الصفحة 175
الإسلامي، ومَا على المسلمين إلاّ السمع والطاعة بدون نقاش، ومن يخرج منهم على ذلك فهو مهدور الدم. وهذا بالذات الذي أردنا تقريبه من ذهن القارئ بخصوص السكوت عن نصّ الغدير فيما تقدّم.

وإذا كان عمر يعلم نفسيات هؤلاء الستّة وعواطفهم وطموحاتهم، فإنّه بلا شكّ قد رشّح عثمان بن عفّان للخلافة، أو أنّه كان يعلم أنّ الأكثرية من هؤلاء الستّة لا يرضون بعليّ، وإلاّ لماذا وبأىّ حقّ يرجّح كفّة عبد الرحمن بن عوف على عليّ بن أبي طالب، والحال أنّ المسلمين منذ وُجدُوا وحتّى اليوم إنّما يتنازعون في أفضلية علي وأبي بكر، ولم نسمع أحداً يقارن عليّاً بعبد الرحمن بن عوف؟

وهنا أقفُ وقفةً لابدّ منها، لأسألَ أهل السنّة والجماعة القائلين بمبدأ الشورى وأهل الفكر الحرّ كافة، أسألُ كلّ هؤلاء؟ كيف توفّقون بين الشورى بمعناها الإسلامي، وبين هذه الفكرة التي إن دلّتْ على شيء فإنّما تدلّ على الاستبداد بالرأي; لأنّه هو الذي اختار هؤلاء النفر وليس المسلمون، وإذا كان وصوله للخلافة فلتةً، فبأىّ حقّ يفرض على المسلمين أحد هؤلاء الستّة؟!

والذي يبدو لنا أنّ عمر يرى الخلافة حقّاً من حقوق المهاجرين وحدهم، وليس من حقّ أحد أن ينازعهم هذا الأمر، بل أكثر من هذا

الصفحة 176
يعتقد عمر كما يعتقد أبو بكر بأنّ الخلافة ملك لقريش وحدها، إذ في المهاجرين من ليسوا من قريش، بل فيهم من ليسوا من العرب، فلا يحقّ لسلمان الفارسي، ولا لعمّار بن ياسر، ولا لبلال لحبشي، ولا لصهيب الرومي، ولا لأبي ذرالغفاري، ولا لأُلوفِ الصحابة الذين ليسوا من قريش أن يتصدّوا للخلافة.

وليس هذا مجّرد إدّعاء! حاشا وكلاًّ، بل هي عقيدتهم التي سجّلها التاريخ والمحدّثون من أفواههم، فلنعُد إلى نفس الخطبة التي أخرحها البخاري ومسلم في صحيحيهما:

يقول عمر بن الخطاب: أردتُ أن أتكلّمَ وكنتُ زوّرتُ مقالة أعجبتني، أُريدُ أن أُقدّمها بين يدي أبي بكر، وكنتُ أداري منه بعض الحدّ، فلّما أردتُ أن أتكلّم قال أبو بكر: على رسْلك، فكرهتُ أنْ أُغضبهُ، فتكلّم أبو بكر، فكان هو أحلم منّي وأوقر، واللّه ماترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلاّ قال في بديهته مثلها أو أفضلَ، حتّى سكتَ فقال: ما ذكرتُم فيكم من خير فأنتم له أهل (مخاطباً الأنصار) ولنْ يُعرف هذا الأمرُ إلاّ لهذا الحي منْ قريش(1).

إذن، يتبينّ لنا بوضوح بأنّ أبا بكر وعمر لا يؤمنان بمبدأ الشورى والاختيار، ويقول بعض المؤرّخين بأنّ أبا بكر احتجّ على الأنصار

____________

1- صحيح البخاري8: 26، كتاب المحاربين، باب رجم الحبلى من الزنا.


الصفحة 177
بحديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): "الخلافة في قريش" وهو حديث صحيح لا شكّ فيه، وحقيقته (كما نصّ على ذلك البخاري ومسلم وكلّ الصحاح عند السنّة وعند الشيعة) قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): "الخلفاء من بعدي اثنا عشر كلّهم من قريش".

وأصرح من هذا الحديث قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):

"لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقىَ منَ الناسِ اثنان"(1).

وقوله: "الناس تبعٌ لقريش في الخير والشرّ"(2).

فإذا كان المسلمون قاطبة يؤمنون بهذه الأحاديث، فكيف يقول قائل بأنّه ترك الأمر شورى بين المسلمين ليختاروا من يشاؤون؟

ولا يمكن لنا أن نتخلّص من هذا التناقض إلاّ إذا أخذنا بأقوال أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم، وبعض علماء السنّة الذين يؤكّدون بأنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قد نصّ على الخلفاء، وعيّنهم بعددهم وأسمائهم، وبذلك يمكن لنا أيضاً أن نفهم موقف عُمر وحصره الخلافة في قريش.

وعُمر مَنْ عُرفَ باجتهاده مقابل النصوص حتى في حياة

____________

1- صحيح مسلم6: 3، كتاب الامارة، باب الناس تبع لقريش، صحيح البخاري4: 155، كتاب الأحكام، باب الأمراء من قريش.

2- صحيح مسلم6: 2، كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش.


الصفحة 178
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فصلح الحديبية(1)، والصلاة على المنافقين(2)، ورزية يوم الخميس(3)، ومنعه التبشير بالجنّة(4) أكبر شاهد على ما نقول. فلا يُستغْربُ منه أن يجتهد بعد موت النبي في نصّ حديث الخلافة، فلا يري وجوباً بقبول النصّ على عليّ بن أبي طالب الذي هو أصغر قريش، وحصر حقّ الاستخلاف بقريش وحدها، وهو الذي حدا بعمر أن يختار قبل موته ستّة من عظماء قريش ليوفّق بين أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وما يرتأيه هو من حقّ قريش وحدها في الخلافة.

ولعلّ إقحام عليّ في الجماعة مع العلم المسبق بأنّهم لا يختارونه، هو تدبير من عمر ليُجبر عليّاً على الدخول معهم في اللُّعبة السياسية كما يسمّونها اليوم، وحتّى لا تبقى له حجّة عند شيعته ومحبّيه الذين يقولون بأولويّته، ولكن الإمام عليّاً تحدّث عن كلّ ذلك في خطبة أمام عامّة الناس، فقال في ذلك:

"فصبرتُ على طول المدّة وشدّة المحنة، حتّى إذا مضى لسبيله

____________

1- صحيح مسلم5: 175، كتاب الجهاد، باب صلح الحديبية.

2- صحيح البخاري2: 26، كتاب الجنائز، باب 22 الكفن في القميص.

3- صحيح البخاري1: 37، كتاب العلم، باب 40 في كتابة العلم.

4- صحيح مسلم1: 65، كتاب الإيمان، باب الدليل على أنّ من مات على التوحيد دخل الجنة.


الصفحة 179
جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم، فياللّه وللشورى، متى اعترض الريبُ فىَّ مع الأّول منهم حتّى صرت أّقرن إلى هذه النظائر، لكنّي أسففت إذ أسفّوا وطرت إذ طاروا، فصغى رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره مع هن وهن..." الخطبة(1).

رابعاً: إنّ الإمام عليّ سلام اللّه عليه احتجّ عليهم بكلّ شيء، ولكن بدون جدوى، وهل يستجدي الإمام عليّ بيعة الناس الذي صرفوا وجوههم عنه، ومالت قلوبهم لغيره، إمّا حسداً له على ما أتاه اللّه من فضله، وإمّا حِقداً عليه; لأنّه قتل صناديدهم وهشّم أبطالهم، وأرغم أُنوفهم، وأخضعهم وحطّم كبرياءهم بسيفه وشجاعته حتّى أسلموا واستسلموا، وهو مع ذلك شامخٌ يذود عن ابن عمّه، لا تأخذه في اللّه لومة لائم، ولا يثني عزمه من حطام الدنيا شيء.

وكان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلمُ ذلك علم اليقين، وكان في كلّ مناسبة يُشيد بفضائل أخيه وابن عمّه لكي يحبّبه إليهم، فيقول: "حبّ عليّ إيمان وبغضه نفاق"(2) ـ ويقول: "عليّ منّي وأنا من علي"(3)،

____________

1- نهج البلاغة1: 35، الخطبة 3، المعروفة بالشقشقية.

2- صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب أنّ حب الأنصار وعليّ من الإيمان، عن عليّ (عليه السلام) قال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إنّه لعهد النبي الأُميّ إليّ: أن لا يحبني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق".

وقال الشيخ الألباني في صحيحته 1: 298: "من فضائل علي 1720: إنّه لا يحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق، أخرجه مسلم 1: 61، والنسائي 2: 271، والترمذي 2: 301، وابن ماجة: 114، وأحمد 1: 84 و 95 و 128، والخطيب في التاريخ 14: 426 من طرق عن الأعمش عن عدي بن ثابت عن زر بن حبيش عن علي رضي اللّه عنه مرفوعاً. قلت: وله شاهد من حديث اُم سلمة، أخرجه الترمذي 2: 299، وأحمد 6: 293 وقال الترمذي: حديث حسن غريب".

3- ذكرهُ الألباني في صحيحته تحت رقم 1980، وفي صحيح سنن ابن ماجة للألباني رقم 118، وفي صحيح سنن الترمذي للألباني تحت رقم 3719، وفي مشكاة المصابيح وصرّح بأنّه حسن رقم 6083، وفي خصائص النسائي رقم 65، وصرّح الحويني الأثري بصحته، وفي مسند أحمد برقم 17435 و 17440 و 17441، وصرّح محقّق الكتاب بصحته، وفي صحيح الجامع الصغير للألباني برقم 1239.


الصفحة 180
ويقول: "عليّ وليّ كل مؤمن بعدي"(1)، ويقول: "عليّ باب مدينة

____________

1- المصنّف لابن أبي شيبة 7: 504 ح58، كتاب السنّة لابن أبي عاصم: 559 ح1187 بلفظ: "وهو ولي كلّ مؤمن بعدي"، وقال محقّق الكتاب الشيخ الألباني: "إسناده صحيح، ورجاله ثقات على شرط مسلم"، وأخرجه الشيخ الألباني في صحيحته تحت رقم 2223 بلفظ: "وهو ولي كلّ مؤمن بعدي" وقال: "أخرجه الترمذي 3713، والنسائي في الخصائص ص13 ـ 16 ـ 17، وابن حبان 2203، والحاكم 3: 110، والطيالسي في مسنده 829، وأحمد 4: 437، وابن عدي في الكمال 2: 568 ـ 569" الصحيحة 5: 261.

وقال الحاكم في المستدرك: "صحيح على شرط مسلم"، وأقرّه الذهبي.

وقد ردّ الشيخ الألباني على ابن تيمية ومن لفّ لفّه في تضعيفهم لهذا الحديث، فقال في الموضع المذكور من الصحيحة: "فمن العجب حقّاً أن يتجرّأ شيخ الإسلام ابن تيمية على إنكار هذا الحديث وتكذيبه في منهاج السنّة 4: 104... فلا أدري بعد ذلك وجه تكذيبه للحديث إلاّ التسرع والمبالغة في الردّ على الشيعة"!!

فانظر وأعجب لهؤلاء القوم الذين حدا بهم التعصّب المقيت والبغض للتشيع أن يطعنوا في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!!.


الصفحة 181
علمي"(1) و"أبو ولدي"(2) ويقول: "عليّ سيّد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجّلين"(3).

ولكن مع الأسف مازادهم ذلك إلاّ حسداً وحقداً، وبذلك استدعاه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل موته فعانقه وبكى وقال له: "ياعليّ إنّي أعلم أنّ

____________

1- في العمدة لابن البطريق: 281 عن ابن المغازلي في المناقب: 50: "فهو باب مدينة علمي".

2- في ينابيع المودة 2: 344 عن جواهر العقدين 2: 206 وابن المغازلي 13: "قال علي (عليه السلام): فانشدتكم باللّه هل فيكم أحد قال له رسول اللّه: أنت أبو ولدي غيري؟"، وفي الرياض النضرة 4: 107 ح1328: "أنت أخي وأبو ولدي"، قال: "أخرجه أحمد في المناقب".

3- مستدرك الحاكم 3: 138، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه"، حلية الأولياء 1: 63، المعجم الصغير 2: 89، نظم درر السمطين: 114، شرح نهج البلاغة 9: 170، وفي الاصابة 4: 5 بلفظ: "أوحي إليّ في عليّ أنّه إمام المتقين"، أخبار أصبهان 2: 229، المناقب للخورزمي: 113 و 295 و 323 و 360، تاريخ دمشق 42: 302.


الصفحة 182
لك ضغائن في صدور قوم سوف يظهرونها لك بعدي، فإن بايعوك فاقبل، وإلاّ فاصبر حتّى تلقاني مظلوماً"(1).

فإذا كان أبو الحسن سلام اللّه عليه لزم الصبر بعد بيعة أبي بكر، فذلك بوصية الرسول له، وفي ذلك من الحكمة ما لا يخفى.

خامساً: أضف إلى كلّ ماسبق أنّ المسلم إذا ماقرأ القرآن الكريم وتدبّر آياته، يعرف من خلال قصصه التي تناولت الأُمم والشعوب السابقة أنّه وقع فيهم أكثر ممّا وقع فينا، فها هو قابيل يقتل أخاه هابيل ظلماً وعدواناً، وها هو نوح جدّ الأنبياء بعد ألف سنة من الجهاد لم يتبعه من قومه إلاّ القليل وكانت امرأته وابنه من الكافرين، وها هو لوط لم يوجد في قريته غير بيت من المؤمنين، وها هم الفراعنة الذين استكبروا في الأرض واستعبدوا الناس لم يكن فيهم

____________

1- نحوه تاريخ دمشق 42: 324، المناقب للخوارزمي: 65 ح35، الرياض النضرة 4: 158 ح1518، مسند أبي يعلى 1: 426 ح565، مجمع الزوائد 9: 118 وقال: "رواه أبو يعلى والبزار، وفيه الفضل بن عميرة وثّقه ابن حبان وضعفه غيره، وبقية رجاله ثقات".

والذي يؤيّد هذا الكلام، وأنّ الأُمّة ستنقلب على عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أخرجه الحاكم في المستدرك 3: 1406 ح4734 وأقرّ الذهبي بصحته قول علي (عليه السلام): "إنّ ممّا عهد إليّ النبي أنّ الأُمّة ستغدر بي بعده".


الصفحة 183
غير مؤمن يكتم إيمانه.

وهاهم إخوة يوسف أبناء يعقوب، وهم عصبة يتآمرون على قتل أخيهم الصغير بغير ذنب اقترفه، ولكن حسداً له لأنّه أحبّ إلى أبيهم، وها هم بنوا إسرائيل الذين أنقذهم اللّه بموسى، وفلق لهم البحر، وأغرق أعداءهم فرعونَ وجنوده بدون أن يكلّفهم عناء الحرب، ما إن خرجوا من البحر ولم تجفّ أقدامهم، فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا: ياموسى، اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة! قال: إنّكم قوم تجهلون.

ولمّا ذهب إلى ميقات ربّه، واستخلف عليهم أخاه هارون تآمروا عليه وكادوا يقتلونه، وكفروا باللّه، وعبدو العجل، ثمّ قتلوا أنبياء اللّه، قال تعالى: { أفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ }(1).

وها هو سيّدنا يحيى بن زكريا، وهو نبي وحصور ومن الصالحين، يقتلُ ويهدى رأسه إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.

وها هم اليهود والنصارى يتآمرون على قتل وصلب سيّدنا عيسى.

وها هي أُمّة محمّد تعد جيشاً قُوامه ثلاثين ألفاً لقتل الحسين

____________

1- البقرة: 87.


الصفحة 184
ريحانة رسول اللّه وسيّد شباب أهل الجنة، ولم يكن معه غير سبعين من أصحابه، فقتلوهم جميعاً بما في ذلك أطفاله الرضّع.

فأيّ غرابة بعد هذا؟!

أيّ غرابة بعد قول الرسول لأصحابه: "ستتبعون سُنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه"، قالوا: أتراهم اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟"(1).

أيّ غرابة ونحن نقرأ في البخاري ومسلم قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "يؤتى بأصحابي يوم القيامة إلى ذات الشمال، فأقول: إلى أين"؟ فيقال: إلى النار واللّه، فأقول: "ياربّ هؤلاء أصحابي"، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: "سُحقاً لمن بدّل بعدي، ولا آراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم"(2).

أيّ غرابه بعد قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "ستفترق أُمّتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلاّ فرقة واحدة"(3).

____________

1- صحيح البخاري8: 151، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة، باب قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "لتتبعن سنن...".

2- راجع حديث الحوض بألفاظه المختلفة: صحيح البخاري 7: 209، كتاب الرقاق، باب في الحوض، صحيح مسلم 7: 65، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا.

3- المصنّف لعبد الرزاق 10: 156 ح18675، وقد تقدّم تخريجه فيما مضى، فراجع.


الصفحة 185
وصدق العلّي العظيم ربّ العزّة والجلالة العليم بذات الصدور إذ يقول:

{ وَمَا أكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ }(1).

{ بَلْ جَاءَهُمْ بِالحَقِّ وَأكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ }(2).

{ لَـقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالحَقِّ وَلَكِنَّ أكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ }(3).

{ ألا إنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ }(4).

{ يُرْضُونَكُمْ بِأفْوَاهِهِمْ وَتَأبَى قُلُوبُهُمْ وَأكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ }(5).

{ إنَّ اللّهَ لَذُو فَضْل عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ }(6).

{ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأكْثَرُهُمُ الكَافِرُونَ }(7).

{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأبَى أكْثَرُ النَّاسِ إلا كُفُوراً }(8).

____________

1- يوسف: 103.

2- المؤمنون: 70.

3- الزخرف: 78.

4- يونس: 55.

5- التوبة: 8.

6- يونس: 60.

7- النحل: 83.

8- الفرقان: 50.


الصفحة 186
{ وَمَا يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ }(1).

{ بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ }(2).

{ أفَمِنْ هَذَا الحَدِيثِ تَعْجَـبُونَ* وَتَضْحَكُونَ وَلا تَـبْكُونَ*وَأنْتُمْ سَامِدُونَ }(3).

____________

1- يوسف: 106.

2- الأنبياء: 24.

3- النجم: 59 ـ 61.


الصفحة 187

حسرة وأسى


كيف لا أتحسّر؟ بل كيف لا يتحسّر كلّ مسلم عند قراءة مثل هذه الحقائق، على ماخسره المسلمون بإقصاء الإمام عليّ عن الخلافة التي نصّبه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها، وحرمان الأُمّة من قيادته الحكيمة، وعلومه الكثيرة؟!

وإذا مانظر المسلم بغير تعصّب ولا عاطفة لوجده أعلم الناس بعد الرسول، فالتاريخ يشهد أنّ علماء الصحابة استفتوه في كلّ ما أشكل عليهم، وقول عمر بن الخطاب أكثر من سبعين مرّة "لولا عليّ لهلك عمر"(1)، في حين إنّه (عليه السلام) لم يسأل أحداً منهم أبداً.

كما أنّ التاريخ يعترف بأنّ عليّ بن أبي طالب أشجع الصحابة وأقواهم، وقد فرّ الشجعان من الصحابة في مواقف عديدة من الزّحف، في حين ثبتَ هو (عليه السلام) في المواقف كلّها، ويكفيه دليلاً الوسام الذي وسّمه به رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما قال:

____________

1- المناقب للخوارزمي 81 ح65، نظم درر السمطين: 132، فيض القدير للمناوي 4: 470، ذخائر العقبى: 82، تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: 152.


الصفحة 188
"لأعطين غداً رايتي إلى رجل يحبّ اللّه ورسوله ويحبُّه اللّه ورسولُه كرَّارٌ ليس فرّاراً امتحن اللّه قلبه للإيمان"(1).

فتطاول إليها الصحابة فدفعها إلى عليّ بن أبي طالب.

وباختصار فإنّ موضوع العلم والقوّة والشجاعة التي يَختصّ بها الإمام عليّ موضوع معروف لدى الخاصّ والعامّ ولا يختلف فيه اثنان، وبقطع النظر عن النصوص الدالّة على إمامته بالتصريح والتلميح، فإنّ القرآن الكريم لا يعترف بالقيادة والإمامة إلاّ للعالِم الشجاع القوي، قال اللّه سبحانه وتعالى في وجوب اتّباع العلماء:

{ أفَمَنْ يَهْدِي إلَى الحَقِّ أحَقُّ أنْ يُتَّبَعَ أمَّنْ لا يَهِدِّي إلا أنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ }(2).

وقال تعالى في وجوب قيادة العالم الشجاع القوي: { قَالُوا أنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ المَالِ قَالَ إنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي

____________

1- حديث الراية ورد بألفاظ وأسانيد مختلفة، راجع: صحيح البخاري5: 76، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب وكتاب المغازي، باب غزوة خيبر، صحيح مسلم5: 195، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عليّ بن أبي طالب، تاريخ دمشق 41: 219، وغيرها من المصادر المعتبرة.

2- يونس: 35.


الصفحة 189
مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }(1).

ولقد زاد اللّه سبحانه الإمام عليّ بالنسبة إلى كل الصحابة زاده بسطة في العلم، فكان بحقّ "باب مدينة العلم"، وكان هو المرجع الوحيد للصحابة بعد وفاة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان الصحابة كلّما عجزوا عن حلّ يقولون: "معضلة وليس لها إلاّ أبو الحسن"(2).

وزاده بسطة في الجسم، فكان بحقّ أسد اللّه الغالب، وأصبحت قوّته وشجاعته مضرب الأمثال عبر الأجيال، حتّى روى المؤرّخون فيها قصصاً تقارب المعجزات، كاقتلاع باب خيبر وقد عجز عن تحريكه فيما بعد عشرون صحابياً(3)، واقتلاع الصنم الأكبر هبل(4) من فوق سطح الكعبة، وتحويل الصخرة العظيمة التي عجز الجيش كلّه عن تحريكها(5) وغير ذلك من الروايات المشهورة.

وقد أشاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بابن عمّه علي، وأبان فضله وفضائله في كلّ

____________

1- البقرة: 247.

2- راجع قول عمر في ذلك: أُسد الغابة 4: 23، الإصابة 4: 467، فتح الباري 13: 286، فيض القدير 4: 470، الطبقات الكبرى 2: 339، تاريخ دمشق 42: 406، تهذيب الكمال للمزي 20: 485.

3- المناقب للخوارزمي 172 ح207، تاريخ بغداد 11: 323 ح6142، كشف الخفاء للعجلوني 1: 232 ح710.

4- شرح النهج لابن أبي الحديد 1: 21 المقدمّة.

5- المصدر نفسه.


الصفحة 190
مناسبة، وعرّف بخصائصه ومزاياه:

فمرّة يقول: "إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا"(1).

ومرّة يقول له: "أنتَ منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نَبي بعدي"(2).

وأُخرى يقول: "من أراد أن يحيا حياتي، ويموت موتي، ويسكن جنة الخلد التي وعدني ربي، فليتولّ عليّ بن أبي طالب، فإنّه لن يخرجكم من هدى، ولن يدخلكم في ضلالة"(3).

والأحاديث فيه فحسب، بل إنّ أقواله تجسّدت في أعماله، فلم يؤمِّر في حياته على عليّ أحداً من الصحابة بالرغم من تأميرهم على بعضهم البعض، فقد أمرّ على أبي بكر وعمر في غزوة ذات

____________

1- تاريخ الطبري 2: 63، تاريخ دمشق 42: 49، الكامل لابن الأثير 2: 63.

2- صحيح البخاري 5: 576، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عليّ بن أبي طالب، صحيح مسلم 7: 120، الموضع نفسه.

3- نحوه في المعجم الكبير للطبراني 5: 194، المناقب للخوارزمي: 75 ح55، حلية الأولياء 1: 127، وأخرجه الطبري في الذيل المذيل ـ كما في منتخبه: 83 ـ عن يحيى بن يعلى المحاربي من رجال الصحيحين، وفي المستدرك للحاكم 3: 128 عن يحيى بن يعلى الأسلمي وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه"، والأسلمي هذا أخرج له ابن حبان في صحيحه حديثاً في تزويج فاطمة (عليها السلام).


الصفحة 191
السلاسل عمرو بن العاص(1).

كما أمّر عليهم جميعاً شاباً صغيراً أُسامة بن زيد، وذلك في سرية أُسامة قبل موته (صلى الله عليه وآله وسلم).

أمّا عليّ بن أبي طالب فلم يكن في بعث إلاّ وهو الأمير، حتّى إنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث في مرّة بعثين، وأمّر علياً على بعث وخالد بن الوليد على بعث وقال لهم: إذا افترقتُم فكلّ واحد على جيشه وإذا التقيتُم فعلىٌ على الجيش كلّه(2).

ونستنتجُ من كلّ ماتقدّم بأنّ عليّاً هو ولىّ المؤمنين بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا ينبغي لأحد أن يتقدّم عليه.

ولكن مع الأسف الشديد فقد خسر المسلمون خسارة فادحة، وهم يعانون حتّى اليوم ويجنون ثمار ماغرسوه، وقد عرف التالون غبَّ ما أسّسه الأولون.

وهل يمكن لأحد أن يتصوّر خلافة راشدة كخلافة عليّ بن أبي طالب، لو اتبعتْ هذه الأُمّة ما اختاره اللّه ورسوله؟! فعلىٌّ كان

____________

1- تاريخ الطبري: حوادث السنة الثامنة، السيرة الحلبية 3: 268، الطبقات الكبرى: سريّة عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل، سير أعلام النبلاء للذهبي 3: 59 ترجمة عمرو بن العاص.

2- السنن الكبرى للنسائي 5: 133 ح8475، المعجم الأوسط للطبراني 6: 162، البداية والنهاية 7: 380.


الصفحة 192
بإمكانه أن يقود الأُمّة طول ثلاثين عاماً على نسق واحد، كما قادها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وبدون أيّ تغيير، ذلك لأنّ أبا بكر وعمراً غيّرا واجتهدا بأدائهما مقابل النصوص وأصبح فعلهما سنّة متّبعة، ولّما جاء عثمان للخلافة غيّر أكثر حتى قيل: إنه خالف كتاب اللّه وسنّة رسوله وسنّة أبي بكر وعمر، وأنكر عليه الصحابة ذلك، وقامت عليه ثورة شعبية عارمة أودت بحياته، وسبّبتْ فتنة كبرى في الأُمّة لم يندمل جرحها حتى الآن.

أمّا عليّ بن أبي طالب فكان يتقيّد بكتاب اللّه وسنّة رسوله، لا يحيد عنهما قيد أنملة، وأكبر شاهد على ذلك أنّه رفض الخلافة عندما اشترطوا عليه أن يحكم مع كتاب اللّه وسنّة رسوله سنّة الخليفتين.

ولسائل أن يسأل: لماذا يتقيّد علي بكتاب اللّه وسنّة رسوله، بينما اضطرّ أبو بكر وعمر وعثمان للاجتهاد والتغيير؟

والجواب هو: أنّ عليّاً عنده من العلم ماليس عندهم، وأنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) خصّه بألف باب من العلم يفتح لكلّ باب ألف باب(1) وقال له:

"أنتَ ياعليّ تبينّ لأُمّتي ما اختلفوا فيه بعدي"(2).

____________

1- نظم درر السمطين: 113، كنز العمال 13: 114 ح36372.

2- المستدرك للحاكم 3: 132 وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرّجاه"، تاريخ دمشق 42: 387، المناقب للخوارزمي: 85 ح75، حلية الأولياء 1: 103 ح192.