ما ذكره الدكتور الشكعة واضح بان الإمام مالك لم يكتب الكتاب إلاّ لرغبة العباسيين، وان الملك العباسي فرض رأيه بهذا الكتاب على المجتمع الإسلامي فرضاً لم ينزل الله به من سلطان، وواضح هذا في مقدمة الملك العباسي المذكور (نحمل الناس على علمك وكتبك ونبثّها في الأمصار) بالرغم من علمها بعلوم الإمام جعفر الصادق وأهل البيت، وما ذلك إلاّ نكاية بآل البيت، لذلك نجد مالك يتعاطف مع العباسيين في عقيدته وفقهه.
مالك والغناء والمزاح:
ووجدت في الكتاب المؤلف عن مالك بأنه كان يحب الغناء ويحب اللهو ما لفظه:
"أما عن مالك والغناء فذلك خبر صحيح قديم، قديم قدم طفولة مالك، فقد استهواه فن الغناء وهو صغير، وأراد أن يتعلمه، وينتظم في سلك المغنين في الحجاز وفي المدينة على وجه التحديد التي كان للغناء فيها سوق نافقة لولا أن أم
____________
1- ترتيب المدارك: 30 ـ 33. كما في الإمام مالك تأليف الدكتور مصطفى الشكعة: ص123.
فما هو حديث الغناء إذن؟ ولماذا نعود لإثارته بل وتحديد عنوان للحديث عنه؟
إن أبا الفرج الأصبهاني يذكر في "الأغاني" هذا الخبر الذي يقول: "أخبرني محمد بن عمرو العباسي القرشي، قال: حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان ولم أسمعه أنا من محمد بن خلف، قال: حدّثني إسحاق بن محمد بن أبان الكوفي، قال: حدثني حسين بن دحمان الأشقر قال: كنت بالمدينة فخلا لي الطريق وسط النهار فجعلت أتغنى:
ما بالُ أَهْلُكِ يا رَبابْ | خُزُراً كأنهمُ غِضَابْ |
قال: فإذا خوخة قد فتحت، وإذا وجه قد بدا تتبعه لحية حمراء فقال: يا فاسق أسأت التأدية، ومنعت القائلة، وأذعت الفاحشة، ثم اندفع يغنيه فظننت أن طويساً قد نشر يغنيه، فقلت له: أصلحك الله، من أين لك هذا الغناء؟ فقال: نشأت وأنا غلام حدث اتّبع المغنين وآخذ عنهم، فقالت لي أمي: يا بني إن المغني إذا كان قبيح الوجه لم يلتفت إلى غنائه، فدع الغناء واطلب الفقه، فإنه لا يضر معه قبح الوجه، فتركت المغنيين واتبعت الفقهاء، فبلغ الله بي عزّوجلّ ماترى، فقلت له: أعد جعلت فداك. قال: لا ولا كرامة، أتريد أن تقول أخذت عن مالك بن أنس، وإذا هو مالك بن أنس ولا اعلم"(1).
وحاول الدكتور الشكعة تكذيب الرواية مع اعترافه بأن مالك استهوى في الغناء منذ صغره، وانه أراد أن يسلك سلوك المغنين، وهذا لا تليق برجل عادي، فكيف بإمام مذهب يفرض على المسلمين لذلك، حاولت أن أتعرف على مذهب
____________
1- الأغاني: 4 / 39، 40 دي ساسي. كما نقله الدكتور الشكعة في ص59.
العقيدة الجعفرية:
العقيدة في مذهب الإمام جعفر الصادق تتكون من خمسة أصول:
ثلاث منها تعتبر من أصول الإسلام وهي:
1 ـ التوحيد. 2 ـ النبوة. 3 ـ البعث والمعاد يوم القيامة، ومن أنكر واحدة من هذه الأصول الثلاثة يعتبر كافراً.
واثنان آخران هما: 1 ـ العدل. 2 ـ الإمامة وهما خاصان بالمذهب الجعفري، ومن ينكر واحدة من العدل أو الإمامة لا يعتبر كافراً بل حاله كحال المسلمين عامة له ما لهم وعليه ما عليهم، لكن لا يعتبر جعفري العقيدة حتى يؤمن بالعدل والإمامة.
الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) والحكام العباسيين:
ولابد من ملاحظة دور الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) في تركيز العقيدة الإسلامية وموقف الحكام العباسيين ضد الإمام(عليه السلام). فان العباسيين اختطوا خططهم ضد آل البيت بأمرين:
أولا: تشجيع الإلحاد وكل الأفكار اليونانية والمجوسية التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، وذلك لتشكيك الناس في معتقداتهم في الكتاب والسنّة الصحيحة.
وثانياً: خلق جماعات في داخل صفوف أهل البيت ليؤمنوا بالغلو في آل البيت حتى كادت هذه الجماعات المتطرفّة أن يؤله أهل البيت، وذلك لكي يشغلوا
ويقصد العباسيون من ذلك تشويه مذهب أهل البيت، وكان الإمام الصادق في أتم يقظة لهذه الخطط الجهنمية العباسية، كذلك اهتم ببناء العقيدة وتربية مجتمع اسلامي واع للإسلام عن دراسة وفهم.
التوحيد:
التوحيد هو الاعتقاد بأنَّ الله تعالى واحد لا شريك له كما قال سبحانه: (إِنَّ إِلَـهَكُمْ لَوَ احِدٌ * رَّبُّ السَّمَـوَ تِ وَ الاَْرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ رَبُّ الْمَشَـرِقِ )(1).
"وفي شرح الأربعين: يعتبر التوحيد روح الأديان كلها أكّد عليه جميع الأنبياء والمرسلين يقول النبي هود(عليه السلام): (يَـقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـه غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ )(2).
وهكذا غيره من الأنبياء(عليهم السلام) كالنبي إبراهيم(عليه السلام) وحتى عصر نبينا محمد(صلى الله عليه وآله)حيث استفتح دعوته إلى التوحيد بقوله: "قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا" كما كانت تقتضيه طبيعة المجتمع المشرك، الذي انبثق فيه الإسلام لتنزيه الدين عن الشرك والتعدد والتجسم، ونعني بالتوحيد: إن الله تعالى واحد في ذاته وصفاته فليس في ذاته تعدد من أشخاص ولا تركب من أشياء، وهذا يعبّر عنه بـ (توحيد الذات)، وإن صفاته تعالى من العلم والقدرة والحكمة ليست عارضة وزائدة على ذاته بل العلم نفس ذاته ويعبّر عنه بـ (توحيد الصفات)، وهذا ما يعنيه الإمام علي(عليه السلام) بقوله: (التوحيد أن لا تتوَهّمه).
ويقول الإمام الصادق(عليه السلام): (أما التوحيد فأن لا تجوِّز على ربك ما جاز
____________
1- الصافات: 4 ـ 5.
2- هود: 50.
النبوة:
إن الله سبحانه تعالى أرسل الأنبياء لهداية البشرية إلى طريق السعادة أولهم أبو البشر آدم(عليه السلام) وآخرهم نبينا محمد(صلى الله عليه وآله).
قال الشيخ الصدوق المتوفى سنة 381هـ:
"اعتقادنا في عددهم أنّهم مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي، ومائة ألف وصي وأربعة وعشرون ألف وصي، لكل نبي وصي أوصى إليه بأمر الله تعالى، ونعتقد فيهم أنهم(عليهم السلام) جاؤا بالحق من عند الحق، وأنّ قولهم قول الله وأمرهم أمر الله، وطاعتهم طاعة الله، ومعصيتهم معصية الله، وأنهم(عليهم السلام) لم ينطقوا إلاّ عن الله، وعن وحيه، وان سادات الأنبياء خمسة الذين دارت عليهم الرحى، وهم أصحاب
____________
1- شرح الأربعين النبوية للسيد محمد حسين الجلالي: 19.
وفي شرح الأربعين:
العدالة تستلزم هداية البشر إلى طريق الخير والسعادة، فإن الإهمال يعني الإضلال، وهذا ما يؤكده القرآن الكريم: (إِنَّا هَدَيْنَـهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَ إِمَّا كَفُورًا )(2).
وهداية الإنسان بواسطة رسولين، الأول رسول الباطن وهو الفكر والعقل، والثاني: رسول الظاهر وهو النبي، ويكون دور الأنبياء هداية الفكر الإنساني إلى الحياة الفضلى، والنبوّة رسالة إلهية وسفارة دينية لهداية الإنسان إلى الصراط المستقيم والنجاة في الدنيا والآخرة، ومهمة الرسل والأنبياء إيقاظ القلوب وتوجيه الإرادة البشرية نحو الكرامة والسعادة.
قال تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)(3).
وقال سبحانه: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَـقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـه غَيْرُهُو قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الاَْرْضِ بَعْدَ إِصْلَـحِهَا ذَ لِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)(4).
____________
1- الاعتقادات للشيخ الصدوق: 76.
2- الإنسان: 3.
3- الأنعام: 48.
4- الأعراف: 85.
البعث والمعاد:
قال الشيخ الصدوق:
"اعتقادنا في البعث بعد الموت أنه حق". قال النبي(صلى الله عليه وآله): "يا بني عبدالمطلب إنّ الرائد لا يكذب أهله، والذي بعثني بالحق نبيّاً لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، وما بعد الموت دار إلاّ الجنة أو النار"، وخلق جميع الخلق وبعثهم على الله عزَّوجلَّ لخلق نفس واحدة ذلك قوله تعالى: (مَّا خَلْقُكُمْ وَ لاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْس وَ احِدَة)(1)"(2).
وفي شرح الأربعين: كل منا يعلم أن للحياة في الدنيا خاتمة ـ آتية لا محالة
____________
1- لقمان: 28.
2- الاعتقادات للشيخ الصدوق: 43.
(تَبَـرَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَ هُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ * الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)(2).
(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ )(3).
ويقول الإمام علي(عليه السلام): (إنما الدنيا دار مجاز والآخرة دار قرار، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم واخرجوا من الدنيا قلوبكم من قبل أن تخرج أبدانكم ففيها اختبرتم ولغيرها خلقتم)(4).
إذاً فالموت حياة تتعقب الحياة الدنيا ذلك أن الإنسان متكون من روح وجسد، والروح هي الشخصية الأخرى التي لا تتغير باختلاف الأحوال... والموت يفرق بين الروح والجسد، ولا يبقى في القبر سوى الجسد الذي سوف يتحول إلى حالات أخرى، وتبقى نسبة التراب إلى الإنسان ولو بعد آلاف السنين، والشيء الذي يمنع من الاعتقاد بالمعاد هو: إن جسد الإنسان الميت بعد هذه التطورات كيف يتكون من جديد؟ وكيف يصير حياً بعد انعدامه بآلاف السنين؟ وقد يبدو سؤالا بلا جواب، ولكن لحظة قصيرة مع العلم توقفنا على أن الإنسان
____________
1- الزمر: 30.
2- الملك: 1 ـ 2.
3- المؤمنون: 115.
4- نهج البلاغة: 2 / 183.
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَ هِيمُ رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَل مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )(1).
وتصح نسبة الإنسان المكوَّن من نفس العناصر والروح ولو بعد آلاف السنين، كما تصح نسبة القبر إلى من دفن فيه قبل آلاف السنين، وهكذا يعتبر الاعتقاد بالبعث والمعاد امتداداً للاعتقاد بالقدرة العليا وإن الله على كل شيء قدير، فإنك لم تكن موجوداً فوجدت والقدرة التي أوجدتك من العدم قادرة على ايجادك من العدم بعد الموت.
قال تعالى: (وَ ضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَ نَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْىِ الْعِظَـمَ وَ هِىَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّة وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْق عَلِيمٌ )(2).
____________
1- البقرة: 260.
2- يس: 78 ـ 79، شرح الأربعين النبوية: 33.
العدل:
العدل معناه أن الله سبحانه وتعالى عادل لا يظلم أحداً حيث ان الظلم لا يصدر إلاّ من العاجز أو المحتاج، والله سبحانه وتعالى منزّه عن ذلك لانه على كل شيء قدير، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْـلِمُ النَّاسَ شَيْـاً وَ لَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْـلِمُونَ )(1).
وقال الشيخ الصدوق:
إن الله تبارك وتعالى أمرنا بالعَدْل وعاملنا هو بما فوقه وهو التفّضل، وذلك أنّه عزَّوجلَّ يقول: (مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُو عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْـلَمُونَ)(2) والعدل هو أن يثيب بالحسنة الحسنة ويعاقب على السيئة بالسيئة. قال النبي(صلى الله عليه وآله): لا يدخل رجل الجنة بعمله إلاّ برحمة الله عزَّوجلَّ(3).
وفي شرح الأربعين: والإيمان بالله يستلزم الإعتقاد بأنه عادل حيث أن الظلم لا يصدر إلاّ من العاجز لجهل أو احتياج فيتوسل بالظلم لشفاء غضبه أو سدّ حاجته، والله سبحانه العالم بكل شيء والقادر على كل شيء لا يتصور فيه الظلم والجور وهو الغني الحميد، وهذا ما يؤكّده الإمام السجّاد(عليه السلام) بقوله: (إنما يحتاج إلى الظلم الضعيف والله أقدر من ذلك)، لذلك نعتقد بأن الله تعالى لا يظلم أحداً، ولا يجبر أحداً على أي عمل كان كما قال تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَـهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَ إِمَّا
____________
1- يونس: 44.
2- الانعام: 160.
3- الاعتقادات للشيخ الصدوق: 71.
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): (وأما العدل فأن لا تنسب إلى خالقك ما لامك عليه). وقال(عليه السلام) أيضاً: (إن الله أكرم من أن يكلف الناس ما لا يطيقون). وقال(عليه السلام)أيضاً: (ما كلَّف الله العباد كلفة فعل ولا نهاهم عن شيء حتى جعل لهم الاستطاعة ثم أمرهم ونهاهم فلا يكون العبد آخذاً ولا تاركاً إلاّ باستطاعة متقدمة قبل الأمر والنهي...).
ويقول الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام): (إن الله خلق الخلق فعلم ما هم إليه صائرون فأمرهم ونهاهم فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى الأخذ به، وما نهاهم عنه من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى تركه...). وما جبر الله أحداً من خلقه على معصية بل اختبرهم بأنواع البلوى كما قال تعالى: (ليبلوكم أيّكم أحسن عملا)(2) فما نجد في الناس من تفاوت من اختلاف حالات الغنى والفقر والصحة والمرض والمقام ونحوها ليست إلاّ بسعي الإنسان وبتقدير الله كما قال تعالى: (وَ أَن لَّيْسَ لِلاِْنسَـنِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَ أَنَّ سَعْيَهُو سَوْفَ يُرَى )(3)، ومعنى السعي ان الإنسان بحريته يختار سبباً من الأسباب، وبالنتيجة يترتب الأثر المفروض المقدر، وقد جعل الله تعالى جميع البشر سواء في هذه الحرية.
ولم يدع إرشاده في استخدام هذه الحرية في سبيل الحياة السعيدة بالمشورة والتدبير (وَشَاوِرْهُمْ فِى الاَْمْرِ)(4)، (ولا عقل كالتدبير)، فإذا أهمل الإنسان بنفسه إرشادات العقل وأوامر الشرع ولم يكن له تدبير ولا مشورة ممن ينبغي مشورته، فطبيعي أن يترتب على ذلك الشقاء والتخلّف والبؤس واختلال
____________
1- الانسان: 3.
2- الملك: 2.
3- النجم: 39 ـ 40.
4- آل عمران: 159.
الإمامة:
إنّ النبيّ الساهر على مصالح الإسلام والمسلمين لم يهمل أمر الخلافة والإمامة من دون ابداء رأيه الواضح والصريح فيه لأنه لابد من قيادة حكيمة تطبق الدستور الإسلامي على نفسها وعلى المجتمع على حدٍّ سواء، لذلك لا يحق للظالمين أن يدّعوا الامامة كما قال الله تعالى لإبراهيم: (إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَ مِن ذُرِّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّــلِمِينَ )(2).
قال الشيخ الصدوق: واعتقادنا أن حجج الله على خلقه بعد نبيه محمد(صلى الله عليه وآله)الأئمة الاثنى عشر أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، ثم الحسن(عليه السلام)، ثم الحسين(عليه السلام)، ثم علي بن الحسين(عليه السلام)، ثم محمد بن علي(عليه السلام)، ثمّ جعفر بن محمد(عليه السلام)، ثم موسى بن جعفر(عليه السلام)، ثم علي بن موسى الرضا(عليه السلام)، ثم محمد بن علي(عليه السلام)، ثم علي بن محمد(عليه السلام)، ثم الحسن بن علي(عليه السلام)، ثم الحجة بن الحسن القائم بأمر الله صاحب الزمان، وخليفة الرحمن في أرضه الحاضر في الأمصار الغائب عن الأبصار، صلوات الله عليهم أجمعين. واعتقادنا فيهم أنهم أولو الأمر الذين أمر الله بطاعتهم، وانهم شهداء على الناس، وانهم(عليهم السلام) أبواب الله والسبيل إليه والأدلاّء عليه، وأنهم(عليهم السلام) عيبة علمه وتراجمة وحيه وأركان توحيده، وأنّهم معصومون من الخطأ والزلل، وأنهم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وإن لهم المعجزات والدلائل، إنهم أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء، ومثلهم في هذه الأمة كسفينة نوح من ركبها نجى، وكباب حطة وانهم عباد الله المكرّمون
____________
1- شرح الأربعين النبوية: 21.
2- البقرة: 124.
موقف الإسلام من القيادة:
وموقف الإسلام من القيادة وأهميتها ومواصفاتها يظهر جلياً من سيرة النبي(صلى الله عليه وآله)في العشر سنين الأخيرة من حياته التي قضاها في المدينة، فما كان(صلى الله عليه وآله)يذهب إلى غزوة إلاّ ويؤمّر على المدينة أميراً، وما كان يرسل سرية إلاّ ويجعل عليها قائداً وآخر سرية أمر عليها أسامة بن زيد بالرغم من صغر سنِّه.
ويعتبر هذا أمراً ضرورياً إذا لا يمكن للمجتمع الإنساني أن يعيش فوضى، بل لابد من قيادة حكيمة تطبق الدستور على نفسها وعلى المجتمع.
فقد قال تعالى لإبراهيم(عليه السلام): (إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَ مِن ذُرِّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّــلِمِينَ )(2).
فلا يحق للظالم أن يتولى الإمامة وكل عاص ظالم لقوله تعالى: (وَ مَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـلـِكَ هُمُ الظَّــلِمُونَ )(3).
وقوله تعالى: (فَمَن تَابَ مِنم بَعْدِ ظُـلْمِهِ ى وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )(4).
وقوله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الاَْمْرِ شَىْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ
____________
1- الاعتقادات للشيخ الصدوق: 77.
2- البقرة: 124.
3- الحجرات: 11.
4- المائدة: 39.
وهذا ما يؤكّده الإمام الرضا(عليه السلام): (إن الإمامة أس الإسلام النامي وفرعه السامي، بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وامضاء الحدود والأحكام ومنع الثغور والأطراف، والإمام يحل حلال الله ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله ويذب عن دين الله) لذلك نجد من كلام الإمام الصادق(عليه السلام): (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية). وقوله: (لا يصلح الناس إلاّ بإمام ولا تصلح الأرض إلاّ بذلك).
والإمام السجّاد(عليه السلام) يشير إلى واجبات القائد في الدعاء (47) من الصحيفة السجادية بقوله: (اللهم... أقم به كتابك وحدودك وشرائعك وسنن رسولك(صلى الله عليه وآله)وأحيي به ما أماته الظالمون من معالم دينك، وأجل به صداء الجور عن طريقك، وآمن به الصراط من سبيلك، وأزل به الناكبين عن صراطك، وامحق به بغاة قصدك عوجاً).
ويقول الإمام علي(عليه السلام): (أأقنع من نفسي بأن يقال لي: أمير المؤمنين، ولا أشاركهم مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في بحبوبة العيش).
المهدي المنتظر(عليه السلام):
ليست العقيدة بالمهدي المنتظر(عليه السلام) عقيدة مختصة بالشيعة بل هي عقيدة إسلامية يعتقد بها جمهور علماء المسلمين ـ سُنَّةً وشيعة ـ وهم يتفقون على أنه من أهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله) وإنه يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلماً ـ قال ابن حجر في كتابه (الصواعق المحرقة): (ص160 طبعة القاهرة سنة 1375هـ). في أحاديث المهدي ما نصه:
(ومن ذلك ما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي
____________
1- آل عمران: 128.
وهذا مما اتفقت عليه كلمة المسلمين والخلاف في أنه هل ولد بالفعل؟ أم أنه لم يولد بعد؟ وجمهور السُّنَّة على الثاني والشيعة على الأول، والشبهة الوحيدة التي تعتبر أساس الإنكار هي مسألة طول العمر وإن ذلك ممتنع عادة، فكيف يعيش الإنسان هذه المدّة الطويلة وغيرها من الشبهات راجعة إليها؟ وقد بالغ بعض المؤلفين في هذه الشبهة حتى اعتبر (المهدوية) يوتيبية في حين أن أشباه ذلك واقع في التاريخ بنص القرآن الكريم، وإن ذلك كله واقع تحت قدرة الله تعالى الذي هو على كل شيء قدير.
وقد قال تعالى في نوح النبي: (وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ ى فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَة إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَ هُمْ ظَــلِمُونَ)(1).
وقال تعالى في أصحاب الكهف: (وَ لَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ ثَلَـثَ مِاْئَة سِنِينَ وَ ازْدَادُواْ تِسْعاً)(2).
وقال تعالى في عزير النبي: (أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى
____________
1- العنكبوت: 14.
2- الكهف: 25.
تلك هي قدرة الله التي تفوق كل قدرة، تلك القدرة التي جعلت النبي عيسى(عليه السلام)حياً حتى اليوم، قال تعالى فيه: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ)(2). لهي قادرة أيضاً على تطويل العمر أكثر من المتعارف وهو على كل شيء قدير، فالمهدي المنتظر(عليه السلام) حي بقدرة الله كحياة عيسى(عليه السلام) إذ ثبت بالدليل والسُّنَّة الصحيحة ـ وعلى الأقل في نظر المعتقد ـ عن النبي(صلى الله عليه وآله) فلا مجال لانكارها إذ هو إما إنكار لقدرة الله تعالى أو إنكار للسنة النبوية.
وهذا جمهور المسلمين يعتقدن بحياة النبي الخضر(عليه السلام) وهو أكثر عمراً من الحجة(عليه السلام)، فقد جاء في هامش الصواعق المحرقة (ص223 طبعة القاهرة سنة 1375هـ) ما نصه: (ذكر النووي في تهذيب الأسماء أن أكثر العلماء مقرّين على أن الخضر حي موجود بين أظهرنا، وذلك متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح، وحكاياتهم في رؤيته، والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجوابه ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن يحصى وأشهر من أن يذكر).
ولو غيرنا من كلام النووي إلى قوله (الخضر) بكلمة (الحجة بن الحسن) لكان ما تقوله الشيعة تماماً بلا أدنى تفاوت، فإن الكلام في (خضر) و(الحجة) واحد، إذ كلاهما ثبت بالسُّنَّة النبوية الصحيحة ـ وعلى الأقل من وجهة نظر معتقديها ـ والاعتقاد بحياتهما امتداد للاعتقاد بقدرة الله تعالى الذي هو على كل
____________
1- البقرة: 259.
2- النساء: 157.
ويبقى سؤال جدير بالملاحظة هو أن غيبة الإمام تنافي وجوب الإمامة، فإن الغرض من نصب الإمام إنما هو بيان أحكام الإسلام وتنفيذها ومن هنا نشأ اتهام الشيعة بـ (اليوتيبية) والغيبية البعيدة عن واقع الحياة ولكنه اتهام ظالم ذلك أن طائفة عاشت برهة طويلة من التاريخ واحتفظت بكيانها ـ رغم المضايقات ـ لا يمكنها أن تعيش بدون نظام أو بنظام غير صالح للتطبيق حيث طبق فعلا في هذه الفترة من الزمن، (ومن الناحية النظرية) هناك نظرية اللطف القائلة بأن (وجوده(عليه السلام)لطف وتصرفه لطف آخر وغيبته منا) كما تفصله كتب العقائد، راجع الغيبة للنعماني والغيبة للطوسي وتجريد الاعتقاد لنصير الدين، وأخيراً البرهان على وجود صاحب الزمان للسيد الأمين.
ومن الناحية العلمية باشرت المرجعية الدينية (الخاصة والعامة) في القيادة الفكرية أداء دورها العملي وحتى ظهور الحجة(عليه السلام).
المرجعية الدينية:
بما أن القيادة الفكرية أمر ضروري في حياة المسلمين ولها مواصفاتها وشروطها المشروحة في الفقه لذلك لم يخل تاريخ الشيعة في أي دور من الأدوار من مرجع ديني يؤدي مهمته الرسالية الدينية حسب الملابسات والظروف، ولهذه المرجعية دوران (الدور الأول) ويعبّر عنه (الغيبة الصغرى) من سنة 260هـ. إلى 319هـ. وكانت المرجعية لأربعة أشخاص يعبّر عنهم بـ (السفراء) والنواب كانت لهم نيابة خاصة عن الإمام(عليه السلام) وكان مركزهم بغداد وهم:
1 ـ أبو عمرو عثمان بن سعيد الأسدي العمري المتوفى 280هـ.
2 ـ أبو جعفر محمد بن عثمان بن سعيد الأسدي المتوفى 305هـ.
3 ـ أبو القاسم الحسين بن روح النوبختي المتوفى 326هـ.
(الغيبة الثانية): ويعبّر عنها بـ (الكبرى) وابتدأت بوفاة السفير الرابع السمري 329هـ، وانتقلت القيادة الدينية إلى المرجعية في الافتاء والحكم منذ ذلك العهد حتى اليوم استناداً إلى الحديث عن الحجة(عليه السلام) (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم).
وأيضاً (من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه)، وأهم الشروط المعتبرة في شخصية المرجع الديني هي الحياة والعدالة والاجتهاد ويزيد الأكثر، الأعلمية، ولا يعتبر الانتساب إلى النبي اطلاقاً، فكل من وجدت فيه الشروط عد أهلا للمرجعية، ويمكن معرفة المرجع بإحدى الطرق الثلاثة: العلم، أو شهادة عدلين، أو الشياع المفيد للعلم، وكثيراً ما تختلف وجهات النظر فيقلد كل فرد بحريته الكاملة من شاء في حدود شروط المرجعية.
ولكن سرعان ما تنصهر المرجعية في شخصية واحدة تعلو بمرور الزمن على الشخصيات الأخرى لعوامل خاصة يكون أهمها المكانة العلمية والصفات الشخصية والخدمات الاجتماعية.
وهكذا تعتبر الشيعة الإمامية طائفة إسلامية لها استقلالها الفكري في حدود التشريع الإسلامي تؤمن بالله رباً، وبمحمد(صلى الله عليه وآله) نبياً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن كتاباً، وبالكعبة قبلة، والأئمة الاثني عشر(عليهم السلام) أئمة وسادة وقادة، وهم مستودع السنّة النبوية تتسلسل رواياتهم في العقيدة والشريعة إلى النبي الأعظم(عليه السلام)، وهم أهل بيت النبوة و(أهل البيت أدرى بما في البيت)، وهذا ما يؤكده الإمام الصادق(عليه السلام)بقوله: (حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي وحديث جدي حديث الحسين وحديث الحسين حديث الحسن وحديث الحسن حديث أمير
(ووال أناساً قولهم وحديثهم | روى جدنا عن جبرئيل عن الباري) |
وهكذا نجد أئمة أهل البيت(عليهم السلام) يطبّقون شريعة الله وسنّة جدهم النبي(صلى الله عليه وآله)المروية بطرقهم التي هي أقرب الطرق ومن هنا نستنتج القول أن السنّة النبوية تلازم التشيع، فكل من استن بسنّة رسول الله(صلى الله عليه وآله) الصحيحة فهو متشيّع، وكل من شايع أهل بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) فهو مستن بسنّته(صلى الله عليه وآله) وما فرق المسلمين فرقاً متناحرة سوى الأطماع والأهواء والبدع أعاذ الله من شرها(1).
الفقه الجعفري:
الفقه الجعفري يستمد ويستنبط أحكامه من القرآن والسنّة والإجماع والعقل، لذلك ينبغي أن نوضّح بعض المصطلحات التي تبين هذا الاستنباط والأحكام في الفقه الجعفري في أمور:
الأمر الأول: الأحكام الشرعية تنقسم إلى خمسة أقسام:
1 ـ الوجوب: وهو ما يجب فعله ويحرم تركه والمكلف يثاب على فعله ويعاقب على تركه كالصلاة والصوم والحج... الخ.
2 ـ الحرمة: وهو ما يحرم فعله ويعاقب على فعله كالسرقة والغيبة والتهمة والكبائر.
3 ـ المستحب أو المندوب: وهو ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه مثل الصدقة والإحسان والنوافل.
4 ـ المكروه: وهو ما لا يعاقب على فعله وتركه أفضل كزيادة النوم من دون
____________
1- شرح الأربعين النبوية: 36.