تلك الاختلافات إلى يومنا هذا، ولا سيما التعاليم الخاصة حول وجود طبيعة واحدة أو طبيعتين في المسيح.
وقبل الدخول في البحث يجدر الإشارة إلى أنّه ظهر في القرن الرابع الميلادي اتجاهان أو تياران عقائديان في غاية الأهمية، وقد أسهما فيما بعد في بلورة كل التعاليم والتيارات الكرستولوجية، والتيار الأول أو الاتجاه العقائدي الأول هو ما يسمى في الفكر المسيحي عقيدة (الكلمة ـ الجسد) أو (اللوغوس ـ الجسد) ( (logos -arx)، والتيار العقائدي الثاني يدعونه (الكلمة ـ إنسان) أو (اللوغوس ـ إنسان) أو (الكلمة ـ بشر) (logos - verbe) أو logose worde (anthropos) (268).
ويشمل الاتجاه العقائدي الأول ثلاث مجموعات هامة هي:
المجموعة الأولى: وهي مجموعة الآريوسيين: فإنّ الآريوسيين علّموا بأنّ الكلمة قد حل في جسد بدون روح بشرية، فالمسيح هو الكلمة والجسد بدون روح بشرية عاقلة.
المجموعة الثانية: جماعة أبولوناريوس: فهو يعتقد كما أشرنا سابقاً إلى أنّ المسيح مكوّن من الكلمة (اللوغوس) ثم الجسد، والكلمة حلّت محل الروح البشرية في الجسد، وعلّل ذلك بقوله إنّ وجود الروح البشرية في المسيح يسبب صراعاً داخلياً في المسيح ويقلل من لاهوته.
المجموعة الثالثة: وهم معلمو الاسكندرية، أو المدرسة الاسكندرية، وهي لم تنادِ بوضوح وصراحة بعدم وجود روح بشرية في المسيح، بل أهملت الحديث عن الروح البشرية للمسيح، اتخذت الصمت فيما يتعلّق بذلك،واكتفوا بالقول إنّ للمسيح جسد، ولكن لا يمكن وضع كنيسة الاسكندرية وتعاليمها في مصاف تعاليم الآريوسية والأبولونارسية التي صرحت في نفي وجود الروح البشرية في
المسيح(1).
أما الاتجاه والتيار العقائدي الثاني والذي يدعى (الكلمة ـ إنسان) فقد تزعمته كنيسة أنطاكية، وقد علّم أتباع هذه المدرسة بأنّ اللوغوس أو الكلمة تجسد في الإنسان يسوع الناصري، يعني في إنسان كامل التكوين: إنسان مكون من روح بشرية(2).
وقد تزعّمت التيار الأول كنيسة الاسكندرية، التي قادت الفكر المسيحي مدة من الزمن كما هو واضح من خلال البحث السابق، وقد شاطرتها أنطاكية هذه الزعامة، وقالت المدرسة الاسكندرية بطبيعة واحدة متجسدة، أي أنّ هناك اتحاداً حقيقياً بين لاهوت الكلمة وناسوته، وأنّ الإله المتأنس شخص واحد وليس اثنين، وبمعنى آخر أنّه لا يوجد في المسيح إلاّ اللوغوس العامل والجسد المجرد من الروح البشرية، والاثنان يكونان وحدة واحدة، وينفي البعض هذا القول عن الكنيسة الاسكندرية، ويقولون صحيح أنّ آباء الكنيسة الاسكندرية تحدثوا عن لاهوت المسيح أكثر من كلامهم في ناسوته، حتّى أنّهم سمّوا السيدة العذراء مريم "والدة الإله" وأنّها ولدت إلهاً وأنّ الإله ولد وتألّم وصلب، إلاّ أنّهم لا ينكرون الطبيعتين(3).
وأما التيار الثاني فقد تزعمته مدرسة أنطاكية التي ميزت بين لاهوت المسيح وناسوته، وقد ذهب أتباع هذه المدرسة إلى القول بأنّ الكلمة أو اللوغوس تجسد في الإنسان يسوع الناصري، أي إنسان كامل التكوين مكوّن من روح بشرية عاقلة وجسد كامل.
ومن خلال هذين الاتجاهين نشأت السجالات الكرستولوجية حول طبيعة
____________
1- نفس المصدر: 60. 2- نفس المصدر: 62. 3- كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى: 310.
المسيح، وهل له طبيعة واحدة أم طبيعتان، وأسفرت هذه الاختلافات عن حدوث انشقاق دام قرابة خمسة عشر قرناً، أي منذ مجمع خليقدونية عام 451 وإلى النصف الأخير من القرن العشرين حيث أمكن التوفيق بفضل لغة الحوار اللاهوتي بين أصحاب الطبيعة الواحدة والطبيعتين(1).
والآن سنشير إلى التعاليم الخاصة حول حقيقة طبيعة المسيح التي انقسم أتباعها إلى مذهبين ومدرستين وهما:
أولا: عقيدة الطبيعة الواحدة:
لقد اتّبعت كنيسة الاسكندرية تعليم الطبيعة الواحدة (christologie unitaire)، وبحسب مفهوم المدرسة الاسكندرية فإنّه ليس في المسيح إلاّ طبيعة واحدة وأقنوم واحد، طبيعة الابن المتجسد(2).
ولكي نقف على حقيقة ما تقوله كنيسة الاسكندرية حول الطبيعة الواحدة للمسيح، نذكر ما كتبه البابا شنودة الثالث باب الاسكندرية في وقتنا الحاضر حول هذه المسألة المهمة جداً في كتابه "طبيعة المسيح" إذ يقول البابا:
"السيد المسيح هو الإله الكلمة المتجسد، له لاهوت كامل، وناسوت كامل، ولاهوته متحد بناسوته بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير اتحاداً كاملا اقنومياً جوهرياً تعجز اللغة أن تعبر عنه.
وهذا الاتحاد دائم لا ينفصل مطلقاً ولا يفترق، نقول عنه في القداس الإلهي "إنّ لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين"(3).
____________
1- المسيحية عبر تأريخها في المشرق: 193. 2- تأريخ الفكر المسيحي 2 : 65. 3- طبيعة المسيح الباب شنودة الثالث: 7.
ويضيف البابا عن كيفية هذا الاتحاد بقوله: الطبيعة اللاهوتية (الله الكلمة) اتحدت بالطبيعة الناسوتية التي أخذها الكلمة (اللوغوس) من العذراء مريم بعمل الروح القدس، فالروح القدس طهر وقدّس مستودع العذراء طهارة كاملة حتّى لا يرث المولود منها شيئاً من الخطيئة الأصلية، وكون من دمائها جسداً اتحد به ابن الله الوحيد، وقد تم هذا الاتحاد منذ اللحظة الأولى للحبل المقدّس في رحم السيدة العذراء.
وباتحاد الطبيعتين الإلهية والبشرية داخل رحم السيدة العذراء تكونت منهما طبيعة واحدة هي طبيعة الله الكلمة المتجسد(1).
وأما عن تعبير أصحاب الطبيعة الواحدة (monophysites) فيقول:
بعد الشقاق الذي حدث سنة 451 م حيث رفضنا مجمع خلقيدونية وتحديداته اللاهوتية، عُرفنا بأصحاب الطبيعة الواحدة (monophysites) الذي أسي فهمه عن قصد أو غير قصد خلال فترات التأريخ، فاضطهدت هذه الكنيسة اضطهادات مروعة بسبب اعتقادها.
وعبارة "الطبيعة الواحدة" المقصود بها ليس الطبيعة اللاهوتية وحدها، ولا الطبيعة البشرية وحدها، إنّما اتحاد هاتين الطبيعتين في طبيعة واحدة هي "طبيعة الكلمة المتجسد"(2).
ولكن يبقى السؤال المهم هنا وهو: ما هي طبيعة هذا الاتحاد بين اللاهوت والناسوت؟ وكيف يمكن أن تتحد الطبيعتان فتصبح واحدة مع مغايرة طبيعة اللاهوت لطبيعة الناسوت؟
ويجيب البابا شنودة عن ذلك بقوله:
____________
1- نفس المصدر: 7. 2- نفس المصدر: 9.
"المقصود (من طبيعة الاتحاد) أنّ وحدة الطبيعة هي وحدة حقيقية، فهي ليست اختلاطاً مثل اختلاط القمح بالشعير، ولا امتزاجاً مثل مزج الخمر بالماء، كما لم يحدث تغيير (في الطبيعتين) مثل الذي يحدث في المركبات، فمثلا ثاني أوكسيد الكربون فيه كربون وأوكسجين، وقد تغير طبع كل منهما في هذا الاتحاد وفقد خاصيته التي كانت تميزه قبل الاتحاد، بينما لم يحدث تغيير في اللاهوت ولا في الناسوت باتحادهما، وكذلك تمت الوحدة بين الطبيعتين بغير استحالة، فما استحال اللاهوت إلى الناسوت، ولا استحال الناسوت إلى لاهوت"(1).
ويضرب بعض الأمثلة حول هذا النوع من الاتحاد فيقول: مثال اتحاد الحديد والنار، ففي حالة الحديد المحمى بالنار، لا نقول هناك طبيعتان: حديد ونار، إنّما نقول حديد محمى بالنار، فلا توجد هناك استحالة، فلا الحديد يستحيل إلى النار، ولا النار تستحيل إلى حديد، ولكنهما يتحدان معاً بغير اختلاط ولا امتزاج، كذلك نقول عن طبيعة السيد المسيح، إله متأنس، أو إله متجسد، ولا نقول إنه اثنان إله وإنسان، وهي طبيعة واحدة (طبيعة الكلمة المتجسدة) ولها كل خواص اللاهوت وخواص الناسوت.
وأيضاً هناك مثال اتحاد النفس والجسد فيقول: "في هذا المثال تتحد طبيعة النفس الروحانية، بطبيعة الجسد المادية الترابية، ويتكون من هذا الاتحاد طبيعة واحدة هي الطبيعة البشرية، وهذه الطبيعة ليست الجسد وحده، ولا النفس وحدها، وإنما هما الاثنان معاً متحدين بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير ولا استحالة، فما استحالت النفس إلى جسد، ولا الجسد إلى نفس، ومع ذلك صار الاثنان واحداً في الجوهر وفي الطبيعة، فإن كنا نقبل مثال اتحاد النفس والجسد في طبيعة واحدة، فلماذا لا نقبل اتحاد اللاهوت والناسوت
____________
1- نفس المصدر: 11.
في طبيعة واحدة؟!"(1).
وأما بخصوص مسألة المغايرة بين الطبيعتين اللاهوتية والناسوتية والاتحاد بينهما فيقول: "إنّ طبيعة النفس هي كذلك مغايرة لطبيعة الجسد، وقد اتحدت معه في طبيعة واحدة هي الطبيعة الإنسانية، ومع أنّ الإنسان تكون من هاتين الطبيعتين، إلاّ أنّنا لا نقول عنه مطلقاً أنه اثنان، بل إنسان واحد، وكل أعماله ننسبها إلى هذه الطبيعة الواحدة، كذلك نقول عن الطبيعة اللاهوتية والناسوتية، وكل ما كان يفعله المسيح كان ينسب إليه كله، وليس إلى لاهوته وحده أو إلى ناسوته وحده"(2).
ويبقى هناك سؤال أخير بالغ الأهمية موجه إلى القائلين بالتجسد عامة، سواء قالوا بالطبيعة الواحدة أو الطبيعتين وهو: هل يمكن اتحاد الإله اللامتناهي مع موجود متناهي أم هو أمر مستحيل؟
وللإجابة على هذا السؤال يقول البابا شنودة: "إنّ هذه الوحدة بين الطبيعة الإلهية والطبيعة الناسوتية أمر ممكن، وإلاّ ما كان ممكن أن تتم (!!) أنها أمر كان في علم الله منذ الأزل" ويضيف قائلا: "إنّ أحد الآباء فيما تأمل في قول الكتاب ما لم تره عين ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر، ما أعده الله للذين يحبونه" (اكو 2 : 9) وهي عبارة تقال عن النعيم الابدي... هذا الأب قال: هذا الذي لم يخطر على قلب بشر، أن يصير الله إنساناً ويصلب ويموت لأجلنا، لكي يفتدينا ويشترينا بدمه.
وقال أب آخر: "إنّ حضور الله في خليقته يكون بثلاثة أنواع: إما حضور عام بحكم وجوده الإلهي في كل مكان، أو حضور بنعمته في قديسيه، أما النوع الثالث الفريد الذي لم يحدث سوى مرة واحدة، فهو وحدته باقنومه في المسيح، حينما اتحدت طبيعته الإلهية
____________
1- طبيعة المسيح: 13. 2- نفس المصدر: 14.
بطبيعة بشرية في رحم العذراء"(1).
فهذه هي تعاليم الطبيعة الواحدة الخاصة بالمسيح، وسنشير إليها لاحقاً عند الحديث عن المواجهة بين الأسقفين الخصمين: كيرلس الاسكندري (القائل بالطبيعة الواحدة) ونسطور القسطنطيني (القائل بالطبيعتين) وانعقاد مجمع افسس سنة 431 ميلادي.
ثانياً: عقيدة الطبيعتين ( christologie dualiste)
قد تزعمت ـ كما ذكرنا ـ كنيسة أنطاكية هذا التعليم الكرستولوجي، وقد اتبع معلمو هذه المدرسة التيار العقائدي الذي يدعى (اللوغوس ـ انثروبوس، أي اللوغوس ـ إنسان) (logos - anthropos)، إذ أنّ المدرسة الأنطاكية ترى في شخص المسيح إنساناً كاملا، فهو جسد وروح بشريان ثم اللوغوس، وقد شدد آباء الكنيسة في أنطاكية على وجود طبيعتين للمسيح، الطبيعة البشرية (الناسوت) والطبيعة الإلهية (اللاهوت)، فالتجسد هو تجسد الله في إنسان كامل التكوين وهو المسيح،وهاتان الطبيعتان متميزتان الواحدة عن الأخرى، فالمسيح هو ابن الله وابن الإنسان، فالذي كان يعمل المعجزات والآيات هو الله، والذي كان يتألم ويجوع ويعطش ويموت هو الإنسان يسوع الناصري، ولذلك فقد رفض بعض معلمي أنطاكية القول "أنّ الله وُلِدَ من مريم العذراء أو كان طفلا أو تألم أو مات، بل قالوا بأنّ مريم هي أم يسوع الإنسان، فالذي كان طفلا أو تألم أو مات هو يسوع وليس الله"(2).
ويعتبر البعض أنّ الذي دفع بالكنيسة الأنطاكية إلى اتخاذ هذا النوع من التعليم هو رغبتها في مقاومة تعاليم الاسكندرية القائلة بوجود طبيعة واحدة للمسيح،
____________
1- طبيعة المسيح: 18. 2- تأريخ الفكر المسيحي 2 : 66.
وخشيت أن يؤدي هذا القول إلى إنكار الطبيعة الإنسانية البشرية في المسيح، ولا سيما تعاليم أبوليناريوس التي كانت تنادي بعدم وجود روح بشرية في المسيح، وقد كان لكل من التيارين أتباع وأنصار، فالتيار الأول كان أتباعه هم معلمو المدرسة الاسكندرية، والتيار الثاني أنصاره آباء مدرسة أنطاكية، ولكن الذي قاد الاتجاهين في بداية القرن الخامس هما: كيرلس الاسكندري، ونسطور القسطنطيني، وقد اشتد النزاع بينهما مما دفع الامبراطور ثيودوسيوس الثاني إلى طلب انعقاد مجمع تكون كل الكنائس والأقاليم ممثلة فيه، فكان مجمع أفسس سنة 431 ميلادي، وقبل الإشارة إلى هذا المجمع يجدر بنا أن نتحدّث باختصار عن بعض الآباء الذين وقفوا ضد تعاليم أبولوناريوس، ونخص بالذكر منهم ديودوريوس الطرسوسي وثيودورس المصِّيصي.
ثالثاً: ديودورس الطرسوسي ( diodore of tarsus)
أصبح أسقفاً على مدينة طرسوس سنة 378 م، وقد حضر المجمع المسكوني الثاني سنة 381 م،لقب فيه بلقب بطل الإيمان، ولكن بعد ظهور النسطورية ومعارضة كيرلس لها، اعتقد هذا الأخير بأنّ جذور النسطورية ترجع إلى ديودوريوس الطرسوسي، وقد أصدر مجمع القسطنطينية سنة 499 كلمات ضد تعاليمه(1).
ويعتقد ديودورس أنّ اللاهوت سوف يُنتقص إذا كوّن الكلمة والجسد اتحاداً جوهرياً (substial) أو أقنومياً مشابهاً لذاك الذي ينتج عن اتحاد الجسد والنفس العاقلة في الإنسان، ولذلك رفض هذا النوع من الاتحاد، وقد دفعه هذا الرفض لهذه الفكرة إلى الفصل بين اللاهوت والناسوت، وهذا الفصل بدوره أوصله إلى التمييز بين ابن الله وابن داود، وقال: "إنّ الكتب المقدسة تضع حداً فاصلا بين أفعال الابنين،
____________
1- تأريخ الفكر المسيحي 2 : 74.
فلماذا يحصل من يجدفون على ابن الإنسان على الغفران، بينما من يجدفون على الروح (الروح القدس) لا يحصلون على الغفران؟"(1).
وعلى أساس هذا الفصل والتمييز بين ابن الله وابن داود، فإنّه رفض بشدة أن يقال عن مريم أم يسوع بأنّها (والدة الله أو الكلمة اللوغوس) فهي لم تلد إلاّ الإنسان المسيح بن داود، ولمحاربته الهرطقة الابولونارسية عن الطبيعة الواحدة، قال: إنّ عملية التجسد هي اتحاد ابن الله مع ابن داود، ولكن على أن يبقى كل واحد من هذين الابنين محتفظاً بخواصه ومميزاته(2).
رابعاً: ثيودوريوس (المصِّيصي): ( theodore of mopsueste)
ولد سنة 350 م في أنطاكية مثل معلمه الأسقف ديودورس الطرسوسيي، وقد نُصب أسقفاً لمدينة موبسيوست سنة 392 م،وبقي لمدة 36 سنة أسقفاً في هذه المدينة إلى وفاته سنة 428 م، وهو الآخر كان في حياته يحظى بسلطان واحترام عظيم، ولكن بعد وفاته وتحديداً سنة 553 في مجمع قسطنطينية الثالث أصدر حكماً ضد تعاليمه وحرمانه(3).
وقد فصل هو الآخر بطريقة واضحة وصريحة بين اللاهوت والناسوت، فالمسيح إله كامل وإنسان كامل، ويعتقد (أنّ الله اتخذ إنساناً كاملا تاماً يستخدمه كأداة لخلاص البشرية، والله قد سكن في هذا الإنسان بالإرادة الصالحة، وقد اتحد به اتحاداً خارجياً فقط، وقد استخدم عبارة اتصال "conjoining" بدلا من كلمة اتحاد (union)، وبهذا فقد جعل في المسيح شخصين أحدهما إلهي والآخر إنساني، وقد كوّنا
____________
1- المسيحية عبر تاريخها في المشرق: 195. 2- تأريخ الفكر المسيحي 2 : 86. 3- نفس المصدر: 91.
معاً شخصاً واحداً هو شخص الاتحاد (الاتحاد الخارجي) مشبهاً إياها باتحاد الرجل بالمرأة"(1).
فهذا باختصار تعاليم ديودورس وثيودورس حول طبيعة المسيح والتي ستتجلى بشكل أوضح وأتمّ في تعاليم تلميذهم نسطوريوس كما سنرى.
خامساً: نسطوريوس (nestorius): )
ولد في الربع الأخير من القرن الرابع، ويقال من أبوين سوريين أو فارسيين، وقد درس العلوم ومبادئها في مسقط رأسه (مرعش)،ثم انتقل إلى أنطاكية حيث أخذ العلوم الدينية عن ثيودوروس الموبسوستي، والتحق بدير أبربيوس (euprepius) في ضواحي أنطاكية، ثم نصّب كاهناً وفي سنة 428 اختير رئيس أساقفة القسطنطينية، وقد خاطب الامبراطور في يوم تتويجه قائلا: "أعطني بلاداً خالية من الهرطقة أقدم لك السموات بديلة، واستأصل الهراطقة لنا نستأصل الفرس معك"(2).
وقد كان نسطوريوس مندفعاً في الإيمان فأصدر أمراً بإغلاق كنيسة الآريوسيين في القسطنطينية في الأسبوع الأول من رئاسته في محاولة منه لاستئصال جذور الانحراف في الكنيسة.
وقد ظهر في رئاسته مشكلة عقائدية جديدة لم تكن مطروحة إلى ذلك الوقت بصورة واسعة وجدية، وهي عقيدة "والدة الإله" أي أم الله وهو لقب للعذراء مريم، والمؤرخون المسيحيون يرون أنّ نسطوريوس عندما جاء إلى القسطنطينية أحضر معه شماساً يدعى "أناستاسيوس" وكلفه بمهمة الوعظ والتعليم، بل اعتبره المستشار الشخصي له في كثير من الأمور، وفي يوم من الأيام قام أناستاسيوس بإلقاء عظة عن
____________
1- المسيحية عبر تأريخها في المشرق: 196. 2- كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى 1 : 308.
أمومة العذراء مريم لله، وقال: "لا يجب أن ندعو مريم أماً له (ثيوتوكوس theotokos) لأنّها بشر، ومن المستحيل أن يولد الله من مخلوق بشري"(1).
وقد أيّد نسطور هذه الفكرة بل ودافع عنها، وكان يعتقد أنّ هذا الاصطلاح "والدة الله" لم يرد في الأسفار المقدسة وأنّ الآباء لم يستعملوه في نيقية، وظهر هنا حزبان: حزب يرفض آراء أناستاسيوس وقد أصرّوا على اللقب "والدة الإله" للعذراء مريم، وآخر رفض هذا اللقب وقال بأنّها مجرد "والدة إنسان"، وعرضت المشكلة على نسطور، فرأى في الاصطلاح "والدة الإله" خلطاً بين اللاهوت والناسوت، فاقترح عبارة ولقب يرضي الطرفين، فقال بلقب "والدة المسيح"، معتقداً بأنّ هذا اللقب سوف يحل هذه المشكلة المعقدة، وقد ألقى الكثير من العظات شارحاً لهذه العقيدة المريمية، ففي إحدى خطبه قال: "إنّهم يسألون إن كان من الممكن أن تدعى مريم والدة الإله، لكن هل لله أم إذاً؟ في هذه الحالة يجب أن نعذر الوثنية التي تكلمت عن أمّهات للآلهة، لكن بولس لم يكن كاذباً حين قال عن لاهوت المسيح (عب 7 : 3) أنه بلا أب، بلا أم، بلا نسب.
لا يا أصدقائي، لم تحمل مريم الله... المخلوق لم يحمل الخالق، إنّما حملت الإنسان الذي هو أداة اللاهوت، لم يضع الروح القدس الكلمة، لكنه أمدَّه من العذراء المطوبة، بهيكل حتّى يمكنه سكناه... أنا أكرّم هذه الحلة التي استفاد منها، من أجل ذاك الذي احتجب في داخلها ولم ينفصل عنها... أنا أفرِّق الطبائع وأوحد التوقير.
تبصر في هذا الكلام، فإنّ ذاك الذي تشكل في رحم مريم لم يكن الله نفسه لكن الله اتخذه..."(2).
ومنذ ظهور تعاليم نسطور بدأ الصراع بينه وبين كيرلس رئيس أساقفة الاسكندرية، وقد يبدو للوهلة الأولى أنّ الصراع العقائدي بين نسطور ومعارضيه
____________
1- تأريخ الفكر المسيحي 2 : 161. 2- المسيحية عبر تأريخها في المشرق: 197.
كان بسبب رفضه لقب "والدة الإله"، ولكن الحقيقة أنّ هذه المسألة لم تكن إلاّ واحدة من المشاكل العقائدية الكرستولوجية المعقدة، فقد ذهب نسطور إلى القول بوجود طبيعتين في شخص المسيح، وهما طبيعتان متميزتان الواحدة عن الأخرى، الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية، ويضيف بأنّ الكتاب عندما يتحدث عن الميلاد، أو الآلام والموت، أو العطش والجوع فهو يشير إلى ناسوت المسيح وطبيعته البشرية، وعندما يتحدث عن المعجزات والقيامة وغيرها فإنّه يشير إلى لاهوت المسيح وطبيعته الإلهية.
ومن الكلمات التي أثارت غضب أسقف الاسكندرية كيرلس وأعلن ثورته العلنية المعارضة لتعاليم نسطور هذه الجملة "إنّ مريم لم تلد اللاهوت... ولا يمكن أن أعبد إلهاً قد مات ودفن"(1).
فهو يرفض اتحاد اللاهوت والناسوت في شخص المسيح، ويعتقد أنّ اللاهوت حلَّ فقط في الناسوت، أي أنّ الكلمة (اللوغوس) حلّ في الإنسان يسوع المسيح واتحد به اتحاداً مشابهاً لحلول الروح القدس في المؤمن، ولذلك لا يمتاز المسيح عن الذين حلّ فيهم روح الله إلاّ في كونه قد حصل على كمال اللاهوت الذي حلّ فيه، فشخصية المسيح بشرية محضة تحت تسلط اللاهوت الذي له منزلة شخصية أخرى مستقلة(2).
والظاهر أنّ نسطور يؤمن بالاتحاد بين اللاهوت والناسوت في شخص المسيح، ولكن هذا الاتحاد هو اتحاد خارجي فقط في الصورة، لا اتحاد حقيقي، وهناك نصوص منسوبة إلى نسطور في كتاب منسوب إليه باسم (بازار هيراقليدس bazar of
____________
1- تأريخ الفكر المسيحي 2 : 187. 2- نظام التعليم في علم اللاهوت القويم 1 : 204.
heracleides)(1) تبين بوضوح اعتقاده في المسيح وطبيعته وكيفية الاتحاد ومنها:
1 ـ هما شخصان (الكلمة والإنسان) (two prosopa): شخص ذاك الذي ألبَس وشخص (الآخر) الذي لَبس.
2 ـ لذلك فإنّ صورة الله هي التعبير التام عن الله في الإنسان، فصورة الله المفهومة من هذا المنطلق يمكن أن نظنها الشخص الإلهي، الله سكن في المسيح وكشف ذاته للبشر من خلاله، من أنّ الشخصين هما في الحقيقة (صورة واحدة) لله.
3 ـ يجب أن لا ننسى أنّ الطبيعتين تستلزمان أقنومين وشخصين متّحدين فيه بفرض بسيط (simple loan)(292).
سادساً: المواجهة بين كيرلس ونسطور:
كان كيرلّس أسقفاً للاسكندرية من سنة 412 ميلادي، وقد أحس بخطر تعاليم نسطور على العقيدة المسيحية، ولا سيما أنّ تعاليم نسطور بدأت تنتشر سريعاً في مختلف المناطق حتّى وصلت إلى رهبان مصر (الاسكندرية)، ولهذا فقد أرسل كيرلّس خطاباً عقائدياً إلى هؤلاء الرهبان، وقد فنّد فيها تعاليم نسطور من دون ذكر اسمه مكتفياً باقتباس بعض فقرات عظاته التي نشرها، وقد انتشرت هذه الرسالة مع أنّها كتبت إلى رهبان مصر في خارج مصر،حتّى وصلت إلى نسطور نفسه، فغضب وانزعج نسطور من هذه التعاليم المخالفة لتعاليمه، ويقال إنّ عظته رقم (10) كانت عبارة عن ردّ عنيف على الرسالة العقائدية التي بعثها كيرلس لرهبانه في مصر، وقد استخدم فيها بعض العبارات العنيفة والجارحة لأسقف الاسكندرية(2).
ولم ينتهِ الأمر إلى هذا الحد فقد كتب كيرلّس رسالة أخرى في سنة 429 إلى
____________
1- المسيحية عبر تأريخها في المشرق: 199. 2- تأريخ الفكر المسيحي 2 : 204.
نسطور مباشرة، ولكن نسطور لم يعلق بشي على هذه الرسالة إلاّ بعبارة قصيرة تفهم كيرلّس بأنّه قد تلقى رسالته، واعتبر كيرلّس هذا الصمت وعدم الرد إهانة له(1).
وقد بعث كيرلس برسالة ثانية إلى نسطور وهي مشهورة في تاريخ العقائد، ويقال إنّه كتبها سنة 430 يحدد فيها العقيدة المسيحية الصحيحة حول شخصية المسيح فيقول بعد مقدمة طويلة: "الكلمة لم تصر جسداً بطريقة تجعل طبيعة الله تتغير أو تتحول، بل إنّ اللوغوس اتحد اقنومياً مع الجسد المتحرك بالنفس العاقلة، وهكذا صار إنساناً بطريقة يتعذر تفسيرها.
إنّ الطبيعتين المتميزتين قد اتحدتا في اتحاد حقيقي، ولكنه لم يخفِ (يلاشيء) الاختلاف في الطبيعتين، فاللوغوس اتحد مع الطبيعة البشرية في رحم مريم، وهكذا ولد بعد أن أخذ جسداً، وهكذا أيضاً تألم، وحيث إنّ اللوغوس في نفسه غير قابل للألم، فقد احتمل هذا في الجسد الذي اتخذه"(2).
وقد رفض نسطور هذه التعاليم، ولكنه هذه المرة أجاب على رسالة كيرلس برسالة وضّح فيها تعاليمه حول شخصية المسيح فقال: "ينبغي ألاّ نقول إنّ الله وُلد وتألم، أو أنّ مريم كانت والدة الإله، لأن ذلك يعتبر تعليماً وثنياً، فعندما يتكلم الإنجيل عن موت المسيح لا يقصد به موت اللاهوت أو الله، لأنّ لفظ المسيح يعني اللاهوت والناسوت، فهو إذن قابل للموت وغير قابل للموت، فلاهوته غير قابل للموت، ولكن ناسوته قابل للآلام والموت، وعندما يتكلم الإنجيل عن التجسد، فإنّه ينسب الميلاد للناسوت دون اللاهوت، ولذا يجب أن ندعو العذراء مريم القديسة أم المسيح لا أم الله"(3).
____________
1- نفس المصدر: 205. 2- المسيحية عبر تأريخها في المشرق: 200. 3- تأريخ الفكر المسيحي 2 : 207.
سابعاً: مجمع روما (430):
عندما كتب كيرلّس رسالة إلى بابا روما كيلستين يوضح فيها هرطقة نسطور، وكتب نسطور أيضاً إلى البابا رسالته توضح تعاليمه ويثبت فيها براءته،قرر البابا عقد مجمع في روما وذلك سنة(1) ميلادي، وقد حكم المجمع على تعاليم نسطور وطلب منه تحت التهديد أن يبدّل عقيدته وينكر أفكاره، ومنح مدة عشرة أيام للرجوع عن انحرافاته وذلك باعتراف مكتوب، وكانت هذه الرسالة التي أرسلت إلى نسطور شديدة اللهجة لاذعة النقد، وقد أرسل البابا تفويضاً لكيرلّس في إصدار حكم علني ضد نسطور، وقد فرح كيرلّس أسقف الاسكندرية بهذا الحكم، وقد جمع أساقفة الاسكندرية في مجمع سنة (430) للنظر في قرارات مجمع روما، وقد اقترح على المجتمعين اثني عشر حرماناً ضد نسطور وتعاليمه، وعندما أرسل كيرلّس رأي بابا روما حول تعاليمه أضاف إليها رسالة عقائدية طويلة وختمها باثني عشرة حرماناً (هي تلخيص لتلك الرسالة العقائدية) وطلب من نسطور التوقيع على هذه الحرمانات(2).
لقد رفض نسطور بشدة هذه العقائد والحرمانات، وكتب للإجابة عليها هو الآخر اثنا عشر حرماناً يوضح فيها تعاليمه وعقائده (يعتقد البعض أنّ الكاتب لهذه الحرمانات لم يكن نسطور بل هو أحد تلامذته) ويتهم فيها كيرلّس بالهرطقة.
وتعتبر هذه البنود الاثنى عشر ملخص لكل التعاليم الكرستولوجية حول حقيقة المسيح إلى ذلك الوقت، بل الأساس للعقيدة المسيحية إلى يومنا هذا، ولأهميتها الكبيرة سنذكرها باختصار حسب ما جاء في كتاب "مجموعة الشرع الكنسي" وهي:
____________
1- 430 ـ في هذه الآية لم تجعل مسألة "معرفة الله والإيمان به" فقط أمراً فطرياً بل وصف الدين بأصوله الاساسية بكونه فطرياً جبلياً. مفاهيم القرآن 1 :47. 2- تأريخ الفكر المسيحي 2 : 220.
ابسالات (تحريمات) كيرلّس:ابسالات (تحريمات) نسطوريوس:
1 ـ ليكن مبسلا كل من لا يعترف أنّ عمانوئيل هو إله حق، وأنّ العذراء القديسة هي لذلك والدة الإله لأنّها بحسب الجسد، ولدت كلمة الله الذي صار جسداً كما كتب "والكلمة صار جسداً"، (يوحنا: 1 : 14).
2 ـ ليكن مبسلا كل من لا يعترف أنّ كلمة الله الأب متحد أقنوميا بالجسد، وأنه بذلك الجسد خاصته هو نفسه المسيح الواحد الإله والإنسان معاً في الوقت نفسه.
3 ـ ليكن مبسلا كل من يقسّم الطبيعتين في المسيح بعد اتحادهما، ويجعل اتحادهما ارتباطاً لا غير من جهة الاستحقاق أو السلطة أو القوة لا اتحاداً طبيعياً.
1 ـ ليكن مبسلا كل من يقول أنّ عمانوئيل هو إله حق وليس (الله معنا) فحسب، أعني أنه وحّد بين ذاته وطبيعة مشابهة لطبيعتنا وهي التي اتخذها من العذراء مريم وسكن فيها وكل من يدعو مريم والدة الإله الكلمة وليس والدة الذي هو عمانوئيل، أو كل من يدعي أنّ الله الكلمة قد غيّر نفسه إلى جسد وهو الذي اتخذه ليجعل لاهوته منظوراً على شكل إنسان أو شبهه.
2 ـ فليكن مبسلا كل من يؤكد أنه في اتحاد الكلمة بالجسد انتقل الجوهر الإلهي من مكان إلى آخر، أو يقول أنّ الجسد يمكن أن يقبل الطبيعة الإلهية، وأنها اتحدت اتحاداً جزئياً بالجسد، وكل من ينسب إلى الجسد بقبول الله امتداداً إلى غير المحدود وغير المحصور، ويقول إنّ الله والإنسان هما واحد من طبيعة واحدة.
3 ـ ليكن مبسلا كل من يقول إنّ المسيح الذي هو عمانوئيل هو واحد ليس بالارتباط فحسب بل بالطبع أيضاً، وكل من لا يعترف أن اجتماع الطبيعتين: طبيعة .
4 ـ ليكن مبسلا كل من يفرّق بين الشخصين
أو الجوهرين في العبارات الواردة في الكتابات الإنجيلية والرسولية أو في أقوال القديسين فيما يختص بالمسيح أو في أقواله هو نفسه فيعزون بعضها إليه كأنه
إنسان منفصل عن كلمة الله وينسبون بعضها الآخر إلى كلمة الله الأب باعتبار أنّها لا تليق إلاّ بالله.
5 ـ ليكن مبسلا كل من يتجاسر فيقول إنّ المسيح هو إنسان متوشح بالله وليس هو الله حقاً حسب كونه الابن الوحيد بالطبيعة، لأنّ الكلمة صار جسداً واشترك مثلنا باللحم والدم.
6 ـ ليكن مبسلا كل من يتجاسر فيقول إنّ كلمة الله الأب هو إله المسيح أو رب المسيح ويأبى أن يعترف به أنه هو نفسه إله وإنسان معاً حسب ما جاء في الكتاب المقدّس: "الكلمة صار جسداً".
7 ـ ليكن مبسلا كل من يقول إن يسوع كإنسان إنّما يستمد القوة والحركة من كلمة الله وإن مجد الابن الوحيد ـ وإن نسب إليه ـ الكلمة وطبيعة الناسوت في الابن الواحد لا يزال اجتماعاً بدون امتزاج.
4 ـ ليكن مبسلا كل من ينسب العبارات الواردة في الأناجيل ورسائل الرسل المشيرة إلى طبيعتي المسيح إلى إحدى هاتين الطبيعتين فقط، وكل من ينسب الألم إلى الكلمة الإلهي في الجسد واللاهوت معاً.
5 ـ ليكن مبسلا كل من يجترى قائلا أنّه ليس هناك ـ حتّى بعد اتخاذ الطبيعة البشرية ـ إلاّ ابن واحد لله، أعني الذي هو هكذا بالطبيعة، الكلمة، في حين إنه منذ اتخاذه جسداً هو في الحقيقة عمانوئيل.
6 ـ ليكن مبسلا كل من يجسر بعد التجسد أن يدعو أحداً آخر غير المسيح الكلمة، وكل من يتجاسر فيقول إنّ الخادم مساو لكلمة الله لا ابتداء له وهو غير مخلوق، ولا يقول إنّه قد أبدعه ربه وخالقه وإلهه الذي وعد بأن يقيمه من الموت بهذه الكلمات: "اهدموا هذا الهيكل فأبنيه في ثلاثة أيام".
7 ـ ليكن مبسلا كل من يقول إنّ الإنسان الذي ولدته العذراء هو الابن الوحيد
الذي ولد في حضن الأب "قبل كوكب الصبح ليس هو من خواصه".
8 ـ ليكن مبسلا كل من يتجاسر فيقول إنّ الجسد المتخذ يجب أن يُعبد مع الله الكلمة ويُمجّد معه ويُعتبر وإياه معاً أنه الله ومع ذلك فهما شيئان يختلف أحدهما عن الآخر، ولا يقدم عبادة واحدة وتمجيداً واحداً لعمانوئيل إذ قد كتب "الكلمة صار جسداً".
9 ـ ليكن مبسلا كل من يقول إنّ الرب الواحد يسوع المسيح قد تمجد بالروح القدس بحيث إنّه اتخذ منه قوة لم تكن قوته الخاصة واستخدمها ضد الأرواح النجسة وصنع بها العجائب أمام الناس ولا يعترف أنه بروحه الخاصة اجترح هذه الآيات الإلهية.
10 ـ ليكن مبسلا كل من يقول إنّه ليس الكلمة الإلهية نفسه الذي تجسد وصار إنساناً على شبهنا بل هو ذلك الإنسان الآخر المولود من امرأة، ولكنه يختلف عن باقي الناس وقد صار رئيس كهنتنا العظيم ورسولنا، وكل من يقول بأنّه قدم نفسه ولدتك" (مز 109 : 3) ولا يعترف بأنه اتخذ هذا اللقب "الابن الوحيد" لعلاقته مع الذي هو بحسب الطبع "ابن الله الوحيد" وكل من يدعوه باسم آخر غير المسيح عمانوئيل.
8 ـ ليكن مبسلا كل من يقول إنّ شكل الخادم يجب له، لذاته أي بحسب طبيعته الخاصة السجود، وأنه سيد كل الكائنات
وأن ذلك ليس لمجرد علاقته بالقدوس الذي هو بحد نفسه طبيعة الابن الوحيد السائد على كل الكائنات ويجب له السجود.
9 ـ ليكن مبسلا كل من يقول إنّ شكل الخادم هو من طبيعة مشابهة لطبيعة الروح القدس، وأنه ليس مديناً بالأحرى لوساطته في اتحاده منذ الحبل بالكلمة وأنه به يجترح عجائب الشفاء بين الناس ويحصل على قوة لطرد الشياطين.
10 ـ ليكن مبسلا كل من يدّعي أنّ الكلمة الذي صار منذ البدء رئيس كهنة ورسول إيماننا وقدم نفسه لأجلنا ولا يقول بالأحرى أنّ عمل عمانوئيل هو أن يكون رسولا، وكل من بمثل هذه الطريقة يقسم الذبيحة بين الذي اتحد (الكلمة) والذي ضحية عن نفسه أيضاً لا ضحية عنا وحدنا لأنّه وهو بدون خطيئة لم يكن بحاجة إلى تقدمة أو ذبيحة.
11 ـ ليكن مبسلا كل من لا يعترف أن جسد الرب يعطي الحياة وأنه يخص كلمة الله الأب، بل يدّعي أنّ هذا الجسد هو لشخص آخر متحد معه (أي مع الكلمة) بالكرامة فحسب، وأنه قد اتخذ مسكناً للاهوت ولا يعترف بالأخرى كما نعترف نحن أنّ الجسد يعطي الحياة لأنّه جسد الكلمة الذي يعطي الحياة للكل.
12 ـ ليكن مبسلا كل من لا يعترف أنّ كلمة الله تألم بالجسد، وصلب بالجسد، وبالجسد نفسه على هذه الصورة ذاق الموت وصار باكورة الناهضين من الأموات، لأنّه هو إله، هو الحياة وهو المحيي.
أُتّحد به (الناسوت) مشيراً بذلك إلى بنوّة عامة أعني أنه لا يعطي لله ما هو لله وللإنسان ما هو للإنسان.
11 ـ ليكن مبسلا كل من يقول بأنّ الجسد المتحد مع الله الكلمة هو بقوة طبيعته الخاصة يعطي الحياة في حين أنّ الرب نفسه يقول: "إنّ الروح هو الذي يحيي وأما اللحم فلا يفيد شيئاً"، (يوحنا 6 : 64) إضافة "الله روح" (يو 4 : 24) فإذن فليكن مبسلا كل من يقول إن الله الكلمة بطريقة بشرية صار بجوهره جسداً ويصرّ على هذا القول بالنسبة إلى الرب المسيح، وهو نفسه قال لتلاميذه بعد قيامته "جسوني وانظروا لأنّ الروح لا لحم له ولا عظم كما ترون لي"، (لو 24 : 39).
12 ـ ليكن مبسلا كل من يعترف بآلام الجسد وينسب هذه الآلام إلى كلمة الله
كأنّه ينسبها إلى الجسد الذي ظهر فيه وهكذا لا يميز بين كرامة كل من الطبيعتين(1) .
ثامناً: مجمع أفسس(431) :
وهو المجمع المسكوني الثالث وقد عقد بأمر من الامبراطور ثيودوسيوس الثاني، وقد حدد تاريخ انعقاد هذا المجمع يوم 7 يونيو (حزيران) سنة 431 ميلادي في مدينة أفسس(2)، وقد حضر كيرلّس إلى أفسس عاقداً النية على إزاحة خصمه نسطوريوس، وقد اصطحب معه تقريباً خمسين من الأساقفة المصريين المؤيدين له، وقد وصل نسطور وأتباعه أيضاً إلى أفسس، وذلك قبل افتتاح المجمع، وقد قُفلت أبواب الكنائس في وجه نسطوريوس وأتباعه، وفتحت على مصراعيها أمام كيرلّس وأتباعه، وقد تأخر وفد أنطاكية وروما.
وبالرغم من غياب الكثيرين من الأساقفة الذين دعاهم الامبراطور للحضور إلى هذا المجمع فقد أصرّ كيرلّس في افتتاح المجمع بالرغم من احتجاج نحو ستين من الأساقفة، بل ومندوبي الامبراطور، إلاّ أنّ كيرلّس افتتح المجمع وترأسه في 22 حزيران (يونيو) 431، وقد دعي نسطوريوس للحضور إلى المجمع فامتنع مع وجوده في مدينة أفسس، فدعي ثانية وثالثة فلم يحضر، فحكم عليه ثم تليت رسائل كيرلّس وبنوده الاثنا عشر ورسالة البابا كليستنيوس إلى نسطوريوس فصدّق
____________
1- مجموعة الشرع الكنسي أو قوانين الكنيسة المسيحية الجامعة: 300 ـ 321. 2- كانت تشتهر هذه المدينة بإكرامها العظيم للقديسة مريم الذي وصل أحياناً إلى درجة العبادة، وقد شيدت فيها أماكن أثرية على اسم مريم، بل وقبرها كان مكرماً بجوار قبر يوحنا الرسول، ولذلك دعيت شفيعة مدينة أفسس، والكنيسة الكاثوليكية تعتقد أن مريم العذراء صعدت إلى السماء مثل المسيح بجسدها، وقد أعلن البابا بيوس الثاني عشر هذه العقيدة سنة 1950 وحدد يوم 15 (آب) من كل عام للاحتفال بهذا العيد. تأريخ الفكر المسيحي 2 : 231.
المجمع على هذه الأمور كلها(1).
وعزل نسطور بوصفه يهوذا الجديد الهرطوقي بموافقة مائتي أسقف، وبعد أيام وصل يوحنا أسقف أنطاكية وعندما سمع بأخبار المجمع وعزل نسطور تأسف كثيراً واعتبر الحكم من ظواهر الرعونة والاستبداد، ثم عقد مجمعاً مؤلفاً من ثلاثة وأربعين أسقفاً، وكان بينهم العديد من أنصار نسطور، فأدانوا كيرلّس وأصحابه، فلم يعد أحد يعرف من لم تتمّ إدانته من الأساقفة، ورأى ممثل الامبراطور لحل المشكلة أن يصنع الوفاق بين الجميع بعزل نسطور وكيرلّس معاً، لكن أسقف الاسكندرية كيرلّس نجح في العودة منتصراً إلى الاسكندرية، في حين قضى نسطور بقية حياته منفياً في الواحات الخارجة غرب طيبة(2).
ولكن هذا المجمع لم ينهِ الخلاف، بل ترك بعده كنيسة ممزقة ومنقسمة، واشتد العداء بين الاسكندرية وأنطاكية، وتحطمت أواصر الشراكة بين الطرفين، وقد سعى الامبراطور جاهداً لإعادة السلام والوئام بين الكنائس، وقد استطاع أخيراً في سنة 433 ميلادي من إحلال الوفاق بين يوحنا الأنطاكي وكيرلّس الاسكندري، وقد أرسل يوحنا أسقف أنطاكية رسالة ووثيقة يعلن فيها إيمانه المطابق لإيمان كيرلّس، وقد فرح كيرلّس كثيراً بهذا الانتصار، وفي رسالته هذه اعترف يوحنا الأنطاكي بأنّه تم الاتحاد بين الطبيعتين في المسيح، وبسبب هذا الاتحاد نعترف بأنّ القديسة مريم هي والدة الله "ثيوتوكوس" لأنّ كلمة الله صار إنساناً، وقد ورد في نص الرسالة ما يلي:
"نعترف أنّ ربنا يسوع المسيح ابن الله الوحيد، هو إله كامل وإنسان كامل ذو نفس عاقلة وجسم، وهو مولود من الأب قبل كل الدهور بحسب لاهوته، وأنّه هو نفسه في الأيام
____________
1- كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى: 317. 2- دليل إلى قراءة تأريخ الكنيسة 1 : 126.
الأخيرة... ولد من مريم العذراء بحسب ناسوته... وقد حدث اتحاد بين الطبيعتين... وبحسب هذا الفهم للاتحاد بدون اختلاط نعترف بأنّ العذراء مريم هي "والدة الإله" لأنّ الله الكلمة قد تجسد وتأنس، ومنذ الحمل به اتّحد بالهيكل الذي أخذه منها..."(1).
تاسعاً: مجمع خلقيدونية (451):
وهو المجمع المسكوني الرابع، وكانت أسباب انعقاده هي ظهور تعاليم كرستولوجية جديدة اعتبرت انحرافاً عن التعليم المسيحي القديم، فإنّ الوحدة التي تحققت في سنة 433 ميلادي لم تنجح في تثبيت الاستقرار والوحدة الكاملة بين أتباع نسطور ويوحنا الأنطاكي وبين كيرلّس وأتباعه، فقد كانت هناك ردود فعل متباينة لدى بعض أنصار الفريقين، إذ قبله البعض ورفضه البعض الآخر، بل كان الخلاف والصراع في رفض أو قبول هذا الاتحاد وتعاليم الإيمان الجديدة عنيفاً قاسياً، فبرغم المعاهدة التي وقعت سنة 433 م بقي بعض المتطرفين من الحزبين على تعاليمهم السابقة، بل دفعتهم إلى المبالغة في شرح وتفسير هذه التعاليم، والعمل على نشرها بكل الطرق والوسائل، فأتباع كيرلّس رأوا في هذه المعاهدة خيانة لتعاليم الطبيعة الواحدة التي دافعوا عنها، واعتبروها خيبة أمل وتراجع من كيرلّس عن التعليم المستقيم الذي قرر في مجمع أفسس والقائل بالطبيعة الواحدة للمسيح، وشكّلوا جبهة مقاومة ضد التعاليم النسطورية(2).
ومن جانب آخر فقد انتقد أنصار نسطوريوس المتطرفون يوحنا الأنطاكي ونسبوا إليه خيانة نسطور وتعاليمه، وقد شكّلوا هم أيضاً جبهة وحزباً قوياً في
____________
1- المسيحية عبر تأريخها في المشرق: 204. 2- تأريخ الفكر المسيحي 3 : 182.
سوريا(1).
وكردّ فعل على النشاط النسطوري في الشرق ظهر تعليم متطرف في الدفاع عن عقيدة الطبيعة الواحدة المتجسدة، وذلك في شخص "أوطيخا" رئيس دير أيوب بالقسطنطينية، الذي كان يشرف على (300) راهب لمدة تزيد عن الثلاثين عاماً(2).
وقد حارب أوطيخا الراهب النسطورية بكل قوته، ولم يكن هدفه محو النسطورية والنساطرة فقط، بل تعدى الأمر إلى محاربة كل الذين وقّعوا معاهدة الوحدة والصلح سنة 433 ميلادي، وذلك باستخدام نفوذه لدى الامبراطور، إلى أن أصدر البلاط الامبراطوري سنة 448 قراراً مؤكداً على القرار السابق الذي أصدره سنة 435 م الذي أمر بموجبه بحرق الكتب النسطورية أينما وجدت وتحريم تعاليمه(3).
وقد انتشرت الهرطقة المعروفة باسمه، والنقطة الأساسية والجوهرية في تعاليمه هي إيمانه بوجود طبيعتين للمسيح قبل التجسد، وطبيعة واحدة بعد التجسد، فقد فهم عملية التجسد كما لو كانت عملية اختلاط وامتزاج بين الطبيعتين، فالطبيعتان الموجودتان المنفصلتان قبل التجسد صارتا طبيعة واحدة بعد التجسد(4). يعني أنّ الناسوت قد ذاب في اللاهوت، مثلما تذوب نقطة الخل في المحيط، أي أنّ الطبيعتين قد امتزجتا معاً في طبيعة واحدة، ومن هنا جاءت تسمية أوطيخا "مونوفيزيتس" لأنّ عبارة "مونوفيزيتس" تعني "طبيعة وحيدة" وليس "طبيعة واحدة" أي "ميافيزيس"(5).
____________
1- تأريخ الكنيسة المسيحية / سمير نوف: 261. 2- المسيحية عبر تأريخها في المشرق: 209. 3- كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى 1 : 323. 4- دليل إلى قراءة تاريخ الكنيسة 1 : 128. 5- تأريخ الفكر المسيحي 3 : 193.
وقد عارض الكثير من الأساقفة تعاليم أوطيخا، وعلى رأسهم ثيودوريطس أسقف قورش في سوريا، وقد ألّف كتاباً بعنوان "ايرانيست eranisyes" أي "الشحاذ"، برهن فيه على هرطقة أوطيخا ومع أنه لم يستهدف شخصاً معيناً، ولكنه كان يقصد به "أوطيخا" وتعاليمه بلاشك، وقد راج هذا الكتاب في الأوساط الدينية(1).
وقد عقد مجمع محلي في سنة 448 م في قسطنطينية برئاسة فلابيانس أسقف القسطنطينية، أُدين فيه أوطيخا وعزل وحرم، وذلك بعد حضوره للمجمع ورفضه الإقرار بالإيمان بصيغة "طبيعتين من بعد الاتحاد" وهي الصيغة التي أقرّت لأول مرة في هذا المجمع(2).
ولكن الراهب المتنفذ أوطيخا لم يقبل حكم هذا المجمع، فقدم شكوى ضد هذا المجمع إلى الامبراطور ثيودوسيوس الثاني صديقه والمقرّب لديه، فدعا الامبراطور إلى عقد مجمع يحضره أنصار أوطيخا وحدهم تقريباً، وذلك في سنة 449 م في مدينة أفسس، وقد حضره (150) أسقفاً برئاسة الباب ديوسقورس الاسكندري الذي حضر مع جمع من الرهبان المتحمسين، وأثناء جلسة عاصفة وخلال البحث دخل جمهور الرهبان الكنيسة صاحئين: "اشطروا إلى قسمين الذين يقسمون طبيعتي المسيح إلى اثنين"(3).
وقد عزل ديوسقورس فلابيانس أسقف القسطنطينية وكل الذين يقولون بالطبيعتين، وأصيب فلابيانس في هذا المجمع بعد مشاجرة تدخل فيها البوليس، ومات بعدها بقليل(4).
____________
1- كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى 1 : 329. 2- المسيحية عبر تأريخها في المشرق: 209. 3- تأريخ الكنيسة المسيحية / سمير نوف: 265. 4- دليل إلى قراءة تأريخ الكنيسة 1 : 128.
وقد أمر ديوسقوروس بحرق مصنفات ثيودوريطس أسقف قورش ولاسيما كتابه "الشحاذ" واتهم بالنسطرة وخُلع من كرسي الأسقفية وتم إبعاده، وقد سمي هذا المجمع فيما بعد "بالمجمع اللصوصي"(1).
وعندما تناهت أخبار هذا المجمع إلى أسماع البابا لاون الكبير بابا روما، رفض بشكل قاطع قرارات مجمع أفسس اللصوصي، فطلب عقد مجمع مسكوني، ورفض الامبراطور ثيودوسيوس هذا الطلب، ولكن الامبراطور في سنة 450 م سقط عن ظهر حصانه ومات، ولم يكن له ولد فاستلمت أخته زمام الأمور وتزوجت من مركيانوس قائد الجيش الذي توج امبراطوراً، وقدوافق الامبراطور الجديد على عقد مجمع جديد في نيقية وذلك سنة (451) م، ولكنه أصدر أمراً بتغيير المكان من نيقية إلى خلقيدونية لقربها من العاصمة، وقد طلب الامبراطور من البابا لاون الأول أن يرأس المجمع، ولكنه اعتذر وأرسل أسقف روما نائباً عنه وترأس المجمع، وكانت المرة الأولى التي يرأس فيها أسقف روما مجمعاً مسكونياً، ولسوف يصبح هذا الأمر فيما بعد شرطاً أساسياً للاعتراف بمسكونية أي مجمع(2).
وقد حضر هذا المجمع بين (550 ـ 630) أسقف، وقد فاق هذا العدد من الحضور كل المجامع التي اجتمعت في تاريخ المسيحية إلى ذلك الوقت، وقد أرسل الامبراطور وفداً من الأشراف والقضاة والحكام والمسؤولين للاشتراك في إدارة المجمع(3).
وقد أقر المجمع الخلقيدوني رسائل كيرلّس الاسكندري، وكذلك رسالة البابا لاون العقائدية، وحكم على أوطيخا مجدداً بإدانته وعزله، وإلغاء قرارات مجمع
____________
1- كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى 1 : 333. 2- دليل إلى قراءة تأريخ الكنيسة 1 : 128. 3- تأريخ الفكر المسيحي 3 : 253.
أفسس الثاني 449، وأيضاً عزل ديوسقورس الاسكندري، ونشرت صيغة للإيمان استلهمت من المجامع المسكونية السابقة (نيقية قسطنطينية) وكذلك من رسائل كيرلّس والبابا لاون، وقد حرّم المجمع كل من "يعتقد بطبيعتين قبل الاتحاد وطبيعة واحدة من بعد الاتحاد" والمقصود من هذا التحريم هو أوطيخا القائل بعقيدة الامتزاج بين الطبيعتين(1).
والقانون الإيماني لمجمع خلقيدونية حول طبيعة المسيح وحقيقته يمكن اختصاره بما يلي:
"ربنا يسوع المسيح، هو ذاته كامل في اللاهوت، وهو ذاته كامل في الناسوت، وهو ذاته الله حقاً وإنسان حقاً، صار إنساناً بنفس عاقلة وجسد، له وللأب ذات الجوهر بحسب اللاهوت، وله ذات جوهرنا بحسب الناسوت، شبيه لنا في كل شيء ما خلا الخطيئة... نعترف به قائماً بطبيعتين، بلا تشويش ولا تغيير ولا انقسام ولا انفصال، واختلاف الطبيعتين لم يُمحَ ـ على الإطلاق ـ بالاتحاد، بل بالعكس تبقى خواص الطبيعتين سالمة،وتلتقي في أقنوم واحد (الابن)"(2).
وقد حضر الامبراطور نفسه إلى المجمع بعد قبول المجتمعين لقانون الإيمان الجديد، وهدد كل من يقدم تعليماً وإيماناً مخالفاً لهذا القانون الإيماني بالعقاب والقصاص، أياً كان منصبه"(3).
ولكن بعض الكنائس لم تقبل هذا القانون الإيماني الخلقيدوني، ورفضته رفضاً قاطعاً باعتباره مغايراً لقانون الإيمان النيقاوي، ومن هنا كان الانشقاق الأول بين الكنيسة، وما زالت بعض الكنائس إلى يومنا هذا ترفض القرارات الكرستولوجية
____________
1- المسيحية عبر تأريخها في المشرق: 212. 2- دليل إلى قراءة تأريخ الكنيسة 1 : 130. 3- تأريخ الفكر المسيحي 3 : 275.
لهذا المجمع ومنها كنيسة الأقباط الأرثوذكس.
المبحث التاسع: بدعة المشيئة الواحدة
في المسيح المونوثيليت (Mono Thelisme)
تمهيد:
بعد الاعتراف بأن المسيح هو نفسه إله كامل وإنسان كامل، وله طبيعتان إلهية وناسوتية، وعليه يكون الخواص الطبيعية لكل من الطبيعتين، أي مشيئتين اثنتين، إلهية وإنسانية، وفعلين اثنين، إلهي وإنساني، وحريتين اثنتين إلهية وإنسانية، (فهو مساو لله الأب في الجوهر ويشاء ويفعل بحرية الله، وبما أنه مساو للإنسان في الجوهر، فهو يشاء ويفعل بحرية كالإنسان نفسه، فالعجائب عجائبه، والآلام آلامه)(1).
وقد رأى بطريرك القسطنطينية سرجيوس ضرورة توحيد المسيحيين بعد أن كانت الكنيسة منقسمة إلى شطرين حينما رفضت بعض الكنائس الشرقية قرارات مجمع خلقيدونية.
فاقترح البطريرك على الامبراطور هرقل عبارة لاهوتية جديدة ظن أنها تستطيع إعادة الوحدة بين الكنائس المختلفة، فمجمع أفسس حدد ضد النسطورية أن يسوع المسيح هو شخص واحد لا شخصان، ومجمع خلقيدونية حدد أن فيه طبيعتين، فالكنائس رفضت قرار خلقيدونية لأنها رأت فيه عودة إلى النسطورية.
فارتأى سرجيوس أن يعيد الوحدة، فاستعمل عبارة "الفعل الواحد للمسيح"، أو
____________
1- المائة مقالة في الإيمان الارثوذكسي للقديس يوحنا الدمشقي: 175.
تعبير آخر "القوة الفاعلة الواحدة للمسيح" لذلك أطلق على نظريته اسم "بدعة الفعل الواحد Monoenergisme"(1).
أولا: صيغة المشيئة الواحدة سنة (633):
في سنة 631 عيّن الامبراطور الأسقف كيروس بطريركاً على الاسكندرية، فعقد الأخير فيها سنة (633) مجمعاً محلياً تم الاتفاق فيه على صيغة تعيد الوحدة إلى الكنائس المنقسمة، وقد نصّ البند السابع من تلك الصيغة على أنه:
"يمكننا اعتبار المسيح بطبيعتين، إنما نعني بذلك أنه هو نفسه تام في الألوهية وتام في البشرية".
ثم يضيف البند: "أن المسيح الواحد نفسه قد عمل الأعمال الإلهية والأعمال الإنسانية بفعل واحد إلهي ـ إنساني"(2).
وأرسلت هذه الصيغة إلى سرجيوس على شكل سؤال بشأن التعليم عن الإرادة الواحدة، فأجاب جواباً متساهلا وقال: إنه لم يصر في المجامع حلّ هذا السؤال، ولكن سمع بعض الآباء يقولون بأنه في المسيح الإله الحق فعلا واحداً محيياً.
وأضاف سرجيوس: "إذا وجد عند آباء آخرين تعليماً آخراً يثبت إرادتين وفعلين فيجب الموافقة على التعليم الآخر (الإرادة الواحدة)" فيظهر ميل سرجيوس إلى هذا التعليم(3).
____________
1- اللاهوت المسيحي والإنسان المعاصر1 : 179. 2- نفس المصدر : 179. 3- تاريخ الكنيسة المسيحية : 279.
ثانياً: صفرونيوس:
وصل خبر تلك المداولات إلى راهب يدعى صفرونيوس وله من العمر ثمانون سنة، فرأى فيها تعاليم مناقضة لمجمع خلقيدونية، وذلك لأن الفعل مرتبط بالطبيعة لا بالشخص، وكل كائن يعمل بحسب طبيعته، وبما أن للمسيح طبيعتين فلابد أن يكون له أيضاً قوتان يعمل بهما(1).
فسافر إلى الاسكندرية وارتجى كيروس أسقفها بالعدول عن رأيه، وأوضح أن التعليم عن الإرادة والمشيئة الواحدة هو في جوهره تعليم الطبيعة الواحدة، فلم يقبل كيروس عرضه ولم يقتنع، وكذلك فعل مع سرجيوس وعبثاً حاول إقناعه بالعدول عن هذا الرأي، ولكنه لم ينجح أيضاً.
وفي سنة 634 انتخب هذا الراهب بطريركاً على أورشليم، فكتب رسالة أوجز فيها أسس التعليم الصحيح في الثالوث الأقدس والتجسد والإرادة وبعث بها إلى البطاركة الآخرين(2).
وقد أوضح صفرونيوس: "أن يسوع هو شخص واحد، وهو نفسه يقوم بالأعمال الإلهية والأعمال الإنسانية.
ويضيف: كما أننا لا نرى تناقضاً بين كونه إلهاً وكونه هو نفسه إنساناً، كذلك يجب أن لا نرى تناقضاً بين أعماله الإلهية وأعماله الإنسانية، ويختم الرسالة بقوله: إن المسيح بطبيعتين لكل منهما فعلها الخاص الذي تعمل به الأعمال المناسبة لها، فالفعل الإلهي يعمل الأعمال الإلهية، والفعل الإنساني يعمل الأعمال الإنسانية، إلاّ أن ذلك يتم بانسجام في العمل، دون انقسام، وفي الوقت نفسه دون اختلاط، لأنّ المسيح شخص واحد، وهو نفسه
____________
1- اللاهوت المسيحي والإنسان المعاصر1 : 180. 2- تأريخ الكنيسة المسيحية : 279.
يقوم بالأعمال الإلهية والإنسانية"(1).
ثالثاً: تفاقم الأزمة:
في سنة 638 علّق الامبراطور هرقل في كنيسة آجياصوفيا في القسطنطينية بياناً عقائدياً كتبه البطريرك سرجيوس، وقد أوجز فيه تعليم الإيمان في المسيح، وحظر فيه استعمال عبارتي "الفعل الواحد" و "الفعلين" في المسيح، فالقول بالفعل ا لواحد ينتج منه إنكار الطبيعتين، والقول بالفعلين يقود إلى الاعتقاد بوجود إرادتين متناقضتين في المسيح الواحد.
يقول البيان:
"نقرّ ونعترف بمشيئة واحدة في ربنا يسوع المسيح الإله الحقيقي، بحيث إنه لم يحدث مرة واحدة أن جسده الذي تحييه نفس عاقلة تبع ميله الطبيعي، وعمل ما يناقض رغبة الإله الكلمة الذي كان متحداً به اتحاداً جوهرياً، بل إنه عمل دوماً ما أراده الإله الكلمة نفسه ومتى أراده مثلما أراده"(2).
في الحقيقة أراد سرجيوس أن يوحد الكنيسة فخلق أزمة جديدة أحدثت بلبلة دامت زهاء نصف قرن،أي حتّى المجمع المسكوني السادس الذي عقد في القسطنطينية سنة 681.
وقد مرت هذه الأزمة بمراحل نوجزها على سبيل الاختصار:
1 ـ سنة 640 توفي البابا هونوريوس وخلفه يوحنا الرابع، فعقد مجمعاً في رومة وحرّم بدعة "المشيئة الواحدة".
2 ـ سنة 647 أعلن بولس بطريرك القسطنطينية الجديد إيمانه بمشيئة واحدة في المسيح.
____________
1- اللاهوت المسيحي والإنسان المعاصر1 : 180. 2- نفس الصفحة: 180.
3 ـ سنة 648 أصدر الامبراطور قسطنديوس الثاني قراراً عقائدياً يحظر فيه التكلم عن هذا الموضوع مكتفياً بأقوال الكتاب المقدّس وقرارات المجامع المسكونية السابقة.
4 ـ سنة 649 عقد البابا مرتنيوس المنتخب حديثاً مجمعاً في رومة، غير آبه لقرار الامبراطور، حضره 105 أسقفاً، وترأسه البابا بنفسه وأعلن فيه أنه كما أن في المسيح طبيعتين كذلك فيه مشيئتان، مشيئة إلهية ومشيئة إنسانية، وفعلان: فعل إلهي، وفعل إنساني.
5 ـ سنة 653 أمر الامبراطور بتوقيف البابا، فقبض عليه ونفي إلى القسطنطينية ثم إلى بلاد القرم حيث توفي سنة 655، وقبض أيضاً على الراهب اللاهوتي مكسيموس الذي دافع دفاعاً مستميتاً عن عقيدة المشيئتين في المسيح، ونفي إلى القفقاز فتوفي هناك سنة 662.
6 ـ سنة 678 بعث الامبراطور الجديد قسطنطين الرابع برسالة إلى بابا رومة يطلب منه إرسال مندوبين من قبله إلى القسطنطينية للتداول في أمر المشيئتين.
وصلت الرسالة إلى رومة بعد انتخاب البابا أغاثوس سنة 679، فأراد البابا استشارة أساقفة الغرب في الموضوع، فعقد سنة 680 مجمعاً في روما اشترك فيه 125 أسقفاً، أعلنوا إيمانهم بالطبيعتين والمشيئتين والفعلين في المسيح الواحد(1).
رابعاً: المجمع المسكوني السادس (681):
وقد عقد هذا المجمع في القسطنطينية،وأعلن بشكل رسمي عقيدة المشيئتين في المسيح، وبدأت أعمال المجمع في تشرين الثاني سنة 680 وانتهت في أيلول سنة
____________
1- مجموعة الشرع الكنسي: 494.
681، وبلغ عدد الجلسات الرسمية ثماني عشرة جلسة(1).
وبعد مناقشات طويلة وافق المجمع على التعليم التالي:
"نصرّح أن في المسيح مشيئتين وطبيعتين وفعلين طبيعيين بلا انقسام أو تحول أو انفصال أو اختلاط، كما جاء في تعليم الآباء القديسين، وهاتان المشيئتان لا تعارض إحداهما الأخرى، كما يزعم بإصرار المبتدعون الجاحدون، فمشيئته البشرية تخضع بدون مقاومة أو تلكّؤ للمشيئة الإلهية الكلية القدرة... إننا نعترف بصدور العجائب والآلام عن الشخص الواحد نفسه، ولكننا نعترف بأنها إما لهذه الطبيعة وإما للطبيعة الأخرى، وهو كائن بكلتيهما، وإن اجتمعت الطبيعتان معاً، فكل طبيعة منهما تشاء وتعمل ما تختص به، بدون انقسام ولا اختلاط ولا امتزاج، ولذلك نعترف بمشيئتين وفعلين متفقين أحسن اتفاق لخلاص الجنس البشري"(2).
ولكن هذا لا يعني أنه لم تكن هناك معارضة من قبل البعض، فقد رفض مكاريوس بطريرك أنطاكية هذا التعليم قائلا: إن القول بالمشيئتين يعرضهما إلى الاختلاف والتناقض، ولكن الامبراطور أصرّ عليه القبول بتعليم المشيئتين، فرفض البطريرك مفضلا الموت قطعاً على القبول بالفعلين والمشيئتين"(3).
الخلاصة:
لقد استعرضنا في هذا القسم ـ ولا سيما في الفصل الرابع ـ من بحثنا العقائد التاريخية في شخص يسوع المسيح عبر الأجيال في المسيحية، ولقد رأينا كيف أن الكنيسة الأولى والآباء الرسوليين وآباء القرون التالية وكل كنيسة وجماعة وفرد
____________
1- كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى2 : 46. 2- اللاهوت المسيحي والإنسان المعاصر1 : 182. 3- كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى 2 : 49.
حاولوا بطريقة أو بأخرى الإجابة على سؤال المسيح لتلاميذه في قيصرية فيلبس: "من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان؟".
وفي محاولتهم للإجابة على هذا السؤال قدموا لنا تحليلات ميتافيزيقية ونفسية وتاريخية عن شخص يسوع المسيح، وفي تقديمهم لهذه الدراسات وفي مناقشاتهم في المجامع المحلية والمسكونية اختلفوا في الرأي، ولم يتفقوا على عقيدة واحدة موحدة.
فكانت آراؤهم وأجوبتهم على سؤال المسيح متنوعة ومختلفة، فإن البعض منهم رأى في المسيح إنساناً وإنساناً فقط، فقال: "أنت يسوع الناصري ابن يوسف ومريم (أو ابن مريم) النبي الذي جاء لكي يقود الناس إلى طريق الحق".
والبعض الآخر ذهب إلى القول: "أنت اللوغوس الذي نزل من السماء، أنت إله مترفع عن كل خطيئة وشر، غير مادي، ولا صلة لك بالماديات حتّى ولو كنت تظهر لنا في جسد يشبه الجسد المادي".
أما البعض الآخر فقد رأى فيه نبياً، لا بل أعظم من نبي، عاش حياة القداسة والبر والطاعة الكاملة لله، ولذلك فقد رفعه الله إلى درجة اللاهوت، وأعلن أنه ابنه الوحيد، وأنزل عليه الروح عندما تعمد، ومن هذه اللحظة صار المسيح ابناً لله بالتبني.
والبعض الآخر اعتقد بأن المسيح هو الابن الحقيقي لله، بل هو الله المتجسد، نزل إلى البشرية بلباس الناسوت في أحشاء القديسة مريم العذراء.
وبسبب هذا الاختلاف حول شخصية المسيح ظهرت التعاليم العديدة والمذاهب الكثيرة في المسيحية،فكل مدرسة أو طائفة أو كل أب ومعلم عقائد كان يعتقد بصدق وإخلاص أنه قد أصاب الحقيقة، وأن تعاليمه هي الصحيحة والمستقيمة، متهماً كل من يخالفه الرأي والعقيدة والتعليم بالهرطقة والحرمان.
وقد لاحظنا أنه في أحيان كثيرة، عندما كان يظهر تعليم كرستولوجي يقدمه معلم،
كان يظهر معلم آخر لمقاومة هذا التعليم، لأنّه كان يرى في التعليم الأول أنه قد جانب الصواب وانحرف عن التعليم الحقيقي، وكثيراً ما كان يسقط هو في انحراف وهرطقة أخرى، وعندئذ يظهر معلم ثالث أو جماعة أخرى تؤيد التعليم الأول وتتمسك بتعاليمه وتنادي بها، فتتمسك كل جماعة وطائفة من هذه الطوائف بمفاهيمها العقائدية، ومن هذه الطوائف تخرج طوائف أخرى.
ولأجل هذا السبب ثارت النقاشات، فالاختلافات، فالصراع العنيف القاسي، عندئذ اجتمعت المجامع المحلية والمسكونية لحل هذه المشاكل العقائدية، ولكن هذه المجامع هي الأخرى زادت في الطين بلّة، ومن هنا تحوّلت الاختلافات العقائدية إلى انقسامات وانشقاقات مريرة وقاسية،أدت في أحيان كثيرة إلى قتل ونفي وتشريد الكثير من الآباء والمعلمين.
ولهذا يمكن القول بأن المسيحية هي دين تاريخي، بمعنى أن عقائده لم تنتظم ولم تتألف إلاّ في قرون متمادية طويلة، ولا سيما فيما يختص بحقيقة المسيح، أي التعاليم الكرستولوجية فقد استمرت منذ القرن الثاني أو الثالث إلى القرن السابع إلى أن خرجت بصورتها النهائية الحالية، ولكن مع ذلك تعتقد كل طائفة من الطوائف المسيحية الرئيسية الثلاث (الكاثوليك ـ الارثوذكس ـ البروتستانت) بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أنها فقط التي تملك الحق والحق كله.