بكلِّ هذه الخصائص لابدَّ لهذا الدين أن يشقّ طريقه نحو المجتمعات، ماضيها وحاضرها والناشئة مستقبلا، لإرشاد الناس إلى سبيل المؤمنين، وإبطال كلّ فكر واعتقاد يباعد بينهم وهذه السبيل. فهذه مهمّة لا تنجز منحصرة في عصر واحد، بل تقتضي الحضور الدائم في كلّ عصر، فكما كان النبيّ(صلى الله عليه وآله) هو المتصدّي لهذه المهمّة يكون وليّ الأمر من بعده هو المتكفّل بذلك، وهكذا أُولو الأمر إلى آخرهم.
وأهميّة وليّ الأمر تنحصر في أُمور:
أوّلا: فهو من ناحية أنَّه رئيس وقائد ومدير لشؤون الدولة الإسلامية، فله الأهميّة السياسية بكلّ جوانبها.
ثانياً: ومن ناحية أنَّه المرجع الدينيّ للمسلمين في نواحي الدولة الإسلامية كافّة، فله الأهميّة الدينيّة التي لا تنفصل عن حياة الناس.
ثالثاً: ومن ناحية أنَّه واجب الطاعة فهو يمثّل مسألة من أهمّ مسائل أُصول الدين، إذ أنَّ طاعته أمر إلهيّ تعبّديّ لابدَّ من أدائه، وذلك لقوله تعالى: (أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاَْمْرِ مِنكُمْ)(1)، فهذا أمر مطلق قطعيّ، وواجب يلزم أداؤه لوليّ الأمر.
إذاً، فالأمر الصادر من الله تعالى بإطاعة أُولي الأمر يحتّم علينا التعرّف على وليّ الأمر هذا، لأداء واجب الطاعة له، تنفيذاً لأمر الله تعالى. والطاعة هذه تكون لوليّ الأمر في كلّ ما يقول ويأمر به وينهى عنه، فمخالفته في شيء بعد تعيينه معصيةٌ صريحة، ومخالفته في أمر بسبب الجهل به ليس فيه عذر، لأنَّ تصريح القرآن بالأمر بطاعته هو إشارة إلى وجوده وتعيينه، وإلاّ يكون تكليفاً فوق الطاقة.
____________
1- النساء: 59.
الاستخلاف واجب على النبيّ(صلى الله عليه وآله):
إنَّ ما يجعل العقل أسيرة الحيرة والدهشة ما يذكره كثير من علماء المسلمين من عدم تعيين النبيّ(صلى الله عليه وآله) خليفة له من بعده، وإماماً يتولّى أُمور المسلمين في غيابه.
وفي الواقع إنَّ هذا الكلام لا يُنتظر من أُولئك الذين وُصِفوا بالعلم والمعرفة. وأنا أجزم بأنَّ الذين يردّدون هذا الكلام لم يكلِّفوا أنفسهم ولو قليلا من البحث والتحقيق حول مسألة تنصيب الإمام وتعيينه من جانب النبيّ(صلى الله عليه وآله); إذ أنَّهم ركنوا إلى تقليد مَن سبقهم من العلماء، وتعوّدوا على اجترار ما قالوا في هذا الأمر، دون أن يفطنوا إلى أنَّ القول بهذا فيه اتّهام شديد للنبيّ(صلى الله عليه وآله) بتركه الواجب وعدم تبليغ أمر الله بتعيين وليّ الأمر من بعده!
فإنَّه أمرٌ ـ تالله يبعث إلى الدهشة والذهول العقليّ ـ إذ كيف يصرف النبيُّ(صلى الله عليه وآله)النظر عن تعيين خليفته من بعده، وكيف هان عليه هذا الأمر، ولقد ثبت أنَّ النبيّ(صلى الله عليه وآله)حينما نُعِيت إليه نفسه طفق يورد الوصيّة للمسلمين تلو الوصيّة في أُمور شتّى، مُظهراً اهتماماً عظيماً بأمر الدين، ومُبدياً قلقاً بليغاً بحال المسلمين بعد وفاته؟!
لقد حذّر النبيّ(صلى الله عليه وآله) المسلمين من الاختلاف والفتن، ووعظهم غداة ومساءً وهجيراً.. كلَّ ذلك لكي يبيِّن لهم طريق النجاة والسلامة إذا ما أقبلت الاختلافات والفتن كقطع الليل..
فهل كان النبيّ(صلى الله عليه وآله) لا يرى لوليّ الأمر من بعده أثراً في نجاة الناس من هذه الفتن ولمّ الشمل إذا ما حلّت بدارهم الاختلافات؟! أم كان إدراكه(صلى الله عليه وآله) قد قصر ـ وحاشاه ـ عن إدراك هذا الأمر، فأدركه أبو بكر وفهمه عمر ومعاوية؟! وفطن إليه بنو أُميّة وبنو العبّاس؟! وهل الأمر الذي صدر به الوحي موجباً طاعة أُولي الأمر لم
لقد ثبت، بما لا يدع مجالا للريب، أنَّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) ما كان يخرج من المدينة لغزوة إلاّ ويعيِّن عليها شخصاً خليفة له ريثما يعود.. فهل كان يرى أهميّة الوالي على المسلمين في غيابه القصير في حياته، ولم يكن يرى له أهميّة في غيابه الطويل بعد وفاته؟!!
فما هذا القول؟! وأيّ عقل سليم يحكم بذلك؟! وأيّ حكمة يمكن لمسها فيه؟! وأيّ مصلحة تعود للمسلمين من فعل كهذا؟! وهل له نتيجة غير الخلاف والنزاع والخصام، كما حدث في سقيفة بني ساعدة... فاضطرّ ذلك العلماءَ للزجِّ بأنفسهم في تبرير لا يُسمن ولا يغني من جوع؟!
عدالة الصحابة واختلافهم:
يتابع الكاتب كلامه ويقول:
إنَّ عدالة كلّ الصحابة بقضّهم وقضيضهم لا تصحّ; لانحراف البعض عن سواء السبيل، وارتكاب بعضهم ما حرّم الله تعالى، ولهذا لا يمكن أن يوصي النبيّ(صلى الله عليه وآله)باتّباع أيٍّ كان من الصحابة للنجاة والسلامة من الاختلاف والانحراف; ذلك لأنَّ أمراً كهذا ينسب إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله) ـ بل إلى الوحي ـ فيه تجويز لارتكاب الأخطاء وفتح الطريق إلى النزاع والاختلاف.
إنَّ اختلاف الصحابة فيما بينهم أمر معلوم، وقتل بعضهم بعضاً مسألة تعجّ بها صفحات التاريخ، وانحراف الكثير منهم عن الحقّ تثبته كتب السير والأخبار(1).
ثمَّ إنَّنا علمنا أنَّه كان في زمان النبيّ(صلى الله عليه وآله) بعض المنافقين، عُلِمت أحوالهم
____________
1- شرح المقاصد للتفتازاني: 5 / 302.
ويمكنك أن تتصوّر خطورة الموقف الذي سيؤول إليه مصير الإسلام وهو بلا راع، عرضة لهؤلاء المنافقين المتمرّسين بالنفاق، المبتعدين عن الأنظار والأفكار.
إذا كان المنافق المعروف نفاقه أخطر على المسلمين من الكافر المعروف كفره، فسيكون أُولئك المنافقون الذين لم يكن المسلمون يعرفون عنهم شيئاً أخطر من أُولئك الذين عِرفوا; وذلك لجهل المسلمين بهم، لشدّة خفائهم إذ تمرّسوا بالنفاق ومردوا عليه وأتقنوه.
وعلى هذا الأساس لا يستطيع أحد أن يجرِّدهم عن الصحبة للنبيّ(صلى الله عليه وآله)، بل كيف يجرَّدهم عنها وهو لا يعرفهم؟! بل سيُثني عليهم وسيصفهم بالإخلاص والتوقى بلا ريب، بحكم ما يبدونه من مظهر دينيّ يضمن لهم مقاماً بين الصحابة العدول، وبالتالي سيهبهم بكلّ ارتياح صفة العدالة والوثاقة!!
فكيف نسدّ منافذ الخطر والضلال الصادر من هؤلاء المنافقين في الباطن، المؤمنين العدول في الظاهر؟ ولهذا كلّه فمن المحال الممتنع أن يأمر النبيّ(صلى الله عليه وآله)باتّباع كلّ من هبَّ ودبَّ ممّن كانت له صحبة معه من الناس في زمانه، وهو يعلم أنَّ من بينهم وممّن حولهم منافقين مستورين مَرَدوا على النفاق وصُقِلوا فيه.
إذاً، فالقول بعدالة كافّة الصحابة خطأ فاحش، والأمر باتّباع كافّتهم دون
____________
1- التوبة: 101.
ولهذا تسقط كلّ الأحاديث التي تجعل من اتّباع كافّة الصحابة وسيلة للنجاة من الاختلافات والابتداع والإحداث في دين الله، كما وضح.
عود على بدء، وبعض النتائج الخطيرة للقول بعدم الاستخلاف:
وبعد ذلك كلّه.. فكيف لم يعيِّن النبيّ(صلى الله عليه وآله) خليفة من بعده ويترك الناس يتناوشهم المنافقون مَن ظَهَر منهم ومَن بَطَن، ويترصّدوهم اليهود والنصارى الحاقد منهم على الإسلام الكامن له؟!!
وكيف يسهل على العقل الساذج القبول بأنَّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) مات بين السَّحْر والنَّحْر ولم يوصِ بشيء؟! وكيف تسكن النفوس إلى القول بأنَّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) لم يستخلف أحداً من بعده، وذهب لا يلوي من حال المسلمين في غيابه على شيء؟!!! إنّ هذا كلام لا يُلتفت إليه; إذ أنَّه تهمة لنبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله).
اتّهموه بأنَّه ترك أُمَّته بلا راع عرضة للاختلاف والنزاع والاقتتال، وهذا فيه اتّهام له(صلى الله عليه وآله) بترك الواجب! اتّهموه بها، وهو(صلى الله عليه وآله) الرحيم بأمّته، الرؤوف بالمؤمنين، الذي يأسى لهم ويحرص على هُداهم، كما قال عنه ربّه تبارك وتعالى: (لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ )(1).
كلّ ذلك كان منهم في غفلة تصحيح ما نتج من حوادث السقيفة، فقالوا: لم يوص النبيّ(صلى الله عليه وآله) بشيء، ومن هنا لا يكون عيب في أن يتولَّى الخلافة أيٌّ كان من الناس، حتّى لو كان فاسقاً أو خارجاً عن طاعة الله تعالى.
____________
1- التوبة: 128.
وهذا إضراب عجيب من الباقلاني، فلو كان الخروج على الإمام الفاسق غير جائز، فكيف جاز ترك طاعته في بعض المعاصي؟! وهل وجوده على كرسيّ الحكم ـ والحالة هذه ـ لا يُعدّ معصية في ذاته؟ ولماذا بعض المعاصي؟! وكيف جاز تخويفه؟ وكيف يكون تخويفه؟ أوَليس تخويفه هذا خروجاً عليه؟!!
ولو كان في استطاعة الناس تخويفه وترك أوامره في بعض الأحوال بهذه السهولة فَلِمَ لا يعزلونه; أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وهو فاسق؟!
ما هذه إلاّ خطرفة سببها تجويز إمامة الفاسق. وللسياسة في ذلك الوقت دور كبير في ظهور هذه الفتاوى وانتشار تلك العقيدة: عقيدة إمامة الفاسق!
لقد ذكرنا أنَّ القول بأنَّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) لم يستخلف أحداً على المسلمين من بعده قول يحمل أخطر الاتّهامات للنبيّ(صلى الله عليه وآله); ذلك لأنَّ أمر الله تعالى بطاعة أُولي الأمر على سبيل من الجزم والقطع، كما هو واضح في قوله تعالى (وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاَْمْرِ مِنكُمْ)(3).. يوضّح أنَّ أُولي الأمر طاعتهم واجبة كطاعة النبيّ(صلى الله عليه وآله). ووجوب طاعة أُولي الأمر توجب على النبيّ(صلى الله عليه وآله)تعيينه، فالقول بأنَّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) لم
____________
1- شرح العقائد النسفيّة: 185 ـ 186.
2- التمهيد للقاضي الباقلاّنيّ: 181.
3- النساء: 59.
إنَّ العقل يحكم بأنَّ الأمر بطاعة أُولي الأمر وإيجاب طاعتهم إنّما هو على قرار طاعة النبيّ(صلى الله عليه وآله)، ممّا يستوجب تعيينهم من قِبل الله تعالى بوساطة نبيِّه الكريم، ولا يجوز ترك تعيينهم للناس; لأنَّ ذلك ليس في مقدورهم، فمعرفة الناس لأُولي الأمر ـ بدون أن يعرّفهم الوحي لهم ـ يفرض أنَّ الناس قادرون على معرفة من تجب طاعته من البشر، في حين أنَّ الناس ليسوا قادرين على ذلك.
ولو كان الناس في استطاعتهم معرفة من وجبت طاعته من البشر ـ نبيّاً كان أم غيره ـ لما احتاج النبيّ(صلى الله عليه وآله) إلى إبداء المعجزة حتّى يُعجِزَ الناس بأمره ويصدِّقوه فيطيعوه.
فالنبيّ(صلى الله عليه وآله) واجب الطاعة، ولكن اتّهمه الناس بالكذب والسحر والجنون ولم يصدِّقوه، إذاً فالناس لا يقدرون على معرفة أُولي الأمر، ولو تُرك لهم تعيين أُولي الأمر فستنتج المفاسد التالية:
إمَّا أن يولّي الناسُ الفاسق، والله لم يأمر بطاعته، بل إنّه لا يحب الفاسقين.
وإمَّا أن يشتدّ الخلاف عند اختيار وليّ الأمر، وتقع الفتن من الناس; لعصبيّاتهم وقبليّاتهم وغيرها من صفات حبّ الذات. والاختلاف ممنوع، والنزاع يجب إرجاعه إلى الكتاب والسنّة لفضّه.
وأيضاً إنَّ هذا الواجب إن كان الناس مسؤولين عنه فيستلزم التكليف بما لا يطاق; لأنَّهم لا يعرفون أُولي الأمر.
وإن لم يكونوا مسؤولين عنه فيستلزم العبث في أفعال الله ـ تنزّه الله عن ذلك ـ حيث أمَرَ أمْرَ وجوب (كوجوب طاعة الله وطاعة الرسول)، ومع ذلك لا يُسأل عنه هل أُنجز هذا الأمر الواجب أم لا؟
ولهذا فلمّا كان عجز الناس عن معرفة وتعيين أُولي الأمر يؤدّي إلى تولية
مَن هم أُولو الأمر وماذا يجب لهم:
يقول الله تعالى: (يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاَْمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَـزَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)(1).
إنَّك تلحظ في هذه الآية أنَّه أمر فيها بأمر واحد إطاعة ثلاثة: الله تعالى ورسوله وأُولي الأمر، بوساطة فعل الأمر: (أطيعوا)، وذلك في قوله تعالى: (أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاَْمْرِ مِنكُمْ)، فماذا يمكن أن نفهم من ذلك؟ وماذا أراد الله تعالى بإشراك النبيّ(صلى الله عليه وآله) وأُولي الأمر في أمر واحد بطاعتهما؟ على أنَّ الحال لا يختلف لو فُصل الأمر ولم يُجمع في فعل واحد.
إنَّ إصدار الأمر بطاعة الرسول(صلى الله عليه وآله) وأُولي الأمر بهذه الصورة المشتركة في أمر واحد يؤكّد لنا التساوي بين طاعة الرسول وطاعة أُولي الأمر. فلمّا كانت طاعة الرسول(صلى الله عليه وآله) واجبة قطعاً فطاعة أُولي الأمر واجبة قطعاً أيضاً. والعموم والإطلاق الواضح في الأمر بالطاعة لا يسمح باستثناء طاعة أُولي الأمر وفصلها عن طاعة الرسول(صلى الله عليه وآله) بأيّ حال من الأحوال، أو بأيّ شرط من الشروط.. إذاً، طاعة أُولي الأمر هي من الواجبات في الدين على المؤمنين.
ثمَّ إنَّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) معصوم بلا شكّ، ولو على قول من ينسب إليه العصمة في تبليغ الوحي، فهو معصوم إذاً. وهنا نسأل: ما هي الحكمة في أن يكون النبيّ(صلى الله عليه وآله)معصوماً؟
____________
1- النساء: 59.
والله تعالى بإسناد الأمر إلى ذاته العليّة يريد أن يَبلُغ تشريعُه الناس دون أيّ تغيير أو نقص، سواء كان عمداً أو سهواً، ولكنَّ الرسول بشر، والبشريّة مجمع الأخطاء والنسيان، فما هو العمل إذا ما أُنزل عليه أمر الله ليبلّغه كما أُنزل عليه دون تغيير يؤدّي إلى التغيير في طريقة وأُسلوب التبليغ، فضلا عن أن يؤدّي إلى تغيير الهدف والغاية؟
ولهذا عصم الله الأنبياء عن الخطأ عمداً أو سهواً، حتّى لا يَحْدُث ذلك التغيير تبعاً للخطأ. وعلى هذا فكلّ ما يصدر عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) هو الوحي بعينه، من حيث اللفظ والمعنى تارة، ومن حيث المعنى فقط تارة أُخرى. ولهذا فالنبيّ(صلى الله عليه وآله)(وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى)(1).
فإذا ثبت ذلك فالنبيّ(صلى الله عليه وآله) لابدّ أن يدركه الموت يوماً، وسيأخذ بزمام الأمر من بعده أُولو الأمر الذين وجبت طاعتهم على الناس مثله(صلى الله عليه وآله)، وإن كان الوحي لا يتنزّل عليهم لاكتمال نزوله.
إنّ العمل بهذا الوحي ـ طبقاً لعمل النبيّ(صلى الله عليه وآله) به ـ لم ينتهِ، بل هو باق ما بقيّ الزمان والمكان. ونحن نعلم أنَّ حفظ كلام كما قيل دون تغيير هو أسهل بكثير من العمل به وتطبيقه على مسرح الواقع الملموس، حيث المشاكل والمعضلات والمنعطفات الحرِجة.
إذاً، كيف يتسنّى لأُولي الأمر القيام بهذه المهمّة الأصعب بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله) دون
____________
1- النجم: 3 ـ 4.
فإن لم يكن أولو الأمر على عصمة النبيّ(صلى الله عليه وآله) وقع ما لم يسمح به الله تعالى، وما لم يُرِده في تبليغ الوحي.
إذاً، وجبت عصمة أُولي الأمر كما وجبت عصمة الرسول(صلى الله عليه وآله). على أنَّ وجوب الطاعة بالجزم والقطع إشارة إلى العصمة; فالعصمة أساس وجوب الطاعة، وبسبب هذه العصمة لا يختلف خطاب الله تعالى للناس ـ إذا قُدِّر أن يخاطبهم مباشرة بتكاليفه وأوامره ـ عن مخاطبته إيّاهم عبر النبيّ(صلى الله عليه وآله) به. والسّرُّ في ذلك هو وصول خطاب الله ذاته إلى الناس بسبب العصمة التي للنبيّ(صلى الله عليه وآله).. وهذا يعني ـ من ثَمَّ ـ أنَّّ فقدانها في أُولي الأمر يؤدّي إلى التغيير بلا ريب، وهو ما لا يريده الله تعالى.
نظر الفخر الرازي:
ينقل الكاتب نظر الفخر الرازي في تفسيره ويناقشه فيقول:
يقول الفخر الرازيّ(1): "إنَّ الله تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية. ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لابدَّ أن يكون معصوماً عن الخطأ; إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأ منهيّ عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد،
____________
1- تفسير الإمام الرازي: 10 / 144.
فثبت أنَّ الله تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أنَّ كلّ مَن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً. فثبت قطعاً أنَّ أُولي الأمر المذكورين في الآية لابدَّ أن يكونوا معصومين".
ثمَّ يدلف الرازيّ إلى تحديد وتعريف أُولي الأمر المعصومين هؤلاء، حسبما يرى ويظنّ، فيقول: "ثمَّ نقول: ذلك المعصوم إمَّا مجموع الأُمَّة، أو بعض الأُمَّة; لأنَّا بيَّنا أنَّ الله تعالى أوجب طاعة أُولي الأمر في هذه الآية قطعاً. وإيجاب طاعتهم قطعاً مشروط بكوننا عارفين بهم، قادرين على الوصول إليهم، والاستفادة منهم. وإنَّنا نعلم بالضرورة أنَّنا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم...".
ولقد ذهب الرازي إلى أنَّ أُولي الأمر هم بعض الأُمَّة، يتمثّلون في أهل الحلّ والعقد.
وبسبب بُعد إجماعهم عن الخطأ ـ على ما روي عن النبيّ(صلى الله عليه وآله): "لا تجتمع أمَّتي على الخطأ" ـ تتحقّق بذلك العصمة المطلوبة في أُولي الأمر.
قوله: إنَّ مجموع الأُمَّة ليس هم أُولي الأمر واضح لا يحتاج إلى إثبات. وأمَّا كون أُولي الأمر هم بعض الأُمَّة فأمر نتّفق فيه مع الفخر الرازيّ، غير أنَّ قوله: إنَّ هذا البعض من الأُمَّة ـ أي أُولي الأمر ـ هم أهل الحلّ والعقد قول تكتنفه إشكالات عدّة، تجعل قبوله أمراً مستحيلا.
فأوّلها: إمكانيّة وقوع الإجماع ليست متحقّقة.
ثانيها: مَن يعرّفهم للأُمَّة باعتبارهم أهل الحلّ والعقد؟!
ثالثها: أين نتحصّل على عصمتهم؟! هل في الأفراد منهم أو في هيأتهم الاجتماعيّة؟!
إنَّ إمكانيّة تحقّق وقوع الإجماع من المستحيلات في هذه الأُمَّة، لا سيّما
نعم، من المحال أن تجتمع الأُمَّة على الخطأ بأسرها، لكن من المحال أن يتحقّق إجماع الأُمَّة بأسرها، وفرق شاسع بين الحالتين; فلو دعا بعض الأُمَّة إلى الحقّ فلابدَّ أن يوجد من يخالفهم من الناس لأيّ سبب من الأسباب التي لا حصر لها; فالقوميّة، والعصبيّة، والنعرات القبليّة، واختلاف الإدراك ووجهات النظر، والعناد، واللجاج... كلّها منفردة أو مجتمعة تجعل من وقوع الإجماع أمراً لا يُرجى تحقّقه بين الناس.
وإنَّ مسألة الخلافة لهي من المسائل التي كان للأُمَّة أن تجتمع عليها، لو كان للإجماع إمكانيّة الوقوع، مع قلّة المجتمعين في السقيفة، وما كان لهم من الصحبة التي تجعلهم في مصافّ أهل الحلّ والعقد في زمانهم. وعلى رغم ذلك فقد نشب الخلاف واستحال الإجماع، وسُلّت السيوف، وأُخِذ البعض بالقوّة، وأُغري آخرون بالمال.. فكيف للرازيّ أن يحلم بإجماع استحال أن يقع بين صحابة النبيّ(صلى الله عليه وآله) وهم الجيل الأوّل الذي عاصر النبيّ(صلى الله عليه وآله)، ليقع بين الناس في عصره أو ما تلاه من عصور، أو في هذا العصر الذي ازداد فيه تشعّب العقائد وتشتّت الأفكار؟!!
على أنَّ الانقسام المشاهَد في كلّ فرقة من الفرق الإسلاميّة هو تصريح باستحالة تحقّق الإجماع. ولا أرى إمكانيّة وقوع الإجماع بين أهل السنّة فيما بينهم، ولا بين الشيعة بانفرادهم، فضلا أن يقع الإجماع بينهما مجتمعين.
فاجتماع الأُمَّة بأسرها على الخطأ غير ممكن، ولكن لا يمكن أيضاً اجتماعها على الحقّ بأسرها.
إنَّ واقعة صِفّين كانت بين أُمَّة المسلمين، وقد كان الحقّ عند أحد الطرفين بلا شكّ، ولكن لم يجتمع المسلمون عليه كما لم يجتمعوا على ما يقابله من الباطل;
ثمّ كيف يتمّ التعرّف على أنَّ أهل الحلّ والعقد هم هؤلاء؟! فالإشكال الذي أشكل به الفخر الرازي ـ وهو إشكاله بصعوبة التعرّف على الأئمَّة المعصومين، واستحالة الوصول إليهم ـ هو إشكال يرد عليه، إذ كيف يتمّ التعرّف على أهل الحلّ والعقد والوصول إليهم؟! ومن الذي يقدّمهم إلى الأُمَّة بهذه الصفة؟! ونحن ليس لدينا في مجال التعيين إلاّ الإجماع أو الانتخاب والترشيح أو النصّ.
فأمَّا القول بضرورة الإجماع عليهم فنحن به محتاجون إذاً إلى إجماعَيْن: إجماع من الأُمَّة يعرّفنا بأهل الحلّ والعقد، وإجماع آخر يعرّفنا بصواب ما يُصدره أهل الحلّ والعقد من أحكام وأوامر ونواه، بحيث تلتزم الأمّة بما يصدر عنهم. وبهذا تتضاعف المشكلة; لأنَّ العبور من الإجماع الأوّل إلى الإجماع الثاني محال; لعدم إمكانيّة وقوع الإجماع الأوّل.
فالجهد الذي قام به الفخر الرازيّ لإبعاد نفسه عن الاعتراف بالأئمَّة المعصومين على قول الشيعة ـ لا سيّما بعد الاعتراف الموفّق منه بعصمة أُولي الأمر ـ فهو جهد مقدّر ومشكور علميّاً، لكنَّه ناقص ولا يحلّ المشكلة; فقد كان عليه أن يبيِّن لنا معيار وملاك الاتّصاف بأهليّة الحلّ والعقد، وكيفيّة تعريف الأُمَّة بهم، وعلى رغم أنَّ ذلك تترتّب عليه مشكلاته، غير أنَّه يتيح فرصة أطول لمن أراد السفسطة.
أُولو الأمر هم أهل البيت(عليهم السلام):
يقول الكاتب هنا على ذلك بالقول:
إنَّ أولويّة أهل بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله) في تولّي أُمور المسلمين، والانفراد بلقب "أُولي الأمر" بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله) دون غيرهم من الناس.. لهي أولويّة تأخذ شكلها
آية المودة:
(قُل لاَّ أَسْـَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى)(1)، فالأجر لابدَّ أن يكون على قدر نوع العمل، ولذا فمودّة أهل البيت لابدَّ أن تساوق من حيث القدر ما جاء به النبيّ الأكرم من نعمة الإسلام والرحمة التي ما أُرسل إلاّ بها. ولو كان
____________
1- الشورى: 23.
إنَّ هذا الأجر أدناه تسليم زمام الأمر في قيادة المسلمين وإدارة شؤونهم بعد النبيّ الأكرم لأهل بيته الذين ساوت مودّتهم ـ من حيث إنَّها الأجر ـ نعمةَ الدين الإسلاميّ من حيث إنَّه مأجور عليه بهذه المودة.
وهذا التساوي يبيِّن السِّنخية والشَّبَه القويّ بين النبيّ(صلى الله عليه وآله) وهذا الدين الذي هو خلق النبيّ المعصوم وطريقة حياته(صلى الله عليه وآله) من ناحية... والشَّبَه القويّ بين العترة الطاهرة والنبيّ(صلى الله عليه وآله) من ناحية أُخرى.
ووجه الشبه بين العترة والنبيّ الأكرم هو تلك المودّة، من حيث إنَّها واجبة في حقّ العترة، ومن حيث إنَّها الأجر الذي استحقّه النبيّ(صلى الله عليه وآله) مقابل ما جاء به للناس من هداية ورحمة.. فمودّة العترة كأجر ترضي النبيّ(صلى الله عليه وآله) بلا ريب، فهي في حقيقة الأمر مودّة للنبيّ نفسه، فتدبّر.
ولكن، هل تصحّ هذه المودّة مع المخالفة للنبيّ في نهجه؟ وهل يمكن تصورّها مع مشاقّة النبيّ(صلى الله عليه وآله)؟!
أبداً. فلا يستطيع أحد ادّعاء مودّة النبيّ(صلى الله عليه وآله) وهو مخالف له. فهذه المودّة لا تستقيم إلاّ باتّباع النبيّ(صلى الله عليه وآله)، ولمّا كانت مودّة النبيّ(صلى الله عليه وآله) هي في عترته.. فما هو أنسب أُسلوب للمودّة يمكن أن يُحفظ به النبيّ(صلى الله عليه وآله) في عترته؟! أليس هو الاتّباع للعترة والاقتداء بهم؟
أجل، إنّ مودّة النبي(صلى الله عليه وآله) في أهل بيته(عليهم السلام) لا تعني إلاّ اتّباع النبيّ الكريم باتّباع أهل البيت من عترته، لأنَّ هذا هو الذي يرضي النبيّ(صلى الله عليه وآله) ويُسرّه لا غير.
ولو كان ودّهم يعني المحبّة دون الاتّباع فهذا لا يختصّ بأهل بيت النبيّ وحدهم، وإنَّما هو أمر مطلوب بين عامّة المؤمنين الذين هم في توادّهم وتراحمهم
إذاً، فلا يختصّ أهل البيت بذلك، ولكن إضافة إلى هذا المعنى الشامل لكلّ المؤمنين يتوفّر معنى آخر يتميّز به ودّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) عمّا سواه من ودّ بين المسلمين، وهو الاقتداء والاتّباع بلا ريب، كما كان حبّ الله هو اتّباع النبيّ(صلى الله عليه وآله); إذ ليس لحبّ الله معنى إذا قُرِن بمخالفة النبيّ(صلى الله عليه وآله) (قُل إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)(1).. فحبّ الله يستلزم اتّباع النبيّ(صلى الله عليه وآله)الذي هو سبب حبّ الله للتابعين، وهو رحمته.
إنَّ الهدف الأساسيّ والدائم للقرآن هو تهيئة وسائل وسبل الهداية والنجاة للناس بحكم أنَّه رحمة جاءت للناس عبر النبيّ(صلى الله عليه وآله) الذي ما أُرسل إلاّ رحمة بهذا القرآن. ولا يمكن أن يحدّد الله الأجر للناس مقابل هذا الدين وتلك الرحمة، ويكون هذا الأجر متضمّناً للشقاء! فهذا الأجر الذي هو مودّة العترة أحد قنوات هذه الرحمة الإلهيّة. كما لا يمكن أن تتحقّق هذه الرحمة مع المخالفة.. إذاً، لكي تنتقل الرحمة أيضاً عبر هذا الأجر ـ أي مودّة أهل بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله) ـ لابدَّ أن تعني تلك المودة الاتّباع والاقتداء. وبهذا يتحقّق الهدف الأساسيّ للدين، وهو هداية الناس وإرشادهم لما هو خير لهم وأبقى; لأنَّ المخالفة عمداً أو تساهلا تبعد المخالف عن قنوات الرحمة تلك.
ولهذا، لا يستقيم ودّهم وحبّهم مع مخالفتهم في أمر أو نهج; لأنَّ في هذا إيذاءهم وإيلامهم بلا شكّ. ولا يلتئم ودادهم ووداد من صَدَر منه إيذاؤهم وإيلامهم ووداد من كانت منه شكواهم.
ولهذا كانت مودّة أهل البيت أعظم أجر يتلقّاه النبيّ(صلى الله عليه وآله) من أُمَّته.. لماذا؟
لأنَّ النبيّ الأكرم ـ الذي هو عزيز عليه ما عَنِتَ المؤمنون، حريص عليهم
____________
1- آل عمران: 31.
آية الانذار وحديث الدار:
النبيّ(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الكرام هم حملة هذا الدين، وهم العارفون به، والرافعون عنه ضلالات المضلِّين وأخطاء الجاهلين، وأحقاد الحاقدين، ونفاق المنافقين. وليس هذا مختصّاً بزمان دون زمان، أو مكان دون مكان، وإنَّما هذه مهمّة ومسؤوليّة كانت على عاتقهم منذ أن أنزل الله تعالى قوله (وَ أَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ )(1) فأراد الله بذلك إعدادهم لتلك المسؤولية التي انحصر القيام بها فيهم; استمراراً لمنهاج النبيّ(صلى الله عليه وآله).
ثمَّ إنَّ هذه المسؤوليّة نالها أهل البيت في مقابل الالتزام الذي تأسّس يوم عَرَض النبيّ(صلى الله عليه وآله) هذا الدينَ على عشيرته الأقربين، طالباً منهم العون والمؤازرة في مسؤوليّة القيام بتبليغه، على أن تكون لمن يلتزم المؤازرةَ والمناصرة الخلافةُ والولاية على الناس من بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله). فالتزم الإمام عليّ(عليه السلام) بذلك مؤسّساً بالتزامه هذا مسؤوليّة عترة النبيّ الكريم الذين نشأوا وتربّوا عليها أحسن تربيّة وأفضل تنشئة في كنف النبيّ(صلى الله عليه وآله)، يَرْفع إليهم كلّ يوم عِلْماً; إعداداً لهم واختصاصاً بهذا المقام، باعتباره ثواباً وأجراً لما التزم به عليّ(عليه السلام)، مؤسّساً بذلك المقامَ والمسؤوليّة الطبيعيّة لذرّيّته من أبناء الرسول(صلى الله عليه وآله).
قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) بعد أن جمع إليه أربعين نفراً من قريش من بني عبدالمطّلب: ".. يا بني عبدالمطلب، إنّي واللهِ ما أعلمُ شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به، جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه،
____________
1- الشعراء: 214.
فقام عليّ(عليه السلام)، فقال: "أنا يا نبيّ الله، أكون وزيرك عليه.
فأخذ رسول الله برقَبته; وقال: إنَّ هذا أخي ووصيّي، وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا.."(1).
إذاً، فهذه الأولويّة في تولّي أمر المسلمين بعد النبيّ الأكرم أمر ثابت للعترة، ولا يجوز لأحد أن ينافسهم فيه وينازعهم. والقبول بهذا الالتزام لنيل هذا المقام هو إشارة واضحة إلى الإيمان والتصديق بنبوّة محمّد(صلى الله عليه وآله).. فنالت ذلك العترةُ بالإيمان المبكّر الذي شعَّ في قلب سيِّدها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. وهكذا ظلَّ الأمر فيهم إيماناً خالصاً لم تخالطه شوائب الشِّرك أو نزعات الشكّ التي أصابت البعض قبل إسلامهم وبعده.
آية المباهلة:
ثمَّ إنَّه لما حانت لحظة من لحظات الدفاع عن هذا الدين أمام افتراءات نصارى نجران، لم يستنفر الله تعالى لهذه المهمّة العظيمة غير النبيّ(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأكارم.
فهؤلاء نصارى نجران يُحاجُّون النبيّ الكريم من بعدما جاءه من العلم في أمر عيسى(عليه السلام)، فيأمره الله تعالى بمباهلتهم، ولكن بعد أن يدعو أهل بيته إذ أنَّهم شركاء في الأمر، فقال له تعالى:
(فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِنم بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَـذِبِينَ )(2).
____________
1- تاريخ الطبري: 2 / 217، الكامل في التاريخ: 2 / 22، السيرة الحلبيّة: 1 / 381.
2- آل عمران: 61.
أمَّا الوقوف أمام النصارى، ودعوتهم إلى التوجّه إلى الله تعالى بالمباهلة ـ لتحديد الكاذب من الصادق في أمر الدين ـ فهو أمر يستوجب يقيناً بهذا الدين وربّه، لا يشوبه شيء. ولمّا كان الله تعالى لا يمكن أن يختار لهذا الأمر شخصاً شابَ إيمانَه شكٌّ وريب أو نقص وضعف.. كان إيمان العترة في أوج كماله وتمامه، فانتدبهم الله تعالى للذبِّ عن الدين بهذا السلاح الإيمانيّ التصديقيّ. فدعا الحسنَ والحسين، لقوله "أبناءنا"، ودعا فاطمة لقوله "نساءنا"، ودعا عليّاً وجاء بنفسه لقوله "أنفسنا"، إذ قصد من قوله "أنفسَنا" محمَّداً وعلياً في آن واحد، وهو يوضّح أنَّهما من نفس واحدة.
وبهذا يؤكِّد الوحي تقدّم أهل البيت في القيام بمسؤوليّة هذا الدين. ولازم ذلك عدم أهليّة غيرهم لهذه المسؤوليّة في هذا المقام المتقدّم بالذات، أي مقام أُولي الأمر. فالعامل في السفينة ليست له مهمّة الربّان فيها، وليس هو أهل لقيادتها. وإن حَذَق في وظيفته. وإنَّما هو أهلٌ لما هو فيه من وظيفة ومسؤوليّة تُدار من مقام الربّانيّة.
حديث الثقلين:
ونسبة لهذه الأولويّة في مقام القدوة والاقتداء، في جميع مناحي الحياة بلا استثناء، قال النبيّ(صلى الله عليه وآله) محذِّراً: "إنِّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلُّوا: كتاب
ويقول ابن حجر: "وفي قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنَّهم أعلم منكم.. دليل على أنَّ من تأهّل منهم للمراتب العليّة والوظائف الدينيّة كان مقدّماً على غيره".
على أنَّ قوله(صلى الله عليه وآله): "ولا تعلّموهم فإنَّهم أعلم منكم" إشارة إلى أعلميّتهم الأزليّة، وبالتالي تقدّمهم الأزليّ على غيرهم.. فلا يُنتظَر أن يتحقّق لهم هذا التقدّم لاحقاً ثمَّ به يتقدّمون على غيرهم فيما بعد.
وبعد هذا كلّه.. كيف يمكن أن يتقدّم أبو بكر وعمر على باب مدينة علم الرسول(صلى الله عليه وآله)؟! أو كيف يتأتّى لمعاوية أن يفوق الإمامَ الحسن(عليه السلام) في علمه؟! أو يبذّ ابنُه يزيد السكّير الإمامَ الحسين(عليه السلام) علماً ومعرفة؟!
فكيف تقدّم هؤلاء على العلماء من عترة النبيّ سيِّد الأنبياء، والنبيُّ يناديهم في أُخراهم: "واجعلوا أهل بيتي منكم مكان الرأس من الجسد، ومكان العين من الرأس، ولا يهتدي الرأس إلاّ بالعينين"؟!
فواعجبي من القوم! فبعد هذا كلّه تقدّموهم وجعلوهم في سوقة الرعيّة، لا يؤتمّ بهم في دين، ولا يُقتدى بهم في عبادة!! وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
إنَّ أهل البيت هم أُولو الأمر بلا مراء ولا جدال. إنَّه أمر حكم به النقل والعقل، ويحكم به العقل لو فُقد النقل. ولكن لو تُرك النقل وفُقد العقل حَكم لغيرهم الجهل.. وعندها لات ساعة مندم!
وهكذا يكون الكاتب قد وفق في عرض دعوته إلى المؤمنين باستدلال متين واسلوب قوي لا يترك للمراء مجالا، وللفرار من الحق فرصة.