كانت هذه في التشكيلة الاستشارية، التي اعتمدها عثمان في إدارة الدولة، وقمع الجماهير المسلمة.
إن الواقع الاجتماعي، الذي تشكل في عهد عثمان، أدى إلى انفجار ثوري، لم يخفف منه النفوذ العشائري لعثمان. وأسفر الوضع عن وجود ثلاث فئات مهيئة للتمرد. الفئة الأولى:
وهي الفئة التي تمردت انطلاقا من الخلفية الاقتصادية، ففي الوقت الذي تراكمت فيه الثروة لدى الجانب الأموي، وغيرهم من الذين ساروا في خطهم، وأعانوهم على تعميق نفوذهم.
نجد أن قطاعا واسعا من الجماهير المسلمة، استمرت تعاني الفقر في أسوأ حالاته.
الفقر الذي يجعل المجتمع مهيأ، للدخول في صراع طبقي، طالبا للمساواة الاجتماعية.
كان خط الأغنياء، وخط الفقراء يتجهان بشكل معاكس. الغني ازداد اتساعا إلى درجة الفحش، وازداد تبعا لذلك - الفقر عمقا، إلى درجة الانسحاق.
وبذلك اتسعت الهوة بين فئتين، إحداهما مسكت بأسباب الثراء فبلغت مستوى تكسير قطع الذهب بالفؤوس. وفئة أخرى، قلب لها الواقع ظهر المجن، فراحت تفكر في قطع القد، وغالبا ما باتت تغالب الطوى!.
لقد كان عثمان يملك (خمسين ومائة ألف دينار وألف ألف درهم، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار، وخلف إبلا وخيلا كثيرة، وبلغ الثمن الواحد من متروك الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار، وخلف ألف فرس وألف أمة وكانت غلة طلحة من العراق ألف دينار كل يوم، ومن ناحية السراة أكثر من ذلك، وكان على مربط عبد الرحمن بن عوف ألف فرس، وله ألف بعير، وعشرة آلاف من الغنم، وبلغ من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفا، وخلف زيد بن ثابت من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلف
وتحول بيت مال المسلمين في عهده إلى بيت مال لبني أمية. ولم يراع عثمان مشاعر المسلمين، ولا أحكام الشريعة في نهبه أموال المسلمين، وصبها مدرارة في خزائن أهل بيته. ويذكر اليعقوبي في تاريخه: حدث أبو إسحاق عن عبد الرحمن بن يسار قال (116):
رأيت عامل صدقات المسلمين على سوق المدينة إذا أمسى أتاها عثمان، فقال له: ادفعها إلى الحكم بن أبي العاص. وكان عثمان إذا أجاز أحدا من أهل بيته بجائزة جعلها فرضا من بيت المال، فجعل يدافعه ويقول له: يكون فنعطيك إن شاء الله، فألح عليه فقال: إنما أنت خازن لنا، فإذا أعطيناك فخذ، وإذا سكتنا عنك فاسكت. فقال: كذبت والله! ما أنا لك بخازن، ولا لأهل بيتك، إنما أنا خازن المسلمين. وجاء بالمفتاح يوم الجمعة وعثمان يخطب فقال: أيها الناس، زعم عثمان أني خازن له ولأهل بيته، وإنما كنت خازنا للمسلمين وهذه مفاتيح بيت مالكم. ورمى بها، فأخذها عثمان، ودفعها إلى زيد بن ثابت. كان بذلك عثمان، يرى أن الدولة الإسلامية ملكا لعشيرته، وكان مبرره في ذلك أنه تأول - حسب ما ذكر الواقدي - في مال المسلمين، صلة رحمه.
كما، ويذكر الواقدي أيضا بإسناده: قدمت إبل من إبل الصدقة على عثمان فوهبها للحارث بن الحكم بن أبي العاص، كما روي الكلبي عن أبيه، مخنف بن مروان ابتاع خمس إفريقية بمائتي درهم ومائتي ألف دينار. وكلم عثمان فوهبها له.
فأنكر الناس ذلك على عثمان).
____________
(116) - المسعودي - مروج الذهب.
وكذلك سار عثمان في رعيته. يوسع لأقربائه في العطايا، والإمارات، ولا أدل من ذلك، معاوية بن أبي سفيان، الذي منحه كامل الصلاحية في إدارة الشام، فكان أطول الأمراء إمارة. وحيث كثر الغنى الفاحش، وتسابق الغزاة على الأمصار، لكسب المزيد من الغنى واضطرت الطبقة الثرية أن تستورد الرقيق من الأمصار، لاستغلالهم في استثماراتهم. واستولى بني أمية على بعض مزارع الكوفة، وهجروا أهلها. وبقيت طبقة هنالك من الفقراء العرب ناقمين على الفئة الثرية، وكذلك أولئك الذين فتحوا البلدان، ولم تتح لهم الفرصة، كما أتيحت لغيرهم من بني أمية، للإقامة في الأمصار، والاستحواذ على ممتلكاتها.
كان هذا الواقع الطبقي الذي تشكل بفعل السياسة المنفلتة لعثمان، سببا في تشكل حالة من الرفض والتمرد، تمثلها الفئات المحرومة في المجتمع، وهم غالبا، أولئك الذين ضاقوا من الاحتكار الأموي في عهد عثمان، وتمردوا تلقائيا لما ثقل عليهم أمرهم، وكانوا هم القاعدة التي استجابت لفكرة التحدي والثورة على عثمان. تلك الحالة التي يصورها أبو ذر (رض) قائلا: عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف، لا يخرج إلى الناس شاهرا سيفه).
فهذا دليل على وجود، فئة مسحوقة، ومغلوب على أمرها، لا تسطيع الافصاح عن واقعها، مقموعة بعمال عثمان، وعناصر عشيرته ذات النفوذ الوسيع في كل الأصقاع.
الفئة الثانية:
فئة تحركت من الخلفية العشائرية، حيث ضاقت بالنهج العشائري في سياسة عثمان، وتعامله اللامتكافئ مع العشائر الأخرى. فهناك طائفة من المسلمين ثاروا على عثمان لما رأوه متحيزا إلى أقربائه بشكل يفسد عليه سياسته. والحس القبلي لما ينته يومها في نفوس الغالبية الساحقة ممن دخل في الإسلام، والجانب القبلي كما
فلا زهرة من عبد الرحمن، ولا تيم من طلحة، براضية بهذا الوضع الذي آل إليه الأمويون بمؤازرة عثمان، حيث حملهم على رقاب الناس. لقد سلب عثمان إرث آل البيت (ع) وهو (فدك) وأقطعها واحدا من عشيرته وهو مروان، وفي ذلك مهانة لبني هاشم لها أن تقرع الوجدان العربي. وكذلك لما رأوا عثمان يستقبل (الحكم) طريد الرسول صلى الله عليه وآله في المدينة، ليقضي بطرد أحد سادة العرب والمسلمين أبي ذر إلى الربذة. لقد رأوا العرب من مختلف القبائل، إن هذا هو عثمان، وإن عشيرة بني أمية راحت تطأ كل العشائر.
وحيث إن عثمان أظهر توجهه العشائري للمسلمين، وأفصح عن وجهة نظره الخاصة تجاه أقربائه، واعترف لهم أنه يعمل بمقتضى الاجتهاد. لذلك أحيا فيهم النخوة العربية، والنزعة القبلية مجددا، فراحوا يفكرون في الثورة والتغيير.
الفئة الثالثة:
انطلقت هذه الفئة من الخلفية الاصلاحية، متجاوزة كل الخلفيات الأخرى.
____________
(117) - أقول إن الإمام علي (ع) أنزله الدهر، حتى أضحى يشرط عليه سفالة العرب، شروط خلافة الأمة!!.
وكان عمار بن ياسر منذ البداية مع الإمام علي (ع)، ومن الذين رفضوا بيعة أبي بكر. واستمر رافضا بيعة عمر إلا قهرا. ورفض بيعة عثمان، وما زال ضده حتى قتل، واستمر كذلك حتى استشهد في (صفين)، حيث يقاتل في جيش الإمام علي (ع): (118) هؤلاء كانوا هم رواد الاصلاح في المجتمع الإسلامي.
فكانوا ينطلقون من هذه الخلفية. بيد أن ذلك لا يمنعهم من توظيف الحالة الاجتماعية في خط التحريض على الانقلاب.
وكان هؤلاء يتحركون على صعيدين، الأول: توفير عوامل الهدم من خلال زرع قناعات سلبية تجاه حكومة عثمان، الثاني: توفير عوامل البناء، من خلال الطرح الإيجابي وهو الدعوة إلى خط (آل البيت (ع)).
ذكر ابن أبي الحديد، أنه تكلم بنو هاشم وبنو أمية (أثناء مشاورات الستة بعد مقتل عمر) وقام عمار، فقال: أيها الناس، إن الله أكرمكم بنبيه وأعزكم بدينه، فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم! فقال رجال من بني مخزوم: لقد عدوت طورك يا ابن سمية، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها). وذكر أن المقداد قال في نفس المقام: (تالله ما رأيت مثل ما أوتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم، واعجبا لقريش! لقد تركت رجلا ما أقول ولا أعلم أن أحد أقضى بالعدل ولا أعلم ولا أتقى منه! أما والله لو أجد أعوانا! فقال عبد الرحمن: إتق الله يا مقداد، فإني خائف عليك الفتنة.
____________
(118) - ونحن نتسأل، ما السر وراء هذا الالتزام بخط علي (ع) من قبل صحابي كبير وابن أول شهيدين في الإسلام. فهل هناك قرابة تشدهما أو مصالح دنيئة تجمع بينهما.
فآخذت هذه الفئة عثمان، على قضايا كثيرة، تتجاوز في أهميتها واقع التفاوت الطبقي والعشائري، لتحاكمه على قضايا دينية وعقيدية محضة! ومن جملة ما أحصته عليه:
(1) عدم إقامته الحد، على قاتل الهرمزان، وأبي لؤلؤة وامرأته وطفلة صغيرة. ولم يستجب للقضاء الشرعي الذي صدر يومها عن الإمام علي (ع)، وهو الحكم الوحيد الذي ينسجم مع الشريعة الإسلامية.
(2) استرجاع الحكم بن أبي العاص إلى المدينة، وقد كان الرسول صلى الله عليه وآله قد نفاه ورفض عليه البقاء فيها كما أثبت المؤرخون. وقد ذكر الواقدي أن الرسول صلى الله عليه وآله قال له: لا تساكني في بلد أبدا، فجاء عثمان فكلمه فأبى، ثم كان من أبي بكر مثل ذلك ثم كان من عمر مثل ذلك.
(3) ضربه عمار بن ياسر، وكذلك بن مسعود حتى كسر ضلعه، بعد أن عزله وقطع عليه العطاء.
(4) نفيه أبا ذر الغفاري إلى الربذة.
(5) مصادرته فدك من بني فاطمة الزهراء (ع) وإقطاعها مروان.
(6) جعله الإمارة دولة بين أقربائه وعزله الصحابة الكبار عنها.
(7) حرقه للمصاحف (119).
____________
(119) - الغريب في الأمر أن البعض أولها تجلبنا للفتن وتعدد القراءات وما أشبه. بيد أن التاريخ يؤكد أن عثمان ركز مثلا على مصحف (ابن مسعود) وهذا صحابي من حفاظ القرآن وقرأته، فكيف يكون مصفحة فتنة. اللهم إلا أن عثمان يخشى أن يكون في مصحف بن مسعود تأويلات من جنس ما لا يتفق مع مصلحته.
كانت هذه باختصار هي الفئات الرئيسية للتمرد. والدليل على ذلك أنها تفرقت وجهاتها بعد مقتل عثمان، فمنهم من أكمل الدرب على نهج الاصلاح منضويا تحت راية الإمام علي (ع) ومنهم من راح يلتمس له أسباب الغنى.
وآخرون اكتفوا بمقتل عثمان، كانتقام للحالة العشائرية.
وكان الصنف الذي يبحث عن المال، قد رجع وانخرط في جيش معاوية فيما بعد، فنال بذلك ثمن الردة والنفاق، من عطاء أهل الشام.
كانت خلافة عثمان منذ البداية مهندسة على هذا الشكل، وهو أن يستفيد القدر الممكن من الخلافة، ثم يسلمها على غرار سابقيه إلى صهره (عبد الرحمن بن عوف)، لتبقى دولة بين عصابة من زهرة وابن أبي معيط وبني أمية. والإمام علي (ع) سرعان ما أدرك اللعبة وهو يقول بعد أن انزاحت الخلافة عنه: ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا، (فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون)، والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك) (120).
بقي عثمان حريصا على مخططه، كيف لا وعبد الرحمن بن عوف هو الذي سلمها إياه. ولم يكن ليسلمها له، لولا أنه عرف نفسه غير مرغوب فيه. ويبدو أن عثمان أراد أن يستجيب للوعد ولكنه خاف على نفسه، ولم يستطع الوفاء بوعده لعبد الرحمن، فربما تغيرت وجهة نظره، فرأى أن يسلمها لواحد من أقربائه.
كتب له حمران مولاه، فأنكر عليه شيئا، فنفاه إلى البصرة، فلم يزل بها حتى قتل عثمان. ويذكر مسكويه في تجاربه، سبب سقوط هذا الكاتب من عين عثمان وسبب نفيه إياه فقال: إن عثمان اشتكى شكاة، فقال له:
(أكتب العهد بعدي لعبد الرحمن بن عوف).
فانطلق حمران إلى عبد الرحمن بن عوف فقال له:
(البشرى!).
____________
(120) - تاريخ ابن الأثير (ص 71 ج 3).
فأخبره الخبر. فصار عبد الرحمن إلى عثمان، فأخبره بما قال حمران، فقلق عثمان، وخاف أن يشيع، فنفاه لذلك.
ربما غير وعده ولذلك لا بد لعبد الرحمن بن عوف أن ينتقم، ولكن تحت غطاء آخر. يذكر التاريخ أن عبد الرحمن انقلب بعد ذلك على عثمان لما رآه أخلف الوعد وانحاز إلى عشيرته.
وليس هذا الوعد ب (سيرة الشيخين) فعبد الرحمن منذ البداية يعرف أن تقريب عثمان لعشيرته أمر وارد وحقيقي. وعمر بن الخطاب نفسه قال ذلك أمامهم، يروى عن ابن عباس أنه قال: (فقلت عثمان بن عفان؟ قال (يعني عمر): إن ولي حمل ابن أبي معيط وبني أمية على رقاب الناس وأعطاهم مال الله، ولن ولي ليفعلن والله، ولئن فعل لتسيرن العرب إليه حتى تقتله في بيته ثم سكت) (121).
وحتى نستطيع فهم طبيعة الخلاف بين عثمان وعبد الرحمن بن عوف، لا بد أن نفرض سؤالا: كيف تتحول المودة بين عشية وضحاها إلى عداوة قاتمة؟! لعل السبب هو هذا العهد. لقد روي أن عثمان اعتل علة اشتدت به فدعا حمران بن أبان، وكتب عهدا لمن بعده، وترك موضع الاسم، ثم كتب بيده: عبد الرحمن بن عوف، وربطه وبعث به إلى أم حبيبة بنت أبي سفيان، فقرأه حمران في الطريق فأتى عبد الرحمن فأخبره، فقال عبد الرحمن، وغضب غضبا شديدا: استعمله علانية، ويستعملني سرا. ونما الخبر وانتشر بذلك في المدينة. وغضب بنو أمية، فدعا عثمان بحمران مولاه. فضربه مائة سوط، وسيره إلى البصرة.
فكان سبب العداوة بينه وبين عبد الرحمن بن عوف) (122).
نعم، لقد استعمله علانية، وبذلك استطاع أن يثبته في الخلافة غير أن عثمان
____________
(121) - تاريخ اليعقوبي (ص 158 ج 2).
(122) - اليعقوبي (ص 2 169 ج 2) دار صادر.
لقد أفسد علاقته مع علي (ع) وشيعته. وسقط من أعين الصحابة الكبار.
لذلك سيحاول عبد الرحمن، استدراك الخطيئة، ليتقرب إلى علي (ع) من جهة، ويسقط عثمان من جهة أخرى. وقد تحين الفرص كلها من أجل إسقاط عثمان. حتى إذا كان وفاة أبي ذر في الربذة، استغلها كورقة سياسية ودينية في نعي عثمان. يروي الواقدي: لما توفي أبو ذر بالربذة، تذاكر علي وعبد الرحمن فعل عثمان. فقال علي (ع) له هذا عملك، فقال عبد الرحمن فإذا شئت فخذ سيفك وآخذ سيفي، إن خالف ما أعطاني). وهذه (أعطاني) تدل على أن عبد الرحمن صادق وذكي لما قالها في صيغة المجهول. فأعطاني، أي وعد الخلافة!.
أمام هذا الواقع المتموج بالرفض والتمرد. كان لا بد لعثمان أن يسلك نهجا سياسيا يقيه من ضربات المعارضة، ويجنبه خطر السقوط فما هي الإجراءات التكتيكية، التي اتخذها عثمان، لتطويق حالة الرفض الاجتماعي؟.
لسنا طبعا مثل طه حسين، لما حرص على إيجاد المبررات التاريخية للفتنة الكبرى. قال إنهم معذورون؟ لأنهم لم يعرفوا حتى ذلك الزمان، معنى الدستور! أقول، إن السيطرة على الظلم في مجتمع بسيط هو أسهل بكثير منه في مجتمع مدني معقد. وممارسة العدالة، كانت منذ غابر العصور فضيلة تذكر في الأمم. بل إن العدل كان يمارس كفضيلة أخلاقية إلى جانب كونه قيمة حقوقية.
ومن جهة أخرى فإن السياسة حتى في زمن عثمان، لم تكن تمارس بسليقة اجتماعية كما يتصور البعض. إنما كانت تمارس بتخطيط محكم. والمستشارون الذين اعتمدهم عثمان، كانوا من دهاة العرب. و (السترجة) العثمانية في تحجيم دائرة الرفض، وتوفير التهدئة الضرورية، كانت تتجسد في ثلاثة مسالك:
المسلك الأول:
تحقيق نوع من الافراط، والتضخيم في النشاط البراني للمجتمع الإسلامي.
إذ أن سياسة تصدير الأزمات، وبالتالي الاهتمامات إلى الخارج، ليس وليد السياسة المعاصرة. بل هي قديمة قدم الاجتماع البشري، ومنذ نشوء السلطة في المجتمع الإنساني. وهي السياسة التي تفوت الاهتمام بالداخل إلى قضايا الخارج، وتوجيه الهم المجتمعي إلى أزمات الخارج، ومن ذلك، الحروب التي تخلقها بعض الدول، لتصرف أنظار المجتمع إلى الجبهات. وبالتالي، تتجنب الاضطرابات في الداخل. وكان عثمان بن عفان حريصا على خلق واقع من النشاطات البرانية، ليبعد الأنظار عن سياسته، ومفاسده الداخلية. فشجع الفتوحات، وألهى بها المسلمين.
والتاريخ يثبت أن الفتوحات التي كانت تجري في هذا العصر وما بعده. لم تكن ذات هدف ديني خالص، بقدر ما كان العامل التجاري والاقتصادي حاضرا فيها. فكانت الفتوحات تفيض عليهم بالغنائم النفيسة. ولم تكن الأمصار محط اهتمام ديني بقدر ما كانت مستوطنات لبني أمية، يشيدون فيها قصورهم، ويكرسون فيها مظاهر الفساد. إن عملية إلهاء الجماهير الإسلامية، وإشغالها بالحروب، يلغي الخلفية الإسلامية السلمية، لحركة الفتح. لقد اشتدت حدة التمرد، وعم الاضطراب في الداخل والخارج، وتداول المسلمون قضايا المفاسد وتناقلوها فيما بينهم، وبدأت سلطة عثمان تدخل شيئا فشيئا نفق الانهيار. في تلك الأثناء، جمع هيئته الاستشارية، من الطلقاء، وضعاف الإيمان، ليتباحث معهم شؤون الدولة، وأوضاع المجتمع، والكيفية التي يتخلص بها من المعارضة، جمعت الهيئة كلا من معاوية بن أبي سفيان، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وسعيد بن العاص، وعمرو بن العاص وغيرهم.
فقال عثمان: إن لكل امرئ وزراء نصحاء، وإنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي، وقد صنع الناس ما رأيتم وطلبوا إلي أن أعزل عمالي وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون. فاجتهدوا لي رأيكم ثم أشيروا علي).
(رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك، وأن تجمرهم في المغازي حتى يذلوا لك، فلا تكون همة أحدهم إلا نفسه: وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته) (123).
وعليه فإن حركة الفتوح، لم تعد هدفا رساليا، مقدسا. كما كانت على عهد الرسول صلى الله عليه وآله بل تحولت إلى أسهم في بورصة الجهاد. إذ لما كان عثمان قد ولى عبد الله بن عامر البصرة، وولى سعيد بن العاص الكوفة، كتب إليهما: أيكما سبق إلى خراسان، فهو أمير عليها. فخرج عبد الله بن عامر، وسعيد بن العاص، فأتى دهقان من دهاقنة خراسان إلى عبد الله بن عامر فقال: ما تجعل لي إن سبقت بك؟ قال: لك خراجك وخراج أهل بيتك إلى يوم القيامة فأخذ به على طريق مختصر إلى (قومس)، وعبد الله بن حازم السلمي على مقدمته. الخ) (124) وقد كثرت الفتوح التي قادها ضعاف الإيمان، فتحت هراة ومرو الروذ، ثم الطالقان والغارياب، وطخارستان. وأرمينية، وجرزان.. وكان عثمان قد بعث بجيش، وجعل معاوية أميرا لهم، على الصائفة في سنة 32، فبلغوا إلى مضيق القسطنطينية وفتحوا فتوحا كثيرة (125).
لم تكن حكومة عثمان تهئ برنامجا تثقيفيا للبلدان المفتوحة. بل كانت جيوشه تكتفي بإخضاع البلدان إلى الاستسلام، ثم نهب ثرواتها، ثم الافساد فيها.
والتواريخ تطفح بالأخبار عن عمال عثمان، ولهوهم وعبثهم في الإمارات (126).
____________
(123) تجارب الأمم: مسكويه (ص 273 ج 8) (124) - تاريخ اليعقوبي (ص 116 - 167 ج 2) (125) - نفس المصدر.
(126) - حتى يذكر أن الوليد أصبح وهو سكران وصلى بالناس الفجر أربع ركعات.
المسلك الثاني:
أسلوب القمع، والتصفية المنهجية للمعارضة. وكان هذا ثاني أسلوب لجأ إليه عثمان، بعد أن أفلس أسلوبه الأول، ولم يحقق إلا نتائج وقتية وهذا المسلك يقضي، بتتبع آثار المعارضة، والقبض على رموزها، واتخاذ الإجراءات العنيفة ضدهم. وبكسر شوكة قيادات التمرد تنكسر عصا التمرد كله. وكانت هذه الخطة في بداية المشاورات من وحي سعيد بن العاص. إذ لما جمعهم (عثمان) والتمس آراءهم، حول مسألة التمرد قال له سعيد:
(يا أمير المؤمنين، إن كنت تريد رأينا فاحسم عنا الداء، واقطع ما تخاف من الأصل، واعمل برأيي).
قال: (وما هو؟).
قال: (إن لكل قوم قادة متى تهلك تفرقوا ولا يجتمع لهم أمر.
قال عثمان: (إن هذا الرأي لولا ما فيه) (127).
كانت هذه الخطة أقرب إلى الحسم من الخطة الأولى، غير أنها مكلفة، لأن فيها مواجهة مباشرة بين عثمان وعصابة بني أمية وكبار الصحابة المتمردين. وأدرك عثمان أنه من الصعب أن يتخذ إجراءات حاسمة ومباشرة ضد هؤلاء المهاجرين إلا أنه يفقد أحيانا توازنه، فيسلك فيهم مسلكا قمعيا، فتزيد شقة التمرد اتساعا.
____________
(127) - تجارب الأمم لمسكويه (ج 1 ص 272).
كانت المعارضة تشتمل كما سبق أن ذكرنا، مجموعة فئات، والفئة المركزية، كانت تتألف من علي (ع) وكبار الصحابة. وحيث إن عثمان لم يستطع تطبيق عقوباته على أولئك الكبار، بمركزيتهم الدينية والعشائرية في المجتمع، فإنه لجأ إلى تفريغ جام غضبه على فقرائهم وضعافهم.
لقد عجز عثمان عن معاقبة الإمام علي (ع) لأنه يدرك إن ذلك قد يثير عليه المشاكل ويدخله في المآزق. لأن الإمام عليا (ع) لم يسكت يومها لضعف فيه أو لعجز اعتراه. وإنما حفاظا على تماسك المجتمع. أما وإنهم ليعلمون أنه أسد في عرينه. لذلك اكتفى عثمان بشكايته إلى عمه العباس - حسب البلاذري بإسناده عن ابن عباس - إن عثمان شكا عليا إلى العباس، فقال له: يا خال إن عليا قطع رحمي وألب الناس ابنك).
ومثل ذلك كان موقفه من محمد بن أبي بكر، لمكانته من أبيه وأخته وكذلك محمد ابن أبي حذيفة لمكانته من قريش، رغم ما أثاروه عليه في (مصر)، ومضايقتهم عامله فيها (عبد الله بن سعد).
إلا أن عثمان، لم يسلك نفس الطريق مع ضعاف المعارضة، الذين ليست لهم قرابة تأويهم، ولا عشيرة قوية تظللهم، وبعد أن ضاق بمعارضتهم المستمرة بدأ عثمان ينهج أسلوبه القمعي، فالظروف لم تعد تسمح له بتوقير الصحابة، فبدأ إجراءاته بابن مسعود. كان هذا الأخير واليا على الكوفة منذ عمر (130)،
____________
(128) - راجع بن قتيبة في تاريخ الخلفاء.
(129) - كما فعلوا بمن تمرد من أهل السواد على سعيد بن العاص الذي أن يسلبهم أرضهم.
(130) - وكان في البداية وليه على الشام ثم نقله إلى الكوفة وأوصى الناس أن يتبعوه.
(إنما أنت خازن لنا، فلا تعرض الوليد فيما أخذ من بيت المال) فغضب ابن مسعود، واعتزل، وكانت تلك بداية الخلاف بين الرجلين. وحيث إن ابن مسعود اعتزل إلى التعليم والتدريس، وكان له مصحفه الخاص. فإن عثمان كان قد طلب منه مصحفه ليحرقه. وقد رفض ابن مسعود بدعة عثمان في حرق المصاحف ككل، واعتماد مصحفه الوحيد. وابن مسعود كان يرى نفسه أحفظ لكتاب الله وأعلم به من عثمان وعصابته، والسيرة تشهد له بذلك. فأبى أن يسلم مصحفه، ونعى ذلك على عثمان. ولما كتب الوليد إلى عثمان بخصوص ابن مسعود وطعنه فيه، طلب منه إحضاره إلى المدينة. فلما رآه عثمان وكان يخطب من على المنبر، قال: ألا إنه قد قدمت عليكم دويبة سوء من يمشي على طعامه يقئ ويسلح. فقال ابن مسعود: لست كذلك، ولكني صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر ويوم بيعة الرضوان. ونادت عائشة أي عثمان أتقول هذا لصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله ثم أمر عثمان به فأخرج من المسجد عنيفا، وضرب به الأرض فدقت ضلعه. فلامه علي (ع) على ذلك، وقال له: تفعل هذا بصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله عن قول الوليد، فقال عثمان: ما من قول الوليد فعلت هذا، ولكني أرسلت زبير بن كثير فسمعه يحل دمي. قال علي: زبير غير ثقة.
بقي ابن مسعود غاضبا على عثمان حتى مات وأمر أن لا يصلي عليه، فدفن سرا، وقام بجنازته عمار بن ياسر كما سبق أن ذكرنا. وكان عثمان قد قطع العطاء عن ابن مسعود حتى لما مر بابن مسعود أحس عثمان بالذنب، أتاه يطلبه، قال:
ما تشتهي، قال له ابن مسعود: رحمة ربي. قال عثمان: هل أحضر لك طبيبا، قال ابن مسعود: الطبيب أمرضني. فقال له عثمان: أرد عليك عطاءك، فقال: حبسته عني حين احتجت إليه، وترده إلي حين لا حاجة لي به، فقال عثمان: يكون لأهلك. فقال ابن مسعود: رزقهم على الله. قال
فقال له علي: إذن تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه. وقال عمار: أشهد الله أن أنفي أول راغم من ذلك. فقال عثمان: أعلي يا ابن المتكاء تجترئ! خذوه.
فأخذ، ودخل عثمان فدعا به فضربه حتى غشي عليه. وما زال عمار في مناوئته لعثمان، ومعارضته لسياسته حتى قتل كما أستمر عثمان في ملاحقة المعارضة ورموزها. وفي تلك الأثناء كان بالشام أحد كبار الصحابة وطلائع الرسالة، وهو أبو ذر الغفاري (رض) وقد كان رجلا ثوريا لم تثنه لومة ولا ثناء، عن نصرة الرسالة. وقد قال عنه الرسول صلى الله عليه وآله: (ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء رجلا أصدق ذي لهجة من أبي ذر) (132). ولذلك لما رأى عثمان بالمدينة يقرب أبناء عشيرته ويكثر لهم في العطاء من بيت مال المسلمين، رفع صوته عاليا: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم). فضاق عمال عثمان وأقرباؤه بهذا الشعار، فشكاه مروان بن الحكم إلى عثمان، فأرسل إليه عثمان، فرد عليهم أبو ذر: أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله وعيب من ترك أمر الله: لأن أرضي الله بسخط عثمان أحب إلي من أن أرضي عثمان بسخط الله.
____________
(131) - ورد في الحديث ابن سمية، تقتله الفئة الباغية.
(132) - وفي حديث (يبعث أبو ذر أمة وحده).
غير أن أبا ذر أصدق لهجة من أن تحتويه (ديماغوجية) معاوية بن أبي سفيان.
لذلك أفشل مخطط عثمان، فكاد يفجر الأوضاع على معاوية في الشام. حيث استمر على ذات الشعار. وانتقد معاوية انتقادا جذريا، إذ قال له بعد استنكاره بناء (الخضراء)، إنه إن كنت بنيتها بمال المسلمين، فقد خنتهم، وإن كان ذلك من مالك فهو إسراف. وفي كلتا الحالتين، يكون سلوك معاوية منحرفا عن خط السياسة الإسلامية فكان يجتمع حوله الناس ويصغون. وعز على معاوية أن يفقد مكتسبات سنوات من التربية الأموية للشام فكتب إلى عثمان، يستنجده من أبي ذر. فطلب منه عثمان أن يشخصه إليه في أغلظ مركب وأوعره. فلما حضر المدينة، لم ينته عن أن يصدع بالحق في وجوه الفئات الأرستقراطية الأموية.
واستمر في مهمة التحريض. وكان من مصلحة عثمان والأمويين أن لا يبقى أبو ذر في المدينة ولا في الشام، ولا في أي أرض يكثر فيها الناس فنفاه إلى الربذة، حيث لبث فيها إلى أن مات. وتذكر التواريخ، أنه لم يجد إلا عابري سبيل دفنوه بعد أن عجزت زوجته عن ذلك.
هذا هو النهج القمعي، الذي مارسه عثمان مع أقرب رجالات الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يرع فيهم شهادة الرسول صلى الله عليه وآله ولا مودته لهم، بل جن جنونا لم يعد يعترف ألا بمصلحته وأقربائه. وفي نفس الوقت الذي فعل ذلك بالصحابة الكبار، الذين تمسكوا بخط الرسول وآل بيته. كان يغدق في العطاء للطلقاء من أقربائه. فلقد طرد أبا ذر إلى الربذة، أحد حواري الرسول صلى الله عليه وآله وأعاد من المنفى خصم رسول الله الحكم بن العاص. وقطع العطاء على ابن مسعود، ووسع في الإمارة لمعاوية بن أبي سفيان. واغتصب فدكا من ولد فاطمة الزهراء (ع) وأقطعها مروان. ورفض قضاء علي (ع) بخصوص عبيد الله إن عمر وقبل قضاء عمرو بن العاص فيه. وكان عمار بن ياسر قد حزن لما سمع بموت أبي ذر، وأفصح عن عواطفه تجاهه. فلما رأى منه عثمان ذلك، ظن أنه يوجه إليه
(ما أنت بأفضل من عمار، وما أنت أقل استحقاقا للنفي منه.
غير أن عليا (ع) لم يكن إلى هذا المستوى من الضعف، ولعل عثمان اغتر بنفوذ حكمه العشائري، غير أن عليا (ع) رد عليه: رم ذلك إن شئت.
وتوسط المهاجرون إلى عثمان، ولاموه جميعا، فلم يتخذ إجراءاته في حق عمار ولا علي (ع). وهذا النهج الذي سلكه عثمان في كبت الرأي، واستضعاف الكلمة الرسالية وإسقاط مركزية الصحابة ورفع وتوسيع نفوذ بني أمية لم يكن ليقضي على شعلة الإسلام في نفوس الفئة الاصلاحية. ولم يكن القمع يخيف قوما قام على أكتافهم الإسلام، وخاضوا أشرس الحروب وأضراها، وقدموا مهجهم في سبيل نصرة الرسالة. لم تكن هذه الأساليب الطاغوتية، لترد فئة بايعت الرسول صلى الله عليه وآله في بيعة الرضوان على أن لا تفرو الزحف، وعلى بذل الغالي والنفيس في رفع راية الإسلام. ولذلك ازداد التمرد. وازداد الناس بصيرة في عثمان وأهله. وكان عثمان يقاتلهم قتال من يحرص على ملكه لا من يهدف خلافة الرسول في مسؤولية الأمة.
لكن عثمان رغم ذلك لم ييأس في محاولاته في لمحاصرة المد الثوري. فراح يطبق خططه الأخرى مع خططه الأولى ومن ذلك:
المسلك الثالث: -
كان هذا المسلك هو التخفيض من الاتجاه الأيديولوجي الإسلامي للمجتمع، بحيث، لا تبقى روح الإسلام تغزو كل قلب، مما يجعل الناس يشعرون بالمسؤولية تجاه مفاسد السلطة. لأن تعاظم الأيديولوجية الإسلامية في نفوس المجتمع، هي التي تخلق حالة من اليقظة والرقابة فيه. وحاول أن يسلك طريق التمييع للمجتمع عبر وسيلتي التفقير، والإغناء. التفقير للعناصر المتمردة عشائريا. والإغناء. للفئات المتمردة دينيا واقتصاديا، الأولى بمقتضى (جوع كلبك يتبعك) والثانية بمقتضى (اشتر صمت عدوك بالمال).
ويذكر مسكويه في تجاربه إنه تم فعلا تطبيق هذه الخطة بأشملها: فرد عثمان عماله على أعمالهم، وأمرهم بالتضييق على من قبلهم، وأمرهم بتجمير الناس في البعوث وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه ويحتاجوا إليه. ورد سعيد بن العاص أميرا على الكوفة (134).
وكان أول ما منع عثمان، عطاء ابن مسعود - كما تقدم ومكن للزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف.. فكانوا من أثرياء العرب يومها.
وحاول ذلك مع أناس كثير فرفضوا إغراءه. وكان محمد بن أبي حذيفة ممن ألب عليه بمصر. وأرسل عثمان على أثر ذلك بمال وكسوة، فرفض الفتى ذلك في المسجد وقال: انظروا يا معشر المسلمين إلى عثمان! يريد أن يخدعني عن ديني بالرشوة.
وقد سبق لعثمان أن عزل عبد الله بن الأرقم، أو بالأحرى هو استقال لما ادعى عثمان إنه خازن لبيت أهله. وأعطى المفاتيح بعده لزيد بن ثابت. ويروي الواقدي: إن عثمان أمر زيد بن ثابت أن يحمل من بيت مال المسلمين إلى عبد الله بن الأرقم في عقيب هذا الفعل ثلثمائة ألف درهم. فلما أدخل بها عليه، قال له:
يا أبا محمد إن الأمير عثمان أرسل إليك يقول: إنا قد شغلناك عن التجارة، ولك رحم أهل حاجة، ففرق هذا المال فيهم، واستعن به على عيالك.
فقال عبد الله بن الأرقم: ما لي إليه حاجة. وما عملت لأن يثيبني عثمان والله
____________
(133) - مسكويه في التجارب / ص 272 / ج 1.
(134) - نفس المصدر وكذلك ذكره الطبري.
هذه باختصار هي السياسة المالية غير المتوازية التي كان يسلكها عثمان. ففئة يرى تفقيرها بمنع العطاء عنها، وفئة أخرى يرى إغراءها بالأموال. أما أقرباؤه فقد أثبت ملكهم، بأن وسع عليهم توسيعا.
كانت هذه السياسة في مجملها كالسحر إذ ينقلب على الساحر. وكان على بني أمية أن ينقضوا على الحكم كله. فعثمان رجل مهما كان فهو أضعف في رأي الأمويين من معاوية. وسياسة معاوية تقضي بتقتيل المعارضة، وهذا ما رفضه عثمان لأسباب معينة.
كان موقف معاوية أن يقتل المعارضين، فأبى عثمان ذلك، خوفا من استفحال الأزمة. وطلب منه معاوية أن يصطحبه إلى الشام، حيث يدافع عنه برجاله.
فأبى عثمان.
قال معاوية لعثمان غداة ودعه:
(يا أمير المؤمنين، انطلق معي إلى الشام قبل أن يهجم عليك من لا قبل لك به، فإن أهل الشام على الأمر، لم يزولوا).
فرفض عثمان.
فطلب منه أن يبعث إليه جندا منهم يقيمون بين ظهراني أهل المدينة لنائبة إن نابت. فرفض عثمان.
قال له معاوية (والله يا أمير المؤمنين لتقاتلن، ولتغزين).
فقال معاوية: (يا أيسار الجزور، وأين أيسار الجزور! ثم خرج (135).
عرف معاوية أن الأمر يسير هذه الوجهة. فعليه أن يقوي جيشه ليستعد
____________
(135) - تجارب الأمم، وكذا الطبري وفي لفظ هذا الأخير: لتغتالن، ولتغزين.
ليركب (الانتقام) لعثمان من أجل الاستيلاء على الحكم.
مقتل عثمان.. الأسباب والملابسات
ما يحاول أن يكرسه مؤرخة البلاط، هو أن عثمان قتل من قبل خوارج الأمة.
وأن عصابة من السبائية، كاتبت أهل الأمصار للمجئ إلى المدينة حتى ينظروا في ما يريدون.
فماذا عسانا أن نقول؟ أبعد كل ما جرى يكون عثمان مظلوما؟ وهل إذا لم يكن التوزيع الطبقي والعشائري لمال المسلمين، حمل بني أمية على رقاب المسلمين، ظلما، فكيف، ترى يكون الظلم؟ كيف، كيف؟؟!.
الواقع إن (عثمان) قتل في ثورة شعبية عارمة. سببها الفساد الذي بدأ يتهدد المجتمع ووصل في فترة عثمان إلى قمة هرمه. والذين شاركوا في قتل عثمان، ليسوا على كل حالة زنادقة.
ولم يكونوا مجهولين حتى يقال عنهم (مجوسيون) أو (خارجيون) بل كانوا كثيرين إلى درجة يستحيل فيها تجاهلهم. ومن بين أولئك الذين أقاموا الحد الثوري على عثمان ابن أبي بكر، الذي تحول فيما بعد إلى أقرب الناس للإمام علي (ع) وفيهم طلحة والزبير وفيهم محمد بن أبي حذيفة وغيرهم من الصحابة.
إنه ليس في وسع الباحث إلا أن يعترف بهذه الحقيقة من دون التواء. وقد اعترف بها جميعهم. يقول سيد قطب:
(وأخيرا ثارت الثائرة على عثمان، واختلط فيها الحق بالباطل، والخير
وذلك دون إغفال لما كان وراءها من كيد اليهودي ابن سبأ عليه لعنة الله! (136).
الله! الله! يا سيد ما عهدنا عليه هذه السذاجة. إنه مع اعترافه بحقيقة الأوضاع لا يزال متشبثا بأيديولوجية (عبد الله بن سبأ)، وكيف لا يتشبث بها وهو يأخذ كل مسلمات التاريخ الإسلامي المصطنع. إنه يعترف أن الثورة كانت فورة من روح الإسلام. إنه اعترف أيضا رحمه الله -: (مضى عثمان إلى رحمة ربه، وقد خلف الدولة الأموية قائمة بالفعل بفضل ما مكن لها في الأرض، وبخاصة في الشام، وبفضل ما مكن للمبادئ الأموية المجافية لروح الإسلام، من إقامة الملك الوراثي والاستئثار بالمغانم والأموال والمنافع مما أحدث خلخة في الروح الإسلامي العام).
لا بد إذا من استحضار مجريات الثورة، وملابسات المقتل، ومن قتل وكيف ولماذا؟.
إن استحضار المشهد بكليته حري بأن يعطينا فكرة واضحة عن حقيقة الحدث، ذلك الحدث الذي ظل يعرض علينا مجردا من ملابساته، وتحت غمام كثيف من التلفيق والبكاء الأيديولوجي المصحوب بتزييفات ومبررات مشؤومة.
ولكي نكون شجعانا في قراءة التاريخ، والإخلاص للحق والمعرفة لا بد أن ندخل الحدث من باب التاريخ لا من باب الترجمات الأسطورية.
كان أصل الثورة وجوهرها، تغييريا إصلاحيا. بيد أن ركوب الفئات المشبوهة موجة الغضب الجماهيري في الانتقام لمشاريعها الخاصة كان موجودا وسنبدأ بهذه الفئات المشبوهة.
كان عمرو بن العاص، رائد الاتجاه الانتهازي، الذي يتحدد ولاءه بالمصلحة. عمرو بن العاص، ليس من الذين أسلموا طوعا. وقد كان حريصا
____________
(136) - سيد قطب العدالة الاجتماعية في الإسلام / ص 161 / دار الشروق، الطبعة الثامنة.
(إتق الله يا عثمان! فإنك قد ركبت نهابير وركبناها معك، فتب إلى الله نتب معك) فناداه عثمان: (وإنك هناك يا ابن النابغة قملت جبتك منذ عزلتك عن العمل.) فنودي من ناحية أخرى: (أظهر التوبة يا عثمان يكف الناس عنك).
ونودي من ناحية أخرى بمثل ذلك) (137).
غير أن عمرو بن العاص، كان حريصا على علاقته بعثمان. ولما تفرق القوم قال له:
(لا والله يا أمير المؤمنين، لأنت أعز علي من ذلك، ولكن قد علمت أن الناس قد علموا أنك جمعتنا لتستشيرنا، وسيبلغهم قول كل رجل منا. فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي لأقود إليك خيرا، وأدفع عنك شرا) (138).
وبهذه الازدواجية بقي حتى مقتل عثمان، حين جاء يتوسط لعثمان مع الثوار، فنهروه، واتهموه، فول خائبا. وعندما قتل عثمان، ولم تعد المصلحة لعمرو بن العاص في أن يتمسك بشرعية عثمان. خرج إلى منزله بفلسطين، وكان يقول:
والله إني كنت لألقى الراعي فأحرضه على عثمان.. ولما مر به راكب من المدينة وهو مع ابنيه محمد وعبد الله وسلامة بن روح الجذامي فسأله عمرو عن
____________
(137) - مسكويه - تجارب الأمم 384 - ج 8.