الصفحة 95
سألهم: ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟ فقالوا: نعم. عندئذ قال:

(من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه)، وأخذ بيد علي بن أبي طالب، وقال (هذا وليي وأنا موال لمن والاه ومعاد لمن عاداه). ثم قال: (من كان الله ورسوله وليه فهذا علي وليه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) (1). وبعد أن أتم الرسول إعلانه الخطير، هذا نزلت آية الإكمال: (اليوم أكملت لكم دينكم...) [ المائدة / 3 ] (2).

الفهم وتقديم التهاني

فهم المسلمون ما قصده الرسول تماماً، وعرفوا الولي والإمام والقائد والخليفة من بعده هو علي بن أبي طالب، فتقدمه وقدموا التهاني للإمام علي، وكان من جملة المهنئين أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم، وعبر بعضهم عن تهانيه بجمل مختصرة ذهبت مثلاً، مثل تهنئة عمر بن الخطاب الذي قال لعلي: (بخ بخ لك، يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم) (3).

وكقول عمر بن الخطاب الذي ذهب مثلاً: (هنيئاً لك، يا ابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة) (4).

____________

(1) وقد وثقنا ذلك في الفصل السابق، فارجع إليه، وانظر أيضاً كتابنا: المواجهة تجد التوضيح الكامل.

(2) راجع تاريخ بغداد ص 290، والدر المنثور للسيوطي 2 / 259، وتذكرة الخواص لابن الجوزي ص 30، وتفسير ابن كثير 2 / 14، ومقتل الحسين للخوارزمي ص 115، وكتاب الولاية لابن جرير الطبري، وكتاب الولاية لأبي سعيد السجستاني وتاريخ ابن كثير 5 / 210، والبداية والنهاية لابن الأثير 5 / 213.

(3) راجع ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق لابن عساكر 2 / 75 ح 577 ومناقب علي لابن المغازلي الشافعي ص 18 و 24 والمناقب للخوارزمي الحنفي ص 94، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي 8 / 290، وشواهد التنزيل للحسكاني الحنفي 1 / 158، وسر العالمين وكشف ما في الدارين لأبي حامد الغزالي ص 21، وكتابنا المواجهة مع رسول الله وآله (القصة الكاملة) ص 428.

(4) راجع مسند الإمام أحمد 4 / 281، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 24 والحاوي للفتاوي للسيوطي 1 / 122، ودخائر العقبى للطبري ص 67 وفضائل الخمسة للفيروز آبادي 1 / 350، وتاريخ الإسلام للذهبي 2 / 197، وتفسير الفخر الرازي 3 / 63، وتذكرة الخواص =

الصفحة 96
وهذا غيض من فيض من الأحاديث والنصوص الشرعية التي رواها أكابر علماء أهل السنة، وهي وحدها تكفي أن توفر الحياد، والتجرد والموضوعية للقول بإمامة علي بن أبي طالب وولايته وخلافته للرسول.

الأئمة من بعد علي

1 - روى عبد الله بن عباس وأسامة بن زيد وعبد الله بن جعفر أن رسول الله قال: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأخي علي هذا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا استشهد فابني الحسن أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم ابني الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا استشهد فابنه علي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وستدركه يا علي، ثم ابني محمد بن علي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وستدركه يا حسين (1). ولا خلاف عند أهل بيت النبوة وشيعتهم على ذلك. ولا خلاف عندهم في وصية الإمام علي للحسن.

2 - حين حضرت الوفاة أمير المؤمنين علياً بن أبي طالب كانت وصيته للحسن كما يلي: (يا بني، إنه أمرني رسول الله أن أوصي إليك وادفع إليك كتبي وسلامي، كما أوصى إلي كتبه وسلاحه. وأمرني رسول الله أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين، ثم أقبل على علي بن الحسين فقال: وأمرك رسول الله أن تدفعها إلى ابنك محمد بن علي، فاقرئه من رسول الله ومني السلام).

3 - ولا خلاف، عند أهل بيت النبوة، وشيعتهم في قول رسول الله للحسين: (قال الحسين بن علي دخلت على جدي رسول الله فأجلسني على فخذه وقال لي: (إن الله اختار من صلبك يا حسين تسعة أئمة تاسعهم قائمهم وكلهم في الفضل سواء) (2).

____________

= لا بن الجوزي ص 29، وترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق لابن عساكر 2 / 50 ح 550 و 551 و 552.

(1) راجع إثبات الوصية للمسعودي ص 190، وإعلام الورى بأعلام الهدى للطبرسي وسيرة الرسول وأهل بيته لمؤسسة البلاغ 2 / 191.

(2) راجع: ينابيع المودة للقندوزي الحنفي 2 / 445، وكمال الدين للصدوق ص 157، وسيرة الرسول وأهل بيته 2 / 189.

الصفحة 97
4 - وعن ابن عباس قال (سمعت رسول الله يقول: (أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهرون معصومون) (1).

5 - قال جابر بن عبد الله الأنصاري: لما أنزل الله تعالى على نبيه الآية: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) [ النساء / 59 ] قلت: يا رسول الله، عرفنا الله ورسوله فمن هم أولو الأمر اللذين قرن الله طاعتهم بطاعته؟

فقال الرسول: هم خلفائي يا جابر وأئمة المسلمين من بعدي أولهم علي بن أبي طالب، ثم الحسن بن علي، ثم الحسين بن علي، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي، ثم جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم علي بن محمد، ثم الحسن بن علي، ثم محمد بن الحسن المهدي) (2).

بروز الأئمة واشتهارهم

عند ما تلفظ الرسول الكريم بهذه الأحاديث لم يكن موجوداً إلا علي والحسن والحسين، ثم ولد بقية الأئمة. طوال عهود الدولة التاريخية الإسلامية، وهي تفرض حالة من التعتيم الإعلامي على أئمة أهل بيت النبوة بخاصة، وعلى أهل البيت بعامة، ومع هذا فقد اشتهر هؤلاء الأئمة وعرفتهم الخاصة والعامة، وكان كل واحد منهم في زمانه بمثابة البدر الطالع في الليلة الظلماء لا يخفى نوره وبهاؤه على أحد، ولم يكن بوسع كل من المسلمين بعامة أو من الخلفاء بخاصة أن يدعي بأن هنالك من هو أعلم وأفهم بالدين منه أو أقرب لله ولرسوله منه، ولا يدعي ذلك إلا من سفه نفسه.

طريقة الإعلان والتعيين

تشبه طريقة الإعلان عن الإمام الشرعي الجديد وتعيينه، من حيث الظاهر والشكل، طريقة الإعلان عن الخليفة الجديد في الدولة التاريخية الإسلامية.

____________

(1) راجع ينابيع المودة للقندوزي الحنفي 2 / 445، وكفاية الأثر للقمي الرازي ص 19، وكمال الدين للصدوق ص 163، وعيون الأخبار ص 38، وسيرة الرسول وأهل بيته 2 / 189.

(2) راجع كفاية الأثر للقمي الرازي ص 7، وسيرة الرسول وأهل بيته 2 / 190 - 191، وإعلام الورى بأعلام الهدى للطبرسي ص 27.

الصفحة 98
أ - الأئمة الشرعيون: فكل إمام من الأئمة الشرعين الاثني عشر أعلن عنه وعين إماماً بنص ممن سبقه. فرسول الله، وهو نقطة البداية والارتكاز، قد اختاره الله رسولاً ونبياً، وإماماً وولياً وقائداً للدعوة والدولة، وقبل أن ينتقل إلى جوار ربه أعلن بأمر من الله تعالى أن الإمام والولي والقائد من بعده هو علي بن أبي طالب يليه بالتوالي والتتابع أحد عشر إماماً من ذرية النبي ومن صلب علي. وسماهم الرسول بأسمائهم. وعلى الرغم من أنه قد حيل بين الأئمة الشرعين وبين حقهم في ولاية الأمة وقيادتها وإمامتها إلا أن إمامتهم لم تنقطع طوال التاريخ، فكان كل إمام يعلن عنه ويعين بنص ممن سبقه.

ب - خلفاء الدولة التاريخية: كذلك خلفاء الدولة التاريخية، فكان الخليفة القائم بالخلافة هو الذي يعلن عن الخليفة الذي يليه ويعينه عملياً حتى تصور بعض علماء الدولة التاريخية أن هذا الإجراء حق مطلق للخليفة: (ينظر للناس حال حياته، وتبع ذلك أن ينظر لهم بعد وفاته ويقيم لهم من يتولى أمورهم) (1). وقد شهد تاريخ دولة الخلافة التاريخية الإسلامية عدة دورات، وفي كل الدورات سادت هذه القاعدة: (كل خليفة يعين بنص ممن سبقه).

1 - ففي الدورة التاريخية الأولى، كان الخليفة أبو بكر هو نقطة البداية والارتكاز للخلفاء، ولما دنت منيته أعلن بأن الخليفة من بعده هو عمر بن الخطاب، ولما طعن عمر أعلن، عملياً، أن الخليفة من بعده هو عثمان بن عفان، والشورى لم تكن سوى إخراج شكلي لأمر مقرر سلفاً.

2 - ومن الدورة الثانية، التي بدأت عند ما استولى معاوية على منصب الخلافة بالقوة والغلبة والقهر سادت هذه القاعدة أيضاً، فلما شعر معاوية بأن نهايته تقترب ; أعلن أن الخليفة من بعده هو يزيد ابنه، ولما أوشك يزيد أن يهلك عين ابنه معاوية الثاني خليفة من بعده. ثم غلب مروان بن الحكم الأموي، وقبل أن يموت مروان استخلف ابنه عبد الملك، وطوال العهد الأموي وكل خليفة يعين بنص ممن سبقه.

____________

(1) راجع مقدمة ابن خلدون ص 177.

الصفحة 99
3 - ولما غلب العباسيون، وسقطت الدولة الأموية وقامت على أنقاضها المملكة العباسية وطوال العهد العباسي، كان كل خليفة يعلن عنه ويعين بنص ممن سبقه.

4 - وغلب العثمانيون، وتداعت الدولة العباسية وقامت على أنقاضها المملكة العثمانية، وطوال العهد العثماني كان الخليفة يعلن عن ويعين خليفة بنص ممن سبقه.

وبسقوط آخر سلاطين بني عثمان، سقطت دولة الخلافة التاريخية الإسلامية، وبسقوط هذه الدولة سقطت صيغة الخلافة التاريخية بشكلها المطبق تاريخياً.

بمعنى أن كل إمام شرعي عين وأعلن عنه إماماً بنص ممن سبقه، كذلك كل خليفة عين، أيضاً، وأعلن عنه بنص ممن سبقه، وهذا هو وجه التشابه في الظاهر والشكل بين الأئمة الشرعيين والخلفاء التاريخيين.

حكم الأسرة الواحدة

لا خلاف بين أحد من المسلمين في أن رسول الله هو حفيد إسماعيل، وفي أن إسماعيل هو ابن إبراهيم الخليل وأن الله تعالى قد آتى إبراهيم وذريته الصالحة النبوة والإمامة والكتاب، وأن هذا الصلاح قد تسلسل حتى استقر في رسول الله، وشاءت حكمة الله ألا تكون لرسوله ذرية وأن يجعل ذريته من صلب علي بن أبي طالب، وأن يجعل الرسول (عقبه وآله أولاد علي من فاطمة) (1)، واقتضت حكمة الله أن يختار علياً للإمامة من بعد النبي، وأن يختار من ذرية النبي ومن صلب علي أحد عشر إماماً ليقودوا الأمة عبر تاريخها الطويل. ما يعني أن النبي والأئمة كانوا جميعاً من الأسرة الهاشمية، أو بتعبير أدق، من أسرة النبي ومن أهل بيته بالتحديد،

____________

(1) راجع كنز العمال 1 / 152 ح 5210 وقد أخرجه الطبراني وهو الحديث 22 من أحاديث ابن حجر في الفصل الثاني من الصواعق المحرقة ص 112، وراجع المستدرك للحاكم 3 / 164 والمناقب للخوارزمي.

الصفحة 100
وأن النبي هو أحد الفروع الصالحة لأسرة إبراهيم. فعلي بن أبي طالب هو أبو الأئمة وفاطمة بنت رسول الله هي أم الأئمة، والأئمة ذرية محمد ولا ذرية له من سواهم.

تحالف الأسر

لم يرق هذا الترتيب الإلهي لأسر بطون قريش، لقد عز عليها أن يكون النبي من بني هاشم، وأن يكون الأئمة من بني هاشم أيضاً، وأن تجمع الأسرة الهاشمية الشرفين معاً، وأن تحرم بقية الأسر القريشية. واعتقدت أن هذه القسمة ظالمة، ومن المحال أن يأمر بها الله تعالى، وأن الأفضل والأوفق والأصوب أن تكون النبوة للأسرة الهاشمية وحدها لا يشاركهم فيها أحد، وأن تكون الخلافة لأسر قريش تتداولها في ما بينها ولا يشاركها هاشمي قط! (1). وهكذا كان، إذ اتحدت أسر بطون قريش، والنبي على فراش الموت، وقررت أن تصرف الإمامة والولاية عن أسرة النبي وأن تحل الأسر القريشية مجتمعة محلها، فاتحدت هذه الأسر وولت أبا بكر الخلافة، فأخذت أسرة بني تيم نصيبها، ثم ولت عمر الخلافة من بعده فأخذت أسرة بني عدي نصيبها، ثم ولت هذه الأسر عثمان فأخذت الأسرة الأموية نصيبها، وكان من المفترض أن تنتقل الخلافة إلى أسرة قريشية رابعة ولكن الأمويين قرروا إنهاء تحالف الأسر القريشية وإقامة نظام الأسرة الواحدة.

عودة نظام الأسرة الواحدة

قام التحالف بين الأسر القريشية للقضاء على نظام الأسرة الواحدة لأن نظام تحالف الأسر أوفق وأصوب كما رأى سادة التحالف! ولكن لما اشتد ساعد بني أمية قرروا أن يجعلوا الخلافة في الأسرة الأموية وحدها. وهكذا كان، فقد استولت الأسرة الأموية على منصب الخلافة بالقوة والغلبة والقهر، وحصرت هذا المنصب في الأمويين وحدهم وبالترتيب المعروف تاريخياً، وساد نظامهم حتى

____________

(1) راجع: الكامل لابن الأثير 3 / 24، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 / 107 و 12 / 53 - 54، تحقيق أبي الفضل نقلاً عن تاريخ بغداد.

الصفحة 101
غلبوا. فنهض العباسيون، أبناء عم الرسول، واستغلوا تعاطف المسلمين مع أسرة أهل بيت النبوة، وتمكنوا من هزيمة الأمويين ومن إقامة نظام يحصر الخلافة في الأسرة العباسية، ساد نظامهم حتى غلبوا.

وفي مرحلة من مراحل ضعف الدولة العباسية ظهرت أسرة بني عثمان، وهي أسرة غير عربية، وهيأت أسباب الغلبة والقهر وانقضت على الدولة العباسية، فأنهت وجودها وأقامت على أنقاضها مملكة جديدة ونظاماً جديداً حصر منصب الخلافة في أسرة بني عثمان فحكموا حتى سقط آخر سلاطينهم في عام (1343 ه‍ / 1924 م).

وأبعد من ذلك، فعند ما كان يستقوي أحد الولاة على إحدى الولايات الإسلامية كان يحصر منصب الولاية في أفراد أسرته.

وليس في ذلك غرابة، ولا ما يثير الدهشة، ولكن المدهش في، نظر البعض حقاً، أن تنحصر الولاية والإمامة والقيادة في أسرة النبي الأعظم!

هذا وجه آخر من وجوه التشابه بين الأئمة الشرعين وخلفاء الدولة التاريخية، فالأئمة الشرعيون من أسرة واحدة وكل مجموعة من الخلفاء من أسرة واحدة.

دور الأمة

الأمة بايعت رسول الله، وقبلت به إماماً وولياً وقائداً لها بالرضى ومن دون إكراه. الأمة تبحث عن الأعلم والأفهم بالدين والأتقى والأقرب لله، والأفضل والأصلح، فدلها الله تعالى على هذا الرجل الذي تتوافر فيه هذه الصفات فقبلت به وبايعته على هذا الأساس، ولا خلاف بأن هذه المؤهلات متوافرة في الرسول الأعظم، وقد أجمع أهل بيت النبوة وشيعتهم والمنصفون من شيع أهل السنة على أن هذه المؤهلات قد توافرت، أيضاً، في كل إمام من الأئمة الشرعيين الاثني عشر من بعد النبي. فدور الأمة منحصر بقبول الاختيار الإلهي، وهذا القبول ليس فرضاً إنما هو ثمرة قبول الرسول ومضامين الرسالة. فتبايع الأمة من شهد له الله ورسوله بتوافر تلك المؤهلات فيه، ومهمتها الأساسية هي المبايعة، أي القبول بولاية هذا

الصفحة 102
الذي اختاره الله ورسوله وقيادته وإمامته وهو من توافرت فيه المؤهلات التي لا يعلمها علم الجزم واليقين إلا الله ورسوله.

الغلبة والقهر

بالقوة والغلبة والقهر يتمكن رجل من الاستيلاء على منصب الإمامة ويحول بين الإمام الشرعي وبين حقه فيه، واعتباطاً يطلب هذا المتغلب من الأمة أن تبايعه وأن تقبل بولايته وقيادته وإمامته تماماً كما قبلت بإمامة الرسول أو الإمام الشرعي وولايتهما وقيادتهما، لا لأنه قد توفرت فيه الشروط الشرعية، ولكن لأنه غالب وقاهر ومستول بالقوة والقهر على خلافة الرسول. وهكذا تبايع الأمة من يغلبها وفق الشكل نفسه الذي بايعت فيه الرسول، أو كان من المفترض أن تبايع به الأئمة الشرعيين الاثني عشر من بعد الرسول.

هذا وجه آخر من وجه التشابه بين الإمامة الشرعية والخلافة التاريخية!

* * *

الصفحة 103

الباب الثالث
عقيدة كل من الشيعة والسنة في جمع
القرآن الكريم، وذات رسول الله والأئمة
من بعده، ومصادر التشريع


الصفحة 104

السؤال الثالث

قابلت صديقي السني، فأخبرني أنه قد درس بإمعان كافة أجوبتي عن أسئلته المتعلقة بالإمامة والولاية، وأبدى قناعته التامة بها. وكان واضحاً أن بذرة المحبة لأهل بيت النبوة قد اسقرت نهائياً في قلب الرجل، وأن دوري مقتصر على رعاية هذه البذرة لتنمو نمواً طبيعياً. وأخبرني الرجل أنه قرأ، خلال تلك المدة، كتابنا (المواجهة بين رسول الله وآله) وأعجب به. ثم أخرج من جيبه ورقة كتب عليها السؤال الثالث، وقرأه:

يتقول المتقولون حول عقيدة الشيعة في جمع القرآن الكريم، فهل تتفضل باطلاعي، وبمنتهى الإيجاز، على عقيدة كل من أهل السنة وأهل الشيعة في جمع القرآن الكريم، وبيان رأي كبار علماء الشيعة ببعض الروايات التي ساقها غير عالم من علماء أهل السنة في موضوع الزيادة أو النقص في القرآن الكريم؟

واتفقت معه على أن أسلمه الأجوبة خلال أسابيع، وقد فعلت.


الصفحة 105

الفصل الأول
عقيدة أهل بيت النبوة وشيعتهم في جمع القرآن الكريم

العقيدة الثنائية

أجمع الخلفاء وشيع أهل السنة على أمرين رئيسيين: أولهما سياسي، وهو موت الرسول من دون أن يستخلف أحداً من بعده. وثانيهما حقوقي أو قانوني، وهو موت الرسول من دون أن يجمع القرآن الكريم. وأجمع أهل بيت النبوة وشيعتهم على نقيض هذين الأمرين تماماً. فأعلنوا إيمانهم المطلق بأن الرسول قد استخلف علياً بن أبي طالب وأحد عشر إماماً من ذرية النبي ومن صلب علي ليقودوا الأمة عبر تاريخها. وبعد أن بدأت عقيدة ترك الرسول للقرآن في دون جمع تشيع في أوساط المجتمع الإسلامي أعلن أهل بيت النبوة وشيعتهم إيمانهم المطلق بأن رسول الله جمع القرآن الكريم حال حياته، ولم ينتقل إلى جوار ربه إلا بعد ما كان القرآن مجموعاً ومتداولاً بين الناس بصورته المتداولة بين أيدي المسلمين الآن. والفارق الوحيد يكمن في كمية النسخ ونوع المادة المكتوب عليها القرآن الكريم و أسلوب نسخه أو شكله.

نظرية الخلفاء وشيع أهل السنة في جمع القرآن

لا يمكن للباحث أن يلم بنظرية أهل بيت النبوة وشيعتهم في جمع القرآن الكريم إلا إذا وقف على تفاصيل نظرية الخلفاء وشيع أهل السنة في هذا الموضوع، لأن الإعلان عن نظرية أهل بيت النبوة وشيعتهم كان بمثابة رد فعل، أو تصحيح للنظرية الرسمية التي تبناها الخلفاء وشيعهم وأشاعوها لأسباب سياسية.

وإليك موجز هذه النظرية:

عند ما اكتشف أبو بكر وعمر أن رسول الله قد ترك القرآن الكريم من دون جمع أدركا بثاقب بصيرتهما أن القرآن، إن ترك من دون جمع، فسيضيع حتماً، وإذا ضاع القرآن يضيع الإسلام! لذلك شمر الصديق والفاروق وذو النورين عن

الصفحة 106
سواعدهم وبدأت المشاورات لإنجاز مشروع جمع القرآن، ولولا جهودهم المباركة المتكاملة لضاع القرآن ولما وصلنا، ولفقد قانون الدولة الإسلامية كما فقد رئيسها العظيم من قبل، وقاموا بهذا العمل الجليل، واقتسموا هذا الشرف العظيم في ما بينهم.

التغلب على المشكلات وجمع القرآن

1 - نقل المتقي الهندي (1) أن عمر راجع زيداً بن ثابت ليجمع القرآن، وأن أبا بكر راجعه أيضاً، فقال زيد لكل واحد منهما: كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله!؟ فأجابه كل واحد منهما: (والله إنه خير) ولم يزل كل واحد منهما يراجع زيداً حتى شرح الله صدر زيد لما شرح له صدر أبي بكر وعمر، وهكذا سقطت العقبة القائمة أمام إنجاز أمر لم يفعله الرسول!

2 - عندئذ بدأ زيد بتتبع القرآن يجمعه، من الرقاع واللحاف والأكتاف وصدور الرجال، حتى وجد آخر سورة براءة مع خزيمة ولم يجدها مع غيره من المسلمين. وصار هذا القرآن المجموع عند أبي بكر حال حياته، ثم عند عمر حال حياته حتى توفاه الله ثم عند حفصة بنت عمر. ولما تولى عثمان الخلافة أرسل إليها لتدفعه إليه فأبت حتى عاهدها عثمان ليردنه إليها!!

3 - عندئذ بعثت حفصة بصحائف هذا القرآن، فنسخ عثمان هذه الصحف ثم ردها، فلم تزل عندها حتى توفيت. ولما رجعوا من دفنها أرسل مروان إلى عبد الله بن عمر ليرسل إليه صحف القرآن التي كانت بحوزة حفصة، ولما وضعت بين يدي مروان تم تمزيقها حتى لا يشك الناس في مصحف عثمان (2).

4 - تعطي الروايات بطولة جمع القرآن للخلفاء الثلاثة ولزيد بن ثابت الذي

____________

(1) في كنز العمال 2 / 571 - 572 ح 4751 عن ابن حيان في صحيحه، وعن الدار قطني في سننه، وعن أحمد بن حنبل في مسنده، وعن البخاري ومسلم في صحيحهما وعن الترمذي في سننه.

(2) راجع كنز العمال 2 / 573 - 574، وصحيح البخاري 6 / 48 باب جمع القرآن ح 4751.

الصفحة 107
لعب دوراً مميزاً بالجمع، ولسعيد بن العاص لأنه أعرب الناس ولمالك بن أنس، وأبي بن كعب ولأبي هريرة الذي بارك جمع القرآن، وروى لعثمان حديثاً عن رسول الله يبارك طريقة عثمان بالجمع، فأعجب عثمان بالحديث وأمر لأبي هريرة بعشرة آلاف درهم (1).

وسيلة إبطال جمع القرآن بإثبات القرآن

1 - عند ما كلف زيد بن ثابت بجمع القرآن، قال: (فتتبعت القرآن أجمعه، من الرقاع واللحاف والأكتاف والعسب وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة بن ثابت الأنصاري ولم أجدها مع غيره) (2).

2 - خاف الصديق أن يضيع القرآن فقال للفاروق ولزيد بن ثابت: اقعدا على باب المسجد فمن جاء كما بشاهدين على شئ من كتاب الله فاكتباه! (3).

3 - قام عمر بن الخطاب، في الناس، خطيباً فقال: (من تلقى من رسول الله شيئاً من القرآن فليأتنا به، وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد شاهدان (4)!

4 - خطب عثمان، فقال: (من كان عنده من كتاب الله شئ فليأتنا به. وكان لا يقبل من ذلك حتى يشهد عليه شاهدان، فجاء خزيمة ومعه آيتان فشهد معه عثمان) (5).

____________

(1) راجع كنز العمال 2 / 578 (ح 4767) و 581 (ح 4775) و 582 - 583 (ح 4776) و 587 (ح 4789) و 589 (ح 4796) - مؤسسة الرسالة بيروت 1413 ه‍ - 1993 م، وراجع أيضاً (اعتمده صاحب كنز العمال) صحيح البخاري 6 / 226 - باب جمع القرآن - وجامع الأصول 2 / 503 رقم 975، والترمذي - كتاب التفسير رقم (3103)، وابن الأنباري في المصاحف.

(2) راجع كنز العمال 2 / 571 - 572 ح 4751 كما نقله عن صحيح البخاري 6 / 225 - باب جمع القرآن - والترمذي - كتاب التفسير رقم 3102، وجامع الأصول 2 / 501.

(3) راجع كنز العمال 2 / 573 ح 4751 كما نقله عن ابن داود، وروى مثل هذه الرواية عن ابن سعد والحاكم راجع الحديث 4756.

(4) راجع كنز العمال 2 / 574 - 575 ح 4759.

(5) راجع المصدر السابق، وكتابنا الخطط السياسية لتوحيد الأمة الإسلامية ص 54.

الصفحة 108
5 - قال خزيمة: جئت بآية (لقد جاءكم رسول من أنفسكم...) فقال زيد بن ثابت: من يشهد معك؟ قلت: والله لا أدري، فقال عمر. أنا أشهد معه على ذلك (1)!

6 - كان عمر لا يقبل آية من كتاب الله حتى يشهد عليها شاهدان فجاء رجل من الأنصار بآيتين، فقال عمر: لا أسألك عليهما شاهداً غيرك (2).

7 - تسمية القرآن: ولما تم لهذا الفريق ما أرد، وجمع القرآن بهذه الكيفية ولم يبق عليهم إلا التسمية احتار، فقد روى الزركشي، السيوطي (3) وغيرهما:

(لما جمع أبو بكر القرآن قال بعضهم سموه إنجيلاً، فكرهوه، وقال بعضهم سموه (السفر) فكرهوه من يهود. عندئذ قال ابن مسعود (رأيت للحبشة كتاباً يدعونه المصحف فسموه مصحفا).

وهكذا جمع القرآن الكريم واختصت مجموعة بفضل جمعه من البداية إلى النهاية، ولولا هؤلاء الأبطال لذهب القرآن ولضاع تماماً بعد قتل حفظته، ولما قامت للدين قائمة، ولما أنجزوا هذا المشروع، لم يبق عليهم إلا تسمية هذا القرآن المجموع وأعملوا مبدأ الشورى واستقر رأيهم بعد الشورى على تسميته بالمصحف لأن للحبشة كتاباً يدعونه بالمصحف، ووضع إنجازهم بين أيدي المسلمين!

8 - العجب العجاب: وما يدعو للعجب العجاب حقاً ألا يكون علي بن أبي طالب لا مع الأبطال ولا مع الفرسان، وهو القائل على روؤس الأشهاد: (سلوني عن كتاب الله فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار وفي سهل أم جبل..) (4) والعجب أيضاً ألا يكون بين أفراد هذه الجموع شخص من أهل بيت النبوة، مع أن القرآن قد نزل في البيت الذي كانوا يسكنون فيه مع رسول الله (5)!

____________

(1) راجع كنز العمال 2 / 576 - 577 ح 4764، ط مؤسسة الرسالة بيروت.

(2) راجع كنز العمال 2 / 578 ح 4766.

(3) الاتقان ص 63.

(4) أخرجه ابن سعد، راجع تاريخ الخلفاء ص 185، على سبيل المثال.

(5) راجع كتابنا الخطط السياسية ص 55، وما بعدها.

الصفحة 109

نظرية أهل بيت النبوة وشيعتهم في جمع القرآن

أجمع أهل بيت النبوة وشيعتهم على أن رسول الله كان أول من كتب القرآن الكريم وجمعه، فمن المتفق عليه أن هذا القرآن قد نزل على رسول الله منجماً ومتفرقاً خلال حقبة زمينة امتدت 23 عاماً. ومن المتفق عليه أن تقسيم القرآن إلى سور وتقسيم السور إلى آيات هو ترتيب إلهي وجزء من الوحي، فكلما نزل الوحي بكوكبة من القرآن كان الوحي يقوم بتلاوتها على رسول الله، ومن ثم يبين له في أي سورة يضع هذه الآيات، أو في أي سورة يضع كل آية منها، وقد ينزل الوحي بسورة كاملة ومعها اسمها.

وكان الرسول يأمر علياً بن أبي طالب، في العهد المكي، بكتابة القرآن حسب توجيهات الوحي وبالكيفية التي أمر الله بها رسوله. وبعد أن تتم عملية الكتابة والتوثيق كان رسول الله يطلع الناس على ما أوحي إليه، وكان المسلمون والمشركون على السواء يتابعون ما أنزل على الرسول، ويعرفون أسماء السور، ومن أي سورة هذه الآية أو تلك كل لأسبابه الخاصة به. وقد حفظ بعضهم كل ما أنزل على النبي، في مكة، وساعدهم على ذلك أن هذا الجزء من القرآن المنزل في مكة قد نزل في أوقات متفرقة خلال مدة 13 سنة أو 15 سنة، وهي مدة كافية ليحفظ الأذكياء وغير الأذكياء ما أنزل من القرآن. لذلك تجد القرآن الكريم يرسل التحدي للمشركين إرسال المسلمات فيقول (فأتوا بسورة من مثله) [ البقرة / 23 ] (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) [ هود / 13 ] فهم على علم بالسورة، وبالعشر سور، وبكل ما أنزل.

ومن غير المستبعد أن يكون بعض المشركين قد جمع ما أنزل من القرآن في مكة وكتبه حتى لا ينسى، وليفتشوا عن مثالب ومعايب فيه! ومن المؤكد أن ما أنزل من القرآن في مكة كان مجموعاً ومؤلفاً ومكتوباً عند رسول الله، وكانت لعلي بن أبي طالب نسخة خاصة به مكتوبة بخطة، فهو يقيم مع الرسول في بيت واحد، وهو أبرز من تكلم اللغة العربية. ومن الطبيعي جداً أن يكتب الكثير ممن آمنوا في مكة كل ما أنزل على رسول الله ليحفظوه، وليتدارسوا أحكامه. والكتابة عنصر أساسي من عناصر الحفظ والفهم والتدارس.


الصفحة 110
ولما هاجر الرسول من مكة إلى المدينة، حمل معه كل ما كتاب، وهكذا فعل علي بن أبي طالب، وجميع المسلمين الذين كتبوا القرآن. وما كتب في هذه المرحلة سمي بالمكي. وما كتب بعد الهجرة سمي بالمدني، وقد تحتوي السورة الواحدة علي آيات مكية وأكثرية مدينة أو العكس، فكيف أمكن معرفة ذلك إن لم يك مكتوباً؟.

وبعد آونة وجيزة من استقرار النبي في المدينة، أصبح رسول الله رئيس الدولة أو إمامها ووليها وقائدها، صار له كتاب وحي، وعنده قادة، وصار القرآن الكريم قانون الدولة الجديدة، واستمر الوحي بالنزول على رسول الله وتابع رسول الله كتابة القرآن وجمعه، وتابع سكان المدينة المنورة ما أنزل من القرآن، وقام منافقو المدينة بعمل مشركي مكة، فكانوا يتابعون ما ينزل من القرآن، وقد يكتبونه بحثاً عن مثالب ومطاعن ليسربوها سراً من خلال شائعاتهم. وتابع المسلمون الصادقون ما أنزل من القرآن فكتبه من يحسن القراءة والكتاب منهم لغايات الحفظ والفهم والدراسة والأجر معاً.

وعندما أعلن اكتمال نزول القرآن، كان القرآن كله مكتوباً عند رسول الله ومجموعاً ومؤلفاً، ومكتوباً ومجموعاً ومؤلفاً عند علي بن أبي طالب، وعند الكثير من الصحابة، وقد كتب علي بن أبي طالب على نسخته الكثير من الحواشي التي أملاها رسول الله عليه وهي بمثابة تفسير.

ولا خلاف عند أحد من المسلمين على أن القرآن هو كلام المعجز، وأن العرب هم أهل الفصاحة، وكانوا يعشقونها، لقد كتب العرب ما هو أقل أهمية من القرآن، فقد كتبوا المعلقات السبع وعلقوها داخل الكعبة بعد أن حفظوه خلال مدة 23 عاماً!؟ وهم الذين كتبوا وحفظوا مئات القصائد الشعرية وفق ترتيب الشعراء لهذه القصائد! فكيف لا يحفظون ولا يكتبون القرآن، وهو قانون الدولة النافذ وطريق الصعود والهبوط!؟

وفي جحة الوداع أعلن: (أني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي...)،

الصفحة 111
فلو كان كتاب الله غير مجموع ولا مكتوب لما ذكره رسول الله بهذه الصيغة! ثم إن القرآن الكريم هو معجزة الرسول الكبرى الدالة على نبوية ورسالته، فهل يعقل أن يتركها دون كتابة؟ وبخاصة أنها ركن الدين الأعظم وقانون ومرجع المسلمين في كل زمان!؟

ثم إن السبب المعلن الذي دعا الخلفاء الثلاثة لجمع القرآن الكريم هو خشيتهم من أن يقتل حفظة القرآن، وبالتالي يضيع القرآن، وبضياعه يضيع الدين!

كيف يحتاط الخلفاء الثلاثة لحفظ القرآن ويخشون ضياعه إن لم يكتب ولا يحتاط النبي ولا يخشى ضياعه وهو الأعلم والأبعد نظراً منهم!؟ فهل هم أحرص على القرآن وعلى الدين من النبي!؟ فإذا كان الجواب بالإيجاب فتلك والله كارثة، وإن كان غير ذلك فالرسول أولى بهذا الفضل من الخلفاء الثلاثة ومن غيرهم.

والخلاصة أن أهل بيت النبوة وشيعتهم يؤمنون إيماناً مطلقاً بأن رسول الله قد كتب القرآن كله وجمعه وألفه في كتاب بالكيفية التي أمر الله بها رسوله، وأنه كانت عند علي بن أبي طالب نسخة مكتوبة من هذا القرآن، وأن المئات من الصحابة كانت لديهم نسخ مكتوبة ومجموعة من القرآن الكريم. وكل ما في الأمر أنه لما بدأت الفتوحات صارت شعوب البلدان المفتوحة تسأل عن هذا القرآن فكتب قادة الجيوش لأبي بكر بوصفه الخليفة، فتبني أبو بكر بمساعدة أركان دولته عملية استنساخ عدد من نسخ القرآن المكتوبة والمجموعة وأرسلها إلى قادة جيشه، وتكررت العملية مع عمر عندما تولى الخلافة، وتكررت مع عثمان عندما آلت إليه الخلافة. ولا خلاف في أن عثمان بن عفان قد منع قراءات القرآن المعتمدة وحصرها في قراءة واحدة ارتضاها شخصياً وصارت هي القراءة الرسمية المعتمدة من دولة الخلافة، بمعنى أن كل واحد من الخلفاء الثلاثة ينسخ، عدداً من نسخ القرآن الكريم المكتوبة سابقاً من قبل رسول الله وذلك تلبية لحاجات الدولة والفرق أن نسخة رسول الله كانت تتضمن القراءات السبع بينما قصرها عثمان على قراءة واحدة!

هذه هي القصة الحقيقة لجمع القرآن الكريم، وما عداها تزلف من شيع

الصفحة 112
أهل السنة وتقول قد لا يقبله الخلفاء الثلاثة أنفسهم فهم أعلنوا بالعشي والإبكار أن الرسول خير منهم وأبعد نظراً ومعرفة بعواقب الأمور، وأحرص على القرآن والدين.

وبالرغم من أن نظرية شيع أهل السنة في جمع القرآن الكريم صارت هي النظرية الرسمية لدولة الخلافة التاريخية إلا أن هنالك روايات متعددة رواها أصحاب الصحاح وجميعها تفيد بأن القرآن كان مكتوباً ومجموعاً في كتاب مؤلف في عهد رسول الله. فقد روى الطبراني وابن عساكر عن الشعبي أنه قال: (جمع القرآن على عهد رسول الله ستة من الأنصار...) (1) وأخرج النسائي عن عبد الله بن عمر قوله: (جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة) فبلغ النبي فقال: (اقرأه في شهر) وروى الحاكم في مستدركه عن زيد بن ثابت أنه قال: (كنا عند رسول الله نؤلف القرآن من الرقاع) قال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) (2) فكيف نترك هذه الروايات التي تتفق مع نظرية أهل بيت النبوة وشيعتهم في جمع القرآن، ونرجح، وبغير مرجح، روايات شيع أهل السنة الأخرى التي تقول أن الرسول ترك القرآن من دون كتابه ولا جمع، فجاء الخلفاء الثلاثة وسدوا هذ الثغرة. ولولا هم لضاع القرآن، فأي الطائفتين أولى بالترجيح وأليق بمقام النبوة!؟

ومع أن نظرية شيع أهل السنة في جمع القرآن ساقطة علمياً وعقلياً كشجرة اجتثت من فوق الأرض إلا أنها فتحت أبواب الشائعات بنقص سور (3).

أقوال العلماء من شيعة أهل بيت النبوة

1 - قال الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي: (كان القرآن مجموعاً أيام النبي على ما هو عليه الآن، من الترتيب والتنسيق، في آياته وسوره

____________

(1) راجع منتخب الكنز 2 / 52. حتى البخاري روى في صحيحة 2 / 202 أن أنس بن ما لك:

قال جمع القرآن على عهد رسول الله أربعة، كلهم من الأنصار.

(2) راجع المستدرك للحاكم 2 / 211.

(3) راجع صحيح مسلم 3 / 100 باب لو كان لابن آدم واديين، كتاب الزكاة، واقرأ الحديث الذي يروونه عن أبي موسى الأشعري، وراجع الدر المنثور للسيوطي 1 / 105 و 6 / 378 والاتقان في علوم القرآن 2 / 25، وكتابنا الخطط السياسية ص 72، البيان في تفسير القرآن للإمام الخوئي ص 239 - 259.

الصفحة 113
وسائر كلماته وحروفه بلا زيادة ولا نقصان ولا تقديم ولا تأخير ولا تبديل ولا تغيير، وكان القرآن زمن النبي يطلق عليه الكتاب. قال تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) [ البقرة / 2 ]. وهذا يشعر بأنه كان مجموعاً ومكتوباً، لأن ألفاظ القرآن إذا كان محفوظة ولم تكن مكتوبة لا تسمى كتاباً وإنما تسمى بذلك بعد الكتابة كما لا يخفى) (1).

2 - قال الشيخ الصدوق في كتابه الاعتقاد: (إن القرآن الذي أنزله الله على سورة محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو ما بين الدفتين وهو ما في أيدي الناس، ومبلغ سورة 114 سورة) (2).

3 - قال الشريف المرتضى: (إن القرآن على عهد رسول الله كان مجموعاً مؤلفاً على ما هو عليه الآن، وكان يحفظ ويدرس جميعه في ذلك الزمان، وأنه كان يعرض على النبي) (3).

4 - قال الشيخ الطوسي: (والعلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام والكتب المشهورة، وأشعار العرب المسطورة.

أما الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق به).

5 - قال الفيض الكاشاني: قال تعالى (وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) [ فصلت / 41 - 42 ] وقال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [ الحجر / 9 ] فكيف يتطرق إليه التحريف والتغيير؟.

6 - قال العلامة جعفر النجفي: (لا زيادة فيه من سورة ولا آية من بسملة وغيرها ولا كلمة ولا حرف وجميع ما في الدفتين مما يتلى كلام الله بالضرورة).

7 - قال الشريف شرف الدين: (والقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إنما هو ما بين الدفتين وهو ما في أيدي الناس، لا يزيد حرفاً ولا

____________

(1) راجع آراء علماء المسلمين للسيد مرتضى الرضوي ص 150 - 314.

(2) راجع كتاب الاعتقاد ص 63.

(3) راجع آراء علماء المسلمين للسيد الرضوي ص 161 - 162.

الصفحة 114
ينقص حرفاً ولا تبديل فيه لكلمة بكلمة ولا حرف بحرف وكل حرف من حروفه متواتر في كل جيل تواتراً قطعياً إلى عهد الوحي والنبوة. وقد كان مجموعاً على ذلك العهد الأقدس مؤلفاً على ما هو عليه الآن، وكان جبريل يعرض على رسول بالقرآن في كل عام وقد عارضه عام وفاته مرتين، وكان الصحابة يعرضونه ويتلونه على النبي حتى ختموه عليه مراراً عديدة. وهذا كله من الأمور المعلومة الضرورية لدى المحققين) (1).

السؤال الرابع

في الجلسة الرابعة قال صاحبنا: أنه سعيد لاطلاعه على نظرية شيعة أهل بيت النبوة في جمع القرآن، وهي نظرية متماسكة تليق بتلك المعجزة العظمى.

وأضاف إنه مندهش إلى أبعد الحدود من ركون أهل السنة إلى نظريتهم في جمع القرآن! وتمنى عليهم لو أعادوا النظر فيها واتبعوا الحق فهو أحق يتبع، وأخرج من جيبه ورقة مكتوب عليها السؤال الرابع، ومفاده:

ما هي عقيدة أهل الشيعة في ذات الرسول وفي الأئمة الشرعيين من بعده؟

وما هي عقيدة أهل السنة في ذات الرسول، وهل يمكنكم سوق شواهد على ذلك؟

فوعدت صاحبي بتسليمه الأجوبة في أقرب وقت ممكن، وهكذا فعلت.

* * *

____________

(1) راجع الفصول المهمة في تأليف الأمة للعاملي ص 163 وآراء علماء المسلمين للسيد الرضوي ص 169 وكتابنا الخطط السياسية ص 86 وما بعدها

الصفحة 115

الفصل الثاني
عقيدة أهل بيت النبوة وشيعتهم
في رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من بعده

يؤمن أهل بيت النبوة وشيعتهم بأن رسول الله سيد ولد آدم وأفضلهم على الإطلاق، اختاره الله تعالى ليكون رسوله وخاتم النبيين، وأعده لهذه المهمة وأهلها لها، فجعله الأفهم والأعلم في دين الإسلام بمفهومه الشامل، وهداه ليكون الأقرب لله، وأعلى منزلته ليكون أفضل وأصلح أبناء الجنس البشري، ثم عصمه عصمة كاملة فلم يعص الله عز وجل منذ خلقه الله إلى أن قبضه، ولا تعمد له خلافاً، ولا أذنب ذنباً على التعمد ولا النسيان، وبذلك نطق القرآن (والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى) [ النجم / 1 - 3 ] إذ نفى بذلك عنه كل معصية ونسيان وعلى ذلك تواتر الخبر عن آل محمد، وهذا مذهب الإمامية (1). (الأنبياء والأئمة من بعدهم معصومون في حال نبوتهم وإمامتهم من الكبائر كلها والصغائر) (2) (ونقطع بكمالهم عليهم السلام في العلم والعصمة في أحوال النبوة والإمامة، ونقطع على أن العصمة لازمة منذ أن أكمل الله عقولهم إلى أن قبضهم عليهم السلام) (3) بمعنى أن الرسول الأعظم هو النموذج الأمثل للإنسان الكامل الذي يبلغ أمر الله بالدقة المتناهية من دون زيادة ولا نقصان، وهو المرجع الموثوق المعد والمؤهل للإجابة عن كل سؤال يتعلق بأي أمر من أمور الدنيا جواباً شرعياً دقيقاً قائماً على الجزم واليقين، فهو لا ينطق عن الهوى، بل يتبع ما يوحى إليه تماماً، إنه (مطعم) ضد الخطأ والنسيان، فلا ينطق ولا يعمل إلا صواباً، لأنه المبلغ عن الله أمره، وأمر الله يعالج أمور الدين والدنيا، وهو القائد الشرعي للبشرية ومرجعها الأوثق، همزة الوصل بين المكلفين المأمورين وبين الله تعالى الآمر

____________

(1) راجع أوائل المقالات في المذاهب المختارات للشيخ المفيد ص 68.

(2) راجع شرح عقائد الصدوق ص 236.

(3) المصدر نفسه، ص 237.

الصفحة 116
المكلف. فإن لم يكن النبي معصوماً لما حدث اليقين بعصمة الأوامر والتكاليف.

وباضطراب اليقين تضطرب العقيدة، ويختل أسس الحياة، ويضيع الأفراد والجماعات في متاهات الظن والتخمين، ولأن أمر الله دائم بعد انتقال الرسول إلى جوار ربه، ولأن دين الإسلام الذي جاء به محمد آخر الأديان السماوية فلا دين بعده، ولأن الدعوة إلى الله مستمرة إلى يوم القيامة، فقد زود الله الأئمة الشرعيين من بعد النبي بهذا التفضل واللطف الإلهي فعصمهم (وطعمهم) ضد الخطأ والنسيان، وجعل كل واحد منهم هو الأعلم والأفهم بالدين والأقرب إلى الله ورسوله وأفضل أهل زمانه وأصلحهم. ليكون بحق المرجع الموثوق للجنس البشري القادر على الإجابة عن كل سؤال جواباً شرعياً قائماً على الجزم واليقين، والفرق أنه ليس نبي ولا رسول إنما هو قائم مقام الرسول وخاتم النبيين، ولم يترك الله تعالى خلقه سدى، إنما بين لهم أن محمداً بشر، وأنه ميت لا محالة، وأن الأئمة الشرعيين من بعده اثنا عشر إماماً أولهم علي وآخرهم المهدي، وسمى كل واحد من الاثني عشر باسمه وبين أن كل واحد منهم يعين بنص ممن سبقه، وأن كل واحد منهم في زمانه هو الأولى بكل مؤمن من نفسه، وأن الله تعالى قد أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وهم الأبناء والأنفس كما هو ثابت في آية المباهلة، وأنهم أحد الثقلين، فلا يدرك الهدي إلا بالتمسك بالقرآن والأئمة، ولا يمكن تجنب الضلالة إلا بالتمسك بالاثنين معاً، كما هو ثابت من حديث الثقلين، وهم في العالم عامة وفي الأمة خاصة كسفينة نوح في قومه، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق كائناً من كان، كما هو ثابت من حديث السفينة. وهم نجوم الهدى، فكل واحد منهم في زمانه هو النجم الذي به الناس يهتدون، وهم مقياس الولاء والطاعة لله ولرسوله، ومعيار الإلتزام بالشرعية الإلهية، فمن والاهم وأطاعهم وانقاد لهم فقد والى الله ورسوله وأطاعهما وانقاد لهما، ومن لم يفعل ذلك فقد خلع ولاية الله ورسوله، وطاعة الله ورسوله والانقياد لله ولرسوله، ولم لا فهم القائمون مقام النبي، والإسلام ارتكز دائماً على ثقلين: كتاب الله وهو بمثابة القانون الإلهي النافذ ورسول الله وهو بمثابة القيادة السياسية الشرعية، ولا غنى للفرد ولا للمجتمع عن القانون والقيادة، فكل واحد منهما مكمل للآخر، وبانتقال