الصفحة 53

الفصل الثالث
إمامة أهل البيت (عليهم السلام) في السنّة


من وحي السنّة:

السنّة: هي قول المعصوم وفعله وتقريره:

وبما أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو مبلّغ القرآن، وسنّته تشرح القرآن، فلابدّ أن يكونا متطابقين تماماً إلاّ من جهة الإجمال والتفصيل.

إذ أنّ القرآن يضمّ كلّ التعاليم والقوانين الإسلاميّة مجملةً، لتأخذ السنّة دورها في شرحه وتبيانه دون زيادة أو نقصان، يقول سبحانه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى}(1).

وبهذا تكون السنّة معصومة كما القرآن، هذا في عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولكن، هل بقيت السنّة على عصمتها؟

بالطبع لا، وأقوى دليل على ذلك ما نصطدم به من أحاديث متناقضة وموضوعة!

وكفى بحديث رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) شاهداً على ذلك إذ قال:

"أيّها الناس...

ستكثر عليّ الكذّابة..

____________

1- النجم (53): 3 ـ 4.


الصفحة 54
فمن كذب عليّ متعمداً..

فليتبوأ مقعده من النار"(1).

والسؤال هنا:

هل كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلم ويؤكّد أنّ سنّته ستطولها أيدي التحريف والتزييف، ولم يخطّط لحفظها؟!

وهو الذي كان لا يخرج من المدينة إلاّ أن يعيّن خليفةً ريثما يعود!

فكيف إذا كان الخروج أبديّاً، حيث لا رجعة؟

كيف لنا أن نصدّق أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو الإنسان العاقل الحكيم الأوّل في البشريّة، أنّه يترك أُمّته هكذا هملاً، لاسيّما أنّهم كانوا حديثي عهد بالجاهليّة، وخطر العدوان الثلاثي (الروم، الفرس، والمنافقين) لا زال محدقاً بالإسلام، يتربّص سنوح الفرصة ليصبّ حقده عليه، ويهدم هذا الصرح العظيم!

بلى، لقد خطّط رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لحفظ أُمّته التي طالما عانى وجاهد من أجل بنائها بناءً إسلاميّاً على قواعد متينة وثابتة.

وذلك يكون من خلال تعيين الخليفة والقائد الذي يكون حريصاً

____________

1- مسند أحمد 1: 78، في مسند علي بن أبي طالب (عليه السلام)، صحيح البخاري 2: 81، باب ما يكره من النياحة على الميت، المستدرك على الصحيحين 3: 262.


الصفحة 55
على الإسلام كحرص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وخليقاً به كي يستطيع أن يملأ الفراغ الذي تركه رسول اللّه بعد رحيله.

وبالفعل، فقد عمل الرسول ذلك، وعيّن خليفةً ضمن أحاديث بيّنها في مواقع وظروف مختلفة نذكر منها:

أوّلاً: حديث الثقلين

إنّ حديث الثقلين من أكثر الأحاديث النبويّة شهرةً وأقواها سنداً، وقد ورد هذا الحديث في مصادر متعدّدة وبتعابير مختلفة، إلاّ أنّها متّحدة المضمون.

أمّا نصّه فالتالي:

قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّي تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً، كتاب اللّه... وعترتي أهل بيتي ولقد أنبأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض"(1).

____________

1- مسند أحمد 3: 14 و17 و26 و59، في مسند أبي سعيد الخدري، صحيح مسلم 7: 123، باب من فضائل علي (عليه السلام)، سنن الترمذي 5: 327، حديث 3874.


الصفحة 56

أضواء على الحديث:

1 ـ "إنّي تاركٌ فيكم الثقلين".

إنّ هذه العبارة تبيّن شعور النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بدنوّ أجله، لذلك فقد قال هذا الحديث ليكون بمثابة وصيّة من نبيّ الرحمة إلى المسلمين، تضمن لهم كلّ الخير والصلاح من بعده.

2 ـ "ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً".

أمّا في هذه العبارة فقد بيّن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ التمسّك بهذين الثقلين هو شرط لعدم الضلال على مدى الزمان.

3 ـ "ولقد أنبأني اللطيف الخبير".

وأيّ نبأ أصدق من نبأ اللطيف الخبير عالم الغيب؟

4 ـ "أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض".

أي أنّهما متلازمان لا ينفكان، في كلّ زمان ومكان، وتحت أيّ ظرف، وفي أيّ موقع إلى أن يردا على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) الحوضَ يوم القيامة.

عصمة الثقلين:

قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيم حَمِيد}(1).

____________

1- فصّلت (41): 41 ـ 42.


الصفحة 57
إنّ هذه الآية وغيرها تدلّ على عصمة القرآن الكريم، وصيانة اللّه المطلقة له.

وفي المقابل يقول رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث السابق: "كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي"، فقد قرن الرسول عترته بكتاب اللّه المعصوم، كما أكّد على تلازمهما واستحالة افتراقهما في قوله: "أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض" وهذا دليل على العصمة المطلقة لعترة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم); لاقترانهم بالقرآن الكريم.

وذلك أنّ أيّ مخالفة لأحكام القرآن يعدّ افتراقاً وابتعاداً عنه، ولكنّ الرسول بيّن تلازمهما بشكل مطلق.

فلو جاز الخطأ منهم لما صحّ الأمر بالتمسّك بهم إلى جانب القرآن الكريم، ولعدَّ إخبار النبيّ عن عدم افتراقهما كذباً ورجماً بالغيب، وأعوذ باللّه من هذا القول.

إنّ حديث الثقلين إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أحقيّة أهل البيت (عليهم السلام) في قيادة الأُمّة الإسلاميّة وخلافة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ذلك أنّهم يتمتّعون بصفة العصمة التي لم يبلغها أحدٌ من أتباع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سواهم وإن بلغ الغاية من الإيمان والصلاح.

فكيف يصحّ تقديم المفضول على الفاضل؟

أجبْ باللّه عليك!


الصفحة 58

ثانياً: حديث الغدير

في كلّ عام، وفي الثامن عشر من ذي الحجّة، يحتفل الشيعة بعيد اسمه (عيد الغدير).

حيث يقيمون الاحتفالات، ويتبادلون التهاني، بمجرّد حلول هذا العيد.

فما قصته؟

ومن أين جاءت تسميته؟

في السنّة الأخيرة من عمر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، كان قد نوى الذهاب إلى الحجّ ولآخر مرّة في حياته، حيث سمّيت هذه الحجّة بحجّة الوداع، وأدّى انتشار هذا الخبر إلى توافد الناس من مختلف البلدان إلى المدينة المنوّرة ليحصلوا على شرف الخروج مع رسول اللّه والمشاركة معه (صلى الله عليه وآله وسلم).

في الطريق:

بعد أن أنهى النبيّ ومن معه جميع مناسك الحجّ، وفي طريق العودة في مكان يُدعى (غدير خمّ)، وتحت أشعة الشمس المحرقة وفوق الرمال اللاهبة، نزل الأمين جبريل (عليه السلام) على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه الآية: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ

الصفحة 59
وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(1).

عندها توقّف الرسول عن المسير في تلك الأرض الجدباء، وأمر من تأخّر عنه فليلحق به، ومن تقدّم فليرجع إليه، حتى اجتمع الناس في مكان واحد، فأدركتهم صلاة الظهر فصلّوها، ثمّ أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تُوضع أقتاب الإبل فوق بعضها حتى صارت كالمنبر، فصعد الرسول عليها خطيباً بالناس، بكلماته العذبة الصادقة، وبصوته الذي ملأ الصحراء فسمعه القاصي والداني.

ماذا قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

بدأ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) خطبته كعادته بحمد اللّه والثناء عليه، ثمّ أخذ يُعدّ الناس إعداداً روحيّاً لتقبّل خبر مهم للغاية، وكان من جملة ما قال:

"أيّها الناس...

يوشك أن أُدعى فأُجيب، وأنّي مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون"؟

فتعالت الأصوات من كلّ جانب: نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجاهدت فجزاك اللّه خيرا...

ثمّ أخذ يُذكّر بأُصول الدين، قال:

____________

1- المائدة (5): 67.


الصفحة 60
"ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ اللّه، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّ جنّته حقّ، وناره حقّ، وأنّ الموت حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ اللّه يبعث من في القبور"؟

قالوا: بلى نشهد.

فقال: "اللهمّ اشهد"، ثمّ قرأ الآية التي نزلت عليه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}.

ثمّ أخذ بيد علي بن أبي طالب (عليه السلام) ورفعها حتى رأى الناس بياض إبطيهما، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): "أيها الناس...

من أولى بالمؤمنين من أنفسهم"؟

قالوا: اللّه ورسوله أعلم.

قال: "إنّ اللّه مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم...

فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه"، قالها ثلاثاً "اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وابغض من بغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدرِ الحقّ معه حيثما دار، ألا فليبلّغ الشاهد الغائب".

ثمّ لم يتفرّقوا حتى نزلت هذه الآية:

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ

الصفحة 61
الإِسْلاَمَ دِيناً}(1).

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): "اللّه أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الربّ برسالتي والولاية لعليّ من بعدي".

ثمّ أمر القوم بأن يسلّموا على عليّ (عليه السلام) بإمرة المؤمنين، وكان في مقدّمة من هنّأه وبايع على هذا المنصب الشيخان (أبو بكر، وعمر بن الخطّاب) حيث قالا له:

بخ، بخ يابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة، فقال ابن عباس: وجبت واللّه في أعناق القوم.

ثمّ استأذن الشاعر حسّان بن ثابت رسولَ اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول أبياتاً يسمعهن في هذه المناسبة، فقال له الرسول: "قل على بركة اللّه"، فأنشأ حسّان يقول:


يُناديهم يـوم الغدير نبيّهم(بـخمّ) فـاسـمع بالنـبيّ مـناديا
وقال فمن مَولاكم ووليّكمفقـالوا ولـم يـبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنـت وليّناولا تجدنّ في الخلق للأمر عاصيا
فقال له: قُمْ يا عليّ فإنّنيرضيـتك مـن بعدي إماماً وهاديا
فمن كنتُ مولاه فهذا وليّهفكونوا لـه أنصار صدق مواليا(2)

____________

1- المائدة (5): 3.

2- راجع الغدير للعلاّمة الأميني 1: 10 ـ 11.


الصفحة 62

موضع اختلاف:

لقد بلغ حديث الغدير حدّ التواتر، حيث رواه ما يقارب الـ (110) صحابي، و(89) تابعي، و(350) عالم ومحدّث(1).

ممّا لا يدع أيّ شكّ في صحّة هذا الحديث، ولكن الاختلاف وقع في المقصود من كلمة (مولى) في قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): "من كنت مولاه فعليّ مولاه".

فمنهم من قال: إنّ المراد بها فقط معنى (المحبّ والناظر)!

ومنهم من أعطاها مفهوماً أعمّ وأشمل، أي معنى (الأولويّة في التصرّف).

فلنرَ أيّ المعنيين هو الصواب.

شهادة القرائن:

إنّ في حديث الغدير مجموعة من القرائن تدلّ على أنّ المراد من كلمة (مولى) في قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المعنى الثاني، أي الأولويّة في التصرّف والقيادة والرئاسة العامة.

ومن هذه القرائن:

1 ـ عندما بدأ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) خطبته بدأها بالتركيز بأُصول الدين الثلاثة وهي:

____________

1- انظر الغدير للعلاّمة الأميني 1: 14 ـ 151.


الصفحة 63
التوحيد حين قال: "ألستم تشهدون أنّه لا إله إلاّ اللّه".

والنبوّة حين قال: "وأنّ محمّداً عبده ورسوله".

والمعاد حين قال: "أنّ جنّته حقّ، وناره حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها...".

فقد أراد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يُضيف إلى هذه الأُصول أصلاً رابعاً أيضاً، وهو الإمامة، إمامة علي (عليه السلام)، إذ قال: "إنّي مسؤول وأنتم مسؤولون".

2 ـ قبل أن يذكّر (صلى الله عليه وآله وسلم) نعى نفسه للمسلمين، فقال: "أيّها الناس، يوشك أن أُدعى فأُجيب..." ممّا يدلّ على أنّ هناك أمراً هامّاً يجب أن يبلّغه قبل رحيله، وهو بلا شكّ أمر قيادة المسلمين التي أوكلها إلى علي (عليه السلام) من بعده.

3 ـ قبل أن يعلن (صلى الله عليه وآله وسلم) إمامة علي (عليه السلام) ذكّر بولاية اللّه وولايته على المؤمنين، إذ أنّهما أولى منهم بأنفسهم، فقد قال: "اللّه مولاي، وإنّي مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم" ثمّ أعلن ولاية علي (عليه السلام)، الأمر الذي دلّ على أنّ الإمام علي (عليه السلام) له الولاية ذاتها التي كانت لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) على المسلمين، حيث قال الرسول: "من كنت مولاه فعليّ مولاه"، ثمّ دعا ربه: "اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله...".

4 ـ كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حريصاً على أن يصل هذا الخبر إلى

الصفحة 64
جميع الناس، فأمر الحاضرين أن ينقلوا هذا الحادثة إلى الغائبين، فقال: "ألا فليبلغ الشاهدُ الغائبَ".

دلالة الآيات:

لقد أسلفنا الذكر بأنّ هناك آيتين نزلتا في هذه الواقعة هما آية التبليغ، وآية إكمال الدين.

وكلا هاتين الآيتين تكتنف قرينة تدلّ على أنّ المراد من كلمة (مولى) الأولويّة بالتصرّف والقيادة.

1 ـ آية التبليغ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(1).

فما هذا الشيء الذي أُنزل على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذي يساوي كلّ ما جاء به وعاناه منذ بداية البعثة، بحيث إن كتمه فكأنّه لم يأتِ بشيء؟

بالتأكيد هو ليس إظهار محبّة ونصرة علي (عليه السلام) والأمر بهما; لأنّ وجوب محبّة جميع المؤمنين ونصرتهم أمر مفروغ منه.

إنّما هو التبليغ بإمامته (عليه السلام) وأهليّته لهذا المنصب.

2 ـ آية إكمال الدين: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ

____________

1- المائدة (5): 65.


الصفحة 65
نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}(1).

إنّ نزول هذه الآية بعد تبليغ ما أمر به رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يدلّ على عظمة هذا البلاغ وأهميّته، فبه اكتمل الدين وتمّت النعمة ورضي اللّه الإسلام للمسلمين ديناً.

ولا يعقل أن يكون هذا الأمر وهو بهذه الأهميّة مجرّد ذكر محبّة عليّ ونصرته (عليه السلام).

ثمّ لماذا عليّ بالذات، مع أنّ الرسول لم يأل جهداً في التذكير والحثّ على محبّة المسلمين بعضهم لبعض في كلّ موقع؟

وأخيراً نقول:

لقد قدّمنا من القرائن والشواهد ما يكفي لإثبات أنّ معنى كلمة (مولى) في إبلاغ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الأولى بالتصرّف والقيادة، وليس مجرّد المحبّة والنصرة، وإن كانت تأتي بهذا المعنى ولكن في مواضع أُخرى.

وإليك ـ أيها القارئ الكريم ـ يعود الحكم.

____________

1- المائدة (5): 3.


الصفحة 66

الصفحة 67

الفصل الرابع
إمامة أهل البيت (عليهم السلام) في العقل


الإمامة في العقل:

الإنسان...

هذا المخلوق العجيب...

الذي أكرمه اللّه بأن أودع في فطرته كلّ مقوّمات الكمال، وأرشده إلى طريق السعادة.

ومن جهة أُخرى بصّره بأعدائه على طول مسيرته إلى الكمال، والتي من ألدّها ما انطوى عليه كيانه من غرائز وأهواء.

حيث تحوّل دون وصوله إلى غاية وجوده، وكيف سيصل وأعين الضلال والشرّ تتربّصان به؟

من هنا، نشأت ضرورة البعثة، والحاجة إلى الرسل.

لأنّ الإنسان مع ما يحيط به من أخطار، وبالأخصّ نفسه الأمارة بالسوء، لا يستطيع أن يصل إلى هدفه لوحده، إلاّ أن يمدّه اللّه عزّ وجلّ بمن يأخذ بيده ويرشده إلى الطريق الصحيح، وهم الأنبياء والرسل (صلوات اللّه وسلامه عليهم)، وهذه إحدى وسائل الهداية الإلهيّة إلى الكمال.


الصفحة 68
فيكون الأنبياء والرسل في هذه الحالة ممثّلي اللّه في أرضه وحججه على خلقه، ولهذا فيجب أن لا تخلو الأرض من المرشد الحجّة.

ولكن نبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) كان خاتم الأنبياء، حيث انتقل إلى الرفيق الأعلى سنة 11 هـ.

كان يهدي الناس إلى صلاحهم...

يُبلّغهم أحكام اللّه...

يُبشّرهم بالجنّة...

ويُنذرهم من النار...

وبوفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) توقّف كلّ هذا.

وانقطع الوحي.

وجفّ نبع العطاء المتدفّق.

الذي طالما أفاض وأجاد على البشريّة.

ونهض بها إلى قمّة الطهارة والنبل.

وهنا لنا أن نتساءل:

ماذا بشأن الأُمّة من بعده (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

أليست بحاجة إلى الخليفة القائد; ليملأ الثغرات التي تولّدت عن فقد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأُمّته لا تزال حديثة عهد بالتحرّر من الجاهلية؟


الصفحة 69
أليست بحاجة إلى مَن يصون ويحفظ هذا الصرح الإسلامي العظيم، الذي أفنى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في تشييده وبنائه عمره كلّه؟

بلى واللّه... ولكن ليس أيّ قائد ولا أيّ خليفة.

إنّما القائد الذي يختاره رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر من ربّه سبحانه; لأنّ {اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}(1).

إذ أنّ تعيين القائد والخليفة أمرٌ يختصّ بالذات الإلهيّة المقدّسة وحسب; لأنّ اللّه وحده مطّلع على الضمائر والسرائر، والأعلم بمستوى تقوى وقابليّة هذا القائد.

أمّا نحن البشر، فلا يحقّ لنا أن نختار خليفةً; لأنّنا غير مطّلعين على ما تكنّه صدورهم، إنّما لنا الظاهر وحسب، وشتّان ما بين الظاهر والباطن!

ومن جهة أُخرى فإنّ الخليفة المختار، لابدّ أن يعمل على مل الفراغ الذي تركه رسول اللّه، ولهذا فلابدّ أن يتمتّع بكلّ ما كان يتمتّع به رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ عدا الوحي طبعاً ـ ولا سيّما ملكة العصمة.

فإن لم يكن هذا الخليفة معصوماً، فإنّنا نحتمل وقوعه في أيّ وقت في المعصيّة، وإن وقع قائدنا في معصية فأمامنا خياران:

الأوّل: أن نتّبعه.

الثاني: أن لا نتّبعه.

____________

1- الأنعام (6): 124.


الصفحة 70
فإن اتّبعناه على معصيّته فقد جوّزنا فعل المعصيّة بأمر من اللّه تعالى; لأنّه أمرنا بطاعة أُولي الأمر.

وإن لم نتّبعه، فقد ذهب معنى القيادة; لأنّها فقدت أهمّ عنصر وهو الطاعة والاتّباع.

فلم يبقَ أمامنا إلاّ القول بوجوب عصمة الخليفة الذي سيقود مسيرة الأُمّة من بعد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) دون أيّ خلل أو اضطراب.

أمّا العصمة، فلم تثبت لأحد من بعد رسول اللّه، إلاّ لأهل بيته (عليهم السلام) بشهادة القرآن والسنّة والتاريخ.

وبهذا يكون أهل البيت (عليهم السلام) هم الخلفاء والأئمة الذين فرض اللّه إمامتهم وطاعتهم على لسان نبيّه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث ثبتت أفضليّتهم نقلاً وعقلاً.

وأخيراً:

إنّ آخر ما أودّ قوله في نهاية المطاف: إنّ ما كتبته هنا هو ليس من نتاجي الخاصّ، بل إنّه مجرّد ملخّص لما درسته وبحثته واقتنعت به من أصل الإمامة.

كما أتوجّه إلى الأخ القارىء الذي اعترضته أيّ ملاحظة أو تعليق خلال مطالعته لهذا الكتيّب أن يتفضّل به علينا، علّنا نصل سويّة إلى خدمة الحقّ وأهله.


الصفحة 71
وكما قال الإمام الصادق (عليه السلام): "أحبّ إخواني إليّ من أهدى إليّ عيوبي"(1).

والحمد للّه رب العالمين...

____________

1- الكافي 2: 639، حديث 5، باب من يجب مصادقته ومصاحبته.


الصفحة 72

الصفحة 73

مصادر الكتاب


1 ـ التفسير الكبير: أبو عبداللّه محمّد بن عمر فخر الدين الرازي (ت 606 هـ)، الطبعة الأولى 1415 هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

2 ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911 هـ)، الطبعة الأولى 1365 هـ، دار المعرفة، بيروت.

3 ـ سنن الترمذي (الجامع الصحيح): أبو عيسى محمّد بن عيسى بن سورة الترمذي (ت 279 هـ)، تحقيق عبد الرحمن محمّد عثمان، الطبعة الثانية 1403 هـ، دار الفكر، بيروت.

4 ـ صحيح البخاري: أبو عبد اللّه محمّد بن إسماعيل البخاري (ت 256 هـ)، دار الفكر، بيروت، 1401 هـ.

5 ـ صحيح مسلم: أبو الحسين مسلم بن الحجّاج القشيري النيسابوري (ت 261 هـ)، دار الفكر، بيروت.

6 ـ غريب الحديث: عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت 276

الصفحة 74
هـ)، تحقيق عبد اللّه الجبوري، الطبعة الأولى 1408 هـ، دار الكتب العلمية.

7 ـ الغدير في الكتاب والسنّة والأدب: عبد الحسين الأميني (ت 1392 هـ)، الطبعة الرابعة 1397 هـ، دار الكتاب العربي، بيروت.

8 ـ الكافي: أبو جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكُليني الرازي (ت 329 هـ)، تحقيق علي أكبر غفاري، الطبعة الثالثة 1388 هـ، دار الكتب الإسلامية، طهران.

9 ـ الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل: أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي (ت 538 هـ)، تحقيق عبد الرزّاق المهدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

10 ـ مجمع البيان في تفسير القرآن: أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (ت 560 هـ)، الطبعة الأولى 1415 هـ، مؤسسة الأعلمي، بيروت.

11 ـ المستدرك على الصحيحين: أبو عبد اللّه محمّد بن عبد اللّه الحاكم النيسابوري (ت 405 هـ)، تحقيق يوسف عبد الرحمن المرعشي، دار المعرفة، بيروت.

12 ـ الميزان في تفسير القرآن: محمّد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ)، جماعة المدرسين، قم.


الصفحة 75
13 ـ لسان العرب: أبو الفضل جمال الدين محمّد بن مكرم بن منظور الافريقي المصري (ت 711 هـ)، الطبعة الاولى 1405 هـ، دار إحياء التراث العربي، نشر أدب الحوزه، قم.

14 ـ مسند أحمد بن حنبل: أبو عبداللّه أحمد بن حنبل (ت 241 هـ)، دار صادر، بيروت.

15 ـ النهاية في غريب الحديث: مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمّد الجزري ابن الأثير (ت 606 هـ)، تحقيق محمود محمّد الطناحي وطاهر أحمد الزاوي، الطبعة الرابعة 1364 ش، مؤسسة اسماعيليان، قم.