مقدّمة المركز
الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير الخلائق أجمعين نبيّنا ومنقذنا الرسول الأكرم محمّد بن عبداللّه، وعلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين ـ سلام اللّه عليهم أجمعين ـ وعلى صحبه الأخيار الذين اتبعوه بإحسان ولم يغيّروا ولم يبدّلوا سنّته (صلى الله عليه وآله وسلم).
وبعد، فإنّ مفهوم الإمامة هو أكثر المواضيع التي تناولها المسلمون ـ على اختلاف مذاهبهم وتشعّب آرائهم ـ بالبحث والتحقيق، فألّفوا فيها موسوعات كبيرة أدت إلى إغناء رصيد المكتبة الإسلاميّة بالكثير من النفائس، بل لعلّنا لا نغالي إذا قلنا بأنّه لم يدور البحث بين المسلمين في مفهوم إسلامي، كما هو في الإمامة.
وسبب ذلك أنّ الإمامة ركيزة أساسيّة في معتقدات المسلمين عموماً، وأصل من أُصول الدين عند الشيعة الإماميّة الاثني عشرية
لذلك تجسّد اهتمام الشيعة الإماميّة بمفهوم الإمامة من خلال ما سطّرته أقلام علمائهم ومثقّفيهم وكتّابهم حول هذا الموضوع، وبمستويات علمية وثقافية مختلفة.
وهذا الكتاب الذي بين يديك ـ عزيزى القارئ ـ هو مساهمة مشكورة في هذا المجال، قامت به الأُخت المؤلّفة، إذ تعرّضت أوّلاً إلى مفهوم الإمامة عند المسلمين واختلاف الشيعة والسنّة فيه، ثمّ ذكرت ـ بأُسلوب مُبسّط خال عن التعقيد كي يفهمه المخاطَب في هذا الكتاب، وهو جيل الشباب ـ أدلّة الإماميّة على معتقدهم من القرآن الكريم، فذكرت آيات: التطهر، والطاعة، والولاية، ثمّ تعرّضت لحديثي الثقلين والغدير وكيفية الاستدلال بهما على إمامة وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
والمؤلّفة ـ الأُخت الكريمة امتثال الحبش ـ لم تكتب هذا الكتاب إلاّ بعد دراستها لهذا الموضوع ـ الإمامة ـ واعتقادها بإمامة علي (عليه السلام) وبأحقيّة المذهب الشيعي الإمامي، لذلك نراها آخر أفراد عائلتها الذين اعتنقوا مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وتركوا مذهبهم
وكأنّها أرادت بهذا أن تبيّن أنّها لم تتّبع أباها وإخوتها الذين سبقوها في إعلان تشيّعهم، بل إنّها تشيّعت عن قناعة كاملة بأحقيّة هذا المذهب.
ومن مهام مركز الأبحاث العقائدية أنّه أخذ على عاتقه تشجيع النُخب من المستبصرين في تدوين حصيلة جهودهم في البحوث التي قادتهم إلى التخلّي عن معتقداتهم السابقة ودفعهم إلى الالتحاق بركب أهل البيت (عليهم السلام)، ثمّ طباعتها في "سلسلة الرحلة إلى الثقلين".
وهذا الكتاب الصغير في حجمه الكبير في محتواه، هو أحد حلقات هذه السلسلة التي سوف تستمر إن شاء اللّه، والمركز إذ يقوم بنشره بعد مراجعته وتصحيحه وتقويم نصّه، يبارك للمؤلّفة هذا المجهود ويتمنّى لها كلّ الخير والرقي في الحياة العلميّة.
محمّد الحسّون
مركز الأبحاث العقائدية
6 صفر 1427 هـ
الإهداء...
إلى من تهادى في وجداني نهر سخائهما..
فأزهر به ربيع عمري...
إلى أبي وأُمّي...
أهدي أوّل زهرة...
المؤلّفة
مقدّمة المؤلّفة
الحمدُ للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير الخلائق والمرسلين أبي القاسم، وعلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين، وأصحابه الأخيار المنتجبين.
قد يتساءل البعض عن مدى أهميّة البحث في مسألة الإمامة أو الخلافة، التي قد أكل الدهر عليها وشرب!
وقد يعتقد أنّ بحث مثل هذه القضايا ممّا يجر لظهور الشقاق والجدل بين المسلمين، في الوقت الذي نكون فيه أحوج للبحث والانفتاح على القضايا الكبيرة والمهمة والأزمات التي تعاني منها الأُمّة الإسلاميّة.
أُقدّر للقارئ العزيز حرصه على الأُمّة، ودعوته لتبادل حثّ الخطا نحو وحدتها وتماسكها.
ولكن أقول: إنّ القضية ليست كذلك.
ليست كما تتصوّر بأنّ مسألة الإمامة أو الخلافة هي من الأزمات التي عفا عليها الزمان، وأنّها مسألة تاريخيّة فحسب.
كالاختلاف في أحقيّة الخلافة بين علي (عليه السلام) وأبي بكر في ذاك العصر.
أو فيما إذا كان الحسين (عليه السلام) قد مثّل الموقف الهابيلي، بينما وقف يزيد موقفاً قابيليّاً آنذاك.
ولكنّنا حينما نبحث في أزمة الإمامة والخلافة، فإنّنا لا نبحث في حوادث تاريخيّة عابرة فحسب.
إنّما نبحث في سلسلة القيادة الحقيقيّة للأُمّة من بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى آخر الزمان.
كما أنّنا عندما نبحث من ناحية كون فلان بُويع، في حين كان يجب أن يكون فلان مكانه، لا يكون بحثنا هذا كمفاضلة بين الأشخاص، بقدر ما يكون بحثاً عن خطٍّ قياديّ إسلاميّ يتناسب مع الخطوط والأنظمة الإسلاميّة المتكاملة.
وأقول أيضاً: إنّ بحث مسألة الإمامة كمسألة علميّة بعيداً عن جوانبها السياسيّة، ستؤدّي إلى هدم الحواجز بين الفرق الإسلاميّة، ممّا يتيح الفرصة أكثر لتعرّف أتباع المذاهب على بعضهم البعض، وتقارب أبناء الأُمّة في منهج جامع شامل لكلّ ما هو حقّ في المذاهب المختلفة.
والحمد للّه ربّ العالمين..
امتثال الحبش
دير الزور 13 / 7 / 2002
كيف كانت البداية؟
كم يصعب على أحدنا أن يكون في موقع يكره أن يكون فيه، بل يستبعد ذلك!
وكيف يكون منغمساً في ما يتحاشى الوقوع فيه؟!
كيف يشذُّ وهو الملتزم، وكيف يعمى وهو المبصر؟!
كيف يدّعي البراءة ممّن يعدل عن مذهبه، بينما عدل قبل أن يعدل؟!
في مدرستنا المتواضعة....
وداخل صفّنا البسيط....
وبعد انتهاء الحصّة الأخيرة...
التفتت إليَّ...
أبصرْتُ في عينها ملامح عتب وأسف لم أعهدها من قبل...
كانت نظراتها غريبة، تشي بأزوف ساعة الرحيل...
همهمتْ شفتاها بكلمات لم أفهمها، فقد استرقت المسافة صوتَها...
تجاهلتُ ذلك ورحتُ أقتصر المسافة بخطوات مضطربة وعينين
سألتها: ما الخطب؟
استجمعتْ قواها لتقذفني بتهمة لا ذنب لي فيها، بل كانت آخر ما كنتُ أتوقّع حدوثه.
ـ أهلك تشيّعوا، ولابدّ أنّك ستتبعينهم...
قالتها وانصرفت مسرعة.
انصرفت مخلّفةً وراءها صمتاً يثير في نفسي حزناً عميقاً.
سامحكِ اللّه يا صديقتي... سامحكِ اللّه...
عدتُ إلى البيت وفي ذهني ألف سؤال وسؤال...
ولكن ما كان يُخفّف عنّي هو مع مراقبتي المستمرة لأهلي، لم ألحظ عليهم أيّ شيء ممّا قالته صديقتي!
فكيف عرفتْ أنّ أهلي تشيّعوا قبل أن أعرف أنا؟!
تركتُ الموضوع... تناسيتُهُ...
ها أنا الآن أنهيتُ المرحلة الإعدادية، ولازال بعض المتشيّعين من أهل قريتي يتردّدون لزيارتنا، فيجالسون أبي وإخوتي لساعات طوال...
ولكنّي كنتُ مطمئنةً، فهؤلاء لن يستطيعوا أن يزحزحونا عن مذهبنا قيد شعرة.
ومَن يدري؟
هذا كان أملي....
ولكن ما حدث عكسه تماماً.
فقد تكاثفت الزيارات وأصبحت متبادلة!
وتحوّل منزلنا إلى مجلس للمحاورة، والمناقشة، وعرض وجهات النظر!
ولم أعد أرى إلاّ كتب الشيعة والمتشيّعين!
فهذا كتاب (المراجعات) لشرف الدين، وهذا كتاب (ثمّ اهتديت) للتيجاني، وذلك كتاب (ليالي بيشاور) لسلطان الواعظين السيّد محمّد الموسوي الشيرازي، وغيرها الكثير.
وقفتُ موقفَ المتفرّج الذي لا يقوى على فعل شيء يقابل ما يجري حوله.
وبقيتُ على هذه الحالة إلى أن زارتني إحدى صديقاتي، فبينما كنّا نتجاذب أطراف الحديث في مواضيع مختلفة كانت تتدرج قليلاً قليلاً إلى أن وصل الحديث إلى الجانب الديني، فسألتني كالمقتنصة: عن أي إمام تأخذين فتاواك؟
أجبتها بسرْعة: الشافعي، وأنت؟
تلعثمت بإجابتها كأنّها لم تصدّقني! ثمّ قالت: أنا، لا أدري، لكنّي سمعتُ أبي يتحدّث عن الإمام أحمد بن حنبل وفتاواه!
ترى، أيّ المذاهب أصح؟
وأيّ المذاهب هو مذهبك يا سيّدي يا رسول اللّه؟
هل الحنفي، أم المالكي، أم الشافعي، أم الحنبلي؟
وهل يمكن أن يكون للمسألة الشرعيّة الواحدة حكمان أو ثلاثة أو حتى أربعة؟
وأيّ حكم منها هو حكم اللّه ورسوله؟
هل الوجوب، أم التحريم، أم الاستحباب، أم الإباحة؟
بعد هذه الحيرة، وصلتُ إلى نتيجة حقيقيّة هي: أنّ اللّه واحد والدين واحد، فلابدّ أن يكون الحكم واحداً.
ترى، أين مذهب الشيعة من مذاهبنا الأربعة، وهل فيه اختلاف كما فيها؟
ولماذا لا يتشيّع، ويعلن تشيّعه إلاّ من كان شجاعاً وموضوعيّاً في تفكيره؟
لأروي ظمأ أسئلة تلهث بحثاً عن أجوبة معقولة، بادرتُ إلى دراسة عقائد الشيعة، وخاصّة أصل الإمامة، حيث كنتُ أتساءل: لماذا يعتبره الشيعة أصلاً من أُصول المذهب، بينما يعتبره أهل السنّة فرعاً أو أقلّ من ذلك؟ اطّلعت على بعض الأحكام الشرعيّة وعلى جزء من سيرة كلّ إمام من أئمتهم.
المفاجأة:
ليت شعري، أيّ نور إلهي كان قد حُجب عنّي بستائر الزيف والتحريف؟
وأيّ ضمائر مسلمة كانت تعلم بذلك ورضيت به؟
سنوات عدّة، وأنا على مقعد الدراسة، ولا أعرف من هو الحسين ابن علي (عليهما السلام)، وماذا تعني كربلاء!!
سنوات عدّة وأنا أذهب إلى المدرسة كلّ يوم وأرجع، ولا أفهم لماذا نخصّ علي بن أبي طالب من بين الصحابة بقولنا: (كرّم اللّه وجهه) وعلى ماذا يدلّ هذا!
للّه أبثُ أسفي وقلّة حيلتي...!
وأستغفر اللّه لأحد أساتذتي في مادة التربية الإسلاميّة عندما سأله أحد الزملاء: ما الفرق بن مذهب السنّة ومذهب الشيعة؟
قال وقد أعرض بوجهه كمن ذُكر أمامه من يحرم ذكره: أستغفر اللّه... أستغفر اللّه..
دعنا منهم يا بُني، دعنا منهم...
اللّه يهديهم...
لا أعرف لماذا كان جوابه بهذا النفور وبهذه السرعة!
هل لجهله بحقيقة هذا المذهب وعدم قدرته على الإجابة بشكل كاف؟! أم لإيهام التلاميذ ـ وهم في هذا العمر المهم ـ بأنّ أتباع هذا
كنتُ أتجرّع مرارة هذا الموقف كلّما ذكرته.
وكنتُ أتمنّى لو تسنح لي الفرصة لأُساهم في نشر مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وتعريف الناس بأنّه هو الامتداد الطبيعي للخطّ الرسالي الميمون.
بداية الرحلة المباركة:
بقيتْ تلك الأُمنية في نفسي إلى أن منحنيها اللّه سبحانه وتعالى، وذلك عندما صادفتُ أحد أقربائي من أهل السنّة، سمعتُهُ يتهجّم على مذهب أهل البيت وأتباعه، وكان من جملة ما قاله: إنّهم يحرّفون القرآن ويؤوّلونه بحسب ما تقتضيه مصالحهم الشخصية!
عندها وقفتُ واجمة...
لا أدري ماذا أقول...
ولكنّي شعرتُ بمسؤوليّة كبيرة تُلقى على عاتقي، فيجب أن يقف هذا المتهجّم الذي لا يعرف عن مذهب أهل البيت إلاّ الإشاعات الكاذبة والادعاءات المزيّفة، يجب أن يقف عند حدّه.
وفعلاً، لم أتأخّر عن أداء واجبي هذا، فرحتُ أُقدّم له بعض الأدلّة والبراهين على صحّة جميع الأفكار والعقائد التي يتبنّاها أتباع هذا
إنّ هذا الموقف الذهبي هو أعظم موقف عشتُهُ في حياتي، حيث إنّه يمثّل نقطة البدء لرحلة جديدة مباركة إلى النور، إلى الحقّ، إلى برّ الأمان، وعلى متن سفينة أهل البيت (عليهم السلام)، وتحت إمرة أربابها الذين قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم: "إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى"(1).
وخيرُ ما ابتدأتُ به هذه الرحلة هو تأليفي لهذا الكتيّب، حيث اخترتُ الإمامة موضوعاً له كونها تمثّل محور الخلاف بين المسلمين، فأسأل اللّه تعالى أن يجعله أحد الدوافع والمحرّكات التي تدفعك أُختي القارئة أخي القارئ لإعادة النظر في ما تختزنانه من أفكار ومعتقدات مخالفة لما جاء به النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتساهم في تصحيح الفكر والفهم وتنوير العقل.
وأن يجعله حجاباً لي من النار {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْب سَلِيم}(2).
وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين، وصلِّ اللهمّ على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
امتثال الحبش
____________
1- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري 2: 343 و3: 150.
2- الشعراء (26): 88 ـ 89.
واقع الإمامة في الإسلام
هي محض نور يُقتبس منه كلّ نور.
هي ذروة النقاء وقمّة الصفاء الروحي.
هي هبة ربانيّة ونعمة إلهيّة، حلّت فيها البركة السماويّة ففجّرتها نبع عطاء سرمدي، لا يعرف نهاية ولا حدّاً.
يفيض بخيراته على البشر كلّهم، من الأوّلين والآخرين، العالمين بحقيقته والجاهلين.
هي الإمامة...
والتي تمثّل ـ بما تشغله من حيّز كبير من الأهميّة ـ محور الخلاف بين المسلمين على مرِّ العصور.
وقد ساهم هذا الاختلاف في خلق الأزمات والمشاكل، التي طالما عانت منها الأُمّة الإسلاميّة ولا زالت.
ولعلّ أكبر هذه المشاكل هي انقسام أُمّتنا الإسلاميّة إلى فئتين عظيمتين.
أُمّتنا التي قال تعالى فيها: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).
____________
1- الأنبياء (21): 92.
أهل السنّة ومفهوم الإمامة:
تضمّ هذه الفئة القسم الأكبر من أبناء الأُمّة الإسلاميّة، حيث ينظرون إلى الإمامة كمفهوم ضيّق ومحدود لا يتعدّى قيادة المجتمع وإدارة الشؤون السياسيّة، فتنحصر بهذا مهمة الإمام بالأُمور الدنيويّة فقط، كحفظ أمن الدولة، وحماية حدود البلاد، والفصل بين المتخاصمين، والضرب على أيدي المعتدين.
هذا، ولا إشكال فيما إذا تعدّى الإمام حدود التقوى وتلوّث بلوث الآثام والمعاصي، فإنّه يبقى إماماً مُطاعاً!
وبعبارة أُخرى:
إنّ هذه الفئة تقول بإمامة حتى الجائر والظالم، ولا ينخلع هذا الإمام بارتكابه المعاصي، بل إنّه بمجرّد استيلائه على هذا المنصب ـ بغض النظر عن الطريقة التي وصل بها إلى الحكم ـ فقد استحقّه.
ومن جهة أُخرى: يعتبرون مصدر تعيين الإمام واختياره هم الأفراد أنفسهم، فهم يختارونه بأنفسهم وينصبّونه عليهم!
إنّ هذه النظرة السطحيّة إلى الإمامة أدّت إلى تهميش هذا الأصل المهم وتفشّي الاعتقاد بفرعيّته.
الاتجاه الآخر:
أمّا القسم الثاني من أبناء الأُمّة هم ما يُسمّون بـ (الشيعة)، حيث تختلف نظرتها إلى الإمامة عن الفئة السابقة.
بل إنّ الإمام هو مَن يُجسّد المرجعيّة الفكريّة والزعامة السياسيّة في الوقت نفسه، وهو مبلّغ قوانين وأنظمة وأحكام الإسلام بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عبر الزمان.
وهو النموذج للإنسان الكامل، وهو فقط مَن مِن حقّه أن يترأس الأُمّة ويقود مسيرتها، حيث يتمتّع بالعصمة التي تمكّنه من تأدية دوره في إرشاد البشر وهدايتهم، حيث تُتخذ سيرته منهجاً يجب أن ينتهجه كلّ الناس.
وخلاصة ما تقوله هذه الفئة:
إنّ هذا المزيج من القدرات والكفاءات على كافّة الصعد، والتي ستجتمع في شخص واحد، بالإضافة إلى العناية والرعاية الإلهيّة، سيؤدّي إلى تحقيق الرسالة، وهو جعل الأُمّة تسير وفق دستور حياتي خالد يضمن حياة سعيدة وآمنة لأفرادها.
إذاً، تنظر الشيعة إلى الإمامة كأصل ثابت من أُصول الاعتقاد، لا يكتمل الإيمان إلاّ باعتقادها عن تفكّر وتدبّر ذاتيين، والسؤال هو: كيف، وبأيّ دليل يرتفع مفهوم الإمامة إلى هذا المستوى الرفيع من الدين؟
سنعرف ذلك بعد الرجوع إلى القرآن الكريم، والسنّة الشريفة
الفصل الأوّل
الإمامة منصب إلهي
إمامة إبراهيم:
ثمّة آية قرآنية تتعلّق بموضوع بحثنا، فلنرَ بماذا ستفيدنا هذه الآية الكريمة، يقول تعالى في محكم كتابه العزيز: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(1).
تتحدّث هذه الآية عن واحدة من أعظم السّيَر العظيمة، والتي ظلّت بصمة شاهدة على أصالة التاريخ منذ فجره، ولسنا الآن بصدد دراسة سيرة سيّدنا إبراهيم (عليه السلام) ; لأنّها أعظم من أن تحيط بها هذه الصفحات القلائل.
إنّما ذكرنا هذه الآية لارتباطها الوثيق بمفهوم الإمامة كأصل دينيّ من جهة كونها منصباً إلهيّاً، لا شأن لغير اللّه باختيار من يشغله، كما أنّ نيله متعلّق بشروط ومؤهلات خاصّة، وليتسنّى فهم ذلك رأينا أن نفصّل الآية السابقة إلى مقاطع بحسب ما يمليه علينا سياقها.
أوّلاً: ابتلاءٌ فجزاء
في زمن أرهقت فيه الإنسانية لثقل حملها...
____________
1- البقرة (2): 124.
حيث اتّخذت الأصنام أرباباً معبودة، تسجد لها، وتعكف على عبادتها...
في هذا الخضم من الضلال والفوضى...
بُعث سيّدنا إبراهيم أبو الأنبياء (عليه السلام)...
لينتشل المجتمع البشري من بؤرة الوضاعة والانحطاط إلى أُفق الرقيّ والانضباط.
وحاله حال الأنبياء، فما أن تربّع على عرش النبوّة حتى أخذت المحن والابتلاءات الإلهيّة تتهافت عليه واحدة تلو الأُخرى، فكانت لا تزيده إلاّ صبراً وتسليماً.
يقول تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ}(1).
ومن الواضح أنّه ليس المراد من (كلمات) الواردة في هذه الآية مجرّد ألفاظ وتعابير تتألّف من أحرف هجائيّة وإن ذهب البعض إلى هذا المعنى.
لكن على الأكثر والأصح أنّ المراد من هذه الكلمات مجموعة أُمور وأحاديث واقعة، كما في قوله تعالى لمريم: {إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَة مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ}(2).
____________
1- البقرة (2): 124.
2- آل عمران (3): 45.
وعندما قال سبحانه: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات} كان يريد من هذه الكلمات مجموعة الابتلاءات التي مرّ بها إبراهيم (عليه السلام) والتي حدّثنا القرآن الكريم عنها، فمنها:
1 ـ صموده (عليه السلام) أمام نمرود ومن لفّ لفّه، واستعداده لأن يُلقى في النار دون أن يؤثّر ذلك على إيمانه، بل على العكس كان يزداد تعلّقاً بربّه سبحانه.
2 ـ امتثاله لأمر ربّه حين أمره أن يأخذ زوجته ووليده إلى أرض الحجاز ويتركهما وحيدين في أرض قاحلة جدباء لا حول لهما فيها ولا قوّة، حيث قال مستودعهما اللّه: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَاد غَيْرِ ذِي زَرْع}(1).
3 ـ ومنها ما هو أعظم وأمضى; إذ أمره ربّه أن يذبح ابنه إسماعيل بيده! حيث تكرّر عليه هذا المنام في عالم الرؤيا عدّة مرّات، فأيقن أنّه الوحي الإلهي، ثمّ طرح هذا الأمر على ولده إسماعيل، فما كان من الابن إلاّ أن سلّم لأمر ربّه تسليماً، ومن دون تردّد قائلاً: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}(2).
ها هما..
____________
1- إبراهيم (14): 37 2- الصافات (37): 102.
كلاهما في ساحة الابتلاء، وعلى أُهبة الاستعداد لتنفيذ الأمر الإلهيّ بمنتهى الإيمان والصبر والتسليم.
فلمّا أوشكا أن يبدأا ـ وما أعظمه من منظر! {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}(1) ـ جاءهما نداء ربّهما: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}(2) وهو الأمر بالتوقّف، إذ لم يكن الهدف هو ذبح إسماعيل أصلاً، إنّما كان الهدف هو ظهور التسليم والإذعان والطاعة منهما مهما كان الأمر الإلهيّ صعباً ومريراً، وليبقى هذا المشهد خالداً يصوّره القرآن الكريم على مرّ العصور، حيث يحكي حقيقة الارتباط باللّه، وحقيقة الإيمان الذي ملأ نفوساً حتى استغرقت بالروح الإلهيّة المقدّسة، فغاب عن مرآها كلّ شي دون اللّه.
بعد أن قطع إبراهيم كلّ الابتلاءات، وحقّق ما حقّقه من نجاح كبير، وأثبت ما أثبته من جدارة وكفاءة، أراد اللّه أن يهبه المنصب الجديد الذي استحقّه وصار أهلاً له، هذا المنصب هو الإمامة، حيث قال سبحانه: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} فصار إبراهيم بإرادة اللّه وجعله إماماً للناس أجمعين.
____________
1- الصافات (37): 103.
2- الصافات (37): 104 ـ 105.