الصفحة 78

حادثة مهيجة واستبصار دائم بكرامة ذرّيّة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) :

يقول ذو الفقار: في إحدى الأيام احترق طفلي الصغير بالنار بصورة بشعة، وقد تألّمت لهذه الحادثة كثيراً، ولم أدرِ ماذا أفعل لنجاة هذا الطفل الصغير، ولكنّي فوجئت بشفاء هذا الطفل بعد فترة قصيرة على نحو الإعجاز! فدعاني هذا إلى التأمّل في هذا الأمر لمعرفة سببه، والإحاطة بجوانبه، ولم أعرف سبباً له سوى أنّي كنت هُديت ووُفّقت لمساعدة إمرأة علوية (تنتمي في النسب إلى الإمام عليّ(عليه السلام)) كانت في غاية العسر والشدّة، فدلّتني هذه الكرامة على شرف ذرّيّة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) المنحصرة بذّريّة الإمام عليّ وفاطمة الزهراء(عليهما السلام)، وعرفت مكانة هذا النسل المختار عند الله تعالى ; تكريماً لأنبيائه، وإعزازاً لأوليائه، وقد حدى بي هذا الأمر إلى اختيار مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، والتمسّك بولايتهم، والفناء شوقاً في محبّتهم ومودّتهم بعد البحث والتدقيق الذي ثبت من خلاله أحقيّة مذهب أهل البيت(عليهم السلام).

فضل ذرّية النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ومكانتهم:

قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْض وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(1) وذرّيّة النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) هي من هذه الذرّيّة المذكورة في القرآن بل من أشرفها وأعظمها،فمن هذه الذرّيّة أهل البيت(عليهم السلام) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرّهم تطهيراً، كما ورد في آية التطهير(2)، ومنها العترة الذين أُمر المسلمون بالتمسّك بهم مع القرآنِ ثقلين نفيسين بعد رحلة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كما ورد في حديث الثقلين المتواتر، والصحيح عند جميع المسلمين، وهو آل محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) الذين وردت الصلاة عليهم

____________

1-آل عمران (3) : 33 ـ 34.

2-الأحزاب (33) : 33.


الصفحة 79

مقرونة بالصلاة على النبيّ الواردة في القرآن(1)، وهم ذوي القربى المفروضة مودّتهم في القرآن(2) أجراً على الرسالة النبويّة الشريفة، وهم... وهم... .

فالإسلام إذن يكرِّم الذرّيّة النبويّة الشريفة لا لأنّه دين عشائري كما يزعم المنافقون عندما غمزوا النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه يحامي أهله وعشيرته وقومه(3)، بل لأنّ إكرامهم من محكم أمر الدين، وهو أمر واجب على المسلمين، وليس تفضلاً منهم، وهذا أمر تقبله أوّل بديهيات العقل وعليه إجماع المسلمين فضلاً عن الأوامر المؤكّدة في القرآن والسنّة الشريفة، كما أنّ مودّتهم هي لصالح المسلمين، ورفعة للإسلام قال الله في كتابه: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْر فَهُوَ لَكُمْ}(4)، وقال أيضاً: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}(5).

وهذا الأمر ليس مخصوصاً في ذرّيّة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل هو قانون عام يشمل جميع الصالحين والمؤمنين كلاًّ حسب قدره وصلاحه، ففي قصّة الغلامين اليتيمين اللذين كان أبوهما صالحاً كما ذكر القرآن(6)في قصّة موسى والعبد الصالح(عليهما السلام)حيث أصلحا الجدار، وحفظا الكنز كرامة لأبيهما الصالح، فكيف لا تكرّم ذرّيّة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وهم المصطفون وهم المصداق الأكمل الذي لا يقاس به أحدٌ من العالمين.

وكذلك الأمر في هذه الآية من سورة الطور: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَان أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْ كُلُّ امْرِئ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}(7) فلا

____________

1-الأحزاب (33) : 56،مسند أحمد 1: 162، 3: 47، 4: 119، 241 و5:274 .

2-الشورى (42) : 23.

3-في أكثر من موضوع منها ما قالوه يوم الغدير عند انتخاب الإمام عليّ ابن أبي طالب للولاية، اُنظر الغدير 1: 239 وغيره.

4-سبأ (34) : 47.

5-الشعراء (26) : 109، 127، 145، 164، 180.

6-الكهف (18) : 82.

7-الطور (52) : 21.


الصفحة 80

تناقض بين العمل وإلحاق الذرّيّة بالاباء إكراماً لإيمانهم فكيف الأمر برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو منبع الإيمان، وكيف الأمر بذرّيّته وهم الذين دارت بهم رحى الإسلام. فهل آنَ للنصّاب أن يفهموا ذلك ويسلّموا له: أم لابدّ لهم أن يخضعوا لوساوس الشيطان الذي استزلّهم، لانهم قومٌ لا يعقلون ; ولأنّ لهم أحساب لئيمة وآباء أساءوا العمل وعادوا أهل الدين فجرّهم ذلك إلى عداوة الطاهرين من آل البيت فكان جزاؤهم جهنّم وبئس المصير.

هذا وقد ورد عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): من آل محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)؟

قال: ذرّيّته.

فقلت أهل بيته؟

قال: الأئمّة الأوصياء.

قلت: من عترته؟

قال: أصحاب العباء .

فقلت من أُمّته.

قال: المؤمنون الذين صدّقوا بما جاء به من عند الله عزّ وجلّ المتمسّكون بالثقلين الّذين اُمروا بالتمسّك بهما: كتاب الله عزّ وجلّ وعترته أهل بيته، الذّين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وهما الخليفتان على الأمّة بعده(عليه السلام)(1).

كما ورد عن أبي بصير أيضاً، عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فتغشاهم ظلمة شديدة فيضجون إلى ربّهم، ويقولون: يا ربّ اكشف عنّا هذه الظلمة، قال: فيقبل قوم يمشي النور بين أيديهم وقد أضاء أرض القيامة.

فيقول أهل الجمع: هؤلاء أنبياء الله فيجيئهم النداء من عند الله: ما هؤلاء بأنبياء، فيقول أهل الجمع: فهؤلاء ملائكة، فيجيئهم النداء من عند الله: ما هؤلاء

____________

1-معاني الأخبار: 94، ح3 أمالي الصدوق: 312، ح10، بحار الأنوار 25: 216.


الصفحة 81

بملائكة فيقول أهل الجمع: هؤلاء شهداء، فيجيئهم النداء من عند الله: ما هؤلاء بشهداء، فيقولون: من هم؟ فيجيئهم النداء: يا أهل الجمع، سلوهم من أنتم؟ فيقول أهل الجمع: من أنتم؟ فيقولون: نحن العلويّون، نحن ذّريّة محمّد رسول الله، نحن أولاد عليّ وليّ الله، نحن المخصوصون بكرامة الله، نحن الآمنون المطمئنون. فيجيئهم النداء من عند الله عزّ وجلّ: اشفعوا في محبيكم وأهل مودّتكم وشيعتكم، فيشفعون فيشفّعون(1).

آثار مودّة الذرّيّة الشريفة والإحسان إليهم:

روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: "إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أيّها الخلائق اُنصتوا، فإنّ محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم) يتكلّم، فتنصت الخلائق، فيقوم النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)فيقول: يا معشر الخلائق، من كانت له عندي يدٌ أومنّة أو معروف فليقم حتّى أُكافيه، فيقولون: بآبائنا وأمهّاتنا أنت، وأيّ يد وأي منّة وأيّ معروف لنا؟ بل اليد والمنّة والمعروف لله ولرسوله على جميع الخلائق.

فيقول(صلى الله عليه وآله وسلم): بلى من آوى أحداً من أهل بيتي، أو برّهم، أو كساهم من عري أو أشبع جائعهم فليقم حتّى أكافيه، فيقوم أناس قد فعلوا ذلك، فياتي النداء من قبل الله تعالى: يا محمّد، يا حبيبي قد جعلت مكافأتهم إليك فأسكنهم من الجنّة حيث شئت فيسكنهم في الوسيلة حيث لا يحجبون عن محمّد وأهل بيته صلوات الله عليه وعليهم"(2).

ونقل سبط ابن الجوزي: أنّه أحسن عبد الله بن المبارك إلى إمرأة علويّة فقيرة، فرأى في المنام النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إنّك أغثت ملهوفة من ولدي فسألت الله

____________

1-أمالي الصدوق 358، ح19، المجلس السابع والأربعون، عنه بحار الأنوار 7: 100، ح4 و 8: 36 ، ح10 و 93: 217، ح1.

2-من لا يحضره الفقيه 2: 36، ح153، وسائل الشيعة 16: 332، ح3.


الصفحة 82

تعالى أن يخلق على صورتك ملكاً يحجّ عنك كلّ عام إلى يوم القيامة(1).

اسلام رجل مجوسي وعائلته لإكرامه إمرأة علويّة وبناتها:

حكي أنّ إمرأة علويّة صالحة خرجت مع بناتها الأربع من مدينة قم في بعض السنين التّي وقعت ملحمة بقم حتّى أتت بلخ في أيام الشتاء، فقصدت رجلاً من أكابرها المعروف بالإيمان والصلاح فرأته وأخبرته بحالها فقال: من يعرف أنّك علويّة؟ هاتي على ذلك شهوداً، فخرجت من عنده حزينة باكية، وكان في مجلس ذلك الرجل مجوسيٌ.

فلمّا رأى العلويّة وما قال لها الرجل وقعت لها الرحمة في قلبه، فقام في طلبها مسرعاً فلحقها فآواها وأدخلها منزله، وأعدّ لها جميع ما تحتاج إليه، فلمّا نام المجوسي رأى القيامة، فطلب الماء من أمير المؤمنين(عليه السلام)، وهو واقف على شفير حوض الكوثر، فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): إنك لست على ديننا فنسقيك.

فقال له النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): يا عليّ، اسقه، إنّ له عليك يداً، قد آوى ابنتك فلانة وبناتها، فسقاه(عليه السلام) .

قال الراوي: وقام الرجل من ساعته، وأسرج الشمع، وخرج هو وزوجته حتّى دخل على البيت الّذي تسكنه العلّوية، وحدثها بما رآه، فقامت وسجدت لله شكراً، وقالت: والله، إنّي لم أزل طول ليلتي أطلب إلى الله هدايتك للإسلام، والحمدُ لله على استجابة دعائي فيك، فقال لها: اعرضي عليّ الإسلام فعرضته عليه فأسلم وحسن إسلامه، وأسلمت زوجته وجميع بناته وجواريه وغلمانه(2).

____________

1-تذكرة الخواص 2: 520 بحار الأنوار 93: 234، ح34، ينابيع المودّة 3: 176، غوالي اللئالي 4: 140 .

2-روى العلامة المجلسي رحمه الله الحكاية في بحار الأنوار 93: 225، ح26 وهي طويلة، عن غوالي اللئالي 4: 142.


الصفحة 83

(15) رياض أحمد رضوي

(حنفي / باكستان)

ولد سيّد رياض عام 1401هـ (1981م) في باكستان بمدينة "بيشاور"، ونشأ في أسرة تنتمي إلى ا لمذهب الحنفي، واصل دراسته حتّى حصل على شهادة البكالوريوس في الفنون والآداب، كما أنّه يجيد العديد من اللّغات منها: الأردو والبشتو والبنجاب والهندكو.

أمضى شطراً من حياته متمسّكاً بالمذهب الحنفي تبعاً لنهج آبائه ومماشاةً مع البيئة التي كانت تحيطه، وكان شديد التعصّب لمذهبه عند مواجهته لأتباع باقي المذاهب الاسلامية.

منطلق تعرّفي على التشيّع:

يقول السيّد رياض: يرجع أوّل انتباهي لمذهب أهل البيت(عليهم السلام) إلى زمن صِغري عندما رأيت مجموعة من الناس في مكان يسمى بالحسينية، ولما سألت عنهم قيل لي أنّهم من الشيعة وأنّهم ينتقدون الصحابة ولا يقبلون بخلافة أبي بكر بل يقولون بأنّ الأدلة والبراهين من القرآن والسنة تثبت بأنّ الرسول نصّ من بعده على إمامة علي(عليه السلام) وأبنائه، فلهذا لا يحقّ لأحد غصب هذه المكانة بعد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) فدفعني التعصّب لمواجهة هذه العقيدة، ولكن سألت نفسي: ما هي دوافع وأسباب هذه العقيدة؟


الصفحة 84

ويقول السيّد رياض: كانت والدتي معلمّة للقرآن، وكان بعض الناشئين من منطقتنا من العوائل الشيعية أو السنيّة يأتون لبيتنا فى كل أسبوع ليتعلّموا قراءة القرآن، وفي يوم من الأيام سمعت واحداً من الناشئين ينقد الخلفاء، فحملت عليه وضربته واشبعته بأنواع السب والشتم وطردته من بيتنا، ومنذ ذلك اليوم ازداد بغضي للشيعة وزاد تعصبّي ضدّ أتباع هذا المذهب.

استبصار خالي:

يقول سيّد رياض مضت الأيام وذات يوم تفاجأت بخبر استبصار خالي وزوج أختي، فلم أصدّق ذلك، ولكنني علمت بصدق الخبر بعد البحث والتتبع.

وفي يوم من الأيام ذهبت إلى احد المساجد التي كان يصلّي فيها الشيعة، ورأيت في ذلك المسجد مكتبة فقصدتها وجذبني حبّ الاستطلاع إلى التعرّف عليها، ولفت انتباهي كتاب عنوانه "ثمّ اهتديت" تأليف الدكتور التيجاني، ففوجئت لمّا علمت بأنّ الكتاب لرجل مستبصر يروي فيه قصة تشيّعه واستبصاره.

رأيت الكتاب يشير إلى المسائل التي كانت تشغل ذهني من قبيل: الخلافة بعد النبي والسقيفة و... وهي المواضيع التي كنت أهملها ولا أبالي بها وأجعلها في هامش التفكير، ولكن جذبني هذا الكتاب ورأيته كتاباً يستند في نصوصه إلى كتبنا السنية، وهذا الأمر زاد في تعجّبي واستغرابي.

فذهبت بعدها إلى أحد علماء أهل السنة واستفسرت منه الأمر، فحذّرني من مطالعة الكتاب، فطلبت منه الأدلة في رد ما جاء في كتاب ثمّ اهتديت، فلم يستجب لطلبي وبقى يشنّع على الشيعة فقط، فطلبت منه كتب الصحاح، فاستجاب لطلبي فأسرعت إلى مراجعة المصادر الواردة في كتاب الدكتور التيجاني وكنت واثقاً بأنّه يكذب علينا وأنّ ما ذكره غير موجود في كتبنا، ولكن خاب ظنّي عندما راجعت هذه المصادر فوجدتها موجودة في كتبنا وأن الدكتور التيجاني صادق في


الصفحة 85

نقله فارتبكت لذلك ومن هذا المنطلق أحسست بأنّي بحاجة إلى غربلة أفكاري ومعتقداتي الدينية والاطمئنان منها وعدم الاكتفاء بالموروث العقائدي.

قررت أن اكتشف الحقيقة وما وجدت طريقاً لها إلاّ التحقيق والتدقيق في الكتاب والسنة والمراجعة إلى العقل السليم.

فعكفت بعدها على مطالعة الكتب العقائدية سواء كانت هذه الكتب سنّية أو شيعية، لأنني كنت استهدف معرفة الحق ولم اتعصّب لجهة معينّة.

عقلانية التشيّع:

رأيت الشيعة يمتازون بالتمسّك بالعقل وما عندهم لا يتنافى مع الفطرة السليمة، وكلّما كنت أراجع علماءنا كانوا يقولون لي بأنّي أنحرفت عن الحق، وقد فسد عقلي وكانت إجابات هؤلاء لا تمنعني من التحقيق بل كان لها دور المحفز القوي للبحث عن الحقيقة وبذل الجهد في سبيل التحرّر من التقليد الأعمى.

وذات يوم سمعت بأنّ أحد أساتذتي في المعهد قد تشيّع، فذهبت إليه فوجدته ماهراً في مجال العقائد، فأرواني بالاستدلالات القوية والحجج المقنعة وبعد مضي فترة رأيت عقلي وفطرتي يدعواني إلى التمسك بمذهب أهل البيت(عليهم السلام) ولم يبق لي إلاّ أن أُعلن تشيّعي، فأعلنت بعد ذلك استبصاري واعتناقي لمذهب أهل البيت(عليهم السلام).

البحث عن الفرقة الناجية:

وجد السيّد رياض خلال بحثه أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعلم بنشوء الخلافة من بعده، وكان يعلم بما سيجري من بعده من خلافات، ولهذا صرّح بهذا المطلب في مواقف عديدة منها:

قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): "ليأتين على اُمتي ما أتى على بني اسرائيل حذو النعل بالنعل... إنّ بني إسرائيل تفرّقت على اثنتين وسبعين ملّة، وتتفرّق اُمتي على ثلاث


الصفحة 86

وسبعين ملّة كلّهم في النار إلاّ واحدة"(1)، ويرى المتتبع في السيرة والأحاديث الكثير من هذه الروايات التي تشهد شهادة قطعية على ما كان من اختلاف الأمة، ومن هذا المنطلق لا يستطيع أحد أن يقول بأنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان لا يعلم بنشوء الخلاف بين أمته.

موقف النبي إزاء مصير الأمّة من بعده:

انّ هذا الموضوع يطرح سؤالاً مهماً في أذهاننا، وهو هل قام النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بعملية وقائية لحل الاختلافات التي اشار اليها وبيّن بأنّها ستقع من بعده في أوساط الأمة الإسلامية؟

اختلف علماء المسلمين في جواب هذا السؤال، فقالت الشيعة: إنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أوصى بأمر من الله تعالى أن يكون الإمام علي(عليه السلام) هو الخليفة من بعده.

وقال أهل السنة بأنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يتدخّل في هذا الأمر، وترك الاُمة بلا وصية ولا تحديد لمصير خلافتها من بعده.

ولازم هذا القول أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ترك الأمة من بعده سدى، ولم يهتم بأن تضمحل الجهود الّتي بذلها لإقامة الدولة الإسلامية ولم يهمّه أنْ تتمزقّ الأمّة الإسلامية من بعده وتتناحر حول مسألة الخلافة من بعده والشيعة تشهد النصوص الكثيرة الدالة على وجود النص على خلافة الإمام علي(عليه السلام) من بعد الرسول منها: آية الانذار، آية الولاية، آية المباهلة، حديث الراية، حديث الغدير، حديث الطير، حديث المنزلة، حديث المحبة، آية التطهير و...

وأما أهل السنة: فمنهجهم هذا في الصعيد تبرير ما وقع بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وإضفاء المشروعيّة عليه، وكل ما ذكروه في هذا المجال ليس إلاّ تبريراً فاقداً للضوابط الصحيحة والقواعد الثابتة، فتراهم تارة يقولون بالشورى ويذهبون إلى

____________

1-كنز العمال 1: 92.


الصفحة 87

أنّ أبا بكر قد اختارته الأمة والسبيل المشروع للخلافة هو اختيار الأكثرية ولكنّهم عندما يجدون بأنّ عمر لم يتمّ اختياره بهذه الطريقة وأنّه استلم أمر الخلافة بتنصيب من أبي بكر، فيتوجهون لتبرير هذا الأمر ويتركون قاعدتهم السابقة ويحاولون إعطاء المشروعية على خلافة عمر، وأما عثمان فقد جاء إلى الخلافة بطريقة ثالثة وهكذا يكون دأبهم تبرير الأمر والبحث عن أي دليل لإقناع اتباعهم بمشروعية من استلم الأمر من بعد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم).

ولهذا نجد بأنّ منهجيتهم في هذا الأمر مضطربة وغير ثابتة، ولا تستهدف إلاّ قبول الواقع المفروض عليهم سواء كان هذا الواقع مستنداً إلى الثوابت الشرعية أو غير مستند إلى ذلك.

والغريب في الأمر أنّ هذه المنهجيّة دفعت أهل السنّة إلى الابتعاد عن أهل البيت(عليهم السلام) ولا يخفى على أحد الاهتمام الكبير الذي قد اهتمّ به رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بهؤلاء العترة الطاهرة، وهذا الأمر هو الذي يشكّل إشكالية كبرى في تحقّق التوازن بين المبادئ التي جاء بها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهذه المنهجيّة نفسها هي التي دفعتهم إلى القول بعدالة جميع الصحابة في الوقت الذي يجد الباحث أنّ الصحابة قد اقتتلوا فيما بينهم وسفك بعضهم دمّ البعض وحارب بعضهم البعض، ولهذا نجد أهل السنة يتهرّبون من طرح المشاجرات التي وقعت بين الصحابة، ويكتفون فقط بما تملي عليهم الحكومات التي هيمنت عليهم.

وبعبارة موجزة يمكن القول بأنّ مذهب أهل السنّة مذهب حكومي دعمته الحكومات وغذّته ليكون متلائماً مع ما يحقّق لها مآربها السياسية ويجعله متماشياً مع مصالحها في هيمنتها على المجتمع.

وأمّا تمسّك أهل السنّة بمبداً الشورى فليس إلاّ وسيلة لخداع الجمهور وإلاّ فالشورى مبدأ جاءت به الشريعة الإسلامية ليتّم التمسك به في محلّه وإلاّ فلا معنى للشورى بين الناس لتحديد ما يرتبط بالصلاة والصوم والزكاة وما جاء به الله تعالى.


الصفحة 88

ويجد الباحث بأنّ الخلافة من بعد رسول الله أمر ديني يتعلّق بالإرادة الإلهية التشريعية ولهذا لا يصح فيه أمر الشورى.

إنّ إرجاع الاُمة مدى الدهر إلى قاعدة الشورى هي عين الفوضويّة، وليس معناه إلاّ إلقاء الأمة في أعظم هوة من الخلاف لا حدّ له ولا قعر، لأنّ لكلّ قاعدة ضوابطها وقوانينها وبما أنّ قاعدة الشورى في تعيين الخلافة بعد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)ليس لها سند في الكتاب والسنة، فعدم وجود ضوابط لهذه القاعدة هو أمرٌ لا يستطيع أحد إنكاره وإذا كانت القاعدة وضوابطها غير معيّنة فيستطيع أيّ صاحب قدرة وصاحب رأي، التدخّل في الضوابط وتغييرها لصالحه ولأجل منافعه، فعلى هذا الأساس لا تكون هكذا قاعدة صالحة للتمسّك بها على الخصوص إذا كان الموضوع هو مسرحاً للعواطف والأغراض الشخصية والتغيرات والحكم والخلافة والرئاسة.

فلهذا لا نستطيع بالقول بأنّ قانون الشورى وتحكيم الأكثرية هو أمر مشروع ومقبول في كل المسائل والأزمان والحالات.

فلا يصح اللّجوء إلى قاعدة الشورى في مقابل النص ولا يصحّ أنْ ننسب هذه القاعدة التي لا يكون لها ضوابط إلى شخص لا ينطق عن الهوى.

ولا يخفى ضرر تشريع قاعدة الشورى واختيار الاُمة لتعيين خليفتها، ولهذا قالت عائشة لعمر عن طريق ابنه عبد الله: "لا تدع اُمة محمّد بلا راع، استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملاً فإنّي أخشى عليهم الفتنة".

ولست أدري لماذا لم يشر أحد على النبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنْ يستخلف أو يبيّن على الأقل طريقة الاستخلاف وضوابط الطريقة، حتّى لا يفتنوا كما أشارت عائشة؟

ولماذا لم يسأل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذا الأمر وهم كانوا يسألونه عن الصغيرة والكبيرة؟


الصفحة 89

والمرجّح هنا أنّه سُئل فأجاب، ولكن التاريخ الذي دوّنه أهل السنّة هو المتّهم في إهمال مثل هذه القضايا ولكن تاريخ الشيعة لم يهمل هذا السؤال والجواب الصريح عليه.

الإجماع على قاعدة اختيار الاُمة:

اننّا لا نجد في الكتاب ولا في السنّة قول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا التشريع لا تصريحاً ولا تلويحاً مع أنّ الدواعي متوفّرة جداً لنقل مثل هذا القول، والقوّة والحول في صدر الإسلام إلى ما بعده في يد من يرتئي هذا الرأي ويدافع عنه، فليس لأحد أن يدّعي أنّ هذا الأثر قد خفى علينا أو امتنع الرواة عن نقله.

إنّ علماء السنّة استدلوا بإجماع أهل الصدر الأوّل على كفاية اختيار أهل الحل والعقد بدليل بيعة أبي بكر يوم السقيفة وعندهم الإجماع حجّة لما روي عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) "لا تجتمع اُمتي على الخطأ".

والإجماع حتّى على رأي أهل السنّة لم ينعقد في بيعة وجماعة من كبار الصحابة كسلمان وأبي ذر والمقداد وعمّار والزبير وخالد بن سعيد وحذيفة اليمان وبريدة وغيرهم ولم يبايع من بايع منهم بعد ذلك إلاّ قهراً وحفظاً لبيضة الإسلام وتوحيداً لكلمة المسلمين ولا يصّح أنْ يقال هؤلاء ليسوا من أهل الحّل والعقد للاُمة الإسلامية.

وبصورة إجمالية وجد سيّد رياض بأنّ الشيعة تمتاز بامتلاكها الدليل العقلي والنقلي على معتقدها ولكن أهل السنّة تتمسّك بقاعدة ليس لها دليل في الكتاب والسنة بل قاعدة أهل السنة في مقابل النصّ؟

ولا يخفى أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "ما اختلفت أمّة بعد نبيّها إلاّ ظهر أهل باطلها على أهل حقّها"(1).

____________

1-كنز العمال 1: 183.


الصفحة 90

(16) رياض حسين نقوي

(سنّي / باكستان)

ولد سنة 1399هـ (1979م) في باكستان بمحافظة "سرحد" منطقة "منصهرة"، واصل دراسته الأكاديمية حتّى حصل على شهادة الدبلوم، كان معتنقاً للمذهب السنّي وفق فرقة "البريولى"، ثمّ استبصر على أثر البحوث المقارنة التي أجراها في مجال العقيدة.

كيفيّة تعرّفه على مذهب التشيّع:

يقول السيّد رياض: تشيّع أحد أقربائنا، فدفعني ذلك لمعرفة أسباب تركه للمذهب السنّي واعتناقه لمذهب التشيّع، فقصدته، وبدأت بمحاورته حول نقاط الاختلاف بين المذهب السنّي والمذهب الشيعي، ولا سيّما حول مسألة الخلافة والإمامة، ففتح هذا الحوار آفاق رؤيتي على حقائق كنت أجهلها فيما سبق.

كما أنّني لم أقتصر على الحوار معه، بل طلبت منه أن يزوّدني ببعض الكتب الشيعية، ليكون تعرّفي على هذا المذهب مبتنياً على الأسس الصحيحة، فأعطاني بعض الكتب الشيعية، فبدأت بقراءتها، وكان من جملة الكتب التي لفتت انتباهي أكثر من غيرها كتب الدكتور التيجاني السماوي ; لأنّ أسماءها كانت غريبة وجذّابة وكان محتواها رائعاً من ناحية التأثير.

وقد يكمن سبب تأثير هذه الكتب في أنّ مؤلّفها كان من أهل السنّة ثمّ


الصفحة 91

استبصر، وبدأ بنشر أدلّة استبصاره بلغة جذّابة.

قراءته لكتب التيجاني:

قرأ السيّد رياض كتب التيجاني، وكان من بين هذه الكتب كتاب "الشيعة هم أهل السنّة"، وعنوان هذا الكتاب ملفت للنظر، وذكر الدكتور التيجاني في مقدمته: "سأبيّن للقراء الكرام بأنّ الاصطلاح الذي اتّفق عليه مناوئو الشيعة وخصومهم وتسمّوا بـ"أهل السنّة والجماعة" ما هي في الحقيقة إلاّ سنّة مزعومة سمّوها هم وآباؤهم، ما أنزل الله بها من سلطان، والنبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) منها بريء.

فكم كُذبَ على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكم مُنِعَتْ أحاديثُه وأقواله وأفعاله أن تصل إلى المسلمين بحجّة الخوف من اختلاطها بكلام الله، وهي حجّة واهية كبيتِ العنكبوت، وكم من أحاديث صحيحة أصبحت في سلّة المهملات، ولا يقامُ لها وزن ولا يُعبأ بها، وكم من أوهام وخُزعبلات أصبحت من بعده أحكاماً تنسبُ إليه(صلى الله عليه وآله وسلم) .

وكم من شخصيّات وضيعة يشهد التّاريخ بخسّتها وحقارتها، أصبحتْ بعده سادة وقادة تقود الأمّة ويُلتمس لأخطائها الأعذار والتأويلات.

وكم من شخصيّات رفيعة يشهد التاريخ بسمُوِّها وشرف منبتها، أصبحتْ بعدَه مهملةً لا يُعبأُ بها ولا يُلتفتُ إليها، بل تُكفّرُ وتُلعنُ من أجل مواقفها النّبيلة، وكم من أسماء برّاقة جذّابة تُخفي وراءها الكفر والضّلال، وكم من قبور تُزار وأصحابها من أهل النّار.

وقد عبَّر ربّ العزّة والجلالة عن ذلك بأحسن تعبير فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ


الصفحة 92

اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}(1).

المفاجئة والاستغراب:

وجد السيّد رياض خلال مطالعته لكتب التيجاني بأنّ هذه الكتب تبيّن حقائق تاريخية غريبة جدّاً، ولكنّه لم يستعجل في اتخاذ القرار، بل قرّر أن يراجع مصادر أهل السنّة، يتثبّت في أمر صحّتها، ومن هنا بدأت رحلة السيّد رياض في البحث، ولم تمض فترة إلاّ وعرف السيّد رياض بأنّ تاريخ صدر الإسلام مليء بأحداث كثيرة حاول علماء أهل السنّة التعتيم عليها وغض الطرف عنها ; لأنّها تهدّد بنيان عقيدتهم حول عدالة جميع الصحابة.

تساؤلات دفعته للاستبصار:

يقول السيّد رياض: كان لمطالعتي كتب الدكتور التيجاني وغيرها من كتب الشيعة أكبر سبب في تغيير انتمائي المذهبي، ومن خلال هذه الكتب تعرفّت على تاريخ صدر الإسلام، وما جرى فيه بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فتألمّت لمظلومية الزهراء، وغصب القوم لحقوقها وإرثها، واطلعت على خلافها مع أبي بكر، فوجدت بعد البحث في مصادر أهل السنّة بأنّ الحقّ معها ومع بعلها الذي غصبت منه الخلافة، وحكم عليه بالجلوس في داره، فصبر الإمام وفي العين قذى وفي الحلق شجى يرى تراثه نهبا.

اجتياز أكبر مانع في الاستبصار:

إنّ من أكبر الموانع التي جعلت السيّد رياض يتريّث في تغيير انتمائه المذهبي، رؤيته للجمع الغفير المتّبع لمذهب أهل السنّة، فيا ترى هل جميع هؤلاء مخطئين في انتمائهم المذهبي. ولكنه بعد البحث وجد بأنّ الأكثرية لا تمثّل الحقّ،

____________

1-البقرة (2) : 204 ـ 206


الصفحة 93

وإذا كانت الأكثرية هي الملاك للحق، فإنّ عدد غير المسلمين في العالم أيضاً كثير، فهل يعني ذلك ان يترك المسلم دينه ويعتنق ديناً غير الإسلام.

ووجد السيّد رياض بأنّ الملاك في الانتماء المذهبي هو الدليل والبرهان، وينبغي أن لا يكون للكثرة والقلّة أي دور في انتخاب العقيدة.

أسباب انتشار مذهب أهل السنّة:

وجد السيّد رياض بعد تتّبعه في كتب التاريخ بأنّ السبب الأساسي لانتشار المذهب السنّي يعود لدعم السلطات لهذا المذهب، وذلك لأنّ السلطات التي استولت على دفّة الحكم بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ولاسيما بني أمية وبني العبّاس وجدت بأنّ المذهب السنّي هو المذهب الوحيد الذي يعد مناسباً لتحقّق أهدافها وأغراضها، وتثبيت دعائم سلطانها وحكومتها.

وأنّ السبب الذي دفع عشرات المذاهب الأخرى إلى الانقراض يعود لعدم دعم السلطة لهذه المذاهب.

وقرأ السيّد رياض في كتاب "الشيعة هم أهل السنّة" للدكتور التيجاني السماوي: "إذا راجعنا التاريخ فإنّنا نجد مالكاً صاحب المذهب قد تقرّب إلى السلطة والحكّام وسالمهم ومشى في ركابهم، فأصبح بذلك الرجل المهاب والعالم المشهور، وانتشر مذهبه بوسائل الترهيب والترغيب خصوصاً في الأندلس حيث عمل تلميذه يحيى بن يحيى على موالاة حاكم الأندلس، فأصبح من المقرّبين، وأعطاه الحاكم مسؤولية تعيين القضاة، فكان لا يولّي على القضاء إلاّ أصحابه من المالكيّة فقط .

كذلك نجد أنّ سبب انتشار مذهب أبي حنيفة بعد موته هو أنّ أبا يوسف والشّيباني وهما من أتباع أبي حنيفة ومن أخلص تلاميذه، كانا في نفس الوقت من أقرب المقرّبين "لهارون الرّشيد" الخليفة العبّاسي، وقد كان لهما الدّور الكبير في


الصفحة 94

تثبيت ملكه وتأييده ومناصرته، فلم يسمح هارون "الجواري والمجون" لأحد أن يتولّى القضاء والفتيَا إلاّ بعد موافقتهما.

فلم ينصّبا قاضياً إلاّ إذا كان على مذهب أبي حنيفة، فصار أبو حنيفة أعظم العلماء، ومذهبه أعظم المذاهب الفقهية المتّبعة، رغم أنّ علماء عصره كفّروه واعتبروه زنديقاً، ومن هؤلاء الإمام أحمد بن حنبل، والإمام أبو الحسن الأشعري.

كما أنّ المذهب الشّافعي انتشر وقويَ بعدما كاد يندرس، وذلك عندما أيّدته السّلطة الغاشمة، وبعدما كانت مصر كلّها شيعة فاطمية، انقلبتْ إلى شافعية في عهد صلاح الدّين الأيوبي الذي قتل الشيعة وذبحهم ذبح النّعاج.

كما أنّ المذهب الحنبلي ما كان ليُعرف لولا تأييد السّلطات العبّاسية في عصر المعتصم عندما تراجع ابن حنبل عن قوله بخلق القرآن، ولمع نجمه في عهد المتوكّل "النّاصبي".

وقوي وانتشر عندما أيدتْ السّلطات الاستعماريّة الشيخ محمّد بن عبد الوهاب في القرن الماضي، وتعامل هذا الأخير مع آل سعود فأيّدوه فوراً وناصروه وعملوا على نشر مذهبه في الحجاز والجزيرة العربية.

وأصبح المذهب الحنبلي يعود إلى ثلاثة أئمّة أوّلهم أحمد بن حنبل الذي لم يكن يدّعي بأنّه فقيهاً، وإنّما كان من أهل الحديث، ثمّ ابن تيميّة الذي لقّبوه بشيخ الإسلام، ومجدّد "السنّة" والذي كفّره علماء عصره، لأنّه حكم على كلّ المسلمين بالشرك ; لأنّهم يتبّركون ويتوسّلون بالنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمّ جاء في القرن الماضي محمّد ابن عبد الوهاب صنيعة الاستعمار البريطاني في الشرق الأوسط .

فعمل هو الآخر على تجديد المذهب الحنبلي بما أخذه من فتاوى ابن تيميّة، وأصبح أحمد بن حنبل في خبر كان إذ إنّ المذهب عندهم اليوم يُسمى المذهب الوهابي.


الصفحة 95

وممّا لا شكّ فيه أنّ انتشار تلك المذاهب وشهرتها وعلوّ شأنها كان بتأييد ومباركة الحكّام.

وممّا لا شكّ فيه أيضاً بأنّ أولئك الحكّام كلّهم بدون استثناء كانوا يعادون الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام) ; لشعورهم الدّائم بأنّ هؤلاء يهدّدون كِيَانهم وزوال ملكهم، فكانوا يعملون دائماً على عزلهم عن الأمة، وتصغير شأنهم، وقتل من يتشيّع لهم.

فبديهي أن يُنصب أولئك الحكّام بعض العلماء المتزلّفين إليهم، والذين يفتونهم بما يتلاءم مع حكمهم ووجودهم، وذلك لحاجة النّاس المستمرّة لوجود الحلول في المسائل الشرعيّة

ولمّا كان الحكام في كلّ العصور لا يعرفون من الشريعة شيئاً، ولا يفهمون الفقه، فكان لابدّ أنْ يُنصبوا عالماً باسمهم يفتي، ويُموّهون على النّاس بأنّ السّياسة شيء والدّين شيء آخر.

فكان الخليفة الحاكم هو رجل السّياسة والفقيه رجل الدّين كما يفعل ذلك اليوم رئيس الجمهورية في كلّ البلاد الإسلاميّة، فتراه يُعيّن أحد العلماء المقرّبين يُسمّيه مفتي الجمهورية أو أي عنوان آخر يعبر عن ذلك، ويُكلّفه بالنّظر في مسائل الفتيا والعبادات والشعائر الدّينيّة.

ولكنّه في الحقيقة ليس لهذا الرّجل أن يفتي أو يحكم إلاّ بما تُمليه عليه السّلطة وما يُرضي الحاكم، أو على الأقل ما لا يتعارضُ وسياسة الحكومة وتنفيذ مشاريعها"(1).

أسباب بقاء مذهب التشيّع:

وجد السيّد رياض بأنّ من أهم اسباب بقاء مذهب التشيّع على رغم

____________

1-الشيعة هم أهل السنة، الدكتور التيجاني السماوي: 92 ـ 94 .


الصفحة 96

مظلوميته واضطهاده من قبل الحكومات والسلطات هو قوة أدلّته وبراهينه وتسديد الله تعالى لهذا المذهب، والألطاف الإلهية الخفيّة والظاهرة له، وهذا ما جعل هذا المذهب أن يتنامى ويزدهر يوماً بعد آخر.

طلب علوم أهل البيت(عليهم السلام) :

التحق السيّد رياض بمدرسة الرسول الأعظم الشيعية، ودرس فيها مدّة سنة ونصف حتّى أيقن بأحقيّة مذهب التشيّع، فأعلن بعد ذلك استبصاره، ثمّ سافر إلى إيران والتحق بالحوزة العلمية في مدينة قم المقدّسة، ثمّ عاد إلى منطقته.

ويقول السيّد رياض: واجهت بعد الاستبصار العديد من المضايقات من قبل أقربائي وأصدقائي، ولكنني لم أبال بموقفهم بعد أن تجلّت لي الحقيقة بوضوح، بل واصلت سعيي في تبين الحقيقة للآخرين حتّى استبصر على يدي بعض أفراد أسرتنا وجملة من أصدقائي، وأنا لازلت داعياً أبذل قصارى جهدي لبث علوم ومعارف أهل البيت(عليهم السلام) .


الصفحة 97

(17) زين العابدين شاه بغدادي

(سنّي / باكستان)

ولد في باكستان في عائلة سنّية، حفظ القرآن، ودرس في حوزة أهل السنّة في باكستان سافر إلى الهند للتخصّص في الإفتاء في حوزة السنّة الصوفية في بريلي شريف، وحصل على لقب (مفتي).

سافر إلى بغداد ودرس في كلية الشريعة ببغداد، درس أيضاً في المدينة المنورة وكان إماماً لمسجد البقيع، ودرس كذلك في الأزهر بمصر لمدة خمس سنوات، درس فيها المذاهب الخمسة، الجعفري والمذاهب الأربعة المعروفة لأهل السنّة.

وكان مبلغ وإمام جمعة في لندن، ومندوب لدار الافتاء للعلماء الصوفية في باكستان.

استبصاره:

يقول المفتي زين العابدين: أيام دراستي في كلية الشريعة ببغداد الواقعة عند ضريح أبو حنيفة قرب الجسر الذي يربط الأعظمية بالكاظمية، كنت ألتقي بالكثير من الطلاب الشيعة عند ذهابي إلى مكان دراستي كلّ يوم، وتحدث بيننا بعض الحوارت العلمية.

بدأت بعد ذلك بعلاقة مع أحد الشيوخ الباكستانيين الشيعة الذين يدرسون


الصفحة 98

في حوزة النجف الأشرف، وقد أخذني صديقي هذا إلى زيارة العتبات في النجف وكربلاء والكاظمية، وقد قمنا بزيارة العلماء في مدينة النجف.

فتأثرت في زيارتي هذه بعلماء النجف روحياً ومعنوياً، وعرفت أنّهم أهل اجتهاد واستدلال وبرهان، ويخضعون عقائدهم لموازين العقل والنقل بغير إفراط وتفريط ، وليس من العلماء المقلّدة، وبعد مراجعتي لتاريخ المسلمين، ومقارنتها بالأحداث التي رأيتها في العصر الحاضر، عرفت أنّ الحقّ وطريق الهداية هو الذي يسير عليه الشيعة أنصار مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، فاهتديت بهدى الرسول وآله وكان من المواضيع التاريخية التي هزتني واقعاً هي قضية الزهراء سلام الله عليها حيث توفيت الزهراء(عليها السلام) وهي غاضبة عليهم، وأوصت أن لا يشهد أحدٌ ممن ظلمها جنازتها، ولا يصلّي عليها واحد منهم، فأثّر في هذا الكلام نفسياً، فأخذت في البحث حوله، فظهر لي بعد التحقيق أنّ الصديقة الطاهرة قد غضبت فعلاً عليهم(1)، وغضبها يوجب غضب النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) لقوله: "فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني"(2)

مؤلفاته:

1ـ فتاوى العلماء في تحريم تكفير المسلمين، طبع باللغة العربية طبعة ثانية سنة 1419هـ (1999م) من قبل مؤسسة المعارف الإسلاميّة: قم، وترجم إلى الإنجليزية والفارسية والأردو والسندية.

2ـ كيف وجدت الشيعة، باللغة العربية، طبع في الكويت 1419هـ (1999م) .

3ـ عقائد الوهابيّين في نظر المسلمين.

____________

1-اُنظر صحيح البخاري 5: 82، صحيح مسلم 5: 154، مسند أحمد 1: 9، السنن الكبرى للبيهقي 6: 300، وغيرها.

2-صحيح البخاري 4: 210، 219، واُنظر: صحيح مسلم 7: 141، فضائل الصحابة للنسائي: 78، مسند أحمد 4: 5 وغيرها.


الصفحة 99

4ـ الثورات العقائدية في البلدان الإسلاميّة، يتحدّث فيها عن الحركة الوهابية في نجد وانتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، ثمّ الحنفية في أفغانستان (المجاهدين الأفغان).

5ـ إمام العالم في أديان العالم، تحقيق في الإمام المهدي عجل الله فرجه عند المسلمين وأهل الكتاب والأديان الأخرى التي تنتظر المخلّص أيضاً كالهندوسية والبوذية والسيخ والزرادشتية.

6ـ مظلومية الزهراء(عليها السلام) في كتب أهل السنّة.

ماذا جرى على الزهراء(عليها السلام) بعد وفاة أبيها(صلى الله عليه وآله وسلم) :

أحسّت فاطمة الزهراء(عليها السلام) بما سيجري عليها وعلى أهل بيت الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)بعد وفاته وذلك أنّه لمّا سارّها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في مرضه الذي توفيّ فيه، وأخبرها بموته فبكت ثمّ سارّها مرّة أخرى، وأخبرها بلحوقها به بسرعة فضحكت(1).

ثمّ إنّ فاطمة(عليها السلام) مارؤيت ضاحكة قط منذ قبض رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى قبضت(2)، بل كانت باكية ليلها ونهارها، وهي لا ترقأ دمعتها ولا تهدأ زفرتها.

حتّى "اجتمع شيوخ أهل المدينة، وأقبلوا إلى أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) فقالوا له: يا أبا الحسن، إنّ فاطمة(عليها السلام) تبكي الليل والنهار، فلا أحد منّا يتهنّأ بالنوم في الليل على فرشنا، ولا بالنهار لنا قرار على أشغالنا وطلب معايشنا، وإنّا نخبرك أن تسألها إمّا تبكي ليلاً أو نهاراً، فقال(عليه السلام): حباً وكرامة.

فأقبل أمير المؤمنين(عليه السلام) على فاطمة(عليها السلام) وهي لا تفيق من البكاء، ولا ينفع فيها العزاء، فلمّا رأته سكنت هنيئة له، فقال لها: يا بنت رسول الله، إنّ شيوخ المدينة يسألوني أن أسألك إمّا أن تبكين أباك ليلاً وإمّا نهاراً.

____________

1-اُنظر: أمالي الطوسي: 400، عمدة عيون صحاح الأخبار لابن البطريق: 385، بحار الأنوار 43: 196.

2-اُنظر: مناقب آل أبي طالب 2: 119، بحار الأنوار 43: 196.


الصفحة 100

فقالت يا أبا الحسن، ما أقل مكثي بينهم وما أقرب مغيبي من بين أظهرهم، فوالله لا أسكت ليلاً ولا نهاراً أو ألحق بأبي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لها عليّ(عليه السلام): افعلى يا بنت رسول الله ما بدالك.

ثمّ أنّه(عليه السلام) بنى لها بيتاً في البقيع نازحاً عن المدينة يسمّى بيت الأحزان"(1).

هذا كان حالها سلام الله عليها بعد وفاة أبيها وهو يكشف عن حزنها الشديد، وأنّها لاقت المصائب بعد وفاة أبيها حتّى قالت:


صبت عليّ مصائب لو أنّها صبّت على الأيام صرن لياليا
قد كنت ذات حمى بظلِ محمّد لا أخشَ من ضيم وكان جماليا
فاليوم أخشع للذليل وأتقي ضيمي وأدفع ظالمي بردائيا(2)

لاحظ لحن الكلام في خطبتها فضلاً عما ورد في الخطبة في مجلس الصحابة عند أبي بكر عندما أجمع على منعها فدكاً: "ثمّ أنّت أنةً أجهش القوم لها بالبكاء، ثمّ أمهلت طويلاً حتّى سكنوا من فورتهم"(3).

وقالت "يابن أبي قحافة! أترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فرياً، فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم الله، والزعيم محمّد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ثمّ أنكفات إلى قبر أبيها(صلى الله عليه وآله وسلم)فقالت:


قد كانت بعدك أنباء وهنبثةً لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنّا فقد ناك فقد الأرض وابلها واختل قومك فاشهدهم ولا تغب

____________

1-بحار الأنوار 43: 177 .

2-مناقب آل أبي طالب 1: 208، واُنظر: الشرح الكبير لابن قدامة 2: 430، روضة الواعظين: 75، بحار الأنوار 79: 106.

3-السقيفة وفدك: 100، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 211، دلائل الإمامة للطبري الشيعي: 111، بحار الأنوار 29: 229.


الصفحة 101


فليت بعدك كان الموت صادفنا لمّا قضيت وحالت دونك الكثب"(1)

ثمّ انظر ما قالت بعد أن عادها أبو بكر وعمر مخاطبة أبي بكر: والله لأدعون عليك في كلّ صلاة أصلّيها(2).

ولمّا هجم القوم على بيتها "قامت على باب الحجرة، وقالت، يا أبا بكر: ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله، والله لا أكلم عمر حتّى ألقى الله"(3).

وانظر إلى كلام الإمام عليّ(عليه السلام) لمّا دفنها، ووقف على قبرها المخفي: "إنا لله وأنا إليه راجعون، قد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة، واُخلست الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء يا رسول الله... سرعان ما فرّق بيننا، وإلى الله أشكو، وستنبؤك ابنتك بتظافر أمتك على هضمها، فأحفها السؤال، واستخبرها الحال، فكم غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلاً، وستقول ويحكم الله وهو خير الحاكمين"(4).

____________

1-شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 251، واُنظر: حديث نحن معاشر الانبياء للمفيد: 26، الطرائف لابن طاووس: 265.

2-الإمامة والسياسة 1: 20.

3-السقيفة وفدك: 52 شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 57.

4-الكافي 1: 459 ، أمالي الطوسي: 109، واُنظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10: 265.


الصفحة 102

(18) سجاد حسين انقلاب

(بريلوي / باكستان)

وردت ترجمته في (1: 271) من هذه الموسوعة، ونشير إلى بعض ما وقفنا عليه من معلومات لم تذكر من قبل.

مرّ "سجاد حسين انقلاب" في استبصاره بمرحلة عصيبة دفعته ليعيش حالة الصراع الداخلي بين موروثاته العقائدية، وبين الأدلّة التي بيّنت له بطلان ما كان عليه.

يقول "سجاد": "قلت في نفسي في خصوص هذه المرحلة التي أنهكته وتركته برهة من الزمن في الحيرة، وجعلته أمام مرمى سهام الشك والترديد:

هل ما ورثته كان باطلاً؟!

هل كان آباؤك يعيشون بالباطل؟!

هل أنت أعلم أم علماؤك ؟!

هل ستترك ما ألفته مدّة من الزمن"؟!

يقول "سجاد" في مقام الإجابة على هذه الأسئلة:

"بعد اطلاعي وإلمامي بهذه الأدلّة، لم أجد ما يعيقني عن إعلان استبصاري سوى الصراع النفسي، الذي كان يراودني ويدفعني عن الخضوع للحقائق التي تجلّت لي بوضوح، ولكنّني استطعت ـ بحمد الله ـ من تخطّي هذه المرحلة والركوب في سفينة النجاة، سفينة أهل البيت(عليهم السلام)".


الصفحة 103

(19) سعيد الرحمن نادر

(سنّي / باكستان)

ولد سنة 1348هـ (1930م) في باكستان في قرية (كرام شريف) درس في مدرسة نعيمية في "راد آباد السند"، وتخرّج منها سنة 1366هـ ، وهو يحمل شهادة "فاضل".

اشتغل بالتدريس في مدرسة رحمانية في "موند كرخانك ـ مظفر كهر" بصفة (صدر المدرّسين) درس الطّب عند الدكتور "بيربخش"، وحصل على شهادة منه، وزاول الطبابة، وعالج المرضى، فهو مدرّس وطبيب، ومؤلّف وخطيب وقاض أيضاً، ولرغبته الشديدة في التوجيه والإرشاد والخطابة، ترك المدرسة وعيادة المرضى وصار واعظاً ومبلّغاً.

استبصاره:

بحكم ممارسة سعيد الرحمن للوعظ والخطابة التقى بالكثير من الناس، والعديد من العلماء، ومنهم خطباء من الشيعة، فجرت بينه وبينهم حوارات في العقيدة، ونقاشات في المذهب، وكان من الذين التقى بهم هو العلاّمة الشهير محمّد إسماعيل، وجرى بينهما حوار طويل دام لمدّة يومين كاملين.

يقول سعيد الرحمن عن حواره مع المبلّغ الأعظم: "أتاني بحديث من


الصفحة 104

البخاري، الكتاب الصحيح عند أهل السنّة عن عائشة: "فغضبت فاطمة حتّى ماتت" أن فاطمة(عليها السلام) ابنة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ان يقسم لها ميراثها... فقال لها أبو بكر ان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا نورث ما تركنا صدقة فغضبت فاطمة بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتّى توفيت"(1).

وتكلّم حول الحديث ثلاث ساعات ثمّ قال لي: "أيّها القاضي، ضع الكتاب العزيز على رأسك، وخذ البخاري في يدك، وتوجّه إلى القبلة وقل لي: إنّ السيدة فاطمة(عليها السلام) طالبت أبا بكر بحقّها أم لا؟ فإن كانت طالبته، فهل لبّى طلبها أم لا؟ فإن قبل منها، فأين ذكر ذلك؟ وإن لم يقبل منها فافتح البخاري وانظر إلى أنّها(عليها السلام) ماتت غاضبة عليه أم راضية؟ فإن ماتت وهي غاضبة عليه، فما جوابك عن حديث "رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي"(2)؟

فتنبّه سعيد الرحمن إلى خطئه، وأعلن تشيّعه في المجلس نفسه، وحسن ولاؤه لأهل البيت(عليهم السلام)، وصار مبلّغاً لمذهبهم الصحيح، الذي هو الإسلام نفسه، واستبصر على يديه المئات من الناس، فعرفوا طريق الحقّ، وسلكوا سبيل النجاة.

من هي فاطمة الزهراء(عليها السلام):

لا يعرف الكثير من عامّة المسلمين مقام فاطمة الزهراء(عليها السلام) وعظمتها، وهذا بعض نتائج الظلم الذي وقع عليها خاصّة، وعلى أهل البيت(عليهم السلام) بصورة عامّة.

ومن ينظر إلى سيرة هذه الحوراء الإنسيّة يأخذه العجب من عظمتها التي لا يقاس بها عظمة أحد سوى عظمة أهل البيت(عليهم السلام) الذين خلقهم الله من نور واحد، وهي سلام الله عليها واسطة العقد فيهم، فهم أبوها وبعلها وبنوها.

____________

1-البخاري 4: 42 .

2-الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1: 20، تحقيق الزيني، الصراط المستقيم 2: 293، بحار الأنوار 28: 358، 29: 627.


الصفحة 105

كما أنّ المتأمل في الأخبار الواردة فيها تأخذه الدهشة من مقدار العناية الربانية بها دون غيرها من النساء، بل والرجال خلا من ذكرنا، ممّا أثار حسد الخاملين وفجرّ عداوة الناصبين.

خلقها الله من نور عظمته(1)، وكوّنَ نطفتها من ثمار جنّته(2)، تكلّم أُمّها وهي جنين في بطنها، فتسلّيها عن وحشة وحدتها، بعد أن تركتها نساء قريش(3) ; لأنّها اختارت النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) بعلاً لها، وتركت شرفاء قريش وأغنيائها، فهل رأيت أوسمعت بنتاً وأمّاً كهاتين؟!

لم تكن عبئاً على أبيها، بل كانت عوناً له، تدفع أذى المشركين عنه، وتحنو عليه كالأم، حتّى سمّاها الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم): أم أبيها(4)، فهل رأيت أو سمعت بنتاً وأباً كهذين؟! وخاصّة في مجتمع يحتقر البنات، إن لم يئدهن.

زوّجها الله سبحانه وتعالى وردّ أبوها يد الخاطبين، وأعرض عنهم إلى أن جاء الكفؤ فزال غم الرسول، ولو لا عليّ(عليه السلام) لما كان لها كفؤ أبداً، سُئِلَ عليّ(عليه السلام) عنها بعد اجتماعهما في بيت الزوجية: كيف وجدت أهلك؟، فقال نعم العون على طاعة الله، وسئلت هي عنه، فقالت: خير بعل(5).

قلَّ مهرُها وحقرُ جهازُها، وعيّرتها نساء قريش الحاسدات بفقر زوجها، فبيّن الرسولُ فضل عليّ(عليه السلام)(6)، فكان هذا كافياً لها، ولم تأبه لكلامهن.

قال عليّ(عليه السلام) يصف جهادها في أعمال البيت: "استقت بالقربة حتّى أثّر في

____________

1-الإمامة والتبصرة لابن بابوية: 133، علل الشرائع للشيخ الصدوق 1: 180، بحار الأنوار 43: 12 .

2-اُنظر: أمالي الشيخ الصدوق: 546، التوحيد:118، بحار الأنوار 8: 119 .

3-اُنظر: أمالي الشيخ الصدوق: 690، روضة الواعظين: 143، بحار الأنوار 16: 80 .

4-اُنظر: مقاتل الطالبين: 29، تاج المواليد للطبرسي: 20، مناقب آل أبي طالب 1: 140 .

5-مناقب آل أبي طالب 3: 131، بحار الأنوار 43: 117.

6-اُنظر: الإرشاد 1: 36، الفصول المختارة للمرتضى: 278، بحار الأنوار 38: 188 .


الصفحة 106

صدرِها، وطحننت بالرّحى حتّى مجلت يداها، وكسحت البيت حتّى اغبرت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدرِ حتّى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد..."(1).

وعندما طلبت خادماً من أبيها علمّها(صلى الله عليه وآله وسلم) التسبيح المعروف بتسبيح فاطمة فرضيت بذلك ولم تصر على طلب الخادم(2)، هذه قطرة من بحر وفائها وصبرها مع الزوج، فهل رأيتَ أو سمعتَ زوجاً وزوجة كهذين؟ وهل تستكثر ان يُخدِمها اللهِ مَلائكتَه، فتدير الرّحى، وتهز المهد(3)، عوناً لها على طاعة الله، وجزاءً لها على صبرها وجهادها الذي لا مثيل له في الدنيا قبل الآخرة؟

ربّت أولاداً مثل الحسن والحسين(عليهما السلام)، وما أدراك ما حسن وحسين؟!

سيدا شباب أهل الجنة(4)، وسبطا الرسول، بل ابناه(5)، بهما حفظ اللهُ الدينَ من كيدِ بني أميّة، فهل رايتَ أو سمعتَ أمّاً وبنيناً كهؤلاء؟!

ثمّ ربّت بنتاً مثل زينب سلام الله عليها عقيلة الهاشميين، وبطلة كربلاء، وما أدراك ما كربلاء، أوصتها بنصرة أخيها في ملحمة تهدُّ الجبال، وتفرُّ منها الرجال، فهل رأيت أو سمعتَ بأم وبنت كهاتين؟!

هي من أهل الكساء(6)، وهي من أهل المباهلة(7)، فهي مصداق لـ(نسائنا)(8)

____________

1-علل الشرايع 2: 366، من لا يحضره الفقيه، بحار الأنوار 43: 82، 76: 193.

2-اُنظر: من لا يحضره الفقيه 1: 321، مكارم الاخلاق للطبرسي: 280، صحيح البخاري 4: 48، صحيح مسلم 8: 84 .

3-اُنظر: بحار الأنوار 37: 97، مدينة المعاجز 4: 46، ح1077 .

4-قرب الإسناد: 111، أمالي الشيخ الصدوق: 112 معاني الأخبار: 124، أمالي الطوسي: 85، مسند أحمد 3: 3، 62، سنن الترمذي 5: 321، وغيرها من المصادر الكثيرة.

5-اُنظر: الاحتجاج 1: 195، مناقب آل أبي طالب 2: 18، بحار الأنوار 31: 332 و33: 184 .

6-اُنظر كتاب سليم بن قيس: 298، الكافي 1: 287، وغيرها من المصادر.

7-اُنظر: الاختصاص للشيخ المفيد: 56، عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 81، وغيرها من المصادر.

8-آل عمران (3) : 61.


الصفحة 107

دون غيرها مع كثرة النساء حول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، فهل رأيتَ أو سمعتَ نساءنا ونساءً كهؤلاء؟!!

هي أم الأئمّة المعصومين(عليهم السلام)، ووالدة ذرّيّة الرسول المنحصرة فيها، أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار(1)، فهل رأيتَ وهل سمعتَ ام أئمة غيرها؟! وكلّ هذا لا يبلغ قطرة من بحر كوثرها، فهل وعيتَ وهل فهمت؟!

مظلومية الزهراء(عليها السلام) :

يكفينا لمعرفة مظلومية الزهراء(عليها السلام) قول الإمام عليّ(عليه السلام) عندما ماتت سلام الله عليها: "اللّهم إنّي راض عن ابنة نبيّك ; اللّهم إنّها قد أوحشِت فآنِسها ; اللّهم إنّها قد هُجرت فصِلْها ; اللّهم إنّها قد ظُلمت فاحكم لها، وانت خير الحاكمين"(2).

ومعلومٌ أنّها كانت مأنوسة برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) زمان حياته، واعترتها الوحشة بعد وفاته ومعروف أنّها كانت حبيبة رسول الله وأثيرته، لا يغفل عنها رغم أعباء الرسالة الثقيلة، وأنّها كانت آخر من يودع عند السفر، وأول من يزور بعد السفر(3)، ثمّ حصل الهجران لها بعد وفاته، وهكذا حصل ظُلمُها وهتكُ حرمتها بعد وفاته(صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ لم يجرؤ الناصبون لها وللإسلام على أذيّتها زمان أبيها، وإظهار حسدهم لها إلاّ في بعض فلتات اللسان، كما هو الحال مع أبيها نفسه وزوجها عليّ(عليه السلام). ولبيان مظلوميّتها أكثر، ننقل الحديث عنها في احتجاجها على من ظلمها: قالت فاطمة(عليها السلام) في كلام لها حين أرادوا انتزاع فدك منها: "انشدكم بالله أما سمعتم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: "إنّ ابنتي سيّدة نساء أهل الجنّة"؟

____________

1-اُنظر: عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 68، 257، معاني الأخبار 105، الخرائج والجرائح 1: 281، بحار الأنوار 43: 230 ـ 232.

2-الخصال للشيخ الصدوق: 588، بحار الأنوار 81: 345، ح11.

3-اُنظر: مسند أحمد 5: 275.


الصفحة 108

قالوا: اللّهم نعم، قد سمعناها من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

قالت: أفسيّدة نساء أهل الجنّة تدّعي الباطل وتأخذ ماليس لها؟ أرأيتم لو أنّ أربعة شهدوا عليّ بفاحشة أو رجلان بسرقة، أكنتم مصدّقين عليَّ؟

فأمّا أبو بكر، فسكت!! وأمّا عمر، فقال: نعم، ونوقع عليك الحدّ!!!

فقالت: كذبت ولؤمت، إلاّ أن تقرَّ أنّك لست على دين محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) إنّ الذي يجيز على سيّدة نساء أهل الجنة شهادة، أو يقيم عليها حدّاً لملعون كافر بما أنزل الله على محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) ; إنّ من أذهب الله عنهم الرجس أهل البيت(عليهم السلام) وطهّرهم تطهيراً، لا يجوز عليهم شهادة ; لأنّهم معصومون من كلّ سوء، مطهرون من كلّ فاحشة.

حدِّثني عن أهل هذه الآية، لو أنّ قوماً شهدوا عليهم، أو على أحد منهم بشرك، أو كفر أو فاحشة كان المسلمون يتبّرأون منهم ويحدّونهم؟

قال: نعم، وما هم وسائر الناس في ذلك إلاّ سواء.

قالت: كذبت وكفرت، لأنّ الله عصمهم، وأنزل عصمتهم وتطهيرهم، وأذهب عنهم الرجس فمن صدّق عليهم يكذّب الله ورسوله..."(1).

وبغض النظر عن كيفية تنصيب عمر نفسه للحكم وإيقاع الحدود، نقول: إنّه في الواقع يريد بهذا الكلام ظلم أهل البيت(عليهم السلام) الذين طهّرهم الله من الرجس، وفرض على المسلمين مودّتهم ; فهو يريد أن يسوّي بين من رفعهم الله ورسوله وبين الآخرين الذين لا سابقة لهم كسابقة أهل البيت(عليهم السلام) ولا شهادة من الله بذكرهم بخير، إن لم ينزل فيهم لوم وعتاب وتقريع، وهذا هو أساس الظلم الذي تبناه القوم، المنبىء عن نقيصتهم وحسدهم.

فالعدالة ليست هي التسوية بين المحسن والمسىء، والإنصاف ليس هو تقييم الجميع بنفس الدرجة، بل يجب إعطاء كلّ ذي فضل فضله، ولا يجوز بخس

____________

1-كتاب سليم: 227، الاختصاص: 183، بحار الأنوار 30: 306.