العقيدة في النبوة
عند الطرفين
والخلاف الواقع بين الشيعة وأهل السنّة في هذا الباب هو موضوع العصمة، فالشيعة يقولون بعصمة الأنبياء (عليهم السلام) قبل البعثة وبعدها، ويقول أهل السنّة والجماعة بأنّهم المعصومون فيما يبلّغونه من كلام اللّه فقط، أمّا فيما عدا ذلك فهم كسائر البشر يخطئون ويصيبون.
وقد رووا في ذلك عدّة روايات في صحاحهم تثبتُ بأنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أخطأ في عدّة مناسبات، وكان بعض الصحابة يصوّبه ويصلحه، كما في قضية أسرى بدر التي أخطأ فيها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصاب عمر، ولولاه لهلك رسول اللّه...(1).
ومنها: أنّه لما قدم المدينة وجد أهلها يُؤبرون النخل، فقال لهم: "لا تؤبّروه وسيكون تمراً"، ولكنّه جاء شيصاً، فجاؤوه وشكوا له
____________
1- البداية والنهاية لابن كثير 3: 234 (في غزوة بدر)، عن أحمد ومسلم وأبي داود والترمذي.
وفي رواية أُخرى قال لهم: "إنّما أنا بشرٌ، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوه، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنّما أنا بشر"(1).
ومرّة يروون أنّه سُحِرَ وبَقيَ أياماً مسحوراً لا يدري مايفعل، حتّى أنّه كان يخيّل إليه أنّه كان يأتي النساء ولا يأتيهنّ(2)، أو يخيّل إليه أنّه صنع شيئاً ولم يصنعه(3).
____________
1- صحيح مسلم7: 95، كتاب الفضائل، باب 38 في وجوب امتثال ما قاله (صلى الله عليه وآله وسلم) شرعاً، ومسند أحمد 3: 153 و 6: 123.
2- صحيح البخاري7: 29، كتاب الطب، كتاب الأدب، باب السحر وقوله تعالى: { ولكن الشياطين.. }.
3- صحيح البخاري4: 68، كتاب الجزية والموادعة، باب هل يعفي عن الذمي إذا سحر.
لا يقال بأنّ أخبار السحر وردت عندكم أيضاً فلماذا تعترضون على أهل السنّة؟ وذلك لأنّ علماءنا تركوا تلك الروايات ولم يعوّلوا عليها:
قال الشيخ الطبرسي في مجمع البيان 10: 865 في تفسير سورة الفلق ـ بعد ذكره لبعض الروايات في هذا الباب ـ: "وهذا لا يجوز; لأنّ من وصف بأنّه مسحور فكأنّه قد خبل عقله، وقد أبى اللّه سبحانه ذلك في قوله: { وَقالَ الظّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً } ".
وقال المجلسي في البحار 60: 41: "لما عرفت أنّ السحر يندفع بالعوذ والآيات والتوكل، وهم (عليهم السلام) معادن جميع ذلك، فتأثيره فيهم مستبعد،
=>
____________
<=
والأخبار الواردة في ذلك أكثرها عامية أو ضعيفة ومعارضة بمثلها، فيشكل التعويل عليها في إثبات مثل ذلك".
والإيمان بأنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سُحر، فيه مطعن على النبوّة وعلى الوحي الذي ينزل على الرسول، ولا سيما إذا لاحظنا رواية البخاري: "حتى كان يخيل إليه أنّه يفعل الشي وما يفعله"، فمن الجائز حينئذ أنّه يوصى إليه ولا يبلغ تصوراً منه أنّه بلغ، فإنّ هذا ممكن وتشمله الرواية، وفي هذا مطعن كبير على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والرسالة الإسلامية؟
ولأجل ذلك قال الإمام محمّد عبده: "وقال كثير من المقلّدين الذين لا يعقلون ما هي النبوّة ولا ما يجب لها: إنّ الخبر بتأثير السحر في النفس الشريفة قد صح فلزم الاعتقاد به، وعدم التصديق من بدع المبتدعين; لأنّه ضرب من إنكار السحر، وقد جاء القرآن بصحة السحر!
فانظر كيف ينقلب الدين الصحيح والحقّ الصريح في نظر المقلّدين بدعة! نعوذ باللّه!
يحتجّ بالقرآن على ثبوت السحر! ويعرض عن القرآن في نفيه السحر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعده من افتراء المشركين عليه، ويؤول في هذه ولا يؤول في تلك! مع أنّ الذي قصده المشركون ظاهر; لأنّهم كانوا يقولون إنّ الشيطان يلامسه (عليه السلام)، وملامسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم وضرب من ضروبه، وهو بعينه أثر السحر الذي نسب إلى لبيد، فإنّه خالط عقله وإدراكه في زعمهم.
والذي يجب اعتقاده أنّ القرآن مقطوع به، وأنّه كتاب اللّه بالتواتر عن المعصوم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو الذي يجب الاعتقاد بما يثبته وعدم الاعتقاد بما ينفيه،
=>
____________
<=
وقد جاء ينفي السحر عنه (عليه السلام) حيث نسب القول بإثبات حصول السحر له إلى المشركين أعدائه، ووبخهم على زعمهم هذا، فإنّه ليس بمسحور قطعاً" تفسير جزء عم: 183.
وقال الجصاص: " وقد أجازوا من فعل الساحر ما هو أطم من هذا وأفظع، ذلك أنهم زعموا أنّ النبي (عليه السلام) سحر وأن السحر عمل في حتى قال فيه: إنّه يتخيل لي أنّي أقول الشيء وأفعله ولم أقله ولم أفعله... ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تعلباً بالحشو الطغام واستجراراً لهم إلى القول بابطال معجزات الأنبياء (عليهم السلام)، والقدح فيها، وأنّه لا فرق بين معجزات الأنبياء وفعل السحرة وأنّ جميعه من نوع واحد.
والعجب! ممّن يجمع بين تصديق الأنبياء (عليهم السلام) وإثبات معجزاتهم وبين التصديق بمثل هذا من فعل السحرة.. "، أحكام القرآن 1: 59.
وحكى الفخر الرازي في مفاتيح الغيب، 115 عن القاضي انّه قال: "هذه الرواية باطلة، وكيف يمكن القول بصحتها واللّه تعالى يقول { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ }، وقال: { وَلا يُفْلِحُ السّاحِرُ حَيْثُ أَتى }؟! ولأن تجويزه يقضي إلى القدح في النبوة، ولأنه لو صحّ ذلك لكان من الواجب أن يصلوا إلى الضرر لجميع الأنبياء والصالحين، ولقدروا على تحصيل الملك العظيم لأنفسهم، وكل ذلك باطل.
ولأنّ الكفّار كانوا يعيّرونه بأنّه مسحور، فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفّار صادقين في تلك الدعوى، ولحصل فيه (عليه السلام) ذلك العيب، ومعلوم أنّ ذلك غير جائز".
وقال الشيخ محمّد رشيد رضا في تفسير المنار 120: "إنّ كتاب البخاري لا
=>
____________
<=
يخلو من أحاديث قليلة في متونها نظر، قد يصدق عليه بعض ما عدوه من علامة الوضع كحديث سحر بعضهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي أنكره بعض العلماء كالأمام الجصاص من المفسرين المتقدّمين، والاستاذ محمّد عبده من المتأخّرين; لأنّه معارض بقوله تعالى: { إِذْ يَقُولُ الظّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً* انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الاَْمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً }.
1- صحيح البخاري: (كتاب السهو).
لا يخفى أنّ علماءنا اختلفوا في مسألة سهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ثلاثة أقوال:
1 ـ ما ذهب إليه جمهور المتكلّمين من منع ذلك، قال الشيخ المفيد في رسالة عدم سهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): 21 ـ بعد إثبات أنّ الأخبار المثبتة للسهو أخبار أحاد لا تثمر علماً ولا توجب عملا ـ: "وإذا كان الخبر بأنّ النبي (صلى الله عليه وآله) سها من أخبار الآحاد التي من عمل عليها كان بالظنّ عاملا، حرم الاعتقاد بصحته ولم يجز القطع به ووجب العدول عنه إلى ما يقتضيه اليقين من كماله (عليه السلام) وعصمته وحراسة اللّه تعالى له من الخطأ في عمله، والتوفيق له فيما قال وعمل به من شريعته".
وقال العلاّمة الحلّي في كشف المراد: 472: "ويجب في النبي كمال العقل... وأن لا يصحّ عليه السهو، لئلاّ يسهو عن بعض ما أُمر بتبليغه...".
2 ـ ما ذهب إليه الشيخ الصدوق وبعض الاخباريين كنعمة اللّه الجزائري ويوسف البحراني من اثبات ذلك.
3 ـ القول بالتوقّف، وهو قول العلاّمة المجلسي، حيث قال في البحار 17: 118: "إعلم أن هذه المسألة في غاية الإشكال، لدلالة كثير من الآيات والأخبار على صدور السهو عنهم (عليهم السلام)... وإطباق الأصحاب إلاّ ما شذّ منهم على عدم جواز السهو عليهم، مع دلالة بعض الآيات والأخبار عليه في الجملة، وشهادة بعض الدلائل الكلامية والأُصول المبرهنة عليه، مع ما عرفت في أخبار السهو من الخلل والاضطرار، وقبول الآيات للتأويل، واللّه يهدي إلى سواء السبيل"، وذكر نحوه في 25: 351 أيضاً.
ويروون: أنّه يغضب ويسبّ ويلعنُ من لا يستحقّ ذلك، فيقول: "اللّهم إنّما أنا بشرٌ، فأيُّ المسلمين لعنته أو سببتُهُ فاجعله له زكاة ورحمة..."(2).
ويروون: أنّه كان مضطجعاً في بيت عائشة كاشفاً عن فخذيه، ودخل عليه أبو بكر وتحدّث معه وهو على تلك الحال، ثمّ دخل عمر وتحدّث معه وهو على تلك الحال، ولمّا استأذن عثمان جلس وسوّى ثيابه، ولمّا سألته عائشة عن ذلك، قال لها: "ألا أستحي من رجُل تستحي منه الملائكة"(3)!!.
ويروون إنّه كان يصبح جُنباً في رمضان(4) فتفوته صلاة الفجر!! إلى غير ذلك من الأحاديث التى لا يقبلها عقل، ولا دين، ولا مروءة.
____________
1- صحيح البخاري 1: 169، كتاب الأذان، باب 57 و 58.
2- صحيح مسلم 8: 25، كتاب البرّ والصلة، باب 25 من لعنه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو سبّه.
3- صحيح مسلم 7: 117، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عثمان.
4- صحيح البخاري2: 234، كتاب الصوم، باب 25 اغتسال الصائم، وليس فيه: أنّ صلاته فاتته.
والشيعة يعتبرون الروايات التي رويتْ في هذا المعنى، والتي تتناقض مع عصمة الأنبياء كلّها، موضوعة من قبل الأمويين وأنصارهم(3):
____________
1- صحيح البخاري2: 3، كتاب العيدين، باب 2 الحراب والدرق يوم العيد.
2- مسند أحمد بن حنبل 6: 39.
3- وقد حاول عثمان الخميس في كتابه كشف الجاني: 148 البحث في مصادر الشيعة وجمع الروايات التي تنافي عصمة الأنبياء (عليهم السلام) ومقامهم الإلهي الرفيع، لكن ذهب بحثه أدراج الرياح، إذ لم يحصل على روايات صحيحة يؤمن الشيعة بها وتطعن بالأنبياء (عليهم السلام)، وكلّ ما أتى به من روايات هي كما قال عنها المؤلّف "موضوعة من قبل الأمويين" النواصب أعداء أهل البيت (عليهم السلام)، أو هي ضعيفة جدّاً، أو شاذة مخالفة للروايات الصحيحة الواردة بخلافها.
وسنذكر نموذجين للقارئ ليتضح له صحة كلام المؤلّف، وعليه إن شاء مراجعة بقية الروايات:
الرواية الأُولى التي ذكرها في كتابه: 148 والتي نقلها عن عيون أخبار الرضا، فقد قال الشيخ الصدوق بعدها: "وهذا الحديث غريب من طريق علي بن محمّد بن الجهم، مع نصبه وبغضه وعدواته لأهل البيت (عليهم السلام) "، عيون أخبار الرضا 1: 182.
والرواية الثانية التي نقلها عن تفسير القمّي وعن البحار، فإنّ لفظ: "فنظر لها النبي (صلى الله عليه وآله) فأعجبته" غير موجود في الرواية، وإنّما أضافها عثمان الخميس من عنده، مضافاً إلى أنّ صاحب البحار ينقل رواية عيون أخبار الرضا (عليه السلام) المتقدّمة، وهي التي رواها الناصبي علي بن محمّد بن الجهم.
وهكذا بقية الروايات التي أوردها، تجدها إما مروية عن النواصب، أو مكذوبة، أو ضعيفة، أو يضيف إليها عثمان الخميس من عنده كما فعل في رواية البحار وتفسير علي بن إبراهيم القمي.
وثانياً: لكي يلتمسوا عذراً لأعمالهم القبيحة وأخطائهم الشنيعة التي سجّلها لهم التاريخ.
فإذا كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطئُ ويميلُ مع الهوى، كما رووا ذلك في قصّة عشقه زينب بنت جحش لمّا رآها تمشط شعرها وهي
فإذا كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) على هذه الحالة، فلا لوم بعد ذلك على معاوية بن أبي سفيان ومروان بن الحكم وعمرو بن العاص ويزيد بن معاوية، وكلّ الخلفاء الذين فعلوا الموبقات واستباحوا الحرمات وقتلوا الأبرياء.
والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم أئمه الشيعة يقولون بعصمته (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويأوّلون الآيات القرآنية التي يُفهمُ ظاهرها أنّ اللّه سبحانه عاتب نبيّه مثل: { عَبَسَ وَتَوَلَّى }(3)، أو التي في بعضها إقرار الذنوب عليه كقوله: { لِـيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَـقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأخَّرَ }(4)، أو قوله: { لَقَدْ تَابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ }(5)، و { عَفَا اللّهُ عَنْكَ لِمَ أذِنتَ لَهُمْ }(6).
____________
1- تفسير القرطبي 14: 190.
2- صحيح مسلم7: 135، باب فضائل عائشة، من كتاب فضائل الصحابة.
3- عبس: 1.
4- الفتح: 2.
5- التوبة: 117.
6- التوبة: 43.
ومن أراد التفصيل والوقوف على حقيقة الأشياء فما عليه إلاّ الرجوع إلى كتب التفسير عند الشيعة، أمثال: الميزان في تفسير القرآن للعلاّمة الطباطبائي، وتفسير الكاشف لمحمّد جواد مغنية، والاحتجاج للطبرسي، وغيرهم; لأنّني رُمتُ الاختصار، وإبراز عقيدة الفريقين بصفة عامّة، وليس هذا الكتاب إلاّ لغرض بيان قناعتي الشخصية التي اقتنعتُ بها، واختياري الشخصي لمذهب يقول بعصمة الأنبياء والأوصياء من بعدهم ويُريحُ فكري، ويقطعُ عني طريق الشكّ والحيرة.
والقول بأنه معصوم فقط في تبليغ كلام اللّه قولٌ هُراءٌ لا حُجةَ فيه; لأنّه ليس هناك دليلٌ على أنّ هذا القسم من كلامه هو من عند اللّه، وذاك القسم هو من عند نفسه، فيكون في الأوّل معصوماً، ويكون في الثاني غير معصوم ويحتملُ فيه الخطأ.
أعوذ باللّه من هذا القول المتناقض الذي يبعثُ على الشكّ والطعن في قداسة الأديان.
ففكّر قليلاً ثم قال: ياجماعة، أنا عندي رأي في هذه المسألة.
فقلنا جميعاً: تفضّل هات ما عندك.
قال: إنّ ما يقوله أخونا التيجاني على لسان الشيعة هو الحقّ الصحيح، ويجبُ علينا الاعتقاد بعصمة الرسول المطلقة، وإلاّ داخلنا الشكّ في القرآن نفسه.
قالوا: ولم ذلك؟
أجاب على الفور: هل وجدتُم أيّ سورة من سور القرآن تحتها إمضاء اللّه تعالى؟
ويقصد بالإمضاء: الختمُ الذي يختمُ به العقود والرسائل، دلالة على هوية صاحبها وأنّها صادرة عنه.
____________
1- منطقة الجريد بالجنوب التونسي تبعد عن قفصة 92 كم، وهي مسقط رأس أبو القاسم الشابي الشاعر المعروف، والخضر حسين الذي ترأس الأزهر الشريف، والكثير من علماء تونس مولودون في هذه المنطقة (المؤلّف).
والخلاصة:
إنّ قول الشيعة في العصمة قولٌ سديد يطمئنّ إليه القلب ويقطع وساوس النفس والشيطان، ويقطع الطريق على كلّ المشاغبين، وخصوصاً أعداء الدين من اليهود والنصارى والملحدين الذين يبحثون عن ثغرات ينفذون منها لنسف معتقداتنا وديننا، والطعن في نبيّنا، فتراهم كثيراً ما يحتجّون علينا بما أورده صحيح البخاري ومسلم من أفعال وأقوال تنسبُ إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو منها بريءٌ(1).
____________
1- أخرج البخاري في صحيحه 3: 152 باب شهادة الأعمى، من كتاب الشهادات) قال: "حدّثنا ابن عبيد ميمون أخبرنا عيسى... عن عائشة قالت: سَمِعَ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجُلاً يقرأ في المسجد فقال: رحِمَهُ اللّه لقدْ أذكرني كذا وكذا أية أسقطتهنّ من سورة كذَا وكذَا...".
اقرأ واعجـب أيّها القاري من هذا الرسول الذي يسقط الآيات، ولولا هذا الأعمى الذي ذكّره بهنّ لكنّ في خبر كان!! أستغفر اللّه من هذا الهذيان (المؤلّف).
وهذا الكلام خطير طبعاً; لأنّ أهل السنّة والجماعة لا يقبلونه، فالبخاري عندهم أصحّ كتاب بعد كتاب اللّه!
____________
1- قال السيد محمد رشيد رضا في جواب سؤال حول صحيح البخاري ـ بعد ما نفى وجود الموضوعات فيه ـ قال: "ولكنّه لا يخلو من أحاديث قليلة في متونها نظر قد يصدق عليه بعض ما عدّوه من علامة الوضع.."، مجلة المنار 29: 104، عنه في أضواء على السنّة المحمدية لأبي رية: 305.
أمّا بالنسبة إلى صحيح مسلم، فقد قال الأستاذ أبو رية في أضواء على السنّة المحمدية: 309: "وقد بلغت الأحاديث التي انتقدت على مسلم 132، وعدد من انتقدوهم من رجاله 110"، ثمّ ذكر اعتراض أبي زرعة الرازي على مسلم.
وتقدم كلام الشيخ محمّد عبده وكلام الجصّاص وهما ينكران حديث سحر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويطعنان فيه، وأنّه موضوع كما قال الجصّاص; فهذا يدلّ على عدم إيمانهما بما في صحيح مسلم والبخاري، وأنّ فيهما المكذوب على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
العقيدة في الإمامة
عند الطرفين
والقصد من الإمامة في هذا البحث هي الإمامة الكبرى للمسلمين، أعني الخلافة والحكم، والقيادة والولاية.
وبما أنّ كتابي اعتمد في أبحاثه على المقارنة بين مذهب أهل السنّة والجماعة والشيعة الإمامية، لابدّ لي من إبراز مبدأ الإمامة عند الفريقين، حتّى يتبيّن للقارئ والباحث ما هي الأُسس والمعالم التي يرتكز عليها كلّ من الفريقين، ويعرف بالتالي القناعات التي ألزمتني بقبول التحوّل وترك ماكنتُ عليه.
فالإمامة عند الشيعة: هي أصل من أُصول الدين، لما لها من الأهمية الكبرى والخطورة العظمى، وهي قيادة خير أمة أخرجت للناس، وما تقوم عليه القيادة من فضائل عديدة وخصائص فريدة، أذكر منها: العلم، والشجاعة، والحلم، والنزاهة، والعفّة، والزهد، والتقوى، والصلاح.. الخ.
فالشيعة يعتقدون بأنّ الإمامة منصب إلهي يعهد به اللّه سبحانه إلى
وعلى هذا كان الإمام علي بن أبي طالب إماماً للمسلمين باختيار اللّه له، وقد أوحى لرسوله لكي ينصّبه علماً للناس، وقد نصّبه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ودلّ الأُمّة عليه وبعد حجّة الوداع في غدير خم، فبايعوه، هذا ما يقوله الشيعة.
أمّا أهل السنّة والجماعة فيقولون ـ أيضاً ـ بوجوب الإمامه لقيادة الأُمّة، ولكنّهم يجعلون للأُمة حقّ اختيار إمامها وقائدها، فكان أبو بكر بن أبي قحافه إماماً للمسلمين باختيار المسلمين أنفسهم له بعد وفاة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي سكت عن أمر الخلافة ولم يبيّن للأُمّة شيئا منها، وترك الأمر شورى بين الناس.
أين الحقيقه؟
إذا تأمّل الباحث في أقوال الطرفين، وتمعّن في حُجج الفريقين بدون تعصّب، فسوف يقترب من الحقيقة بدون شكّ.
وها أنا سوف أستعرض وإياكم الحقيقة التي وصلت إليها على النحو التالي:
1 ـ الإمامة في القرآن الكريم:
قال اللّه تعالى: { وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي
في هذه الآية الكريمة يبيّن اللّه لنا بأنّ الإمامة منصبٌ إلهي يعطيه اللّه لمن يشاء من عباده لقوله: { جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً }، كما توضّح الآية بأنّ الإمامة هي عهد من اللّه لا يناله إلاّ العباد الصالحين الذين اصطفاهم اللّه لهذا الغرض; لانتفائه عن الظالمين الذين لا يستحقّون عهده سبحانه وتعالى.
وقال تعالى: { وَجَعَلْنَاهُمْ أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنَا وَأوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإقَامَ الصَّلاةِ وَإيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَـنَا عَابِدِينَ }(2).
وقال سبحانه وتعالى: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }(3).
وقال أيضاً: { وَنُرِيدُ أنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ }(4).
وقد يتوهّم البعض بأنّ مدلول الآيات المذكورة يُفهم منها بأنّ
____________
1- البقرة: 124.
2- الأنبياء: 73.
3- السجدة: 24.
4- القصص: 5.
ولهذا الغرض أوضح اللّه سبحانه تعالى في كتابه العزير بأنّ عباده الصالحين يمكن لهم أن يسألوه هذا المنصب الشريف ليتشرّفوا بهداية الناس وينالوا بذلك الأجر العظيم، قال تعالى: { وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً * وَالَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّـنَا هَبْ لَـنَا مِنْ أزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أعْيُن وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَاماً }(1).
كما أنّ القرآن الكريم استعمل لفظ الإمامة للتدليل على القادة والحكّام الظالمين الذين يُضلّون أتباعهم وشعوبهم، ويقودونهم إلى الفساد والعذاب في الدنيا والآخرة، فقد جاء في الذكر الحكيم حكاية عن فرعون وجنوده قوله تعالى: { فَأخَذْنَاهُ وَجُـنُودَهُ فَـنَبَذْنَاهُمْ فِي اليَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ* وَجَعَلْنَاهُمْ أئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَيَوْمَ القِيَامَةِ لا يُـنصَرُونَ * وَأتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِنَ المَقْبُوحِينَ }(2).
____________
1- الفرقان: 72 ـ 74.
2- القصص: 40 ـ 42.
وبما أنّ غير علي من صحابة النبي قد أشركوا فترة ما قبل الإسلام، فإنهم بذلك يصبحون من الظالمين، فلا يستحقّون عهد اللّه لهم بالإمامة والخلافة.
ويبقى قول الشيعة بأنّ الإمام علي بن أبي طالب استحقّ وحده دون سائر الصحابة عهد اللّه بالإمامة; لأنّه لم يَعبُد إلاّ اللّه، وكرّم اللّه وجهه دون الصحابة، لأنّه لم يسجد لصنم.
وإذا قيل بأنّ الإسلام يجبّ ما قبله.
قلنا: نعم، ولكن يبقى الفرق كبيراً بين من كان مشركاً وتاب، ومن كان نقيّاً خالصاً لم يعرف إلاّ اللّه.
2 ـ الإمامة في السنّة النبوية:
قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الإمامة أقوالاً متعدّدة، رواها كلّ من الشيعة والسنّة في كتبهم ومسانيدهم، فمرّةً تحدّث عنها بلفظ الإمامة، ومرّة بلفظ الخلافة، وأُخرى بلفظ الولاية أو الإمارة.
جاء في الإمامة قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "خيار أئمتكم الذين تحبّونهم
فقال: "لا ما أقاموا فيكم الصلاة"(1).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): "يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنونّ بسنّتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس"(2).
وجاء في الخلافة قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا يزال الدين قائماً حتّى تقوم الساعة، أو يكون عليكم إثنا عشر خليفة كلّهم من قريش"(3).
وعن جابر بن سمرة قال: سمعتُ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: "لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة" ثمّ قال كلمة لم أفهمها، فقلتُ لأبي: ما قال؟ فقال: "كلّهم من قريش"(4).
وجاء في الإمارة قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون،
____________
1- صحيح مسلم 6: 24، كتاب الإمارة، باب خيار الأئمة وشرارهم.
2- صحيح مسلم 6: 20، كتاب الامارة، باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن.
3- صحيح مسلم 6: 4، كتاب الامارة، باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش.
4- المصدر نفسه.
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) في لفظ الإمارة أيضاً: "يكون اثنا عشر أميراً... كلّهم من قريش"(2).
وجاء عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) محذّراً أصحابه: "ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعةُ وبئستِ الفاطمةُ"(3).
وجاء الحديث أيضاً بلفظ الولاية:
قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): "ما من وال يَلي رعيّة من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلاّ حرّمَ اللّه عليه الجنّة"(4).
كما حدّث (صلى الله عليه وآله وسلم) بلفظ الولاية: "لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً كلّهم من قريش"(5).
وبعد هذا العرض الوجيز عن مفهوم الإمامة أو الخلافة التي
____________
1- صحيح مسلم 6: 23، كتاب الإمارة، باب وجوب الإنكار على الأُمراء.
2- صحيح البخاري 8: 127،كتاب الأحكام، باب الاستخلاف.
3- صحيح البخاري 8: 107، كتاب الأحكام، باب مايكره من الحرص على الإمارة.
4- صحيح البخاري 8: 107، كتاب الأحكام، باب من استرعى رعية فلم ينصح.
5- صحيح مسلم 6: 3، كتاب الامارة، باب الخلافة في قريش.
وعن الشعبي عن مسروق قال: "بينما نحن عند ابن مسعود نعرض مصاحفنا عليه، إذ قال له فتى: هل عهد إليكم نبيّكم كم يكون من بعده خليفة؟ قال: إنّك لحديث السنّ، وإنّ هذا شيء ما سألني عنه أحد قبلك، نعم عهد إلينا نبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّه يكون بعده اثنا عشر خليفة بعدد نقباء بني إسرائيل..."(2).
وبعد هذا فلنستعرض أقوال الفريقين على صحّة إدّعاء كلّ منهما من خلال النصوص الصريحة، كما نناقش تأويل كلّ منهما في هذه المسألة الخطيرة التي فرّقت المسلمين من يوم وفاة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يومنا هذا، وقد نشأ من ذلك اختلاف المسلمين إلى مذاهب
____________
1- ينابيع المودة 2: 315 و 3: 290.
2- ينابيع المودة 3: 290.
فكلّ خلاف وقع بين المسلمين، سواء في الفقه أو في التفسير للقرآن أو في فهم السنّة النبوية الشريفة، منشؤه وسببه الخلافة، وما أدراك ما الخلافة، التي أصبحت بعد السقيفة أمراً واقعاً يُستنكر بسببها أحاديث صحيحة وآيات صريحة، وتُختَلقُ من أجل تثبيتها وتصحيحها أحاديث أُخرى لا أساس لها في السنّة النبوية الصحيحة.
وهذا يذكّرني بإسرائيل، والأمر الواقع ذلك أنّ الرؤساء والملوك العرب اجتمعوا واتفقوا أن لا اعتراف بإسرائيل ولا تفاوض معها ولا سِلْم، فما أُخِذَ بالقوّة لا يستردّ بغير القوة، وبعد سنوات قليلة اجتمعوا من جديد ليقطعوا هذه المرّة علاقاتهم مع مصر التي اعترفت بالكيان الصهيوني، وبعد سنوات قليلة أعادوا علاقاتهم مع مصر ولم يطعنوا بعلاقتها بإسرائيل، مع أنّ إسرائيل لم تعترف بحقّ الشعب الفلسطيني، ولم تغيّر شيئاً من موقفها، بل زادت في تعنّتها وضاعفت قمعها للشعب الفلسطيني، فالتاريخ يعيد نفسه، وقد اعتاد العربُ التسليم بالأمر الواقع.