19 ـ فرائد السمطين للحمويني 1: 185.
20 ـ فتح البيان في مقاصد القرآن للعلاّمة سيد صديق حسن خان 3: 63.
فهذا نزرٌ يسيرٌ ممّن يحضرني، وهناك أضعاف هؤلاء من علماء أهل السنّة ذكرهم العلاّمة الأميني في كتاب الغدير.
فماذا ياتُرى فعل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما أمره ربّه بإبلاغ ما أنزل إليه؟
يقول الشيعة: بأنّه جمع الناس على صعيد واحد في ذلك المكان وهو غدير خمّ، وخطبهم خطبة بليغة طويلة، وأشهدهم على أنفسهم، فشهدوا بأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أولى بهم من أنفسهم، وعند ذلك رفع يد علي بن أبي طالب وقال: "من كنتُ مولاه فهذا علي مولاه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيث دار"(1).
____________
1- وهو مايسمّى بحديث الغدير، وقد أخرجه علماء الشيعة وعلماء السنّة على حد سواء (المؤلّف).
وبهذا اللفظ تجده في: الملل والنحل للشهرستاني 1: 163، والسيرة الحلبية 3: 384، والصواعق المحرقة 1: 106، وفي مستدرك إحقاق الحقّ 6: 292 عن إسعاف الراغبين والعقد الفريد.
وقد ذكر الشيخ ناصر الدين الألباني حديث "من كنت مولاه"، وأثبت صحته، بل أثبت أنّ قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "من كنت مولا فهذا علي مولاه" متواتر، وردّ على ابن تيمية في تضعيفه للحديث، راجع الصحيحة 4: 330 ح1750.
____________
1- راجع لكلامهما في التهنئة لعليّ بالولاية: المصنّف لابن أبي شيبة 7: 503 ح55، المناقب للخوارزمي: 156 ح183، مسند أحمد 4: 281، تاريخ بغداد 8: 284، تاريخ دمشق 42: 221، سير أعلام النبلاء 19: 328، فيض القدير للمناوي 6: 282، تفسير الفخر الرازي 4: 401.
ثمّ إنّه لا يقال إنّ سبب واقعة الغدير حدوث نزاع بين أحد الصحابة وبين علي بن أبي طالب، فأراد النبي (صلى الله عليه وآله) إيقاف النزاع فتكلّم بذلك الكلام.
وذلك لأمور:
أولا: إنّ الآية القرآنية تنصّ على أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) إن لم يبلّغ الناس بهذا الأمر فهو لم يبلّغ شيئاً من الرسالة الإسلامية، ويكون خلال السنين السالفة كأنّما لم يفعل شيئاً، ولم يبلّغ عن اللّه سبحانه وتعالى، فالآية تنصّ على أنّ هذا الأمر المأمور بتبليغه من صلب الدين وأنّ رسالة السماء مرتبطة به، فكيف بعد هذا يكون الأمر بالتبليغ لأجل قضية شخصية، مع أنّ القضايا الشخصية لا مدخلية لرسالة السماء فيها، وأيّ ربط بين رسالة عالمية خالدة بقضية شخصية حدثت أمام مجموعة من المسلمين؟!
ثانياً: لو سلّمنا ذلك، فلا داعي لإيقاف هذا الجمع الغفير من الحجّاج في ذلك الحرّ الشديد لأجل قضية شخصية جرت بين بعض الصحابة وعلي بن أبي طالب، إذ كان بإمكانه (صلى الله عليه وآله وسلم) حلّ المسألة أمام من شهدها، بلا حاجة لإيقاف عموم المسلمين القافلين من الحجّ.
ثالثاً: القضيّة الشخصية التي وقعت للإمام علي مع بعض الصحابة كانت في اليمن، حيث حصل خلاف حول جارية في السبي أو حول إبل الصدقة، وأُولئك النفر لم يشهدوا الحجّ حتى يوقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الجمع الغفير للمصالحة بينهم.
والخلاصة: إن جميع الأدلّة والقرائن تدلّ دلالة صريحة لا غبار عليها على أنّ قضية غدير خم قضية إلهية مرتبطة بروح الدين الإسلامي وأُسسه، وأنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد من ذلك الموقف العظيم تبليغ أمر سماوي إلهي وهو الولاية لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) وخلافته بعد رحيله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما يثار خلاف ذلك ما هو إلاّ تخرصات وأراجيف للدفاع عن الباطل المهزول.
هذا مايقوله الشيعة، وهو عندهم من المسلّمات، ولا يختلف فيه عندهم اثنان.
فهل لهذه الحادثة ذكرٌ عند أهل السنّة والجماعة؟
وحتى لا ننحاز إليهم ويُعحبنا قولهم، فقد حذّرنا اللّه سبحانه بقوله: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ ألَدُّ الخِصَامِ }(1).
____________
1- البقرة: 204.
والجواب: نعم، إنّ كثيراً من علماء أهل السنّة يذكرون هذه الحادثة بكلّ أدوارها، وها هي بعض الشواهد من كتبهم:
1 ـ أخرج الإمام أحمد بن حنبل من حديث زيد بن أرقم قال: نزلنا مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بواد يقال له وادي خم، فأمر بالصلاة فصلاّها بهجير، قال: فخطبنا، وظلّل لرسول اللّه بثوب على شجرة سمرة من الشمس فقال: "ألستم تعلمون، أو ألستم تشهدون أنّي أولى بكلّ مؤمن من نفسه؟" قالوا: بلى، قال: "فمن كنتُ مولاه فعليّ مولاه، اللَّهم وال من والاه وعاد من عاداه..."(1).
2 ـ أخرج الإمام النسائي في كتاب الخصائص عن زيد بن أرقم قال: لمّا رجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من حجّة الوداع، ونزل غدير خم، أمر بدوحات فقممن، ثمّ قال: "كأنّي دُعيت فأجبتُ، وإنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض"، ثم قال: "إنّ اللّه مولاي وأنا وليّ كلّ مؤمن"، ثم إنّه أخذ
____________
1- مسند أحمد بن حنبل 4: 372، وصرّح محقّق الكتاب بصحة الحديث، والمصنّف لابن أبي شيبة 7: 503 ح55، وسنن النسائي 5: 131 ح8469.
3 ـ أخرج الحاكم النيسابوري عن زيد بن أرقم من طريقين صحيحين على شرط الشيخين قال: لمّا رجع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) من حجّة الوداع ونزل غدير خمّ، أمر بدوحات فقممن فقال: "كأنّي دعيتُ فأجْبتُ، وإنّي تركتُ فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللّه تعالى وعترتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنّهما لم يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض"، ثم قال: "إنّ اللّه عزّ وجلّ مولاي وأنا مولى كلّ مؤمن"، ثمّ أخذ بيد علي فقال: "من كنتُ مولاه فهذا وليّه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه..."(2).
4 ـ كما أخرج هذا الحديث مسلم في صحيحه يُسْنده إلى زيد بن أرقم ولكنّه اختصره فقال: قام رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً فينا خطيباً بماء
____________
1- خصائص النسائي: 93، ورواه أيضاً في سننه 5:130 ح8464.
2- مستدرك الصحيحين 3: 109، وقال "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرّجاه بطوله"، وسكت عنه الذهبي، وانظر: السنن الكبرى للنسائي 5: 45 ح8148، والبداية والنهاية 5: 228 وقال: "تفرّد به النسائي من هذا الوجه، وقال شيخنا أبو عبد اللّه الذهبي": "وهذا حديث صحيح".
تعليق:
بالرغم من أنّ الإمام مسلم اختصر الحادثة ولم يروها بكاملها، إلاّ أنّها بحمد اللّه كافية وشافية، ولعلّ الاختصار كان من زيد بن أرقم نفسه لمّا اضطرّته الظروف السياسية إلى كتمان حديث الغدير، وهذا نفهمه من سياق الحديث إذ يقول الراوي:
انطلقتُ أنا وحُصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلمّا جلسنا إليه قال له حُصين: لقد لقيتَ يازيد خيراً كثيراً، رأيتَ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسمعتَ حديثه، وغزوتَ معه، وصلّيتَ خلفه، لقد لقيتَ يازيدُ خيراً كثيراً، حدّثنا يازيد ماسمعت من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم).
قال: يا بن أخي واللّه لقد كبرتْ سنّي، وقدُمَ عهدي، ونسيتُ بعض الذي كنتُ أعِي من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فما حدّثتكم فاقبلوا، وما لا فلا
____________
1- صحيح مسلم 7: 123، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب، مسند أحمد 4: 367، السنن الكبرى للنسائي 10: 114.
ثمّ قال: قام رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خُمَّا....
فيبدو من سياق الحديث أنّ حُصيناً سأل زيد بن أرقم عن حادثة الغدير، وأحرجه أمام الحاضرين بهذا السؤال، وكان بدون شكّ يعلم بأنّ الجواب صريح على ذلك يسبّب له مشاكل مع الحكومة التي كانت تحمِلُ الناس على لعن علي بن أبي طالب، ولهذا نجده يعتذر للسائل بأنّه كبُرتْ سنّه، وقدُم عهده، ونسي بعض الذي كان يَعِي، ثم يُضيف طالباً من الحاضرين بأن يقبلوا مايحدّثهم به، ولا يكلّفوه ما يريد السكوت عنه.
ومع خوفه، ومع اختصاره للحادثه واقتضابها، فقد أوضح زيد بن أرقم ـ جزاه اللّه خيراً ـ كثيراً من الحقائق، وألمحَ لحديث الغدير بدون ذكره، وذلك قوله: "قام فينا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) خطيباً بماء يدعى خُمًّا بين مكة والمدينة"، ثمّ بعد ذلك ذكر فضل علي، وأنّه شريك القرآن في حديث الثقلين "كتاب اللّه وأهل بيتي" بدون أن يذكر اسم علي، وترك للحاضرين أن يستنتجوا ذلك بذكائهم; لأنّ كلّ المسلمين يعرفون أنّ علياً هو سيّد أهل بيت النبوة.
ولذلك نرى حتّى الإمام مسلم نفسه فهم من الحديث مافهمناه وعرف ماعرفناه، فتراه يخرج هذا الحديث في فضائل علي بن أبي طالب، رغم أنّ الحديث ليس فيه ذكر لاسم علي بن أبي طالب.
ثمّ قال: "يا أيّها الناس إنّ اللّه مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنتُ مولاه فهذا مولاه ـ يعني علياً ـ اللّهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه".
ثمّ قال: "يا أيها الناس إنّي فرطكم، وإنّكم واردون عليَّ الحوض، حوض أعرض ما بين بصرى إلى صنعاء، فيه عدد النجوم قدحان من فضّة، وإنّي سائلكم حين تردون عليَّ عن الثقلين، كيف تخلّفوني فيهما، الثقل الأكبر كتاب اللّه عزّ وجلّ سبب طرفه بيد اللّه تعالى وطرفه بأيديكم، فاستمسكوا به لا تضلّوا ولا تبدّلوا، وعترتي أهل بيتي، فإنه نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن ينقضيا حتى يردا عليَّ
____________
1- المعجم الكبير للطبراني 3: 180 ح3052، وعنه الصواعق المحرقة 1: 108 الشبهة الحادية عشر، ونصّ على صحة سنده وقال: "ولفظه عند الطبراني وغيره بسند صحيح أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) خطب بغدير خم..."، وأيضاً في مجمع الزوائد 9: 165 وقال: "وفيه زيد بن الحسن الأنماطي قال أبو حاتم: منكر الحديث، ووثقه ابن حبان"، وبقية رجال أحد الإسنادين ثقات.
وما ذكره في كشف الجاني: 154 من أنّ الحديث ضعيف جدّاً، ناشئٌ من التعصّب والافتراء، وذلك: لأنّ زيد بن الحسن الأنماطي لم يضعفه إلاّ أبو حاتم، ووثّقه ابن حبّان، وأبو حاتم من المعروفين بالتشدّد في الرجال كما ذكر ذلك الذهبي في كتابه الموقظة: ص120، وأمّا الذهبي فقد ذكره في ميزان الاعتدال 2 / 101 واقتصر على نقل توثيق ابن حبان وتضعيف أبي حاتم، نعم في كتاب من له رواية في كتب الستة 1 / 416 ذكر ضعفه، ولم يحكم بأنّه منكر الحديث كما قال عثمان الخميس.
وبعد الرجوع إلى موازين الذهبي الرجالية نجد أنّ هذا التضعيف ناشئ من تعصّبه وتحامله على فضائل أهل البيت (عليهم السلام)، وذلك واضح لمن يرجع إلى كتاب تلخيص فضائل علي بن أبي طالب في المستدرك ليرى بأُمّ عينيه، حتى اضطره التعصب إلى استحداث قواعد رجالية جديدة، فقد مرّ على رواية رواتها ثقات لا يستطيع الطعن بهم، فطعن بالرواية من خلال ضابطة رجالية جديدة، فقال: "كذب يشهد القلب بوضعه"، فصار القلب من الموازين التي يرجع إليها في وضع الحديث وعدمه!!
وأمّا ابن حجر العسقلاني فأيضاً في تهذيب التهذيب 3: 350 اقتصر على نقل تضعيف أبي حاتم وتوثيق ابن حبّان ولم يضف عليها شيئاً.
نعم، في تقريب التهذيب 1: 327 حكم بضعفه، إلاّ أنّ هذا التضعيف لا يمكن الأخذ به، لنفس الكلام المتقدّم حول تضعيف الذهبي، ولشيء آخر وهو: إنّ ابن حجر يعتمد على الذهبي كثيراً في المسائل الرجالية، وعليه فالحديث صحيح لاغبار عليه ولا يمكن الطعن فيه، مهما حاول أعداء أهل البيت ذلك.
وحديث الغدير من الأحاديث الثابتة التي لا يطعن فيها، بل هو متواتر قال العلاّمة أحمد شاكر محقّق مسند أحمد 1: 56: "وأمّا متن الحديث [ أي حديث الغدير ] فإنّه صحيح، ورد عن طرق كثيرة، ذكر المناوي في شرح الجامع الصغير في الحديث 900 عن السيوطي أنّه قال: حديث متواتر... ".
وباختصار، فقد روى حديث الغدير من أعلام أهل السنّة زيادة عمّن ذكرنا: الترمذي، وابن ماجة، وابن عساكر، وأبو نعيم، وابن
____________
1- مسند أحمد 4: 281، وصرّح محقق الكتاب بصحة الحديث، وانظر المصنّف لابن أبي شيبة 7: 503 ح55.
على أنّ العلاّمة الأميني صاحب كتاب الغدير ذكر من علماء أهل السنّه والجماعة الذين رووا حديث الغدير وأخرجوه في كتبهم على اختلاف طبقاتهم ومذاهبهم في القرن الأوّل للهجرة وحتى القرن الرابع عشر، فكان عددهم يزيد عن ثلاثمائة وستّين عالماً، ولمن أراد التحقيق فعليه بمراجعة كتاب الغدير(1).
أفيمكن بعد كلّ هذا أن يقول قائل بأنّ حديث الغدير هو من مختلقات الشيعة.
والعجب الغريب أنّ أغلب المسلمين عندما تذكر له حديث الغدير لا يعرفه، أو قل لمْ يسمع به! والأعجب من هذا كيف يدّعي علماء أهل السنّة بعد هذا الحديث المجمع على صحّته بأنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يستخلف وترك الأمر شورى بين المسلمين؟!
فهل هناك للخلافة حديث أبلغ من هذا وأصرح يا عباد اللّه؟
وإني لأذكر مناقشتي مع أحد علماء الزيتونة في بلادنا عندما
____________
1- كتاب الغدير للعلاّمة الأميني في أحد عشر مجلداً، وهو كتاب قيّم جمع فيه صاحبه كلّ ما يتعلّق بحديث الغدير من كتب أهل السنّة والجماعة (المؤلّف).
"وتزعم الشيعة بأنّ هذا الحديث هو نصّ على خلافة سيّدنا عليّ كرّم اللّه وجهه، وهو باطل عند أهل السنّة والجماعة، لأنّه يتنافى مع خلافة سيّدنا أبي بكر الصديق، وسيّدنا عمر الفاروق، وسيّدنا عثمان ذي النورين، فلابدّ من تأويل لفظ المولى الوارد في الحديث على معنى المحبّ والناصر، كما ورد ذلك في الذكر الحكيم، وهذا ما فهمه الخلفاء الراشدون والصحابة الكرام رضي اللّه تعالى عليهم أجمعين، وهذا ما أخذه عنهم التابعون وعلماء المسلمين، فلا عبرة لتأويل الرافضة لهذا الحديث; لأنّهم لايعترفون بخلافة الخلفاء، ويطعنون في صحابة الرسول، وهذا وحده كاف لردّ أكاذيبهم وإبطال مزاعمهم. انتهى كلامه في الكتاب.
سألته: هل الحادثة وقعتْ بالفعل في غدير خم؟
أجاب: لو لم تكن وقعتْ ما كان ليرويها العلماء والمحدّثون!
قلتُ: فهل يليق برسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجمع أصحابه في حرّ الشمس المحرقة، ويخطب لهم خطبة طويلة ليقول لهم بأنّ علي محبّكم وناصركم؟ فهل ترضون بهذا التأويل؟
قلتُ: هذا لا يتطلّب إيقافهم جميعاً والصلاة بهم، وبدأ الخطبة بقوله: "ألستُ أولى بكم من أنفسكم" لتوضيح معنى المولى، وإذا كان الأمر كما تقول فكان بإمكانه أن يقول لمن اشتكى منهم عليّاً: إنّه محبّكم وناصركم، وينتهي الأمر بدون أن يحبس في الشمس تلك الحشود الهائلة، وهي أكثر من مائة ألف فيهم الشيوخ والنساء، فالعقل لا يقنع بذلك أبداً!
فقال: وهل العاقل يصدّق بأنّ مائة ألف صحابي لم يفهموا مافهمتَ أنتَ والشيعة؟
قلتُ:
أولاً: لم يكن يسكن المدينة المنوّرة إلاّ قليلٌ منهم.
وثانياً: إنّهم فهموا بالضبط مافهمتهُ أنا والشيعة، ولذلك روى العلماء بأنّ أبا بكر وعمر كانا من المهنّئين لعلي بقولهم: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أمسيت وأصبحت مولى كل مؤمن.
قال: فلماذا لم يبايعوه إذاً بعد وفاة النبىّ، أتراهم عصوا وخالفوا
____________
1- قد تقدّم ذكر هذا الإشكال والإجابة عليه، فراجع.
قلتُ: إذا كان العلماء من أهل السنّة يشهدون في كتبهم بأنّ بعضهم ـ أعني من الصحابة ـ كانوا يخالفون أوامر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته وبحضرته(1)، فلا غرابة في ترك أوامره بعد وفاته، وإذا كان أغلبهم يطعنُ في تأميره أُسامة بن زيد لصغر سنّه، رغم أنّها سريّة محدودة ولمدّة قصيرة، فكيف يقبلون تأمير عليّ على صغر سنّه ولمدّة الحياة، وللخلافة المطلقة؟ ولقد شهِدتَ أنتَ بنفسك بأنّ بعضهم كان يبغض علياً ويحقد عليه!!
أجابني متحرّجاً: لو كان الإمام عليّ كرّم اللّه وجهه ورضي اللّه عنه يعلَمُ أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) استخلفه ما كان ليسكتَ عن حقّه، وهو الشجاع الذي لا يخشى أحداً ويهابه كلّ الصحابة.
قلتُ: سيّدي هذا موضوع آخر لا أُريد الخوض فيه، لأنّك لم تقتنع بالأحاديث النبوية الصحيحة، وتحاول تأويلها وصرفها عن معناها حفاظاً عل كرامة السلف الصالح، فكيف أقنعك بسكوت الإمام عليّ، أو باحتجاجه عليهم بحقّه في الخلافة؟
ابتسم الرجل قائلاً: أنا واللّه من الذين يفضّلون سيدنا علياً كرّم
____________
1- صحيح البخاري ومسلم، إذ أخرجا عدّة مخالفات لهم، كما في صلح الحديبية، وكما في رزية يوم الخميس، وغير ذلك كثير (المؤلّف).
ابتسمتُ بدوري له وقلتُ: وهذا أيضاً موضوع آخر يجرّنا للحديث عن القضاء والقدر، وقد سبق لنا أن تحدّثنا فيه وبقي كلٌّ منّا على رأيه، وإنّي لأعجب ياسيّدي لماذا كلّما تحدّثتُ مع عالم من علماء أهل السنّه وأفحمته بالحجّة سرعان ما يتهرّب من الموضوع إلى موضوع آخر لا علاقة له بالبحث الذي نحن بصدده.
قال: وأنا باق على رأيي لا أغيّره.
ودّعته وانصرفتُ، وبقيت أفكّرُ مليّاً لماذا لا أجد واحداً من علمائنا يكمل معي هذا المشوار، ويوقف الباب على رجله كما يقول المثل الشائع عندنا.
فالبعض يبدأ الحديث وعندما يجد نفسه عاجزاً عن إقامه الدليل على أقواله يتملّص بقوله: تلك أُمّة قد خلتْ لها ما كسبتْ ولكم ما كسبتم، والبعض يقول: مالنا ولإثاره الفتن والأحقاد فالمهم أنّ السنّة والشيعة يؤمنون بإله واحد ورسول واحد وهذا يكفي، والبعض يقول بإيجاز: يا أخي اتق اللّه في الصحابة.
وأين هؤلاء من أُسلوب القرآن الذي يدعو الناس لإقامه الدليل: { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ }(1)، مع العلم بأنّهم لو يتوقّفون عن طعنهم وتهجّمهم على الشيعة لما ألجأونا للجدال معهم حتّى بالتي هي أحسن.
[ 3 ] ـ آية إكمال الدين تتعلّق أيضاً بالخلافة:
قوله سبحانه وتعالى: { اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً }(2).
يجمع الشيعة على نزولها بغدير خم بعد تنصيب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للإمام عليّ خليفة للمسلمين، وذلك رواية عن أئمة العترة الطاهرة، وبذلك تراهم يعدّون الإمامة من أُصول الدين.
ورغم أنّ الكثير من علمائنا يروون نزولها في غدير خم بعد تنصيب الإمام عليّ، أذكر منهم على سبيل المثال:
1 ـ تاريخ دمشق لابن عساكر 2: 75.
____________
1- البقرة: 111.
2- المائدة: 3.
3 ـ تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 8: 290.
4 ـ الإتقان للسيوطي 1: 31.
5 ـ المناقب للخوارزمي الحنفي: 80.
6 ـ تذكره الخواص لسبط ابن الجوزي: 30.
7 ـ تفسير ابن كثير 2: 14.
8 ـ روح المعاني للآلوسي 6: 55(1).
9 ـ البداية والنهاية لابن كثير الدمشقي 5: 213(2).
____________
1- نسب الآلوسي رواية أبي سعيد الخدري في نزولها في غدير خم إلى الشيعة وقال: "إنّ هذا من مفترياتهم، وركاكة الخبر شاهدة على ذلك".
ولكن لا مجال لقبول قوله بعد ما عرفت روايتها عند مصادر أهل السنّة من طرق متعدّدة ليس فيها أبو سعيد الخدري، فليست الرواية من مفتريات الشيعة، ولا ركاكة فيها حسب ما يزعم، فإنّها خالية عن أيّ تعقيد وغموض وتكلّف في البيان، حالها حال سائر الروايات الصحيحة الواردة عندهم، وبإمكان أيّ شخص ردّ أيّ خبر لا يهواه بهذه الطريقة غير العلمية.
2- روى ابن كثير نزولها في غدير خم عن ضمرة، عن ابن شوذب، عن مطر الوراق، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة، وقال: "إنّه حديث منكر جداً، بل كذب، لمخالفته لما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن هذه الآية نزلت يوم الجمعة يوم عرفة...".
ويرد عليه أولا: إنّ رجال الحديث الذي رواه كلّهم ممن روى عنه أصحاب الصحاح عند أهل السنّة، فسنده صحيح لا غبار عليه، كما حقّقه العلاّمة الأميني في الغدير 1: 694، فراجع.
ثانياً: إنّ معارضته بما ورد عن عمر من نزولها بعرفة لا يجعل الحديث منكراً أو كذباً، ولا أدري بأيّ مرجّح رجّح أحد الصحيحين على الآخر.
ولو سلّمنا ـ جدلا ـ نزولها بعرفة، لكن قد تكون من الآيات التي نزلت مرّتين، كما ذهب إلى ذلك سبط ابن الجوزي في تذكرته: 30.
11 ـ ينابيع المودة للقندوزي الحنفي: 115.
12 ـ شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي 1: 157(1).
أقول: رغم ذلك لابدّ لعلماء أهل السنّة من صرف هذه الآية إلى مناسبة أخرى، وذلك للحفاظ على كرامة السلف الصالح من الصحابة، وإلاّ لو سلّموا بنزولها في غدير خمّ لاعترفوا ضمنياً بأنّ ولاية علي بن أبي طالب هي التي أكمل اللّه بها الدين وأتمّ بها على المسلمين نعمته، ولتبخّرت خلافة الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه،
____________
1- وممّن روى نزولها في غدير خم كما ذكرهم العلاّمة الأميني في الغدير 1: 447: الطبري في كتاب الولاية، والحافظ ابن مردويه، والحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتاب ما نزل من القرآن في عليّ، والحافظ أبو سعيد السجستاني في كتاب الولاية، وأبو الفتح النطنزي في كتاب الخصائص العلوية، وشيخ الإسلام الحمّوئي الحنفي في فرائد السمطين في الباب الثاني عشر، والبدخشي في مفتاح النجا.
وهذا أمر مستحيل وخطبٌ فادحٌ! لأنه يتعلّق بعقيدة أُمّة كبيرة لها تاريخها وعلماؤها وأمجادها، فلا يمكن لنا تكذيب أمثال البخاري ومسلم الذين يروون بأنّ الآية إنّما نزلت عشية عرفة في يوم الجمعة.
وبمثل ذلك تصبح الروايات الأُولى مجرّد خرافات شيعيّة لا أساس لها من الصحّة، ويصبح الطعن على الشيعة أولى من الطعن على الصحابة، فهؤلاء معصومون عن الخطأ(1) ولا يمكن لأيّ إنسان أن ينتقد أفعالهم وأقوالهم، أمّا أولئك الشيعة فهم مجوس، كفّار، زنادقة وملحدون، ومؤسّس مذهبهم هو عبداللّه بن سبأ(2)، وهو يهودي أسلم في عهد عثمان ليكيد للمسلمين وللإسلام.
وهذا أسهل بكثير للتمويه على الأُمة التي تربّت على تقديس
____________
1- لأنّهم يعتقدون بأنّ الصحابة كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم (المؤلّف).
2- اقرأ كتاب عبداللّه بن سبأ للعلاّمة العسكري لتعرف بأنّه لا وجود له، وهو من مختلقات سيف بن عمر التميمي المشهور بالوضع والكذب، واقرأ كتاب الفتنه الكبرى لطه حسين، وإن شئت فاقرأ كتاب الصلة بين التصوف والتشيع للدكتور مصطفى كامل الشيبي لتعرف بأن عبداللّه بن سبأ هذا ليس غير سيّدنا عمار بن ياسر رضي اللّه تعالى عنه (المؤلّف).
وأنّى لنا أن نقنعهم بأنّ تلك الروايات ليست خرافات شيعية، وإنّما هي من أحاديث الأئمة.. الاثني عشر الذين نصّ رسول اللّه على إمامتهم، الذين نجحت الحكومات الإسلامية في القرن الأوّل في غرس حبّ واحترام الصحابة مقابل التنفير من عليّ وبنيه، حتى لعنتهم على المنابر، وتتبّعت شيعتهم بالقتل والتشريد، فنشأ من ذلك بغض وكراهية لكلّ الشيعة، لما روّجتْهُ وسائل الإعلام في عهد معاوية من إشاعات وخزعبلات وعقائد فاسدة ضدّ الشيعة، وهم ـ الحزب المعارض ـ كما يسمّى عندنا اليوم، لعزلهم والقضاء عليهم.
ولذلك نجد حتّى الكُتاب والمؤرّخين في تلك العصور يسمّونهم الروافض، ويكفّرونهم ويستبيحون دماءهم تزلّفاً للحكّام.
ولمّا انقرضت الدولة الأموية وخلفتها الدولة العبّاسية، نسج بعض المؤرّخين على منوالهم، وعرف البعض حقيقة أهل البيت(1)، فحاول التوفيق والإنصاف، فألحقَ علياً بالخلفاء الراشدين، ولكن لم يجرأوا على التصريح بأحقّيته، ولذلك تراهم لا يخرجون في صحاحهم إلاّ النزر اليسير من فضائل علي، والتي لا تتعارض مع خلافة الذين
____________
1- ذلك لأنّ الأئمة من أهل البيت فرضوا أنفسهم بأخلاقهم وعلومهم التي ملأت الخافقين وبزهدهم وتقواهم والكرامات التي حباهم الله بها (المؤلّف).