك بعد أن أوقع طول الحجاج الوهن في ساقيه، وأنزل ضربات الهول في أعصاب قدميه الضعيفتين.. فغدا لا يقوى على الوقوف، فاطّرحهما أرضاً حتّى تهاوى جسده، مريحاً بدنه المتعب، بينما جعلت أقول له:
ــ " إنّي لم أدع نفسي تكمل فحوى العبارة حتّى جعلتك أنت الذي تقرّ على ما أردت ادانتك به، ومن قبل أن أعلن عليك فساد نظرتك السابقة.. فأثبتّ ومن حيث أقررت بتشبيه نفسك بالقمر كحال آبائك من قبل حتّى قنعت بما قنعوا وجعلتني من بعد ذلك، أثبت لنا خطأ دعواك، فإذا بك تبصر الأرض
ــ " وما هي هذه الحقائق الأُخرى؟ ".
ــ " وهي إن آباؤك، كان لهم أن يروا ضوء الشمس وكانوا يتلقونه، مثلما تتلقاه الأرض، إلاّ أنهم ما كانوا ليعكسوا سوى 7%، مع أنهم كانوا يتلقون 100%، وما كان السبب في ذلك إلاّ نفس السبب الذي تراه في القمر، لعجز عقولهم وضعف إراداتهم، فرضوا بما رضي به القمر، وفاتهم أن للقمر دوراً سماوياً، لا يتعدى هذا، وليس لكُلّ أحد أن يتعدى الدور الذي رسم له إلاّ باذن اللّه، وإذن هذا هو الآخر كان يمثل لك الجواب عن سؤالك في البداية، حينما عرضت لي بالقول إن الشيعة، هم الآخرون لم لا يتوجهون إلى هذه المسألة مثلما نتوجه نحن إليها.. فأقول لك إن حالهم في هذا المضمار كحال القمر المسخر، لأن يعكس هذا القدر، لا لضعفه، كما وجدناه لدى آبائنا كلانا.. وليس آباؤك فقط، وذلك حينما وجدناهم كالقمر. ذلك أ نّهم يرون الشمس، ولا يعكسون إلاّ 7%، فلا يخبرونا عنها إلاّ بهذه النسبة. كما أنهم لا يمدّونا من ضوئها ودفئها، إلاّ بهذه النسبة! غير أنّ الشيعة كان لهم أن يجدوا من الأدلة والبراهين، ما يغنيهم عن تتبع ما يجب أن نتبعه نحن، لانّا لا نمتلك الأدلة التي يمتلكونها، وليس الذي كان بأيديهم هو واقع بين أيدينا، ولذلك كان لأفرادهم أن يكتفوا بالبحث في أُصول عقائدهم وبمقدار 7% من نسبة الضوء الساقط عليهم، ضوء الحياة. مع انّا لا نشعر بأنهم وكُلّما اكتفوا بذلك، فإنهم لا يعكسون إلاّ بمقدار ما تعكسه الأرض نفسها ".
ــ " وكيف هذا، إنها قسمة ضيزى! ".
ــ " وهل تقول إنّهم يفهمون أكثر منا.. ".
ــ " ولذا، سيكون بإمكاننا أن نتبين من الحقائق أكثر مما يتبينها الشيعة أنفسهم ".
ــ " هذا لا أخالني أخالفك به.. لأنا سنكون كمن يكتشف أرضاً جديدة فيتقصى كافة الحقائق عنها، ولما سنصير نحن عرضة للسؤال أكثر من الشيعي نفسه من قبل أهلينا وعشيرتنا الأقربين.. والناس والاصدقاء والخلان. هذا، فيما لو قدر لنا أن نتشيع، كان علينا إذن أن نتحصن بمختلف المعلومات، ونكثرمن الاستفاقات والصبّ من عيون المعالم، وسيوف المعارف. كيما لا
قاطعني:
ــ " إن استبصرنا.. ".
ــ " أجل، فهي ستصبح جداً قاسية عظيمة، لأن علينا أن ندرس ومن جديد غالب ما لدينا في كتبنا ونعارضها بفنون الوحي العقائدي الموجود لدى الشيعة ".
ــ " أو لم يدّعي البعض أن الشيعة تحتج علينا نحن أهل السنّة من نفس كتبنا التي بين أيدينا ".
ــ " وهذا صحيح جداً ".
ــ " فلماذا تخبرني بمعارضتنا لكتب السنّة بالعلوم الشيعية ".
ــ " ذلك بعد أن نسقط أدلة الطرف، نعمد إلى الاستدلال ثانية، وعلى ما عند الشيعة من نفس كتب السنة ".
ــ " وإذن، ما قلت لي، سوى ما أخبرتك به، فلم تجبني ما هو الوحي العقائدي الشيعي ".
ــ " هو المرحلة الثالثة بعد اسقاط أدلة الخصم وتفنيدها من كتبه، والاستدلال على ادعاءات الشيعة من كتبه كذلك، ومن ثُمّ بالاستعاضة من عيون المعارف الشيعية وبشكل مفصل.. لأ نّي أخبرتك أن استدللنا على الشمس بآثارها في الأرض، بعد أن فنّدنا عناصر الظلمة وأدلتها. إلاّ أنا لو أردنا وحي الشيعة العقائدي الأصلي، كان لنا أن نقصد الشمس نفسها،
ــ " إنّا ومن خلال حديثنا هذا قد أصبحنا شيعة، ونحن لا ندري! ".
ــ " وإنك لتتكلم كما لو أنّا قد عزمنا على الاستبصار كلانا و.. وليس أنت وحدك ".
ــ " ما الذي يدعوك إلى الظن كذلك، أو ما الذي يحملك على مثل هذا التفكير؟ ".
ــ " هذا الذي تقوله! ".
ــ " وهذا عظيم المصاب، لقد أقرحت جروحي ".
ــ " لماذا؟ ".
ــ " لأنك تسألني عن علّتي، فأقول لك ما صرّحت لك به ومن قبل! مع أ نّي ما زلت سنّياً، ولم أستبصر! بل لم أفكر به خطأ، إلاّ أ نّي بحثت في أدلتنا، فوجدتها ضعيفة نسبياً، فيما لو قيست إلى أدلته الشيعية، ثُمّ بحثت مرات ومرات أُخر، فوجدتها ضعيفة جداً، وسطحية للغاية! ".
ــ "..؟! ".
ــ ".. وبحثت، وبحثت! فوجدتها شيئاً، ليس بوسعه أن يخالف مذهب الشيعة، حيث وكأن التأريخ كان قد صنع صنعه! فوظف المأجورين لمخالفة كُلّ ما جاءت به أُصول الأئمة، وجاء به فقه الشيعة، وذلك من أجل صنع أُصول جديدة وفقه جديد!.. أُنظر، ما أسهل المهمة، وأعظم الأثر! ".
ــ " ولكنك تقول إنّي لم أستبصر؟ ".
ــ " هل أنك لم تجد من الجرأة ما يعينك على اتخاذ مثل هذا القرار؟ ".
ــ " حقاً! تريد مني الجواب الشافي؟ ".
ــ " أجل ".
ــ " أصدقك القول، صحيح هو ما تقوله، لأ نّي غدوت كما هو الحال لدى الشيعة من مسألة التعليم. فإنّه وحينما يتوفى مرجع التقليد عليهم إن لم يُجز لمقلديه البقاء على تقليده العدول إلى غيره من الأحياء.. فغدوت كما لو ظل هكذا، ومن دون تقليد، لأ نّه وبعقيدتكم تبطل عبادات الشخص الذي لا يقلد، وإذا ما مات مرجعه، ولم يعدل، غدا كأنه يتعبد ومن دون تقليد! ".
قال:
ــ " وهكذا، فإنّ عقيدتنا هي أفضل، بعيدة عن وجع الرأس وهذا الفقيه قد مات، أو لم يمت، والبحث عن غيره.. ".
الفصل الخامس والعشرون
ردود فعل نبيل ومازن حيال تشيّع قاسم
وإذا ما كنت قد تحدّثت إلى سمير كذلك، وكان القوم من حولنا ممن أقاموا بين ظهرانينا، هم من أهل السنة، وحيث كانوا قد علموا باستبصار قاسم وطلال من قبله، وخالد وعمر، وفلان وفلان وغيرهم.. فكانوا قد انتبهوا إلى أمر وجب عليهم النهوض به وفي الحال. هكذا تصورت حالهم!
وفي ظهيرة اليوم الذي أعقب آخر يوم من أيام محادثاتي العلمية مع سمير، جاءني مازن، حتّى ترادف اليّ سمع فصول حديثي مع سمير وبالتفصيل. حيث كان مازن هذا، شاباً كثيراً ما كنت أجده متقلب الافكار، متغير الشمائل، لا يحسن سوى الانقياد نحو ذات اليمين وذات الشمال، ومن دون التفكير بمغبة ما يفعل. لا أقول ذلك مغالبة، إنّما عنيت حقيقة دون الامعان في مذهبه وطريقته في الحياة. إلاّ أ نّي كنت أجده وكأنه لم يشبّ عن الطوق بعد، ولحد الآن! إلاّ أ نّه بادرني بتحيته، وكأنه يغالب في نفسه شوقاً إلى القاء مرثية أو نعي يتفقد من خلالهما روحي المريضة، وحسبما وجدته يلفيها كأنه أخذ يفكر كيف أن لهذا الشاب (أعني نفسي) سيبدد لحظات عمره، ويتلف أوراق مستقبله هذا، إن عمد الى الاستبصار، وأراد أن يتشيع.. فقال وكأنه يلتقط عصا لحديثه، يتوكأ عليها، علّه يدرج ومن خلالها نحو فضاء يستلقي وفي أرجاء مرجته اليانعة بازهارها، كيما يخبرني بأ نّي سأكون
ــ " أسمعت بالخبر المشؤوم؟! ".
قلت:
ــ " أي خبر؟ ".
قال:
ــ " قاسم! ".
قلت:
ــ " أووه، نعم (ثُمّ التفتّ إليه مستغرباً وأنا تملأني روح ضاحكة في داخل نفسي، لشدما خفت أن أفجرها دون وعي منّي. كنت أمازح ذاتي في دخائلي، وبقدر ما كنت أسائلها مغضباً في ظاهري، أغالب ابتساماتي المفرطة التي ربما انفتلت وانقلبت ضحكات صارخة) ما به؟ ".
سألته، وأنا أكاد استصرخ دموع الفرح في قلبي للأسلوب نفسه، والذي ابتدرت به متسائلا، بعد ان ساءلني هو وبدوره، فجعلت أكابد شوقاً يعتمل في صدري، يسوقني نحو الرغبة اطلاق كركرة ليس لها نظير، ولا أقول ذلك وأنا أشعر بالرثاء لمازن، أو قاسم، أو كأني أحاول أن أسدّد فعل قاسم، لا، وكلا.. إنما والحقيقة لا أكاد أخفيها، لم يكن لدي أيّما تعصب يمكن أن يصطلح عليه كذلك، ولو كنت أتعصب شيئاً ما، إلاّ أ نّي ما كنت أعتبره كذلك، فيما لو قايسوه مع تعصب مازن أو نبيل، فإنّ لمثله أن يختلف عن نسب كلاهما، بمقدار المسافة التي تفصل ما بين السماء والأرض،.. هكذا اعتقدت.. والأدهى من ذلك صرت، أفكر في التغاضي عن ابتسامة، وضحكة أرادت، أن
ــ " إني ما كنت أظنه (قاسم) ليجرؤ ذات يوم على الاقدام على مثل هذه الترهات.. ".
وهنا صارعت نفسي، فلم أجدها هذه المرة، تتمثل حتّى انفجرت بكُلّ ما وسعني المجال خلاله أن أضحك.. وعندها بدأ يفتح قلبه لي حتّى شعرت بأن ضحكتي هذه قد آتت أكلها، وصنعت صنعها، إذا ما اطلقتها حتّى كنت أرى مازن، قد انفتحت قريحته للكلام، وهو يعبر عن حزنه الغالب، وبؤسه الشاحب، وكأني قد شاطرته في مجال التعبير عنه، وهو يقول:
ــ " أجل، فإنه ليستحق الضحك بدلاً من الشعور بالأسى، لأنّ شرّ المصائب ما يضحك، وما أراك إلاّ انك أنت الآخر، لا بدّ وان كنت قد استغربت منه مثل هذا الصنيع. فقاسم الذي كان يقول إنّ هؤلاء مزقوا حتّى الصلاة، وأرادوا أن يتخلصوا من عنائها، فجعلوا يصلوها مجموعة، كيما ينتهوا منها ويستريحوا، فيصلوا الظهر والعصر معاً، والمغرب والعشاء كذلك ".
ــ " وهذا الأفضل، أليس كذلك؟! ".
وما كنت لأفوه بذلك حتّى رماني بنظرات شزراء، وكأن الشرر قد جعل
ــ " باللّه عليك، إن الوقت ليس وقت هذر وتندّر ".
ــ " وماذا في ذلك؟ ".
ــ " أي ذلك؟ ".
ــ " ألا ترغب أن تصلّي أيضاً، وتنتبه كذلك إلى أوضاعك الأُخرى في سائر الأوقات الأُخرى، وتسعى في مناكبها، فلا نصير كحال ذلك الذي جعل يقضي عمره كُلّه في المسجد، ومن ثُمّ وجدوا أن آمر الجحفل قد صار إلى التفكيك والتشتت.. لأ نّه أهمل العناية بشأنه! وجعل يقضي عمره كُلّه في المساجد.. ".
سكتّ، وعدت بعدها إلى الكلام:
ــ " ألا يكون علينا أن نفكر، ولا للحظة واحدة في حسن ما نجده لدى هؤلاء الشيعة، فنستفيد منه نحن الآخرون.. ألا تجد أننا قد أسرفنا في مسائل عفّ الشيعة عن الوقوف عليها، بمثل هذا المقدار الذي نقف نحن عليها.. فإن اللّه لا يدعو إلى التهلكة، بل لا يكلف الإنسان فوق طاقته ".
ــ " إذن، لقد صدق سمير؟ ".
ــ " ما الذي أخبرك به؟ ".
ــ " إنه هو الآخر قد تغير، ولم يتغير قد كنت قد شاركته الحديث في يوم أمس، إنّه قد انقلب على عقبيه ".
ــ " أتقصد أ نّه أنقلب ظهراً لبطن أم.. ".
ــ " لا أعني ما قلت.. هل يثبت ذلك أنك أنت الآخر سائر في الدرب، أم أنك تقف على الأعراف، وتضع نفسك في جملة دول عدم الانحياز ".
وإذا بنبيل الذي ظل يحوم حول أطراف مجلسنا، وهو يراقب انعكاسات حديثنا، كالدجاجة التي تريد أن تضع بيضها، حتّى إذا ما وجد الفرصة مؤاتية، قفز إلى حلقتنا هذه، ليقلبها مأتماً نعزي فيه بعضنا البعض الآخر. فقال:
ــ ".. وأكثر من ذلك، فإن معسكري الشرق والغرب، يعلن كلٌّ منهما عن مبادئه، ويعلن بين الفينة والأُخرى، أنهما على أهبة الاستعداد لعقد أية مفاوضات، تضمن صلحاً بعيد المدى.. مع أ نّهما لم يكونا وليدي الاعصار القديمة، إنما هما قد أولدتهما الاحقاب المعاصرة. إلاّ أن هذا الأمر الذي بيننا وبين الشيعة ما أراه إلاّ أ نّه يغور في أعماق التاريخ حتّى سيجر بأسبابه نحونا، ويصير بنا صوب التسليم إلى حقيقة مفادها أن الميراث التاريخي لا بدّ وان يحلم بين شدقي العصور والدهور كُلّ حرارة وتعاسة ".
قلت له:
ــ " لا بدّ أنك أنت الآخر تشعر بالحزن تجاه ما فعله قاسم؟ ".
ــ " ولِمَ لا، فإنّي ما كنت أجد أحداً أكثر تعصباً منه لدينه ومذهبه.. وإذا بي ألفيه في ليلة وضحاها يغيّر، ليتغير لدينا قالب الحياة ولونها ".
ــ " لماذا، أكنت تتعبد على مذهبك لأجل قاسم؟ ".
ــ " لا، ولكني كنت أثق به ثقة عمياء جداً، فلا يمكنك أن تتصور إلى اي حد كان له أن يؤثر على كافة قراراتي ".
ــ " أجده واضحاً لا شك ".
ــ " أتمزح؟ ".
ــ " أقول، لو أن قاسماً انتقل من المذهب الحنفي إلى الشافعي وإلى الحنبلي، أو إلى المالكي. أكان يستبد بك كُلّ هذا الشك والقلق بمشاعر، وأحاسيس قاسم، بل أكان لك أن تقلب الصورة التي تخيلتها عن قاسم، واحتفظت بها له في داخل سويداء قلبك ".
ــ "؟! ".
وبعد قليل من الصمت، عاد إلى التأكيد:
ــ " فلو أنّه اختار أي مذهب آخر،.. حقيقة! فلو أ نّه اختار أي من.. وتحرك في اطار هذه المذاهب، لما كان لي أن أنسف رأسي بمثل هذا اللون من التفكير أو حتّى بالتفكير به ".
فقلت له:
ــ " كفّ عن هذا، يا أخ! إنك لتقلقني، فإنّي لأراك كأبي لهب! ".
وعندها أمتقع لونه، وذابت وجنتيه، حتّى خلته سيضربني أو يهوى على رأسي بفأس يخفيها في أعطاف ملابسه!
ــ " أبو لهب؟! ".
ابتدرني بعصبية، فقلت له:
ــ " أتقارن مذاهبنا الأربعة بأصنام المشركين من قريش؟ ".
ــ " لا، قلت لك، لم أعن ذلك أبداً.. ولكني عنيت وجه الشبه، وإني لأقسم، لو كان لقاسم ان يتنصر، ويصبح مسيحياً، ويرتد عن دين الإسلام لما كان لك أن تظهر ما تظهره الآن.. وهذا لا يعني إلاّ التعبير عما تكنّه في أنفسنا من عداء للشيعة والتشيع ليس إلاّ.. ذلك لأ نّه وفي نظرنا أن الشيعة أخطر على الإسلام من المسيحية واليهودية، وهو علينا الخطأ الشنيع بنظري.. ".
ــ " اسمع يا هذا، إنّي لا احتمل منك أن تحدثني كذلك ".
عندها طفق مازن ينقل بخط لسانه الذي ألجمه طوال حديثي مع نبيل، وقال مشيراً إلى نبيل أن يسكت، وقال:
ــ " أظنني الآن أمام شخص يصعب التكهن بما يعتقد.. وهو بنظري أخطر على المرء من قاسم وغيره ".
ــ " لماذا يا أخ، أرَاوَدك الشك في عقيدتي، فلو كنت أغير، فإنّي ما كنت لانتظر لحظة واحدة، ولا كنت لأتردد في الاعلان عن صدق دعوتي في التشيع. إلاّ أنّي وكما قلت من قبل قد غدوت على الاعراف.. مع أنّي ما زلت