قريش لن ترجع عن عداوتها لمحمد ولال محمد، واقل ما ترضى به بطون قريش هو القضاء التام على محمد وآل محمد، واستئصالهم من الوجود تماما، فمن يوالى محمدا وآل محمد هو عدو البطون، وان كان من البطون نفسها، ومن يعادى محمدا وآل محمد هو حبيب البطون، وان كان يهوديا.

قال ابو سفيان مخاطبا وفد يهود بنى النضير:

(ان احب الناس الينا من اعاننا على عداوه محمد) (471)، وعداوه محمد ليس لها حد زمنى، ولقد تعاهد ابو سفيان ومعه ابناوه مع وجهاء بنى النضير اليهود داخل الكعبه (ان تكون الكلمه واحده على محمد، ما بقى من بطون قريش ومن اليهود رجل واحد) (472)، فعداوه محمد والمضى قدما بعداوته اقل ما ترضى به بطون قريش ليكون اساسا للتحالف بينها وبين غيرها من الاحزاب.

كيف نشا تحالف الاحزاب؟

كانت بنو النضير احدى الجماعات التى يتكون منها مجتمع المدينه وما حولها وهى ترتبط مع النبى بعهود ومواثيق، فقام النبى بزيارتهم يوما من الايام فرحبوا به واصروا ان ياكل عندهم، وبنفس الوقت ت‏امروا على قتله.

وعلم الرسول بالموامره وعاد دون ان يشعروا، ثم ارسل اليهم انذارا بان يجلو من المدينه، فرفضوا، وحاصرهم النبى، ثم استسلموا على ان يجلوا من المدينه ولهم ما حملت الابل الا الحلقه، فذهبت اكثريتهم الى منطقه خيبر.

ولما استقر بهم المقام، شكلوا وفدا من مشيخه يهود بنى النضير برئاسه حيى‏بن اخطب للتفاهم والتنسيق مع زعامه بطون قريش باعتبارها العدو الاقوى والالد لمحمد وآله ومن والاهم، ولدعوتها بالاسراع بحرب محمد.

واجتمع الوفد مع زعامه البطون وقال رئيسه حيى‏بن احطب مخاطبا زعامه البطون:

(جئنا لنحالفكم على عداوه محمد وقتاله) (473) فمن الطبيعى ان يتكلم ابو سفيان نيابه عن زعامه البطون بوصفه هو القائد حسب تقسيمات الصيغه الجاهليه، ولان بطون قريش قد رضيت به قائدا على اعتبار انه وبنوه والبطن الاموى هم الاكثر حسدا لمحمد وآله، وحقدا عليهم، واشد القوم وترا واعمقهم ثوره، ولانه القائد الذى انتصر فى احد.

فتكلم ابو سفيان واجاب وفد يهود بنى النضير قائلا:

(ان احب الناس الينا من اعاننا على عداوه محمد) (474).

واقترح وفد بنى النضير ان تختار بطون قريش 50رجلا ليتعاهدوا ويحلفوا باللّه داخل الكعبه بان تكون الكلمه واحده على هذا الرجل -اى محمد- ما بقى من بطون قريش ومن اليهود رجل (475)، وهكذا فعلوا، وتم التحالف بين بطون قريش وبين وجهاء بنى النضير بالاصاله عن انفسهم، وبالنيابه عن يهود المدينه وخيبر، وكافه انحاء الجزيره.

وعلى هامش الاجتماعات سال ابو سفيان اليهود:

(اينا اهدى، نحن ام محمد، وديننا خير ام دين محمد؟) فاجابه اليهود بالاجماع امام بطون قريش:

(انتم اولى بالحق منه!!)(476).

وتحرك المتحالفون معا، وسيرت زعامه قريش وفودها الى العرب تطلب النصر على محمد، وسار الوفد اليهودى الى قبيله غطفان الكبيره واجتمع مع شيوخها، وتم ضمهم الى التحالف، ووعدهم اليهود بتمر خيبر لمده سنه (477).

وتحالف معهم بنو سليم، وبنو اسد يقودهم طلحه الاسدى وبنو فزاره، واشجع، وبنو مره، وجمعت قريش 4000 مقاتل من اتباعها واحابيشها، ومعها 300 فرس، و1500 بعير يقودهم سفيان‏بن عبدشمس حليف حرب بن اميه، وهو ابو ابى الاعور الذى قاتل مع معاويه فى ما بعد فى معركه صفين (478).

وفى ما بعد تم الاتفاق مع بنى قريضه التى كانت تقيم فى المدينه لينضموا الى هذا التحالف وعددهم 750 مقاتلا، ومهمتهم ان ينقضوا على المسلمين من الداخل ويطعنوهم من الخلف.

اكبر واغرب التجمعات فى التاريخ:

وهكذا جمعت بطون قريش عشره آلاف وسبعمائه وخمسين مقاتلا، وقبل هذا التجمع لم تشهد الجزيره العربيه فى تاريخها الطويل تجمعا بحجمه قط، والهدف المشترك لكل الاحزاب المكونه لهذا التجمع هو عداوه محمد، والعمل على القضاء عليه واستئصاله من الوجود، مع من والاه، ومن البديهى ان اول اوليائه وحماته هم آله الكرام.

وهذا التجمع من اغرب التجمعات التى عرفها التاريخ ايضا، فقبائل العرب كانت تعبد اصناما متعدده، وتدين بالولاء لشيوخها الذين لم يجتمعوا طوال التاريخ حتى يوم غزا ابرهه الحبشى الكعبه، وهى اقدس مقدساتهم، ولكنهم اجتمعوا هذه المره على عداوه محمد وآله، والعمل على استئصالهم، واذا لم يكن غريبا اجتماع العرب مع بعضها فان الغريب حقا ان تجتمع العرب مع اليهود، وان يشكل الجميع جيشا واحدا له قياده واحده!!!

لست ادرى ماذا بقى من صله الرحم التى كانت تتشدق بها زعامه بطون قريش عامه، وابو سفيان واولاده خاصه، عندما يتعاونون مع اليهود على ابن عمهم وصهرهم محمد!!!

فابو سفيان وبنوه وبنو عمومته يلتقون مع النبى فى عبدمناف:

صخربن حرب‏بن اميه‏بن بعد شمس‏بن عبدمناف، ومحمدبن عبداللّهبن عبد المطلب بن هاشم‏بن عبدمناف، ان هذا لامر عجاب!!!

القائد العام لهذا التجمع واركان حربه:

كان ابو سفيان هو القائد العام لتجمع الاحزاب، فهو راسهم ومدبر امرهم، والذى جمعهم وحدد ساعه خروجهم، ووقت انسحابهم ولا خلاف بين احد من اتباع المله على هذه الحقيقه.

اركان حربه:

ومن اركان حربه مشيخه البطن الاموى وعلى راسهم ابنه يزيد، وابنه معاويه فكلاهما رجل، وكلاهما ذكى وذو حيله، وكلاهما حاقد على محمد وعلى آل محمد خاصه، وعلى اوليائهم عامه، وكيف لا يحقدون وهم يذكرون اخاهما حنظله، وجدهما عتبه، وخالهما شيبه، وابن خالهما الوليد!!

وسبعه آخرين من البطن الاموى او من شيوخ الوادى على حد تعبير ابى سفيان!!.

ومن اركان حربه:

عكرمه بن ابى جهل، وخالد بن الوليد، وعمروبن العاص، وكلهم موتور، وثائر، وحاقد على محمد وعلى آل‏محمد، وتتوفر بكل واحد منهم مقومات القياده والمشوره.

ومن اركان حربه:

عمروبن عبدبن ابى قيس‏بن عبد ود، اشجع رجالات بطون قريش واقواها، فقد كان يتحرق شوقا لملاقاه محمد ولاثبات قدرته بعد ان حرمته ظروف قاهره من الاشتراك فى معركه احد، وخرج فى ما بعد وتحدى كل المسلمين ولم يقو احد على مبارزته غير على‏بن ابى طالب، الذى قتله -كما سنرى- قولا واحدا (479).

ومن اركان حرب ابى سفيان:

سفيان‏بن عبدشمس، حليف حرب ابن اميه، وهو ابو الاعور الذى اسلم فى ما بعد وقاتل مع معاويه فى كل معاركه عندما خرج معاويه على الامام على (480).

ومن اركان حرب ابى سفيان:

طلحه الاسدى، وعيينه بن حصن، الذى صار فى ما بعد صحابيا رايه مقبول حتى فى على الذى قاتله على الاسلام.

ومن اركان حربه ايضا مشيخه اليهود مثل حيى‏بن اخطب، وكنابه‏بن الحقيق، واخوه هوده، وابو عامر الراهب، وكعب‏بن اسد عقيد بنى قريظه (481).

المسيره الاثمه:

زحفت الاحزاب بقياده ابى سفيان ويممت شطر المدينه حتى وصلت الى رومه (482) فعسكرت هنالك، ونزلت غطفان بمنطقه الرعايه قرب احد، وتصوروا ان محمدا سيخرج اليهم، وانهم هم الذين حددوا مكان المعركه وطبيعه الحرب وادارتها (483).

حلفاء بنى هاشم يخبرون النبى:

كانت خزاعه حلفا لبنى هاشم (حلف ابينا وابيك الاقلدا)، كما قال شاعرهم للنبى، فلما خرجت قريش من مكه الى المدينه سار ركب من خزاعه من مكه الى المدينه اربعا، واخبروا النبى بتحرك قريش والاحزاب معها.

ولا يعقل ان يتم الاعداد لهذا التحالف الضخم، وان تتحرك الاحزاب ورسول‏اللّه فى غفله عنها، خاصه وان سراياه العسكريه لم يتوقف خروجها قط، وهو على علم بحقد بطون قريش واصرارها على استئصاله من الوجود، والاهم من ذلك الوحى الذى لم ينقطع عنه قط طيله حياته، ولكن قدوم ركب خزاعه بالخبر مناسبه لاطلاع المسلمين على الوضع، واستطلاع رايهم بمعالجته.

المشوره وحفر الخندق:

اطلع النبى اصحابه على الخبر، ووعدهم بالنصر ان صبروا واتقوا واطاعوا اللّه ورسوله، وسالهم انبرز لهم من المدينه، ام نكون فيها ونخندقها علينا، ام نكون قريبا ونجعل ظهورنا الى هذا الجبل؟ فاختلفوا بالاجابه، ولكنهم تذكروا جميعا معركه احد ونتائج مخالفتهم لامر الرسول، فلم يتشبثوا بالخروج انما كان هواهم بالمدينه وحولها، فقال سلمان الفارسى:

يا رسول‏اللّه.

انا اذا كنا بارض فارس وتخوفنا الخيل خندقنا علينا، فهل لك يا رسول‏اللّه ان نخندق؟ (484) فكره الخندق اصلا من رسول‏اللّه ولكنها كانت مجمله، فجاء سلمان وفصلها وارتاح المسلمون لذلك.

ورتب النبى الخطه الدفاعيه على هذا الاساس:

1- ان يجعل جبل سلع خلف ظهره.

2- ان يخندق من اطم المداد الى جبل اطم ذباب، ومنه الى جبل راتج.

3- استحضار الحجاره من جبل سلع لتكون احد الاسلحه فيرمون بها.

4- ان تدفع النساء والصبيان فى الاطام.

5- ان يكون الخندق من امام المسلمين.

6- النبى القائد يوزع اصحابه بالطريقه التى يراها لمواجهه الاحزاب من وراء الخندق بعد انجازه.

الشروع بتنفيذ الخطه:

قسم النبى حفر الخندق بين اصحابه، واشترك معهم بالحفر كانه واحد منهم، وانجزوا الخندق خلال سته ايام، ثم جمع اصحابه وكانوا ثلاثه آلاف مقاتل، ودفع اللواء الى ولى عهده على‏بن ابى طالب، ورتب الادوار وانتظر قدوم الاحزاب.

اما اجتياز الخندق او الوقوف امامه:

يبدو ان الطريق لدخول المدينه تمر حتما بالمنطقه التى قرر الرسول حفر الخندق بها، ويبدو ايضا ان المناطق التى تجاورها على اليمين واليسار حرات مفروشه بحجاره يتعذر على الانسان او الابل او الخيل السير فوقها، فمن اراد دخول المدينه يتوجب عليه حتما مقضيا ان يمر من الخندق، او ان يكابد المستحيل ويحاول ان يسير فى الحرات.

فعلى الاحزاب ان تجتاز الخندق اذا ارادت ان تدخل المدينه او تقف دونه لتتفرج عليه وعلى المدافعين، وعمليه اجتياز الخندق بهذا المناخ مستحيله من جميع الوجوه.

الاحزاب وجها لوجه مع النبى واصحابه:

سارت الاحزاب خلف قائدها ابى سفيان متوجهه الى المدينه ومعها من الخيل الف فرس، وتصورت الاحزاب انه لم يبق بينها وبين دخول المدينه واستئصال محمد ومن معه الا قاب قوسين او ادنى، ولما وصلت فوجئت بالخندق مفاجاه تامه، وقال ابو سفيان:

تلك مكيده لا تعرفها العرب!!

والقت الاحزاب عصاها على الجانب الاخر من الخندق، واخذت تبحث عن منفذ تدخل منه.

وجرت عده محاولات لاجتياز الخندق، كالمحاولات التى قام بها خالدبن الوليد، وعكرمه بن ابى جهل، وهبيره، وعمروبن العاص، ولكن محاولاتهم قد فشلت.

اقوى رجل فى البطون يبارز اقوى رجال محمد:

عمرو بن ود اقوى رجالات البطون، بل هو اقوى رجل فى تجمع الاحزاب قاطبه، برز امام الخندق، واخذ يدعو للمبارزه.

لا احد من العرب يقوى على مبارزه عمروبن ود، فسكت المسلمون كان على رووسهم الطير، كما يقول الواقدى، مما دعى عمروبن ود ليقول:

فولقد بححت من الندا لجمعكم هل من مبارز ولما سمعه على استاذن النبى ثلاثا، والرسول لا ياذن له، لان مبارزه عمروبن ود ليست نزهه، واخيرا اذن الرسول لعلى، واعطاه سيفه وعممه وقال:

اللهم اعنه عليه.

وكان عمروبن ود فارسا وعلى راجلا، والتقى الاثنان وجرى بينهما حوار ساقه الامام على باعصاب هادئه، وبثقه بالنفس تفوق التصور والتصديق.

وترجل عمرو والتقى مع اقوى رجل عرفه الاسلام قط، وثارت غبره وسمع الناس التكبير فايقنوا بان عليا قد قتل عمرو، وصعقت الاحزاب من هول النبا، وازدادت بطون قريش حقدا على النبى وآله، وتشاءموا، وفرح المسلمون وتفاءلوا خيرا.

لقد كان قتل عمروبن ود ضربه معنويه موجعه لتجمع الاحزاب.

وكانت هذه المبارزه نصرا موزرا للمسلمين فقال النبى:

(لمبارزه على بن ابى طالب (عليه السلام) لعمروبن ود يوم الخندق افضل من اعمال امتى الى يوم القيامه) (485).

لقد كفت هذه المبارزه المومنين القتال حقا، قال السيوط‏ى فى الدر المنثور فى ذيل تفسير قوله تعالى:

(ورد اللّه الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى اللّه المومنين القتال) (486) قال:

(واخرج ابن ابى حاتم، وابن مردويه، وابن عساكر عن ابن مسعود انه كان يقرا:

(وكفى اللّه المومنين القتال بعلى‏بن ابى طالب).

وجاء فى ميزان الاعتدال حديثا مسندا عن ابن مسعود انه كان يقرا:

(وكفى اللّه المومنين القتال بعلى) (487).

لقد حسمت مبارزه الموقف نهائيا لصالح المسلمين، ولكنها اخرجت بصوره تستوعبها العقليه البشريه، وتصب فى خانه عمليه الابتلاء والامتحان الالهى.

لقد كان المسلمون فى حاله زلزله كبرى:

الجوع، والبرد، والعدو من فوقهم ومن تحتهم، والنفوس البشريه تتصور بتصوراتها المختلفه (اذ جاءوكم من فوقكم ومن اسفل منكم، واذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر...) (488) بهذا الوقت بالذات زف اللّه للمومنين بشرى انتصار اقوى رجل فيهم على اقوى رجل فى الاحزاب، فاطمانت نفوسهم، وادركوا ان نصر اللّه قادم لا محاله.

ورحلت الاحزاب:

فوجئت الاحزاب بالخندق، وفشلت محاولاتها لاجتيازه، واجرى النبى مفاوضات مع زعماء غطفان لينسحبوا من التجمع، وانهارت الثقه بين العناصر الرئيسه التى تكون منها تجمع الاحزاب، فقد فقدت بطون قريش ثقتها باليهود، وكذلك غطفان التى ادركت انه لا ناقه لها ولا جمل بهذه الحرب، وان املها بالمكاسب الماديه احلام، واكتشف اليهود ان البطون سترحل وستتركهم وجها لوجه ووحدهم امام محمد لينكل بهم، فانهارت اهم اساسات تحالف الاحزاب، واكثر النبى الدعاء:

(اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الاحزاب، اللهم اهزمهم) وتكرر دعاوه الاثنين، والثلاثاء، والاربعاء، واستجيب له ما بين الظهر والعصر.

وعصفت الريح، وزمجرت، والقى القائد العام للاحزاب ابو سفيان كلمه حلل فيها الموقف فقال:

(انكم واللّه لستم بدار مقام، لقد هلك الخف والكراع، واجدب الجناب، واخلفنا بنو قريظه وبلغنا عنهم الذى نكره، ولقد لقينا من الريح ما ترون، واللّه ما يثبت لنا بناء، ولا تطمئن لنا قدر، فارتحلوا فانى مرتحل)، وجلس على بعيره فوثب البعير.

فناداه عكرمه‏بن ابى جهل:

(انك راس القوم وقائدهم، تقشع وتترك الناس)، فاستحى ابو سفيان فاناخ جمله، واخذ بزمامه، وقال:

(ارحلوا) فجعل الناس يرتحلون.

ثم قال ابو سفيان لعمروبن العاص:

(يا ابا عبد اللّه لا بد لى ولك ان نقيم فى جريده من خيل بازاء محمد واصحابه، فانا لا نامن ان نطلب).

وهكذا كان، ثم لحقت الجريده بالاحزاب وعادت بطون قريش ومن والاهم الى مكه، وعادت غطفان وقبائل بنى سليم، ومن حضر من اليهود الى محالهم) (489).

يعط‏ى المورخون لنعيم‏بن مسعود دورا بارزا، ويصورونه كانه هو الذى فكك تجمع الاحزاب واوقع بينه ونعيم‏بن مسعود كان مشهورا فى مكه وفى المدينه بانه صائد مكاف‏ات، فطالما خذل المسلمين عن الخروج مع الرسول بعد ان مس القوم القرح بعد معركه احد مقابل عشرين ناقه رصدتها له بطون قريش، وشاع الامر وعرف المسلمون ذلك، فنفروا منه، واخذوا ينظرون اليه شزرا، ويترفعون عن الاستماع اليه.

ومن جهه ثانيه ففى التجمع دهاه ودهاقنه، واليهود اهل حيله، فمن المستحيل عقلا ان يضحك صائد مكافات معروف مثل نعيم على الجميع دون ان يكشف امره.

ونجت المدينه:

لقد نجت المدينه، ونجى الذين آمنوا بنعمه اللّه الذى ارسل على الاحزاب ريحا وجنودا (...اذكروا نعمه اللّه عليكم اذ جاءتكم جنود فارسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها) (490).

وبفضل القياده الحكيمه لرسول‏اللّه حيث نجح نجاحا باهرا بالاخذ بكل الاسباب.

وكان للشجاعه التى ابداها الامام على -عندما قتل عمروبن ود- دورا بارزا فى نجاه الذين آمنوا، فهى المعركه الحقيقيه الوحيده التى جرت فى غزوه الخندق، فكانت نصرا معنويا للمومنين، وفالا حسنا وضربه معنويه موجهه لتجمع الاحزاب.

هذه الاسباب مجتمعه كانت وراء هزيمه الاحزاب، ونجاه المسلمين والمدينه المنوره من بطش اعظم تجمع، عرفه تاريخ المواجهه مع النبى (491).

الفصل الثالث: وافلست بطون قريش واحتارت ماذا تفعل

سمع العرب بتجمع الاحزاب، وبمسيرتها الى محمد، فهم بين مشارك بهذا التجمع، وبين مويد له متعاطف معه، وايقنوا ان تجمع الاحزاب كان اكبر تجمع شهدته جزيره العرب، ولم يخالجهم ادنى شك بان الاحزاب ستستاصل محمدا ودينه واولياءه من الوجود.

ثم احيطوا علما بقصه الخندق، وبمبارزه على‏بن ابى طالب لاقوى العرب واشجعها عمروبن ود، وكيف قتله على، وسمعوا باختلاف الاحزاب، وبما فعلته الريح بتلك الاحزاب، وبفشل الاحزاب وعودتها خائبه بعد حصار للمدينه دام بضع عشره يوما.

وتابع العرب انباء المعارك التى جرت بين محمد وبين قبائل اليهود، وكيف خرج محمد منها منتصرا.

وتابعوا انباء السرايا العسكريه التى كان يسيرها محمد فتجوب انحاء الجزيره، وتودب القبائل المعاديه له او الطامعه به قبيله تلو قبيله.

وعرف العرب ان محمدا قد فرض حصارا على الطرق التجاريه التى تسلكها قوافل بطون قريش الى بلاد الشام سواء عن طريق المدينه او عن طريق العراق، وهو مصر على ابقاء حاله الحصار هذه حتى تخلى بطون قريش بينه وبين العرب.

ان الرجل يفرض سلطانه، ويوسع هذا السلطان ويوطده يوما بعد يوم، لقد ادركت العرب وعلى راسها بطون قريش ان شعار (استئصال محمد من الوجود) وهم وغير قابل للتحقيق، فمحمد لا يمكن استئصاله ولا يمكن القضاء عليه، فشعر العرب بالحيره، وشعرت بطون قريش بالاحباط، واحتارت بامر الرجل، واحست بالالم والمراره، ويئست منه تماما.

لقد فشلت البطون عسكريا بعد ان استنفدت كل خططها، واستعملت كل قواها، ولم تقو على استئصال محمد او القضاء عليه، بل على العكس من ذلك، فكلما صادمته خرج من صدامها معه وهو اكثر قوه، والعرب اكثر تفهما له واعجابا بامره.

وفشلت البطون اعلاميا، فلم يعد يصدق احد ان محمدا مجنون او شاعر او كاهن او كاذب او ساحر كما اشاع اعلام البطون، لقد اظهر محمد عبقريه قياديه تفوق التصور والتصديق.

الاعتراف بالوجود الواقعى لمحمد هو الحل:

لم يعد امام بطون قريش سوى التسليم بالوجود الواقعى لمحمد، والاعتراف بسيطرته الكامله على طريق تجارتها الى بلاد الشام، وباستحاله تنفيذ شعارها (استئصال محمد من الوجود والقضاء عليه) لكنها لا تعرف كيف تعبر عن قبولها بهذه الحقائق دون ان تخدش كبريائها المتغطرس.

لقد اكلت الحرب مع محمد اموالها، مثلما اكلت خيره ابنائها، ولم يعد لها القدره على البقاء فى حاله استنفار عسكرى دائم، ولم تعد لها القدره على مواجهه الحصار، فما من قافله تجاريه من قوافلها الا ويعترضها محمد، فيغنمها هو واصحابه وياسرون رجالها او يقتلون منهم، او تنجو منهم بشق الانفس، وآخر الانباء استيلاء محمد على قافله (ابى العاص بن الربيع)، الذى استجار بزوجته السابقه زينب بنت محمد، وامر الرسول على اثر ذلك برد ما اخذ من القافله، لحكمه رآها، فعاد ابو العاص‏بن الربيع وسلم الاموال لاصحابها، واعلن اسلامه امام قريش (492).

وباختصار لم يعد لبطون قريش ايه مصلحه اطلاقا باستمرار حاله التوتر بينها وبين محمد، ولم تعد لها القدره بمعاداه محمد نيابه عن العرب.

ومحمد لا يطلب منها الكثير، فغايه ما يطلبه منها ان تخلى بينه وبين العرب، وان تقف على الحياد، فان اصابه العرب كفوها اياه، وان لم يصيبوه فان محمد لن يتعرض لهم، قريش كلها تفهم هذا، وقد جرى عرض مطلب محمد قبل معركه بدر، واعلنه عتبه‏بن ربيعه -كما مر بنا- والعافيه كل العافيه بسحب فتيل التوتر، والاعتراف عمليا بوجوده كقوه واقعيه، وترك العرب له ليحددوا مواقفهم منه بالطريقه التى يرونها.

ان زعامه البطون قد اشتهت هذا الحل وارتاحت له، ولكنها خجوله من اعلانه ومن التصريح به، ومن الاعتراف بان هذا هو تفكيرها، وتحليلها النهائى للموقف.

ولا تدرى كيف تعبر عنه وتعلنه!!

ولا كيف يمكنها ان تتفاوض مع محمد بعد الذى فعلته به، وفعله بها طوال 19عاما من المشاحنه والبغضاء والحملات الاعلاميه التى لم تتوقف، والحملات العسكريه التى استمرت سته سنوات!!!

رسول اللّه ينقذ البطون من حيرتها ويجرها الى مائده المفاوضات:

علاوه على ان محمدا نبى، فهو عبقرى، وقائد سياسى لا مثيل له.

والجزء الاهم فى العمليه السياسيه اطلاقا ان توجه الفعل او سلسله الافعال السياسيه الى الخصم، وترقب بدقه ردود فعله عليها ومقدار قربه او بعده مما تريده.

لقد تيقن النبى ان بطون قريش قد افلست تماما، واقتنعت ان استئصاله مستحيل، وهزيمته عسكريا مستحيله، وانه لم تعد لها القدره على الاستمرار بحاله التاهب القصوى والاستنفار العام، ولم تعد لها القدره على تحمل حاله الحصار المفروضه عليها، وان العرب لن يقدموا لبطون قريش اكثر مما قدموا، وانها قد ادركت بان كفه محمد قد رجحت تماما، وان المستقبل له.

وتيقن النبى ان بطون قريش حائره فى امرها، وانها تبحث جديا عن مخرج من ورطتها، وعن سبيل يحفظ لها شرفها وما تبقى من كبريائها، ويرتب امورها مع محمد بشكل يزيل حاله التوتر الدائم بينها وبينه.

فصمم النبى على مساعدتها واخراجها من حيرتها، وجرها باللطف الى مائده المفاوضات لازاله التوتر الدائم بينه وبينها.

واشاعه الامن فى ربوع بيت اللّه الحرام.

قرار العمره:

بيت اللّه الحرام فى مكه مثابه للناس جميعا، وامن لهم تقدسه كل قبائل العرب، وهى موقنه انه بيت اللّه الحرام، وتزوره، وتحج البيت وهى على شركها، وقد لمعت بطون قريش واشتهرت لانهم جيران بيت اللّه الحرام، وحماته وسدنته، ولانهم يكرمون زوار هذا البيت، فلم يصدف فى تاريخ البيت الحرام، ان صد حاج او راغب بزياره البيت الحرام، فحج البيت وزيارته حق مطلق لكل واحد من الناس، فما الذى يمنع محمدا كواحد من الناس على الاقل من ان يزور بيت اللّه الحرام؟!

وما الذى يمنع المهاجرين والاوس والخزرج وهم من الناس على الاقل من زياره بيت اللّه الحرام واداء العمره؟!

وعندما تعلم بطون قريش ان محمدا ومن معه قد جاءوا لاداء العمره فستندهش حتما، وستتخذ احد موقفين:

1- اما ان تاذن لهم باداء العمره بعد تردد ومفاوضات.

2- او تمنعهم بعد تردد ومفاوضات، وفى ذلك احراج كبير لها امام العرب، واخلال برسالتها نحو بيت اللّه الحرام المتمثله بحمايه البيت وتسهيل امور حجاجه وزواره.

وفى الحالتين فان المفاوضات بين محمد وبين البطون قدر محتوم.

والمفاوضات لها اصولها، فلا بد من وفد يمثل البطون مخول بالتفاوض مع محمد، ولا بد من وثيقه خطيه تشتمل على ما اتفق عليه الطرفان، ولا بد من جلسه تجمع بين الطرفين المتفاوضين، بهذا المناخ تبث بطون قريش ما فى صدرها، وتعبر بشكل او باخر عن حقيقه تحليلها النهائى للموقف، وتبدى رغبه ضمنيه بازاله حاله التوتر، ومحمد هو الرابح بهذه الحاله، حيث يحقق ضمنيا اعتراف البطون رسميا بوجوده ككيان كفو لها.

واحتمال الصدام المسلح صفر، بسبب المفاجاه، ولان البطون تعرف محمدا واصحابه، وقد عجمت عودهم فى الحرب، ولانها غير مستعده لهذا الصدام، ولانها لا تريد ان تحرج نفسها امام العرب عندما تقاتل عمار بيت اللّه الحرام.

واطمانت نفس النبى الكريمه، وارتاحت لفكره اداء العمره، وراى الرسول فى منامه انه قد دخل البيت الحرام، وحلق راسه، واخذ مفتاح البيت ووقف فى عرفه مع الواقفين.

عندئذ اتخذ النبى قراره لاداء العمره، واذاع القرار، وذاع خبر الرويا المباركه مع القرار، ولم يشك الصحابه بالفتح، بسبب هذه الرويا (493).

الاعداد للعمره والمسيره:

امر النبى اصحابه بان يتجهزوا للعمره، على ان يخرجوا بغير سلاح الا السيوف فى القرب، واعد سبعين بدنه، واشعرها وقلدها، واشعر المسلمون بدنهم وقلدوها، ثم صلى ركعتين فى المسجد، واحرم:

(لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، ان الحمد والنعمه لك والملك، لا شريك لك)، وهكذا فعل المسلمون واحرموا معه.

وخرج من المدينه معتمرا 1600 مسلم من اصحابه، وعدد من النساء.

وفى الطريق الى مكه كان يمر بالاعراب، فيستنفرهم لاداء العمره معه لكنهم كانوا يتشاغلون عنه، ويقولون فى انفسهم ان محمدا واصحابه لن يرجعوا ابدا من هذه الرحله، وان قريشا ستقضى عليهم، وتابع النبى واصحابه مسيرتهم ومعهم الهدى حتى وصلوا الى الحديبيه، فعسكر (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فيها (494).

بطون قريش تقرر صد المعتمرين:

لقد بلغ قريش خروج محمد وصحبه الى مكه معتمرين ومعهم الهدى، ففزعت، وراعها ذلك.

منطقيا زياره البيت الحرام حق لكل الناس فلا يصد زائر كائنا من كان فرد ام جماعه، لكن محمد واصحابه شى‏ء آخر، لقد اجتمعت بطون قريش وتشاورت فى ما ينبغى ان تفعله فقالت:

(ان محمدا يريد ان يدخل علينا فى جنوده معتمرا، فتسمع به العرب، وقد دخل علينا عنوه وبيننا وبينه من الحرب ما بيننا، واللّه لا كان هذا ابدا ومنا عين تطرف) (495).

واتخذت قيادتهم الترتيبات اللازمه لصد محمد ومن معه ومنعهم من اداء العمره، ومن هذه الترتيبات:

1- وضع العيون على الجبال لرصد محمد.

2- تقديم مئتى فارس الى كراع الغميم.

3- استنفار من يطيعها من الاحابيش.

4- الاستعانه بثقيف.

5- ان تخرج بطون قريش ومعها النساء والاطفال.

6- ان يعسكر الجميع بمنطقه بلدح حيث يضربون القباب والابنيه، وهكذا كان (496).

رسول اللّه يوجه الاحداث:

لقد احيط الرسول علما بقرار بطون قريش، وهو على علم به، فمعه الوحى، ومعه الالهام وله عقل مميز، وقلب كبير معد لمواجهه اشد الامور تعقيدا.

استقر بالحديبيه فهو ليس بعجله من امره، وجاءه وفد من خزاعه حلفائه وحلفاء آبائه واجداده، منهم المسلم، ومنه المتعاطف معه، ومعهم بديل‏بن ورقاء، ووضعوا النبى بالصوره وباستعدادات بطون قريش لصده ومن معه ومنعهم من اداء العمره.

النبى يعلن عن الغايه من قدومه:

فقال الرسول لركب خزاعه:

(انا لم نات لقتال احد، انما جئنا لنطوف بهذا البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه.

وقريش قوم قد اضرت بهم الحرب ونهكتهم، فان شاءوا ماددتهم مده يامنون فيها، ويخلون فى ما بيننا وبين الناس، والناس اكثر منهم، فان ظهر امرى على الناس، كانوا بين ان يدخلوا فى ما دخل فيه الناس، او يقاتلوا وقد جمعوا.

واللّه لاجهدن على امرى هذا حتى تنفرد سالفتى، او ينفذ اللّه امره) (497).

سفارات:

تحرك وفد خزاعه الى زعامه البطون وخزاعه متهمه عندهم، وتدخل عروه‏بن مسعود، واقنع زعامه البطون ان تسمع من وفد خزاعه، وتكلم بديل‏بن ورقاء وزعامه البطون تصغى له، ونقل لهم بامانه تامه ما قاله الرسول.

واقترح عروه ان يبعثوه الى محمد، ليتاكد من صحه ما قاله بديل بن ورقاء، ووافقت زعامه البطون، وذهب عروه وقابل الرسول، ووضعه بالصوره التى آلت اليها امور البطون، واطلعه النبى على حقيقه موقفه، وتاكد من صحه ما قاله بديل، والخزاعيون.

ورجع عروه‏بن مسعود مبهورا بشخصيه النبى، وعمق العلاقه بين النبى واصحابه، واطلع البطون على حقيقه موقف النبى والغايه من قدومه، وانه قد اتى البيت معظما له، ومعه الهدى ينحره وينصرف.

وجاء سيد الاحابيش حليس بن علقمه، وشاهد الهدى عليه القلائد وقد اكل اوباره، والقوم قد تفلوا وشعثوا، وتاثر حليس بما راى، وقبل ان يقابل الرسول رجع الى قريش غاضبا، قال لهم:

(انى قد رايت ما لا يحل صده، رايت الهدى فى قلائده قد اكل اوباره معكوفا عن محله، والرجال قد تفلوا وقملوا.. اما واللّه ما على هذا حالفناكم ولا عاقدناكم على ان تصدوا عن بيت اللّه من جاء معظما لحرمته موديا لحقه، وساق الهدى معكوفا ان يبلغ محله، والذى نفسى بيده لتخلن بينه وبين ما جاء به، او لانفرن بالاحابيش نفره رجل واحد) فقالت له زعامه البطون:

فاكفف عنا حتى ناخذ لانفسنا بعض ما نرضى به (498).

وبعث الرسول الى قريش خراش بن اميه الكعبى ليبلغ اشرافهم ما جاء به.

وكلف النبى عمر بن الخطاب ليذهب الى قريش، فرفض عمر لانه خاف قريشا على نفسه كما قال (499).

عندئذ كلف الرسول عثمان بن عفان ليقول لقريش:

(ان محمدا لم يات لقتال احد، انما جاء ومن معه زوارا لهذا البيت معظمين لحرمته ومعهم الهدى ينحرونه وينصرفون) (500).

ومن الموكد ان عثمان قد بلغ ما ارسل به تماما.

المبايعه ودورها بتسريع المفاوضات:

اشيع بان عثمان قد قتل، وانتشرت الاشاعه فى اوساط المسلمين، عندئذ قال النبى لاصحابه:

ان اللّه امرنى بالبيعه، فبايعه من معه من المسلمين، وانتشر نبا البيعه، وسمعت به بطون قريش، وادركت ان محمدا جاد، وانه سيقاتل ان لم ياذنوا له بدخول المسجد الحرام او يجدوا للامر مخرجا، فرعبت بطون قريش، ووعت حقيقه انها غير مستعده للقتال، وان استعدادها ينحصر فى منع محمد ومن معه من اداء العمره عنوه عنها وليس قتاله، وعلى هذا الاساس اجلبت ثقيف، وجمعت احابيشها، واخذ محمد البيعه من اصحابه على القتال نسف لكامل خطط البطون، وتحديد مجال المناوره امامها، وقد هدد حليس‏بن علقمه بسحب الاحابيش، وموقف ثقيف يتراخى، وبالنتيجه ستكون البطون الغير مستعده للقتال وجها لوجه امام محمد، وتنفتح على البطون ابواب لا تقوى على اغلاقها.

ثم ان مطالب محمد واضحه ومحدده، وغايه ما يتمناه ان تخلى البطون بينه وبين العرب، لذلك رات زعامه بطون قريش ان من الخير لها ان تصالح محمدا، وان تعقد معه هدنه طويله الاجل مقابل ان ينصرف عنها هذا العام ويعود فى العام القابل حتى لا تفهم العرب بان محمدا قد دخل مكه عنوه، واختارت البطون ثلاثه من رجالاتها ليقوموا بالمفاوضات مع محمد نيابه عنها، ويكتبوا وثيقه بما يتم الاتفاق عليه ويوقعها الطرفان، وتشكل وفد البطون الى المفاوضات من سهيل‏بن عمرو، وحويطب‏بن عبدالعزى، ومكرزبن حفص، وتوجه وفد البطون لمقابله الرسول والشروع بالتفاوض تمهيدا لتحقيق المصالحه (501).

على مائده المفاوضات:

جلست بطون قريش ممثله بوفدها لتتفاوض مفاوضه مباشره مع محمد الذى لم تعترف بوجوده طوال مده 19عاما، وجلوسها على مائده المفاوضات معه يعنى اعترافها الضمنى بوجوده ككيان كفو للتعاقد معها.

استهل رئيس وفد البطون الجلسه الاولى بتقديم اعتذار البطون عن بعض المناوشات المحدوده التى جرت من بعض اتباعها قائلا:

(من قاتلك لم يكن من راى ذوى راينا، ولا ذوى الاحلام منا، بل كنا له كارهين حين بلغنا ولم نعلم به، وكان من سفهائنا فابعث الينا باصحابنا الذين اسرتهم، فقال النبى:

ابعثهم اليكم حين ترسلون اصحابى، فقال سهيل:

انصفتنا، وهكذا تمت الموافقه على تبادل الاسرى ونفذت فورا) (502).

الاتفاق وكتابه كتاب الصلح:

بعد مفاوضات مضنيه بين الطرفين تم الاتفاق على كافه النقاط التى بحثت، ولم يبق الا كتابه كتاب الصلح، وتم الاتفاق على ان يتولى كتابته على‏بن ابى طالب يمليه عليه رسول‏اللّه، واعترض وفد البطون على عباره (بسم اللّه الرحمن الرحيم)، وعباره (رسول‏اللّه) وطالبوا بتغييرهما الى (باسمك اللهم) و(محمدبن عبداللّه)، فاستجاب لهم رسول‏اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)، وهكذا تغلب على مشكلتين شكليتين كادتا ان تنسفا المفاوضات كلها، وان تضيع الفرصه الذهبيه التى ترقبها طوال 19 عاما (503).

بنود الاتفاق:

هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد اللّه، وسهيل بن عمرو، اصطلحا:

1- على وضع الحرب عشر سنين يامن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض.

2- لا اسلال ولا اغلال وان بيننا عيبه مكفوفه.

3- من احب ان يدخل فى عهد محمد وعقده فعل، ومن احب ان يدخل فى عهد قريش وعقدها فعل.

4- من اتى محمدا منهم بغير اذن وليه رده، ومن اتى قريش من اصحاب محمد لم ترده.

5- يرجع محمد عامه هذا باصحابه، ويدخل مكه العام القابل فى اصحابه فيقيم ثلاثا، ولا يحملون معهم الا سلاح المسافر، السيوف فى القرب.

واخذ الرسول نسخه من هذا الكتاب، واخذ سهيل نسخه اخرى (504).

وبعد تبادل نسخ الكتاب (المعاهده)، قال من حضر من خزاعه:

(نحن ندخل فى عهد محمد وعقده، ونحن على من ورائنا من قومنا، ووثبت بنو بكر فقالوا:

نحن ندخل مع قريش فى عهدها وعقدها، ونحن على من ورائنا من قومنا) (505).

تقييم الاتفاق او معاهده الصلح:

لقد اعط‏ى اتفاق الحديبيه محمدا كل ما يريده:

(من احب ان يدخل فى عهد محمد وعقده فعل) وهذا البند (الثالث) عام يشمل العرب والعجم، ومعناه ان قريش تترك الحريه لاى مجموعه بشريه لتدخل فى عهد محمد وعقده.

وهذا بحد ذاته انقلاب، لان اعلام البطون كان يصور محمدا وكانه ابن عاق من ابنائها خرج عليها، وكان الصراع بينها وبينه هو صراع عائلى بين عشيره كبرى وبين فرد خارج عليها، وبهذه الحاله فان لم تقف العرب مع العشيره الكبرى فانها لن تقف مع ابن العشيره الخارج عليها.

وجاء اعتراف البطون بحق محمد باستقطاب العرب حوله ليقلب كل المفاهيم، وليلغى دفعه واحده آثار اعلام البطون، وليخلق مناخا جديدا للدعوه، ومجالا رحيبا للدوله الاسلاميه.

فدين محمد قائم على السلام، والكلمه الطيبه والاقناع، واحترام العقل، وتقديس الحوار الجدى الباحث عن الحقيقه المجرده، فاذا وجدت الحريه، ورفع الحرج، وسمع الناس حجه محمد، وقارنوها مع حجه البطون، واعلامها فسيدخلون بالضروره فى عهد محمد وعقده، وبوقت يطول او يقصر ستجد بطون قريش نفسها معزوله، فهى لا تدعى بدين جديد، وليس لديها ما تقدمه، ومع الايام تصبح جزيره ظلمات وسط نور باهر.

فلذلك كان هذا الاتفاق فتحا حقيقيا لمكه، وهزيمه ساحقه لبطون قريش، وكان نصرا موزرا لدبلوماسيه الرسول التى حصدت ثمار المواجهه المسلحه مع البطون افضل حصاد، وباقرب الطرق وايسرها، وحققت كل ما كان يتمناه النبى (صلى اللّه عليه وآله وسلم).

وتحديد مده الصلح بعشر سنين غير ملزم، فاذا اخلت البطون بهذا الاتفاق، فهى التى ينبغى ان تدفع الثمن، وان تواجه قوه تقوى ولا تضعف، وبهذه الحاله فان محمدا بحل منها.

وحدث هذا بالفعل.

وحول رجوعه على ان يعود العام المقبل، فالعمره سبب للمصالحه وطريق اليها، فقد اتخذ الرسول قرار العمره لعل مسيرته الى العمره تودى الى المفاوضه، فالصلح، وقد ادت العمره دورها وقادت الى المصالحه، وكانت سببا لتخلى قريش بينه وبين العرب، وهو المطلب الذى قاتل من اجله سته سنوات، وتمناه طوال فتره البعثه التى سبقت المصالحه، والتى استمرت 19عاما.

ورجوع محمد دون اداء العمره احراج كبير لبطون قريش امام العرب، واعتراف صريح منها بانها تصد زوار بيت اللّه الحرام، وبالتالى ليست اهلا لاداره البيت الحرام، ومحمد ماجور برجوعه، لانه لو اصر على اداء العمره، فالشر الذى سيحدث بادائها اعظم من الخير الذى يرجى بتركها.

اما حول البند الذى ينص على التزام النبى برد من ياتيه بدون اذن وليه، فهو يصب فى مصلحه الاسلام، فمن يومن باللّه ورسوله لا يمكنه ان يتخلى عن هذا الايمان، سواء اكان مع محمد او عند بطون قريش، وكثير من المسلمين كانوا يقيمون فى مكه، فمن يرده النبى ينضم للمسلمين المقيمين فى مكه ليشكلوا معا قوه يستفاد منها عاجلا ام آجلا.

ثم ان بنود الاتفاق متكامله، فاذا اخلت بطون قريش ببند منها فان محمدا بحل من هذا الاتفاق بعد ان شاع بين العرب، واعترفت البطون بحقه باستقطاب من يشاء.

وستتاح له الفرصه لتصفيه الحركه اليهوديه فى الجزيره، واستقطاب القبائل التى كانت متردده مراعاه لخاطر بطون قريش.

وبكل الموازين السياسيه والعسكريه فان صلح الحديبيه كان من اعظم الانجازات والفتوحات التى حققها رسول‏اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.

انا عبد اللّه ورسوله:

بهذه الكلمات الثلاث اجاب رسول‏اللّه من لم تعجبه هذه المعاهده، بمعنى ان اللّه تعالى هو الذى امره بالعمره، ورتب له الامور، فهو عبداللّه يفعل ما يومر، ورسول‏اللّه يتقيد باوامر من ارسله، فمعه الوحى ومعه الالهام، وهو لا ينطق عن الهوى.

فمحمد يعلم علم اليقين بان ما جرى سوف يجرى، خطوه بعد خطوه حتى يكتمل بالصوره التى آل اليها.

لقد صرح النبى علنا بان اللّه قد امره بالبيعه (506)، وامر مناديا ينادى:

(ان روح القدس قد نزل وامر بالبيعه، فاخرجوا على اسم اللّه فبايعوا) (507)، بمعنى ان اللّه يوجه نبيه خطوه خطوه، نحو الهدف العظيم.

حتى تحقق الصلح المبارك، فرضى اللّه تعالى عنه، وبرضاه رضى رسول‏اللّه.

المزايده والتشويش:

لم يرض عمر بن الخطاب بمعاهده الصلح التى رضى اللّه عنها، واعتبرها فتحا مبينا، وامر رسوله بقبولها والتوقيع عليها، ليختم مرحله من المواجهه، لقد اعتبر عمر هذه المعاهده (دنيه)، وقال للرسول امام المسلمين:

(فعلام نعط‏ى الدنيه فى ديننا)، وظهر الرجل بمظهر من يزايد على الرسول بالدين الذى علمه الرسول اياه!!!

وقبل يوم واحد فقط طلب رسول‏اللّه من عمر ان يذهب الى بطون قريش ليقول لها:

(بان رسول‏اللّه لم يات لقتال احد، انما جئنا زوارا لهذا البيت، معظمين لحرمته، معنا الهدى ننحره وننصرف، فرفض وقال للرسول:

يا رسول‏اللّه انى اخاف قريش على نفسى، وليس بها من بنى عدى من يمنعنى) (508)!!

وهو نفس عمر الذى اشترك فى معركه بدر ولم يثبت انه قد قتل مشركا او جرحه، وهو نفسه الذى هرب من المعركه يوم احد، وقد ذكره الرسول بذلك يوم اقبل عليه فقال له:

(انسيتم يوم احد اذ تصعدون ولا تلوون على احد، وانا ادعوكم فى اخراكم) (509).. وهو نفس الرجل الذى لم يكن له اى دور مميز فى اى معركه من معارك الاسلام التى سبقت صلح الحديبيه!!!

وهو الذى يزايد على رسول‏اللّه، ووصف المعاهده التى وقعها النبى ورضى (بانها دنيه فى ديننا) واعلن عمر انه لو وجد اعوانا ما اعط‏ى الدنيه!!

اى ما سمح بتوقيع هذا الصلح (510)!!!

ولقد استخف نفرا من اسلم وغضب الكثير لغضبه (511).. لقد حاول ان يحول بين النبى وبين الصلح، وحاول ان يلغى المعاهده، ولكنه لم ينجح، ومن ذلك التاريخ ادرك اهميه وجود الاعوان لفرض رايه (512).

وبالرغم من معارضه عمر الشديده لصلح الحديبيه ورده على اللّه ورسوله الا ان اولياءه يسجلونه شاهدا على هذا الصلح، ويوكدون انه قد وقع كشاهد (513)!!!

لقد برع القوم باعطاء عمر (رضى اللّه عنه) دور البطوله فى كل موقف، حتى وان خالف الرسول او اختلف معه، فمخالفته للرسول او اختلافه معه كان لحكمه رآها عمر (رضى اللّه عنه)!!!

قال ابو سعيد الخدرى:

(جلست عند عمربن الخطاب رضى اللّه عنه يوما، فذكر القضيه، فقال:

لقد دخلنى يومئذ من الشك، وراجعت النبى صلى اللّه عليه وسلم يومئذ مراجعه ما راجعته مثلها قط، ولقد عتقت فيما دخلنى يومئذ رقابا، وصمت دهرا، وانى لاذكر ما صنعت خاليا فيكون اكبر همى) (514).

على اى حال لقد تغلب النبى على المزايده والتشويش، ويوم الفتح قال:

(ادعوا لى عمربن الخطاب، فقال اى عمر، هذا الذى قلت لكم!

قال:

اى رسول‏اللّه ما كان فتح فى الاسلام اعظم من صلح الحديبيه!!) (515)

الفصل الرابع: المواجهه مع اليهود

لقد ارسل اللّه رسوله محمدا الى الناس كافه، بغض النظر عن الدين او اللون او العرق، فهو خالقهم جميعا، ابوهم آدم وامهم حواء.

ولانه يتعذر على النبى ان يبلغ الناس جميعا وبوقت ومكان واحد مضمون رسالته، فقد اختار تعالى مكه لتكون نقطه الانطلاق للنبوه والرساله، لان زوار البيت يتقاطرون لزيارته من مختلف الانحاء، واحرى بهم ان ينقلوا معهم ما يسمعون من انباء عند عودتهم لامصارهم، وكانت الغالبيه العظمى من سكان مكه وما حولها تعبد الاصنام، وندره منهم كانوا قد اعتنقوا اليهوديه او النصرانيه، او سمعوا الكثير عن هاتين الديانتين.

وكان ما كان من تصدى بطون قريش للنبوه والرساله، ومن مواجهتها للنبى حتى تامرت على قتله وفشلت.

وطاردته ففشلت، ووصل رسول‏اللّه سالما الى المدينه.

وبالاجمال لم تحدث مواجهه بين النبى وبين اليهود خلال فتره وجوده فى مكه التى استمرت 13عاما، بل على العكس من ذلك، فقد كانت ترد انباء يرويها المشركون عن اليهود بان نبيا من بنى عبدمناف سيظهر، وان اوان ظهوره قد اقترب!!

فيرتاح النبى والذين اسلموا معه لمثل هذه الانباء ويطمئنوا لها.

فى المدينه المنوره:

لا بد من التذكير بان بطون قبيلتى الاوس والخزرج يشكلون الاغلبيه الساحقه من سكان بلده يثرب وما حولها، بالاضافه الى اقليه كبيره من اليهود.

ويبدو واضحا ان اصحاب بيعتى العقبه الاولى والثانيه قد نجحوا نجاحا ساحقا بادخال دين الاسلام الى كل بيت من بيوت بطون الاوس والخزرج، مثلما نجحوا بخلق راى عام فى يثرب وما حولها متشوق او متظاهر بالتشوق لرويه الرجل الرسول، وموالى او متظاهر بموالاه هذا الرسول.

ولا خلاف بين اثنين من سكان يثرب بان الرجل الرسول سياتى الى يثرب قائدا ومتبوعا غير تابع، ولم يعلن احد من السكان معارضته لقياده الرسول.

لقد نجح المسلمون الرواد فى يثرب بايجاد حاله عظمى من الانبهار.

لقد استقبل سكان يثرب وما حولها النبى استقبالا حافلا لم يستقبل به زعيم قبله قط، وما يزيد هذا الاستقبال روعه انه وليد مشاعر مختلطه من الرضى والاقتناع والمجامله والانبهار، وفى بعد قصى عن القوه والاكراه والتسلط.

وقد اشتركت الاقليه الكبيره من اليهود اشتراكا موثرا فى كل ذلك، فقد تسلق قسم منهم جذوع النخيل ليكون اول من يرى طلعه النبى!!

ولما اشرقت طلعه النبى، صاح احد اليهود:

(يا اهل يثرب هذا حظكم قد اتى).

انتهت مراسم الاستقبال، ودخل النبى عاصمته الجديده يغمره شعور عام بالرضى والاطمئنان، وصمم ان يجعل من وصوله الى يثرب نقطه تحول كبرى فى حياه كل سكانها، لا فرق باللون او العرق او الدين.

لقد كانت نظرته للامور حياديه ومجرده، وهمه الاعظم منصب على انقاذ الجميع من الظلمات الى النور، واشعار الجميع انهم اصحاب رساله الى العالم.

ولعبت قوانين التنافس والتسابق بين بطون الاوس والخزرج دورا كبيرا، فلا تجد من هذه البطون رجلا الا وقد اسلم او تظاهر بالاسلام، او والى محمدا حقيقه او تظاهر بموالاته، فبطون الاوس تريد ان تكون السابقه، وبطون الخزرج تطمع بذلك.

لقد ادركت بطون الاوس والخزرج ان الاسلام صار هو درب الحياه الوحيد، وتذكره المواطنه، وطريق المستقبل، والمفتاح الى كل دور من ادوار الحياه، فارادت الاوس ان تسبق الخزرج، وارادت الخزرج مثل ذلك، ووسيله السبق هو الاسلام وموالاه النبى او التظاهر بهما.

ولم يبق رجل من رجالات بطون هاتين القبيلتين، الا وقد اسلم او تظاهر بالاسلام.

وفى هذا المناخ التنافسى ظهرت ظاهره النفاق على اوسع نطاق، حيث يظهر اهله الاسلام والموالاه، ويبطنون الكفر والحقد على محمد وآله.