الصفحة 411

الفصل التاسع والعشرون
آلام الوصي
" فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى "


في صبيحة أحد الأيام الباكرة، جاءني نبيل، فقال:

ــ " أردت أن أسألك سؤالاً واحداً لا أكثر.. أجبني عليه، وسأجعله خاتمة لكافة حواراتنا.. ".

ــ " تكلم، هات ما عندك؟ ".

ــ " لماذا سكت علي بن أبي طالب، أو بالأحرى، لماذا لم يعترض على القوم أيام السقيفة! ولم يحتج عليهم؟ ".

فقلت له وأنا أُحاول تقصي حقيقة ما يرمي إليه وبالكُلّية:

ــ " ماذا تعني؟ ".

ــ " إنّ علي بن أبي طالب لم يحتج في يوم السقيفة على أبي بكر الصدّيق ومبايعيه، ولا حتّى بأيما بشيء من نصوص الخلافة والوصاية التي عكف عليها الشيعة، فهل هم أعرف بمفادها منه؟ ".

وكأن أحدهم كان قد أشار عليه، بضرورة طرح مثل هذا السؤال، كيما أصاب بالحرج وعلى ضوء ذلك يكون قد أفحمني مثلاً ـ وحسب تصور المشير والمشار عليه ـ وعندها قلت له:

ــ " إنّ الناس كافة، هم ليعلمون بأنّ الإمام وسائر أوليائه من بني هاشم

الصفحة 412
وغيرهم لم يشهدوا البيعة، ولا دخلوا السقيفة يومئذ، وكانوا في معزل عنها وعن كُلّ ما كان فيها، منصرفين بكُلّهم إلى خطبهم الفادح بوفاة رسول اللّه، وقيامهم بالواجب من تجهيزه (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا يعنون بغير ذلك، وما واروه بعد، في ضراحه الاقدس حتّى أكمل أهل السقيفة أمرهم ".

ــ " ماذا تعني؟ ".

ــ ".. فأبرموا البيعة، وأحكموا العقد، وتواثقوا ـ أخذا بالحزم ـ على منع كُلّ قول أو فعل يوهن بيعتهم، أو يخدش عقدهم، أو يدخل التشويش والاضطراب على عامتهم ".

ــ " وإذن؟ ".

ــ " وإذن! فأين كان الامام عن السقيفة وعن بيعة الصديق ومبايعيه ليحتج عليهم؟ وأنّى يتسنى له الاحتجاج، أو لغيره بعد عقد البيعة، وقد أخذ أولو الأمر والنهي بالحزم، وأعلن أُولو الحول والطول تلك الشدة ".

ــ " ولِمَ لم يقابلهم علي بن أبي طالب، هو وأصحابه؟ ".

ــ " هل يتسنى في عصرنا الحاضر لأحد أن يقابل أهل السلطة، بما يرفع سلطتهم، ويلغي دولتهم؟ وهل يتركونه وشأنه لو أراد ذلك؟ هيهات هيهات، فقس الماضي على الحاضر، فالناس ناس والزمان زمان.. هذا، فضلاً عن أن علياً كان قد هيأ نفسه لمثل ذلك إلاّ أ نّه لم يبق معه إلاّ نفر قليل من أصحابه، ممن كان قد آمن به حقاً! ".

ــ " وبذلك، فإنك لتقصد أن علياً خاف الفتنة، فلم يحتج؟! ".

ــ " بالتأكيد! فإنّ علياً لم ير للاحتجاج عليهم يومئذ أيّما أثر، إلاّ الفتنة التي كان يؤثر ضياع حقه على حصولها في تلك الظروف، إذ كان يخشى منها

الصفحة 413
على بيضة الإسلام وكلمة التوحيد، إذ إ نّه مُني في تلك الأيام بما لم يمن به أحد، حتّى كان قد مثل على جناحيه خطبان فادحان ".

ــ "؟! ".

ــ " الخلافة بنصوصها ووصاياها إلى جانب تستصرخه وتستفزه بشكوى تدمي الفؤاد، وحنين يفتت الاكباد، والفتن الطاغية إلى جانب آخر تنذره بانتفاض شبه الجزيرة، وانقلاب العرب، واجتياح الإسلام، وتهدده بالمنافقين من أهل المدينة وقد مردوا على النفاق، وبمن حولهم من الأعراب وهم منافقون بنصّ الكتاب، بل هم أشد كفراً ونفاقاً وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أُنزل اللّه على رسوله ".

ــ " إذن خوفه كان من المنافقين وليس ممن بايع وبويع في السقيفة؟ ".

ــ " لقد قويت شوكة المنافقين بفقده (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأصبح المسلمون بعده كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية، بين ذئاب عادية، ووحوش ضارية، ومسيلمة الكذاب، وطليحة بن خويلد الافاك، وسجاح بنت الحرث الدجالة، وأصحابهم الهمج الرعاع قائمون ـ في محق الإسلام وسحق المسلمين ـ على ساق، ولذا، فإنّه ما كان لينظر إلى أصحاب السقيفة إلاّ نظر ".

ــ " نظر ماذا؟ ".

ــ " نظر من يستهين بالحدث.. ليس إلاّ! ".

ــ " وكيف يمكنه أن يستهين به ".

ــ " وذلك فيما لو قيس بالمنافقين من حوله في ارجاء العالم الإسلامي آنذاك ".

ــ " وهذا ما يعني؟ ".


الصفحة 414
ــ " إنّ مثل هذا ما كان ليعني لعلي إلاّ أن أصحاب السقيفة كانوا سبباً لاشعال فتنة أكبر وادهى.. فان المرء حينما يحاول أن يطفئ ناراً عظيمة، فإنّه لا بدّ وحينما يرى بشاعة وعظمة تلك النار، أن يستصغر أسباب نشوب حرائقها الفتاكة ويقول: كُلّ هذه النيران بما خلفته وتخلفه من خسائر واضرار كانت بسبب اشتعال عود ثقاب وسقوطه فوق مواد شديدة الاشتعال أو قابلة للاشتعال مثلاً.. فإن كان عليٌّ ولم تكن ولاية، فإنّه أفضل من أن لا يكون ثمة اسم أو أيّما وجود لعلي، ولا أيّما ذكر لأولاد علي من ابنائه المعصومين! أفهمت؟ ".

ــ "؟! ".

ــ " هذا، فضلاً عن تربص الرومان وترصد الأكاسرة وانتظار القياصرة لكُلّ فرصة وأُخرى.. وغيرهم.. حيث كانوا للمسلمين بالمرصاد، إلى كثير من هذه العناصر الجياشة بكُلّ حنق من محمّد وآله وأصحابه، وبكُلّ حقد وحسيكة لكلمة الإسلام، تريد أن تنقض أساسها وتستأصل شافتها، وأنها لنشيطة في ذلك مسرعة متعجلة، ترى الأمر قد استتب لها ".

ــ " كيف؟ ".

ــ " بل والفرصة قد حانت وسنحت ".

ــ " بأي شيء؟ ".

ــ " وذلك بذهاب النّبي إلى الرفيق الأعلي، فارادت أن تغتنم الفرصة، وتنتهز تلك الفوضى قبل أن يعود الإسلام إلى قوة وانتظام، فوقف علي بن أبي طالب بين هذين الخطرين! ".

ــ " وإذن؟ فأنت تقصد أ نّه ضحّى بحقّه الشرعي؟! ".


الصفحة 415
ــ " أجل! فكان من الطبيعى له، أن يقدم حقّه قرباناً لحياة المسلمين، وقد صرح(رضي الله عنه) بذلك في كتاب له بعثه إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لما ولاّه إمارتها ".

ــ " وماذا قال فيه؟ ".

ــ " إذ قال: أما بعد، فان اللّه سبحانه بعث محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم)، نذيراً للعالمين ومهيمناً على المرسلين، فلما مضى(عليه السلام)، تنازع المسلمون الأمر من بعده، فواللّه ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده (صلى الله عليه وآله وسلم)، عن أهل بيته، ولا أنهم منحوه عني من بعده، فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله ان أرى فيه ثلما أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان، كما يزول السراب أو كما يتقشع السحاب، فنهض في تلك الاحداث حتّى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه.. إلى آخر كلامه، فراجعه في نهج البلاغة ".

ــ " وبذلك، فلم يرد أن يحتفظ بحقه في الحكومة؟ ".

ــ " إنه لم يرد ذلك ولم يفعل مثل هذا؟ ".

ــ " ألست تقول هذا، وهو يصرح بمثل هذا في كتابه إلى مالك الأشتر؟ ".

ــ " إنك لم تفهم ما عناه الإمام، ولا ما قلته لك! بل إنّه أراد الاحتفاظ بحقه في الخلافة، والاحتجاج على من عدل عنه بها على وجه لا تشق بهما للمسلمين عصا، ولا تقع بينهم فتنة ينتهزها عدوهم ".

ــ " وكيف كان يتسنى له مثل ذلك؟ ".


الصفحة 416
ــ " فقعد في بيته حتّى أخرجوه كُرها بدون قتال، ولو أسرع إليهم ما تمت له حجة، ولا سطع لشيعته برهان، لكنه جمع فيما فعل بين حفظ الدين والاحتفاظ بحقه من خلافة المسلمين ".

ــ "؟! ".

ــ " وحين رأى أنّ حفظ الإسلام، ورد عادية أعدائه موقوفان في تلك الأيام على الموادعة والمسالمة، شق بنفسه طريق الموادعة ".

ــ " وآثر مسالمة القائمين في الأمر احتفاظا بالأمة ".

ــ ".. دقيقاً! احتفاظاً بالأُمة، واحتياطا على الملة، وضنّاً بالدين وايثارا للآجلة على العاجلة، وقياماً بالواجب شرعاً وعقلاً من تقديم الأهم ـ في مقام التعارض ـ على المهم، فالظروف يومئذ لا تسع مقامة بسيف، ولا مقارعة بحجة ".

ــ " وما كان له أن يعرب عن حقه، ولا بأي شكل من الأشكال؟ ".

ــ " فمع كُلّ ذلك، فانه وبنيه، والعلماء من مواليه، كانوا يستعملون الحكمة في ذكر الوصية، ونشر النصوص الجلية ".

ــ " متى كان ذلك من الإمام؟ ومتى كان ذلك من ذوية ومواليه؟ أوقفني على شيء منه ".

ــ " كان الإمام يتحرى السكينة في بث النصوص عليه، ولا يقارع بها خصومه احتياطا على الإسلام، واحتفاظا بريح المسلمين التي هي تكمن حقيقة في قوة المسلمين، وغلبتهم على اعدائهم، والنصر وبقاء الدولة الإسلامية ".

ــ " وهل كان له أن يعتذر عن سكوته؟ ".


الصفحة 417
ــ " وربما اعتذر عن سكوته وعدم مطالبته ـ في تلك الحالة ـ بحقه فيقول: لا يعاب المرء بتأخير حقه، إنّما يعاب من أخذ ما ليس له ".

ــ " أين وردت له هذا الكلام؟ ".

ــ " هذه الكلمة من كلمه القصير الخارج في غرضه الشريف وهي في نهج البلاغة، فراجع ما ذكره علامة المعتزلة في شرحها ص 324 من المجلد الرابع من شرح النهج ".

ــ " وهل كان له طرق خاصّة في نشر النصوص؟ ".

ــ " نعم! فلقد كان له في نشر النصوص الدالة عليه، طرق تجلت الحكمة فيها بأجلى المظاهر ".

ــ " هل يمكنك أن تستشهد لي بواحدة منها؟ ".

ــ " إلاّ تراه ما فعل يوم الرحبة إذ جمع الناس فيها أيام خلافته لذكرى يوم الغدير؟ فقال لهم: أنشدكم اللّه كُلّ امرئ مسلم سمع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)يقول يوم غدير خم ما قال، إلاّ قام فشهد بما سمع، ولا يقم إلاّ من رآه، فقام ثلاثون من الصحابة فيهم اثنا عشر بدرياً، فشهدوا بما سمعوه من نص الغدير ".

ثُمّ أضفت الكلام:

ــ " وهذا غاية ما كان يتسنى له في تلك الظروف الحرجة ".

ــ " وكم قال: اللهم انّي أستعينك على قريش ومن أعانهم، فإنهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي، ثُمّ قالوا: إلاّ إن في الحق أن تأخذه وفي الحق أن تتركه ".

ــ " وكان قد قال له قائل، كما في الخطبة 167 أيضاً: إنك على هذا الأمر يا بن أبي طالب لحريص؟! فقال: بل انتم واللّه لا حرص، وإنّما طلبت حقّاً لي،

الصفحة 418
وأنتم تحولون بيني وبينه ".

ــ " عجيب! ".

ولقد كنت أعلم أن تأثير فعل أو سريان فعل هذه الكلمة: عجيب، ما كان ليستمر إلاّ قليلاً، فقلت وأنا أردف كلامي:

ــ " وقال(رضي الله عنه): فو اللّه ما زلت مدفوعاً عن حقي مستأثراً علي منذ قبض اللّه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتّى يوم الناس هذا ".

ــ " وقال(رضي الله عنه) في كتاب كتبه إلى أخيه عقيل ".

ــ " وهو الكتاب 36 في ص 67 من الجزء 3 من النهج ".

ــ " ماذا يقول فيه؟ ".

ــ " فجَزَت قريشاً عني الجوازي، فقد قطعوا رحمي، وسلبوني سلطان ابن أُمي ".

ــ " وكم قال(رضي الله عنه): فنظرت فإذا ليس لي معي إلاّ أهل بيتي، فظننت بهم عن الموت. واغضيت على القذى وشربت على الشجى، وصبرت على أحد الكظم، وعلى أمرّ من طعم العلقم ".

ــ " وسأله بعض أصحابه: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟ فقال: يا أخا بني أسد إنك لقلق الوضين، ترسل في غير سدد ولك بعد ذمامة الصهر وحق المسألة وقد استعلمت فاعلم، أما الاستبداد علينا بهذا المقام، ونحن الاعلون نسباً، والاشدون برسول اللّه نوطاً، فإنّها كانت إثرة شحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، والحكم اللّه والمعود إليه يوم القيامة، ودع عنك نهباً صيح في حجراته ".

ــ " وقال(رضي الله عنه) كما في ص 36 والتي بعدها من الجزء الثاني من النهج من

الصفحة 419
الكلام 140: أين الذين زعموا أ نّهم الراسخون في العلم دوننا؟ كذباً علينا وبغياً أن رفعنا اللّه ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يستعطى الهدى، ويستجلى على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم.. الخ ".

ــ " كما يمكنك أن تراجع قوله في بعض خطبه التي وردت في آخر ص 48 والتي بعدها من الجزء الثاني من النهج في الخطبة 146 ".

ــ " ماذا يقول فيها؟ ".

ــ " إنه يقول: حتّى إذا قبض رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، رجع قوم على الاعقاب، غايتهم السبل، واتكلوا على الولائج ".

ــ " الولائج؟ ".

ــ " يعني: دخائل المكر والخديعة ".

ــ " أووه؟ ".

ــ ".. ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي أُمروا بمودته، ونقلوا البناء عن رص أساسه، فبنوه في غير مواضعه، معادن كُلّ خطيئة، وأبواب كُلّ ضارب في غمرة، وقد ماروا في الحيرة، وذهلوا في السكرة، على سنة من آل فرعون، من منقطع إلى الدنيا راكن، أو مفارق للدين مباين ".

ــ " وقوله في خطبة خطبها بعد البيعة له، وهي من جلائل خطب النهج، ويمكنك أن تجدها في أول ص 25 وهي آخر الخطبة 2 من الجزء الأول من النهج ".

ــ " ترى ماذا يقول فيها؟ ".

ــ " إنّه يقول: لا يقاس بآل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، من هذه الأُمّة أحد، ولا يسوّى

الصفحة 420
بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين، وعماد اليقين، اليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة، الآن إذ رجع الحق إلى أهله، ونقل إلى منتقله ".

ــ " إنّي لأسمع منطقه وكأني أصغي إلى آيات القرآن.. بيد أنّي ".

وكأنه خاف أن يعرب عن إعجابه بعلي، فتزل قدمه ويميل إلى حب شيعته، فعدل عن متابعة جملته واكتفى بالاستماع إليّ، مشيراً علي بمواصلة الحديث، فقلت:

ــ " وقوله(رضي الله عنه) من خطبة أُخرى يعجب فيها من مخالفيه: فيا عجبي! ما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها، لا يقتصون أثر نبي، ولا يقتدون بعمل وصي ".

ــ " وحسبك الحوار الذي دار بين عمر وابن عباس إذ قال عمر (في حديث طويل دار بينهما): يا بن عباس أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ (قال ابن عباس): فكرهت أن أُجيبه، فقلت له: إن لم أكن أدري فان أمير المؤمنين يدري، فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتجحفوا على قومكم بجحا بجحا (أي تبجحا، والبجح بالشيء: هو القرح به) ".

ــ " الفاروق يقول هذا؟ ".

ــ " نعم! ".

ــ " لا أُصدق! ".

ــ " فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت ".

ــ "؟! ".


الصفحة 421
ــ " (قال): فقلت: يا أمير المؤمنين، إن تأذن لي في الكلام وتمط عني الغضب، تكلمت، قال: تكلم (قال ابن عباس): فقلت أما قولك يا أمير المؤمنين: اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت، فلو أن قريشاً أختارت لانفسها من حين اختار اللّه لها، لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود، وأما قولك: إنّهم أبوا أن تكون لنا النبوة والخلافة، فإنّ اللّه عزّ وجلّ، وصف قوماً بالكراهة، فقال: { ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ } فقال عمر: هيهات يا بن عباس قد كانت تبلغني عنك أشياء أكره أن أقرك عليها فتزيل منزلتك مني، فقلت ما هي يا أمير المؤمنين؟ فإن كانت حقّاً فما ينبغى أن تزيل منزلتي منك، وإن كانت باطلاً فمثلي أماط الباطل عن نفسه، فقال عمر: بلغني أنك تقول: إنّما صرفوها عنا حسداً وبغياً وظلماً، (قال) فقلت: أما قولك يا أمير المؤمنين ظلماً فقد تبين للجاهل والحليم، أما قولك حسداً فإنّ آدم حُسد ونحن ولده المحسودون، فقال عمر: هيهات هيهات، أبت واللّه قلوبكم يا بني هاشم إلا حسداً لا يزول. (قال) فقلت: مهلاً يا أمير المؤمنين، لا تصف بهذا قلوب قوم أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا "(1).

ــ " استمع إلى هذا الخبر الآخر، ولقد حاوره مرة أخرى، فقال له في حديث آخر: كيف خلّفت ابن عمك، قال: فظننته يعني عبد اللّه بن جعفر، قال: فقلت: خلّفته مع أترابه، قال: لم أعن ذلك إنّما عنيت عظيمكم أهل البيت، قال: قلت: خلّفته يمتح بالغرب وهو يقرأ القرآن. قال: يا عبد اللّه عليك دماء البدن إن كتمتنيها هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟ قلت:

____________

1- الكامل في التاريخ 3: 24 حوادث سنة 23.


الصفحة 422
نعم. قال: أيزعم أن رسول اللّه نصّ عليه؟ ".

وهنا وجدته قد فتح عينيه تشوفاً إلى سماع ما يقوله ابن الخطاب!

ــ " قال ابن عباس: قلت: وازيدك سألت أبي عما يدعى ـ من نصّ رسول اللّه عليه بالخلافة ـ فقال: صدق، فقال عمر: كان من رسول اللّه في أمره ذِرو ".

ــ " ذرو؟ ".

ــ " الذِّرو (بالكسر والضم): المكان المرتفع والعلو مطلقاً، والمعنى أ نّه كان من رسول اللّه في أمر على علو من القول في الثناء عليه، وهذا أعتراف من عمر كما لا يخفى ".

ــ " تابع! ".

ــ " ذُرو من قول لا يثبت حجة، ولا يقطع عذراً، ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما ".

ــ " يربع؟ ".

ــ " هذا مأخود من قولهم ربع الرجل في هذا الحجر إذا رفعه بيده امتحاناً لقوته، يريد أن النّبي(صلى الله عليه وآله) كان في ثنائه على علي بتلك الكلمات البليغة، يمتحن الأُمّة في أنها هل تقبله خليفة أم لا.. أكمل لك الحديث: ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعته من ذلك ".

وهنا صرخ نبيل ثانية:

ــ " لا أصدق.. لا أصدق.. هات الدليل وإلاّ فارقتك من دون رجعة ".

ــ " اصبر وتمهل ".

ــ " لا.. لا أصبر ".


الصفحة 423
ــ " وإذن، فما عليك إلاّ أن تستمع وتصغي: فالحديث قد أخرجه الإمام أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر في كتابه تاريخ بغداد بسنده المعتبر إلى ابن عباس، أورده علامة المعتزلة في أحوال عمر من شرح نهج البلاغه، ص 97 من مجلده الثالث ".

سكت نبيل، ولبث مكانه، لا يريم ولا يحرك ساكناً.. كأن على رأسه الطير!

بينما عدت إلى القول منتهزاً الفرصة:

ــ " وتحاوروا مرة ثالثة ".

فلمّا لم يبد نبيل أيّما ردود فعل سلبية، واصلت الكلام وأنا أُحدث قائلا ً:

ــ " فقال: يابن عباس ما أرى صاحبك إلاّ مظلوماً، فقلت: يا أمير المؤمنين فأردد إليه ظلامته. (قال) فانتزع يده من يدي ومضى يهمهم ساعة، ثُمّ وقف فلحقته، فقال: يا بن عباس ما أظنهم منعهم عنه إلاّ أ نّه استصغره قومه، قال: فقلت: له: واللّه ما استصغره اللّه ورسوله حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك، قال: فأعرض عني واسرع، فرجعت عنه ".


الصفحة 424

الصفحة 425

الفصل الثلاثون
مازن ما بين افتقاده لمودة الصديق وافتقاده لآية المودة


أما مازن، فإنه جاءني بعد عدة أيام، وهو يلعن اليوم الذي تعرف فيه الى نبيل، سألته:

ــ " لماذا؟ ".

قال:

ــ " إنه قد رحل ".

فانتفضتُ متعجباً:

ــ " رحل وسافر؟! ".

ــ " أجل، لقد رحل وإنك لتعلم.. كيف لمثلنا أن يرحل! إلاّ أن ما الومه عليه هو إنّه لِمَ لَم يخبرني، أين ذهبت الصداقة؟ وأية أُخوة هذه! وأية مودة؟ ".

فقلت له، ومن بعد صمت طويل، وبعد أن وجدته، قد أفرغ كُلّ ما كان في جعبته:

ــ " هذا مقصود كلامي، بل مصداق حديثي.. ".

ــ " أي حديث؟ ".

ــ " الأخلاّء يومئذ بعضهم لبعض عدواً ".

ــ " ماذا تعني؟ ".

ــ " أعني.. ابن علاقتك مع اللّه وحده، لأنّ اللّه حي لا يموت، لأنّ اللّه،

الصفحة 426
وحينما يعدل يفي بوعده، وهو لا يكذب، ولا يخون بالعهد، ولا يلبسك الخزي أبداً طالما كنت معه تنصره! وهذا لا يعني أن لا تصادق ولكن حاول أن تصادق في اللّه ".

ــ " تقول مثل هذا،.. لأنّ نبيل.. ".

قاطعته وأنا أقول:

ــ " لا.. ولكن نبيل، كان مصداقاً مصّغراً لآية المودة.. فكما نعرض عن مودة من أمرنا اللّه بمودتهم، فإنّه ليضعنا وجهاً لوجه مع آثار هذه الأعمال ونتائجها السيئة.. وتحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ".

ثُمّ رجع، وهو يتساءل:

ــ " أنت قلت: آية المودة؟ ".

ــ " أجل وهي: { قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى }. أما بقية الآية فهي: { وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ }.

ــ " وما هي الآية التي تليها ".

ــ " وهي: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ } ".

ــ " في أي سورة تقع؟ ".

ــ " إنها في سورة الشورى، الآية 23 ـ 24 ".

ــ " إنك قد صرفتني عن موضوع كنّا نتداوله؟ ".

ــ " نبيل! تقصد نبيل؟ ".

بعد دقائق كان مازن قد انصرف عنّي، وأنا اسمعه يردد:

ــ " لا يمكنك أن تستغل مثل هذه الأوضاع، لا يمكنك.. لا يمكنك أبداً

الصفحة 427
فتضرب ضربتك.. وتضغط على الوتر الحسّاس! أنا لا أدري مع من تكون.. فهل أنت شيعي أم سني.. وإن أنا سألتك، قلت لي: إنّي أنا منصف.. لقد تأكّد لي أنك لا تريد سوى ايذائي، وجرح مشاعري، أووه!.. لعلك أنت الذي اضطررت نبيل إلى المغادرة، لأ نّه لم يطق تحمل تكاليف الحياة الى جانبك، وجانب أمثالك.. ثُمّ طوى مسيره، ولم يلتفت، بل قفل عائداً من حيث أتي، ولم أره بعد اليوم، لأ نّه هو الآخر، كان قد قرر الرحيل من غير عودة.. إلى حيث لا أدري ".

في حين تداعت إلى ذهني ذكريات حب فاشل، كنت قد عشتها في أيام المدرسة الاعدادية، حينما كنت أرفل بين مطاوي سنوات المراهقة الغضة.. ولربما ما كان فاشلاً، لأ نّه كُلّما كان للإنسان أن يعبّ من تجارب الحياة، كُلّما كان له أن يكسب حظوظاً أعظم! لأ نّه ليس للإنسان إلاّ ما سعى حتّى ولو لم يحالفه النجاح، فإنّ سعيه هو خير شاهد ودليل على عظيم عمله.. فعسى أن نحب شيئاً وهو شرٌّ لنا، وعسى أن نكره شيئاً وهو خير لنا!.. فما كنتُ لأجد اللّه إلاّ حيث تستلفتني رغباتي حتّى كنت أجد من المحتم عليه أن ينصرني، ولا يدع الفرصة تذهب من يدي.. فأنال بغيتي واسعد بمن أحب وأهوى، فأتزوجها! إلاّ أن الأوضاع المادية، كان لها أن تخونني حتّى جاء اليوم الذي فصمت فيه اضراس الدهر عروة مثل هذه العلاقة المحرمة الشائكة. ولا أدري، كيف لي أن استذكر طعم تلك الأيام، وأنا ما أزال اجتر مآسيها، مع أ نّي جعلت أنساها اليوم، فلا أفكر فيها، إلاّ كما أفكر بماض ذهب.. وأن يعد، فإنّه ما كان له أن يعود كما كان أبداً. ولا أمر عليها إلاّ كما أمر على ذكريات اليتم! وربما أضحت في بعض الأحيان ذكريات سعيدة! لأ نّها تعود بي إلى الأمس

الصفحة 428
البعيد.. وهذا الأخير بوسعه أن يورثني مزيداً من الصحة والعافية.. ربما ذقت مرارتها أخيراً، فوجدتها الواناً من الكذب، وذلك حالما فطنت إلى حقيقة مفادها أن اللّه لو ارجعني إلى مثل تلك الأيام، فهل كنت سأشعر آنذاك بسعادة غامرة، أو إنّي سأحسد نفسي على حظها غير العاثر، أو إنّي سأطلب من اللّه أن يحملني ثانية إلى المستقبل.. وينتشلني من وهدات هذا الماضي البائس بأضوائه الخافتة والباهتة.

كما أن قاسماً ما كان ليتوانى في عقد تلك المناظرات التي كنا قد اتفقنا على عقدها والتي ما كانت لتتناول سوى ما كنت قد صادرت عليه مسبقاً.. وهذا هو نفسه كان قد أثار عقلية قاسم هو بالذات، وهو الذي كان يجدني أكثر صرامة من غيري من إخواننا أهل السنة. بل إنّه كان يتطلع اليّ، كما لو كان يتطلع إلى أحد الشيعة المخلصين! وفي ذات يوم، ومن بعد أن أشعرني بأنّ العلاقة التي تربط بينه وبين خطيبته التي خلّفها في أرض الوطن هناك.. ما زالت قائمة! إلاّ انّه لا يطمح إلى سياسة الاستنزاف التي ربما استنزفت عمر الفتاة من دون أن تترك أيّما طائل تحتها.. لذلك، فإنه كان يجدّ في التفكير، لاجل الخروج إلى صورة حل ترضي اللّه ورسوله.. سعى إلى الاقدام على العمل بها، حالما تتوافر له الظروف المؤاتية.. كنت قد صرت إلى الحديث و.. فقلت له:

ــ " إني كنت قد تشيّعت منذ زمان بعيد.. إلاّ أ نّي ما كنت لاجسر على انتزاع هذا الجلد الذي يحيط بجسدي، أو أن أخرج من شرنقتي، فانسل منها دون أيّما أذي، أو ألم ربما أورثني في عقبه آلاماً مبرّحة، لا تنطوي معضلاتها مدى الأيام.. كمن لا يستأصل جسماً ما حتّى يضحي بعضو منه.. وذلك كيما

الصفحة 429
يتيسر له اطلاقه من أسره! ولقد فضلت الأُخرى، وهي أن أنجو بنفسي، بكُلّ ذكرياتي، وكامل أيامي، وكافة لحظات عمري الماضية والقادمة، فلا أضحّي بأيّ منها حتّى السقيم منها.. أدّخرته، كيما أوظفه لسعادة النهارات التي انتظرها في ساعات الغد. صدّقني ما كنت لأجسر على التصريح بذلك حتّى استيقظت في ذات يوم، لاجدني كحال الذي شهد الجريمة، وهو لا يرغب في الإدلاء بشهاته التي لها أن تنقذ بريئاً من حبل المشنقة. بل وجدتني كحال الذي ما كان يجد المتهم سوى أخيه أو أحد المقربين له من أهليه. فايهما يختار، رضى اللّه، أم رضى العبد المقرب، أم ابتياع مودة اللّه ورسوله وأهل بيته، أم مودة أهل بيته والمقربين من عشيرته.. حتّى استفقت من كابوسي، وأنا أردد: اللّه ورسوله أحق أن ترضوه!! شعرت عندها بأني أسمع أصوات وتغاريد الملائكة، وهي تسبّح للّه، وتطلب منه أن يكتب لي نفس ثواب تسابيحها وابتهالاتها! ".

عندها كنت أشعر بأن أوهام عمري كان لها أن تتقضّى وبالتتابع وعلى شكل مراحل تمهيدية، كنت قد أحسست معها أن عمري قد جعل يصير ينشق عبيراً جديداً حتى بدا لي أن أنفاسه ما عادت تحكي لي إلاّ ما جعلت تنفثه في الهواء الطلق وهي تتنفّس الصعداء:

ــ " وانقضت أوهام العمر! ".

تمّت الرواية بعونه تعالى.