____________
<=
ـ إلى أن يقول ـ: فإذا كان الواجب عليه أن يرجع عن بغيه باطاعته الخليفة ويترك المخالفة وطلب الخلافة المنيفة، فتبين بهذا أنه كان في الباطن باغياً وفي الظاهر متستراً بدم عثمان مراعياً مرائياً، فجاء هذا الحديث عليه ناعياً، وعن عمله ناهياً، لكن كان ذلك في الكتاب مسطوراً فصار عنده كل من القرآن والحديث مهجوراً، فرحم اللّه من أنصف ولم يتعصّب ولم يتعسّف" مرقاة المفاتيح في شرح مشكاة المصابيح، ملاّ علي القاري 11: 17 ـ 18.
11 ـ وقال المناوي: "وقال الإمام عبد القادر الجرجاني في كتابه الإمامة:
أجمع فقهاء العراق والحجاز من فريقي الحديث والرأي، منهم: مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي والجمهور الأعظم من المتكلّمين والمسلمين; أنّ عليّاً مصيب في قتاله لأهل صفين... وإنّ الذين قاتلوه بغاة ظالمون". فيض القدير في شرح الجامع الصغير 6: 474.
12 ـ وقال الشيخ أحمد حافظ حكمي: ".. وأمّا علي (رضي الله عنه) فكان مجتهداً مصيباً، وفالجاً محقّاً، يريد جمع كلمة الأمّة.. فكان أهل الشام بغاة اجتهدوا فأخطأوا، وعليّ (رضي الله عنه) يقاتلهم ليرجعوا إلى الحقّ ويفيئوا إلى أمر اللّه، ولهذا كان أهل بدر الموجودون على وجه الأرض كلّهم في جيشه، وعمّار قتل معه (رضي الله عنه) كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد في بناء المسجد، فقال: كنّا نحمل لبنة لبنة، وعمّار لبنتين، فرآه النبي (صلى الله عليه وسلم) فجعل ينفض التراب عنه ويقول: "ويح عمّار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار"، قال: يقول عمّار: أعوذ باللّه من الفتن، فتله أهل الشام، مصداق ما أخبر الصادق المصدّق (صلى الله عليه وسلم)، وهو يدعوهم إلى الطاعة والائتلاف التي هي من أسباب دخول الجنة، ويدعونه إلى الفتنة والفرقة التي هي من أسباب
=>
____________
<=
دخول النار" معارج القبول 2: 468.
13 ـ وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: "... لمّا وقعت الفتنة في عهد الصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ أشتبهت على بعض الناس، وتأخّر عن المشاركة فيها بعض الصحابة من أجل أحاديث الفتن كسعد بن أبي وقاصّ ومحمّد بن مسلمة وجماعة ـ رضي اللّه عنهم ـ، ولكن فقهاء الصحابة الذين كان لهم من العلم ما هو أكمل قاتلوا مع عليٍّ، لأنّه أولى الطائفتين بالحقّ، وناصروه ضد الخوارج وضد البغاة الذين هم من أهل الشام لمّا عرفوا الحقّ، وأنّ علياً مظلوم، وأنّ الواجب أن ينصر، وأنّه هو الإمام الذي يجب أن يتبع، وأنّ معاوية ومن معه بغوا عليه بشبهة قتل عثمان.
واللّه جلّ وعلا يقول في كتابه العظيم: { وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي }، ما قال: (فاعتزلوا)، قال: { فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }، فإذا عرف الظالم وجب أن يساعد المظلوم لقوله سبحانه: { فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ }. والباغون في عهد الصحابة معاوية وأصحابه، والمعتدلة عليّ وأصحابه، فبهذا نصرهم أعيان الصحابة، نصروا عليّاً وصاروا معه كما هو معلوم" فتاوى ومقالات متنوعة 6: 80.
هذا نزر يسير من ظلم معاوية وبغيه وكلمات علماء السنّة في حقّه، ذكرناها حتى يتّضح للقارئ مدى بُعد هؤلاء الشرذمة عن الحقّ والدين القويم، إذ مجّدوا مَن هدم الدين ونصب العداء لأهله ورفعوه عالياً، بينما هم يطعنون في أنصار الدين وحملته من أهل البيت وأصحابه المنتجبين.
=>
____________
<=
أما النقطة الثالثة: فهي الواقع الذي لا مفرّ منه، إذ إنّ معاوية بنى خلافته على سبِّ عليّ بن أبي طالب والنيل منه، بل وسبّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فضلا عن قتل شيعة علي (عليه السلام):
أخرج ابن ماجة في سننه عن سعد بن أبي وقاص قال: "قدم معاوية في بعض حجاته، فدخل عليه سعد، فذكروا علياً، فنال منه، فغضب سعداً وقال: تقول هذا لرجل سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول فيه: من كنت مولاه فعلي مولاه، وسمعته يقول: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي، وسمعته يقول: لأعطين الراية اليوم رجلا يحب اللّه ورسوله".
وعلّق الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني في كتابه صحيح ابن ماجه 1: 76 ح120 بقوله: صحيح الصحيحة 4: 335، " (فنال منه) أي: نال معاوية من علي وتكلّم فيه".
وقال محمّد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على الحديث: "قوله: (فنال منه) أي نال معاوية من عليّ ووقع فيه وسبّه" سنن ابن ماجه، تحقيق عبد الباقي 1: 82 ح121.
وقال الإمام الذهبي في ترجمة عمر بن عبدالعزيز: ".. كان الولاة من بني أمّية ـ قبل عمر بن عبدالعزيز ـ يشتمون رجلا ـ رضي اللّه عنه! ـ فلمّا ولي هو أمسك عن ذلك، فقال كثيِّر عَزَّة الخزاعي:
وليت فلم تشتم عليّاً ولم تُخف برّياً ولم تتبع مقالةَ مجرم!"
سير أعلام النبلاء 5: 147.
وقال ابن تيمية الحراني: ".. وأمّا عليّ فأبغضه وسبّه أو كفره الخوارج وكثير من بني أُمية وشيعتهم الذين قاتلوه وسبّوه..
=>
____________
<=
وأما شيعة عليّ الذين شايعوه بعد التحكّم، وشيعة معاوية التي شايعته بعد التحكيم، فكان بينهما من التقابل وتلاعن بعضهم ما كان.
وكذلك تفضيل عليّ عليه [ يعني على عثمان ] لم يكن مشهوراً فيها، بخلاف سبّ عليّ فإنّه كان شائعاً في أتباع معاوية".
مجموعة الفتاوى 4: 267.
وهذا الإمام الأوزاعي صاحب المذهب المنتشر في الشام إلى سنة 340هـ وأكثر والذي ولي القضاء ليزيد بن الوليد الأموي، يصف الحال الذي كانت عليه الشام وولاتها: "يقول عيسى بن يونس: سمعت الأوزاعي يقول: ما أخذنا العطاء حتّى شهدنا على عليّ بالنفاق!! وتبرّأنا منه!! وأخذنا علينا بذلك الطلاق والعتاق وإيمان البيعة" سير أعلام النبلاء 7: 130، ترجمة الإمام الأوزاعي.
وقال ابن الأثير في أحداث سنة 51: "في هذه السنة قتل حجر بن عدي وأصحابه. وسبب ذلك: إنّ معاوية استعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة إحدى وأربعين، فلمّا أمّره عليها دعاه وقال له: أمّا بعد ; فإنّ لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا، وقد يجزي عنك الحكيم بغير التعليم، وقد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة أنا تاركها اعتماداً على بصرك، ولست تاركاً إيصاءك بخصلة: لا تترك شتم عليّ وذمّه، والترحم على عثمان والاستغفار له، والعيب لأصحاب عليّ والإقصاء لهم..".
وقال ابن كثير الدمشقي في حوادث سنة 106: "وحجّ بالناس في هذه السنة أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك، وكتب إلى أبي الزناد قبل دخوله المدينة ليتلقاه ويكتب له مناسك الحجّ، ففعل، فلتقّاه الناس من المدينة إلى أثناء
=>
____________
<=
الطريق، وفيهم أبو الزناد قد أمتثل ما أُمر به، وتلقّاه فيمن تلقّاه سعيد بن عبد اللّه بن الوليد بن عثمان بن عفان، فقال له: يا أمير المؤمنين، إنّ أهل بيتك في مثل هذا المواطن الصالحة لم يزالوا يلعنون أبا تراب ; فالعنه أنت ـ أيضاً ـ.." البداية والنهاية 9: 171، والكامل في التاريخ 5: 130.
ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل أخذ معاوية بقتل شيعة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وأمرهم بالبراءة منه ولعنه وسبّه، ويكفي لمن يتصفّح التاريخ أن يرى ذلك بأُمّ عينه واضحاً، ويكفي ما فعله بحجر بن عدي وأصحابه:
فقد روى ابن عساكر في تاريخه 8: 25 بعد أن أرسل حجر بن عدي وأصحابه إلى معاوية وحبسهم: "فقال لهم رسول معاوية: إنّا قد أمرنا أن نعرض عليكم البراءة من عليّ، إن فعلتم تركناكم، وإن أبيتم قتلناكم، وإنّ أمير المؤمنين يزعم أنّ دماءكم قد حلّت له بشهادة أهل مصركم عليكم، غير أنّه قد عفى على ذلك، فابرأوا من هذا الرجل نخل سبيلكم".
وفي الكامل لابن الأثير 3: 485 (حوادث سنة 51): "قالوا لهم قبل القتل: إنّا قد أُمرنا أن نعرض عليكم البراءة من عليّ واللعن له، فإن فعلتم تركناكم، وإن أبيتم قتلناكم".
وفي سير أعلام النبلاء للذهبي 6: 466 رقم 95: "لما أتى معاوية بحجر قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، قال: أو أمير المؤمنين أنا! اضربوا عنقه... وقيل: إنّ رسول معاوية عرض عليهم البراءة من رجل والتوبة".
وذكر الذهبي اسم ذلك الرجل في كتاب تاريخ الإسلام 4: 194، وهو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).
وفي المستدرك: كتاب معرفة الصحابة، في مناقب حجر بن عدي: أنّه قتل
=>
____________
<=
في موالاة علي.
وأمّا شدّة معاوية وجوره على شيعة عليّ فكثير، ورد في مصادر كثيرة بأرقام كبيرة:
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 3: 137: "ورجع معاوية بالألفة والاجتماع، وبايعه أهل الشام بالخلافة... فكان يبعث الغارات فيقتلون من كان في طاعة عليّ".
وفي الإصابة 1: 422 (في ترجمة بسر بن أرطأة) قال ابن حجر: "وكان من شيعة معاوية، وكان معاوية وجّهه إلى اليمن والحجاز... وأمر أن ينظر من كان في طاعة عليّ فيوقع بهم، ففعل ذلك".
وفي أُسد الغابة 1: 180: "كان معاوية سيّرهُ إلى الحجاز واليمن ليقتل شيعة عليّ".
وفي تاريخ دمشق 10: 152: "بعث معاوية بسر بن أرطأة إلى المدينة ومكة واليمن يستعرض الناس فيقتل من كان في طاعة عليّ أبي طالب".
وكذلك في تهذيب الكمال للمزي 4: 61 و 665، وتهذيب التهذيب 1: 435 (ترجمة بسر).
وفي أنساب الأشراف للبلاذري 454: "قال معاوية لبسر لما وجهه للغارة: ثم امض إلى صنعاء فإنّ لنا بها شيعة، واستعن بهم على عمال عليّ وأصحابه، فقد أتاني كتابهم، واقتل كلّ من كان في طاعة عليّ إذا امتنع من بيعتنا، وخذ ما وجدت لهم من مال".
وفي الإمامة والسياسية لابن قتيبة 1: 203: "كتب الإمام الحسن إلى معاوية كتاباً قال فيه: أولست قاتل الحضرمي الذي كتب إليك فيه زياد أنّه على
=>
____________
<=
دين عليّ".
وقال الجاحظ في البيان والتبين 1: 266: "وجلس معاوية رضي اللّه تعالى عنه بالكوفة يبايع على البراءة من عليّ بن أبي طالب كرّم اللّه تعالى وجهه، فجاءه رجل من بني تميم فأراده على ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين نطيع أحياءكم ولا نبرأ من موتاكم، فالتفت إلى المغيرة فقال: إنّ هذا رجلٌ فاستوص به خيراً".
وذكر الزركلي في الأعلام 3: 303 في ترجمة عبد الرحمن بن حسان العنزي: "فدعاه معاوية إلى البراءة من عليّ، فأغلظ عبد الرحمن في الجواب، فردّه إلى زياد فدفنه حيّاً".
وأيضاً في تاريخ مدينة دمشق 8: 27.
وبعد كلّ هذه الحقائق، لا يمكن لمدّع أن يدافع عن معاوية وأمثاله الذين حكموا الأمة بالظلم والطغيان، ومنعوا ربيع الإسلام أن يغطي المعمورة بعدله وحلمه، وحرموا الأُمة من نبع الدين الصافي وضفافه الفضفاض وهم أهل البيت (عليهم السلام)، فعاملوهم قتلا وساوروهم سجناً، ومنعوا الأُمة من الأخذ عنهم وأبعدوهم عن وصية نبيهم (صلى الله عليه وآله وسلم) في الثقلين.
فمن يكون هكذا حاله، فكيف يكون إماماً، فضلا عن كونه عادلا؟!
وعلاوة على ذلك نقول: إنّ هنالك أحاديثاً كثيرة وردت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذمّ معاوية بن أبي سفيان، وإنّه لم يدخل الإسلام إلاّ بعدما أيقن الفتك وأن لا مخلص له ولبني أُميّة عموماً إلاّ الدخول في الدين وإظهار الطاعة، وإبطان النفاق والغدر والخيانة، فمعاوية ابن أبي سفيان لم يكن ممّن حسن إسلامه فضلا عن أن يكون خليفة للمسلمين!! والإسلام يبرأ منه ونذكر قسماً يسيراً
=>
____________
<=
من الأحاديث النبويّة الصحيحة التي تبيّن حقيقته وتكشف هويته، وردت على لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من طرق أهل السنّة:
1 ـ حديث: "إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه".
رواه ابن حبان في كتابه المجروحين 2: 172 قال: أخبرنا الطبري عن محمّد ابن صالح، ثنا عباد بن يعقوب الرواجني عن شريك بن عاصم، عن زر عن عبد اللّه بن مسعود.
وسند الحديث حسن، فعباد بن يعقوب الرواجني ثقة شيعي، وشريك صدوق، وعاصم صدوق، وزر بن حبيش فثقة جليل، وعبد اللّه بن مسعود صحابي.
وفي الكامل لابن عدي 6: 112 قال: حدّثنا على بن سعيد، حدّثنا الحسين ابن عيسى الرازي، حدّثنا سلمة بن الفضل ثنا محمّد بن إسحاق، عن محمّد ابن إبراهيم التيمي، عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): "إذا رأيتم فلاناً على المنبر فاقتلوه".
والإسناد صحيح رجاله ثقات، فشيخ ابن عدي وهو علي بن سعيد فهو ثقة ثبت. وابن عدي من المتثبتين في الأخذ، والحسين بن عيسى الرازي فهو صدوق، كما ذكر ذلك الرازي في الجرح والتعديل 3: 68. وأما سلمة بن الفضل الأبرش فهو صدوق قال عنه ابن جرير: ليس من لدن بغداد إلى أن تبلغ خراسان أثبت في ابن إسحاق من سلمة بن الفضل.
ومحمّد بن إسحاق صدوق وهو من رجال مسلم والسنن الأربعة.
ومحمّد بن إبراهيم التيمي فهو ثقة، وشيخه أبو أُمامة بن سهل بن حنيف فهو معدود من الصحابة، فالحديث صحيح.
=>
____________
<=
وغير هذين الإسنادين الصحيحين توجد هناك متابعات تشهد لهما وعليه فالحديث صحيح ويكون معاوية على قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مستحقاً للقتل عند إستيلائه دفّة الحكم وزمام أمر المسلمين.
2 ـ حديث: "لا أشبع اللّه بطنه".
فقد روى مسلم في صحيحه 4: 2010 بإسناده عن ابن عباس قال: كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فتواريت خلف باب، قال: فجاء فصحأني صحأة وقال: اذهب وادع لي معاوية، قال فجئت فقلت: هو يأكل!
قال: ثمّ قال لي: اذهب فادع لي معاوية، قال: فجئت فقلت: هو يأكل! فقال: "لا أشبع اللّه بطنه".
قال ابن كثير في البداية والنهاية 6: 189 ـ بعد أن ذكر الخبر ـ: (قلت: وقد كان معاوية... لا يشبع بعدها، ورافقته هذه الدعوة في أيام إمارته، فيقال: إنّه كان يأكل في اليوم سبع مرّات طعاماً بلحم، وكان يقول: واللّه لا أشبع وإنّما أعيى).
وقال البلاذري في فتوح البلدان 3: 853 بعد أن ذكر الحديث: (فكان يقول: لحقتني دعوة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان يأكل في اليوم سبع أكلات وأكثر وأقل).
وقد حاول محبّي معاوية من النواصب جعل الحديث منقبة له، ولكن الذهبي ـ وهو من محبّي معاوية ومن المدرسة الشامية ـ ردّ علهيم قولتهم هذه، فقال في سير أعلام النبلاء بعد أن ذكر الحديث 3: 123: (فسّره بعض المحبيّن قال: لا أشبع اللّه بطنه حتى لا يكون ممّن يجوع يوم القيامة; لأنّ الخبر عنه أنّه قال: (أطول الناس شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة)!
=>
____________
<=
قلت [ يعني الذهبي ]: هذا ما صحّ والتأويل ركيك).
3 ـ حديث: "لعن اللّه الراكب والقائد والسائق".
روى البزار في مسنده 9: 286: حدّثنا السكن بن سعيد، قال: حدّثنا عبد الصمد، قال: حدّثنا أبي، وحدّثناه حمّاد بن سلمة، عن سعيد بن جهمان، عن سفينة أن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان جالساً فمرّ رجل على بعير وبين يديه قائد وخلفه سائق فقال: "لعن اللّه القائد والسائق والراكب".
وسند الحديث صحيح. أما سفينة فهو صحابي ثقة (تهذيب الكمال 7: 387)، وسعيد بن جهمان فهو ثقة روى له الأربعة (تهذيب الكمال 7: 155)، وحمّاد بن سلمة ثقة (تهذيب الكمال 5: 175).
وعبد الصمد بن عبد الوارث ثقة (تهذيب الكمال 11: 475).
وقد صرّح الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 148 بوثاقة رجال السند.
ورى الطبراني في المعجم الكبير 3: 71 قال: (حدّثنا يحيى بن زكريا الساجي، ثنا محمّد بن بشار بندار، ثنا عبد الملك بن الصباح المسمعي، ثنا عمران بن حدير، أظنّه عن أبي مجلز قال: قال عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة لمعاوية: إنّ الحسن بن علي عيي، وإنّ له كلاماً ورأياً، وإنّه قد علمنا كلامه فيتكلم كلاماً فلا يجد كلاماً!
فقال: لا تفعلوا، فأبوا عليه، فصعد عمرو المنبر، فذكر علياً ووقع فيه! ثمّ صعد المغيرة بن شعبة المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ وقع في علي (رضي الله عنه) ثمّ قيل للحسن بن علي: اصعد! فقال: لا أصعد ولا أتكلّم حتى تعطوني إن قلت حقّاً أن تصدّقوني، وإنّ قلت باطلا أن تكذّبوني! فأعطوه، فصعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه فقال: ياللّه يا عمرو وأنت يا مغيرة تعلمان أنّ رسول
=>
____________
<=
اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "لعن اللّه السائق والراكب" ـ يعني أبي سفيان ومعاوية كما سيتضح ـ أحدهما فلان [ معاوية ]؟ قالا: اللهمّ بلى.
قال: أنشدك يا معاوية وأنت يا مغيرة: أتعلمان أن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لعن عمراً بكل قافية قالها لعنة؟
قالا: اللهمّ بلى!
قال: أنشدك اللّه يا عمرو وأنت يا معاوية بن أبي سفيان: أتعلمان أن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لعن قوم هذا [ أشار إلى المغيرة ]؟
قالا: بلى..).
وسند الحديث رواته ثقات:
فزكريا بن يحيى الساجى ثقة ورجالي كبير (الجرح والتعديل 3: 534).
ومحمّد بن بشّار بندار ثقة (تهذيب الكمال 24: 510).
وعبد الملك بن الصباح المسمعي ثقة (تهذيب الكمال 18: 331).
وعمران بن حدير ثقة (تهذيب الكمال 22: 313).
والحديث إسناده صحيح، وبيّن الإمام الحسن (عليه السلام) فيه أنّ معاوية ملعون هو وأبيه، وأشهد على ذلك عمرو والمغيرة، وقد شهدا، ثمّ بيّن أنّ عمراً ملعون على لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأشهد على ذلك معاوية والمغيرة، وقد شهدا، ثمّ بيّن أنّ المغيرة ملعون على لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأشهد على ذلك معاوية وعمراً، وقد شهدا.
وهناك روايات أُخرى في لعن معاوية وأبيه على لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين الصحيح والذي يصح للمتابعة.
4 ـ حديث: "يموت على غير ملّتي".
=>
____________
<=
أخرج الحافظ أحمد بن يحيى البلاذري في كتابه أنساب الأشراف قال: حدّثني إسحاق، قال حدّثني عبد الرزاق بن همام، أنبأنا معمّر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: كنت جالساً عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: "يطلع عليكم من هذا الفجّ رجل يموت يوم يموت على غير ملّتي" قال: وتركت أبي يلبس ثيابه، فخشيت أن يطلع، فطلع معاوية".
وهذا الحديث صحيح الإسناد لأنّ رجاله كلهم ثقات.
فإسحاق بن أبي إسرائيل ثقة (تهذيب الكمال 2: 226).
وعبد الرزاق الصنعاني ثقة (تهذيب الكمال 11: 447).
ومعمّر بن راشد ثقة (تهذيب الكمال 18: 268).
وعبد اللّه بن طاووس ثقة (الجرح والتعديل 5: 105).
وطاووس بن كيسان ثقة (تهذيب الكمال 9: 213).
وقد روى البلاذري الحديث بسند آخر: عن عبد اللّه بن صالح، حدثني يحيى بن آدم عن شريك، عن ليث، عن طاووس، عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: وذكر الحديث...".
قال العلاّمة المحدّث الشريف محمّد المكّي بن عزوز المغربي (رحمه الله): (الحديث الأوّل [ الذي جعلناه ثان ] رجاله كلّهم رجال الصحيح حتّى ليث فمن رجال مسلم، وهو ابن أبي سليم، وإنّ تكلّم فيه لاختلال وقع له في آخر أمره، فقد وثّقه ابن معين وغيره، كما أفاد الشوكاني.
على أنّ الوهم يرتفع بالسند الثاني [ الذي جعلناه الأوّل ] الذي هو حدّثني إسحاق الخ ; لأن الراوي فيه عن طاووس عبد اللّه ابنه لا ليث، والسند متين والحمد للّه) نقلا عن كتاب تقوية الإيمان لابن عقيل الشافعي: 138.
=>
ولا أترك هذه الفرصة تفوت لأروي قصّة طريفة وقعتْ لي شخصيّاً مع عالم من علماء أهل السنّة التقينا في الطائرة، وكنّا من المدعوّين لحضور مؤتمر إسلامي في بريطانيا، وتحادثنا خلال ساعتين عن الشيعة والسنّة، وكان من دعاة الوحدة، وأُعجبت به، غير أنّه ساءني قوله بأنّ على الشيعة الآن أن تترك بعض المعتقدات التي تُسببُ اختلاف المسلمين والطعن على بعضهم البعض، وسألتُه: مثل ماذا؟ وأجاب على الفور: مثل المتعة والتقيّة.
وحاولتُ جهدي إقناعه بأنّ المتعة هي زواج مشروع والتقيّة رخصة من اللّه، ولكنّه أصرّ على رأيه ولم يقنعه قولي ولا أدلّتي، مدّعياً أنّ ما أوردتُه كلّه صحيح، ولكن يجبُ تركه من أجل مصلحة أهم ألا وهي وحدة المسلمين.
____________
<=
وقد رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 5: 243 بسند صحيح لكن لم يذكر الاسم.
والاسم يتّضح من خلال رواية البلاذري المتقدّمة; لأنّ المتن واحد كما هو واضح لمن يراجع.
وقد ورد الحديث بلفظ: (يموت على غير سنّتي) في كتاب وقعة صفين لنصر ابن مزاحم المنقري ص 220.
وممّا يشهد لذلك ما أخرجه الألباني في صحيحته 4: 329 ح1749: "أوّل من يغيّر سنّتي رجل من بني أُميّة" قال: (قلت: وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات رجال الشيخين غير المهاجر وهو ابن مخلد أو مخلد...).
ثمّ حاول تأويل الحديث بشيء بعيد عنه فقال: (ولعلّ المراد بالحديث تغيير نظام اختيار الخليفة، وجعله وراثة..).
وهو تأويل بعيد بعد ملاحظة الأحاديث الأُخرى وضمّ بعضها إلى بعض، حيث تنتج أنّ معاوية يغيّر السنّة النبوية عموماً لا خصوص نظام الحكم. وقد غيّر معاوية سنّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من منازعة الأمر أهله كحربه لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، وقتله لعمّار بن ياسر الذي وصف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قتلته بأنّهم فئة باغية، وقتله الصالحين كحجر بن عدي وأصحابه، وسنّ سبّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) على المنابر، وكترك التلبية في يوم عرفة بغضاً لعلي بن أبي طالب وحباً في مخالفته كما أخرج ذلك النسائي في سننه 5: 253 بشرح السيوطي، وغير ذلك من المخالفات الصريحة للسنة النبوية المطهرة، فلا وجه لتخصيص التغيير بنظام الحكم دون غيره!
وهذا التأويل ينسجم مع نفسية الشيخ الألباني الشامية، فهو دمشقي ودمشق عاصمة النصب، أسّسها معاوية بن أبي سفيان على ذلك، وبقيت آثارها إلى يومنا هذا، فنشأ المحدث فيها وفيه نصب واضح من الدفاع عن بني أُميّة ومحاولة التنقيص من أهل البيت (عليهم السلام)، وارجع إلى محدّثي الشام كابن تيمية الحراني، والذهبي، وابن كثير، وابن القيّم، والألباني وغيرهم تجد ما ذكرناه واضحاً لا يخفى على أحد.
ونزلنا في مطار لندن وكنت أمشي خلفه، ولمّا تقدّمنا إلى شرطة المطار سُئل عن سبب قدومه إلى بريطانيا؟ فأجابهم بأنّه جاء للمعالجة، وادّعيت أنا بأنّي جئت لزيارة بعض أصدقائي، ومررنا بسلام وبدون تعطيل إلى قاعة استلام الحقائب، عند ذلك همستُ له: أرأيت كيف أنّ التقيّة صالحة في كلّ زمان؟ قال: كيف؟ قلت: لأنّنا كذبنا على الشرطة، أنا بقولي: جئت لزيارة أصدقائي، وأنت بقولك: جئت للعلاج، في حين أننا قدمنا للمؤتمر.
ابتسم وعرفَ بأنّه كذبَ على مسمع منّي، فقال: أليس في المؤتمرات الإسلامية علاج لنفوسنا؟ ضحكت قائلا: أو ليس فيها زيارة لإخواننا؟
أعود إلى الموضوع فأقول: بأنّ التقيّة ليست كما يدّعي أهل السنّة بأنّها ضرب من النفاق، فالعكس هو الصحيح; لأنّ النفاق هو إظهار الإيمان وكتمان الكفر، بينما التقيّة هي إظهار الكفر وكتمان الإيمان، وشتان ما بين الموقفين، هذا الموقف أعني النفاق الذي قال في شأنه سبحانه وتعالى:
أمّا الموقف الثاني أعني التقيّة التي قال في شأنها سبحانه وتعالى:
{ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْـتُمُ إيمَانَهُ }(2) فهذا يعني كفرٌ ظاهر + إيمان باطن = تقيّة.
فإنّ مؤمن من آل فرعون كان يكتم في الباطن إيمانه، ولا يعلم به إلاّ اللّه، ويتظاهر لفرعون وللناس جميعاً أنّه على دين فرعون، وقد ذكره اللّه في محكم كتابه تعظيماً لقدرِه.
وتعال معي الآن أيها القارئ الكريم لتعرف قول الشيعة في التقيّة حتى لا تغتّر بما يقالُ فيهم كذباً وبهتاناً.
يقول الشيخ محمّد رضا المظفّر في كتابه (عقائد الإماميّة) ما هذا نصّه:
"وللتقيّة أحكام من حيث وجوبها وعدم وجوبها بحسب اختلاف مواقع خوف الضرر، مذكورة في أبوابها في كتب العلماء الفقهيّة، وليست هي بواجبة على كلّ حال، بل قد يجوز أو يجب
____________
1- البقرة: 14.
2- غافر: 28.
وعلى كلّ حال ليس معنى التقيّة عند الإماميّة أنّها تجعل منهم جمعية سرّية لغاية الهدم والتخريب، كما يريد أن يصورّها بعض أعدائهم غير المتورّعين في إدراك الأُمور على وجهها، ولا يكلّفون أنفسهم فهم الرأي الصحيح عندنا.
كما أنّه ليس معناها أنّها تجعل الدين وأحكامه سرّاً من الأسرار لايجوز أن يُذاع بمن لايدين به، كيف وكتب الإماميّة ومؤلّفاتهم فيما يخصّ الفقه والأحكام ومباحث الكلام والمعتقدات قد ملأت الخافقين، وتجاوزت الحدّ الذي ينتظر من أيّ أُمّة تدين بدينها"(1). انتهى كلامه.
وأنت ترى أنّه ليس هناك نفاق، ولا غش، ولا دس، ولا كذب،
____________
1- عقائد الإمامية: 344، تحقيق محمّد جواد الطريحي.
____________
1- توهم بعض المتسلفين: في أنّ التقية إذا كانت جائزة وأنّ الأئمة (عليهم السلام) كانوا يؤمنون بها ويعملون عليها، فعند ذلك كيف نعرف أنّ الكلام الذي صدر منهم والروايات التي صدرت عنهم، صدرت عن جدٍّ ولم تصدر تقيةً وخوفاً؟!
ونجيب على هذا المتوهّم: بأنّ هذا الكلام يسقط إذا راجعنا تعريف التقيّة، والشروط اللازم توفّرها لتحقيق موضوع التقيّة، وبالتالي تكون جائزة، فالتقيّة: هي إبراز خلاف ما يعتقده الإنسان عند الخوف أو الضرر الذي لا يتحمّل، فهي بالتالي تجوز ضمن هذه الشروط، ولا تجوز مطلقاً وفي أيّ حال من الأحوال، وعنده نفهم أنّ التقيّة هي الحالة الشاذّة والنادرة في حياة الإنسان، وأنّ الحياة الطبيعية ليس فيها تقيّة، أو اضطرار لأن يبرز الإنسان خلاف معتقده، بل مقتضى الطبع البشري أنّه مختار وعندما يتكلّم يكون كلامه عن قصد ومبرزاً لما يعتقده في قلبه حقّاً، وأنّ الظلم والجور المؤدّي لأن يبرز الإنسان خلاف معتقده حال نادرة وفريدة في حياة الإنسان.
ومن هنا نعرف أنّ كلمات الأئمة ورواياتهم لم تكن كلها تقيّة، بل هناك الواضح والعامّ منها صدر لبيان الواقع ومراد لهم، لعدم توفّر شروط التقيّة حتى يكونوا مضطرّين للكلام بخلافه.
فما ذكره صاحب كتاب منهج أهل البيت في مفهوم المذاهب الإسلامية: 138 ناشئ عن عدم فهم التقيّة وحدودها الشرعيّة المسوغة لها.