ديوان السيد حيدر الحلي- الجزء الثاني

 
 

18 ـ قال رحمه اللّه وقد كتب بها معزيا الحاج مصطفى كبه بوفاة والده الحاج محمد صالح:

بـالبدر  مَـن فجعَ الليالي iiالبيضا      وأعـاد لـلشمس الـنهار iiمريضا
ومَن انتحى روض الكمال بمعطشٍ      فـذوتْ  نـظارته وكـان iiأريضا
قـدرٌ  مضي بزعيم آل المصطفى      والـمجدُ  قـوِّض إثـره iiتقويضا

قدرٌ جبَّ من الفخر سنامَه وغاربه، وطبَّق بالحزن من الكون مشارقه ومغاربه، قد رحل بمن هو زاد المقل، وناعشُ صرعة الضريك(899) والمرمل، وتقرّبَ جبرئيل إلى اللّه برفع روحه الطاهرة، حين(900) سمت عن الدنيا لنعيم الاخرة، فقوّض عنها رحيض الثوب من درن تبعاتها، مبرأ الجوارح من اجتراح خطيئاتها، لم تقض بنو الدنيا حق مصابه، ولم تكافى‌ما أسدتْ اليها يده من جزيل ثوابه، وبماذا تقضي حق هذه النازلة، والمصيبة الهائلة، أبصراخ الثواكل، أم بدمعٍ على الوجنات سائل، أم بوجدٍ ولو كان كوجد يعقوب، أم بنوحٍ ولو كان مما تشقُ عليه الاكباد لا الجيوب، هيهات:

كذبناهُ لم نجزع عليه ولم تقم     مآتمنا لمّا اقيمتْ مآتمه

___________________________________

899 الضريك: الاحمق، الضرير، الزمن، الفقير.
900 في المخطوط: حتى سمت.

نعم لنا العزأُ بزعيم خلفِه، والبدر الساطع بعده في سمأ مجده وشرفه، ذاك رافع عماد مكارمه، ورواق فخره ودعائمه، المصطفى للكرم بعده، والذي قام مقامه فسدَّه:

وقضى حقوق الجود وهي نوافلٌ     وسواهُ منها ما قضى المفروضا

فيا مَن هو للمآثر الحميدة أهل، والراقي بهمةٍ من المجد أرفع محل، لا برح بيت عليا أبيك، آهلا فيك وفي أخيك، وبآلكما الغرر، ما بقي الدهر، ونسأل اللّه أن يجعل هذه الرزية خاتمة الارزاء، ويصرف

عنكم محذور القضاء.

الفصل الثالث في العتاب

19 ـ قال رحمه اللّه مجيبا على القصيدة (النونية) التي وردته من بعض أخدانه الاعزاء معاتبا بها اياه، واليك الرسالة والقصيدتين:

أما بعد افتتاح الانشاء بمفروض الحمد وواجب الثناء أقول: إنَّ أفقر من الاصغاء ذلك السمع المأهول. أيها الماجدُ الذي عوَّذته بنات الافكار برقي القريض حينا، من نزعات شيطان هذا الشيخ الذي أصبح له اليوم قرينا، وساء قرينا، وغادر منثور ذكره في الصالحات دفينا، ويا حرسه اللّه قبل الممات إذ لو استمر على اصطناع المعروف والمكارم لكان حسنة الدنيا، ولو لم يلق السمعَ لاتباع مقالة اللوائم لكان قطب دائرة العليا، الحديث ذو شجون، وسيبصر أهلُ الانصاف بأينا المفتون، وانَّ لي ولك في طي هذا الامر الغريب، لشأنا من أعجب الاعاجيب، قد أوجب نشره، من سيَّر بدّالة المرح ومخيَّلة الكبرياء شعره، عجبا لك كيف لم تجذب اليك من عنان خيلائك، ولم تكفكف من بادرة عزمك وغلوائك، بل تركت لهاتيك عنانها، وأوسعت لهذه خطاها وميدانها، حتى اقرعتَ بمسامعي مؤلم هذا التقريع، وجرعتني مضاضة ذلك التعريض الشنيع، فمبجدك ما الذي أخفضكَ وأنت الوقور، وما الذي لمظكَ ممقر هذا التعريض وأنت الابيُّ الغيور، بلى وأنا أملك السجيَّة، التي عاشت على معروفها البريَّة، ما دعاك إلى أنْ تظهر أنك لي مغاضب، إلاّ الهربُ من إسداء العطايا والمواهب، حيث استنشأتك قبل هذا سحابة، خلتها نشأت دانية الربابة، قد بشَّر بها نفسَه الرجاء، واستمطرها بظنه مغدقةً وطفاء، فكلما تطلَّع في نواحيها، استحكم طمعه فيها، وأمَّل أن ترخى بشآبيبها الغزار عز اليها، فاذا هي تبرق غيضا وغضبا، وترعد تقريعا وعتبا، ثمّ لم تبرح بهاتيك البوارق، أن أمطرتها عليَّ صواعق وأيُّ صواعق، فليتك إذ ترفعتَ كزعمك عن مدَحي الانفة، رعيت لي حرمة المدح السالفة، فلقد علمَ هذا العصر، أني لسانه الذي انتهت اليه مقالة الشعر:

وأنا الذي لم يسخْ بي أحدٌ     إلاّ غدا ونديمه الندم

واذا اهتززتُ لمدح ذي كرمٍ     فأنا لسانٌ والزمان فم

قد نشرتُ لكم من الذكر الجميل، مالم ينشره لسان الشعر لذي مجدٍ أثيل، حتى صرتُ لكم في المدح أعرفَ من علَم، بل أشهر من (زهير بن أبي سلمى) في مدائح هرم، كم نسجتُ لابيكم بُردَ حمد، لم ينسج قبلي مثله (ابن بُرد)، وكم سيَّرتُ فيكم من النظام، مالم يسيّره قبلي الشيخ (أبو تمام) بلا يدٍ بيضاء، ولا عارفةٍ غراء، بل جعلتم قيمة تلك العقود، وأثمانَ هاتيك البرود، ما لو رُسم معها في كتب المؤرخين، كما ترسم الجوائز مع قصائد المتقدمين، يتداولها الانام جيلا بعد جيل، لغضَّ بنزارته من شرفكم المحض ومجدكم الاثيل، بل لو لم أكتمْ عن الحسّاد، ما جعلتموه بأزائها من الصفاد، لو سُمتْ تلك الغرر البهية، بسماتٍ ردية، كما وُسمتْ قصيدة (أبي الطيب) لنزارة الجائزة بالدينارية، وعلى حقارة الجزاء ونزارة ما اسديتموه من العطاء، رأيتك قد أعرضت غاية الاعراض، وأغمضتَ عن حقوق المودّة أشد الاغماض، بلا إساءةٍ سبقتْ، ولا جناية تقدَّمت، فنظمتُ قطعة من العتاب، يروق بنشرها ذوو الالباب، وأرسلتها اليك، مخاطبا لك بلسان العتب عليك، فقلتُ:

حــتـى مَ الـــوَّد iiبـالـهـجران      وإلــى  مَ أبـسطُ بـالعتاب iiلـساني
لا أنت عن غلواء
(901) هجرك مقصر      شـيئا  ولا أنـا عـن عـتابك iiوانـي
كـم  ذا انـبِّهُ مـنك مـن لـم يـنتبه      عن مثله في الفضل طرف زمان
(902)
مـا  زال يـصرف عن وجوه iiمطالبي      عـينا  رعـى الـقاصي بـها iiوالداني
الـغيثُ أنـت فـكيف تـجدب راحتي      مـنـه  وتـخـصب راحـة iiالـذلان
وأمــا  ومـجدكَ مـا تـيقَّظ لـلنهى      مـن لـم يـكن لـي قـطُّ iiبـاليقظان
بــل أيُّ ركــن لـلـمعالي iiشـاده      مــن  لا يـكـون مـشيدا iiأركـاني
أخـذتْ  بـمخنقيَ الـخطوب iiفضيّقت      صـدري فـضاق بـها الـيك iiبـياني
فـتلافَ مـن أيـدي الـخطوب iiبقيتي      فـبـقيَّتي لــكَ يـا عـظيم iiالـشأن
عـجـبا لـكفَّك كـيف تـمسحُ غـرَّةً      مــن  غـير سـابق حـلبةٍ لـرهان
مـن ذا لـكم عـنّي يـنوب اذا iiجرتْ      يـومـا  جـيادُ الـشعر فـي iiمـيدان
ومـن  الـذي يُـنشي لـجيد iiعـلاكم      مـدحـاَ يـفـصِّلها عـقـودَ iiجُـمان
فـبمَ  اقتنعتَ وهل ترى يغني iiالحصى      لَـمن  ابـتغي حُـليا عـن iiالـمرجان
أرَتـجتَ بـالاعراض بـابَ iiروِّيـتي      وعـقلتَ  فـي شـطن الصدود iiلساني
وتـركت عـيني مـن جفاك سقيمة ال      إبـصـار وهـي صـحيحة الانـسان
مـا  إن
(903) زففتُ من الولاء iiكريمةً      إلاّ وتـمـهـرهُا مــن iiالـحـرمان
فـأصـخْ  لـعاتبةٍ تـجايشَ صـدرُها      فـأتـتك تـنفثُ عـن حـشا iiحـرّان
قـد  حـاكمتكَ الـيك فـاقضِ بـحقها      فـلـقد أتـتـك بـواضـح الـبرهان
وشـكـتكَ عـندك والـعجيب iiجـنايةٌ      مـنـها اشـتـكى مـتـظلمٌ iiلـلجاني
بـين  الـرجا والـيأس قد وقفتْ iiفقل:      مــن  ذيــنِ تـنزلها بـأيّ مـكان

___________________________________

901 في مخطوطة الملا: من غلواء.
902 في مخطوطة الملا: زماني.
903 في المطبوع: من ان.

فأصدرتَ الرسولَ إليَّ بوعدٍ أكذب من السراب الخادع، وأخيب من بارقة صيفٍ خالبة اللوامع، حسبت أنك ألقيت إليَّ منه بحبلٍ واصلٍ، ولم أخلْ أنك ألقيت إليَّ بخيطٍ باطل، قد ضربتَ أنت على أحد طرفيه بيد المطل، وضربت أنا على الطرف الاخر بيد عسى ولعل، حتى قالت لي النفسُ؛ أما غلب على رجائك اليأس، وإنكَ لتغمزُ بأنمل الرجاء، في صدر حجارة صمّاء، فقلتُ لها أيتها النفس إنك لامّارة، ما عليكِ من ذلك وإن من الحجارة، وإنّي إنما أهزُّ بنسيم المدح غصنا، منه ثمار المعروف ببنان الامال تقطف وتُجني، حتى لم يبقَ في قوس الانظار منزع، ولا في صدر الاعذار مدفع، فنظمتُ في استقضاء ذلك الوعد قطعةً من العتب، فيها ذكرى لمن كان له قلب، قد أوحى منها لسان قلمي مسمعا، مالو أنزلناه على جبلٍ لرأيته خاشعا متصدعا، فقلتُ:

كلما زادك المحبُّ اقترابا     زدتَ عنه تباعدا واجتنابا(904)

___________________________________

904 ذكرت في باب العتاب ج 1 ص 232.

فوعدتَ وعدا جميلا، وخبَّأتَ خبأً وبيلا، لم أشعر إلاّ وقطعةً من شعرك، بيد الاطفال من أبنائك، والاغفال من أخصائك وأودائك، ينشرونها بكل بلاد، زعما منك ولرأيك الاصابة أن ذلك ضربٌ من السداد، فعلى مَ يا هذا كذبت أم مَن بي أغراك، أظهرتَ كمالك بما يعود عليك بنقض عُلاك، ولم تتروَّ في أمرك، حتى اتخذت عفتي وإبائي دريَّة لما طاش من سهام شعرك، فجريتَ إلى غايةٍ من الاعجاب جرىَ المتبجح بفخره، وما نهنهتَ كأنك لم تقف على مَن لم يقف عند انتهاء قدره، فقلتَ متشدَّقا، ونطقتَ متفيهقا:

أطـلقتَ  بـالعتب الممضِّ iiلساني      إن تـرمِ بـالاعياء فـضلَ iiبياني
يـا  من له أخلصتُ صفوَ iiمودَّتي      مـا شـابها كـدرٌ مـن iiالهجران
وعـقدتُ  حـبلَ ولائـه iiبمحبتي      حـتى  اغـتديتُ بها رضيعَ iiلبان
وأراك  قـد نـبَّهت مـقلة iiساهرٍ      بـالـعتب بـل مـتناومٍ iiيـقظان
مغضٍ على مضضٍ القذى وتسومه      وهـو  الـبريُّ بـها جناية iiجاني
أتـصدُّ عـنّي مـعرضا iiوتلومني      ولـقد  بـدأتَ هـديت iiبالهجران
جـنبتَ مـنتجعي وغـرَّك iiخلّبٌ      فـطفقتَ  تـحسبه مـن iiالـهتّانِ
ورأيـتَ  خـضرة دمنةٍ iiفحسبتَها      أزهــارَ ريّـقةٍ مـن iiالـغيطان
أنـفقتَ  فـيها بـاهر الحِكم iiالتي      عـزَّت  نـفاستها عـلى ii(لقمان)
وبـثثتَ مـنها لـلنظام جـواهرا      مـا  كـان أحـوجها إلى iiالكتمان
أتـصـونها عـنّي وقـد iiقـلَّدتها      أعـناقَ نـاقصةٍ وجـيدَ iiدوانـي
لا تـحسبنَّ الـشعر يـرفع خاملا      لـعـلوِّ قــدرٍ أو سـموِّ مـكان
مَـن  لـم تـصدقه الفعالُ iiفمدحهُ      ضـربٌ مـن الـتخليط iiوالهذيان
لـستُ الـذي بالمدح اكملُ رفعتي      انّـي  وذلـك أعـظم iiالـنقصان
لـكنْ أغـار عـلى بـدائع iiفكرةٍ      أنْ لا تـقلدَها بـديع iiزمان
(905)

___________________________________

905 أثبتناها في كتابنا ((شعراء الحلة)) ج 3 ص 125.

فلما استوقفتُ ناقدَ الفكر، وسرحت رائد النظر في ألفاظها ومعانيها، وجدتها تنطق عن بذخٍ وبأو، وتتشدق عن شمخٍ وزهو، قد نشأتْ من ضميرٍ شحنه الحنق، وطفح بالاحن إناؤه على لسان منشئها فنطقَ بما نطق، ثمّ قلتُ إنا للّه ويا نفسُ صبرا، على مضاضة هذا الشعر الذي برز مشتملا بثوب الحب وتحته تأبط شرّا، فقالت نفسي الابية: كأنك طامنتَ إلى أن تعطي من نفسكَ الدنيّة:

ترى وإلى الان لم تجزع     وهل بعدُ للصبر من موضع

ويقرع سمعك هذا العتاب     وتغضي كأنك لم تسمع

وأما وحميَّة هاشم، وشهامة آبائك القماقم، لا نمتْكَ تلك الاباة منها إلى الذروة، إن لم تقرع بمقطع تلك الصفاة والمروة، فقلتُ لها لا شفي اللّه لي علَّة، إن لم ابرد عنكِ حرَّ هذه الغلَّة، فأنا الان أقول:

أيها الرئيس الذي كلُّ فاضلٍ إن قيس به مفضول، لماذا لا زلَّتْ بعد هذا بك النعل، أصبحت تكسِّرُ عليَّ أرعاظ النبل، تارةً تدب لي الضرّاء، واخرى تسرُّ لي حسوا في ارتغاء، تشوب لي اطراءك بالقدح، وتبرز لي هجاءك في صورة المدح، تظهر التأسف على عقود نظامي النفيسة، مريدا بذلك أني لم أرفع قدري عن ارتكاب الدنية والخسيسة:

وهل في أديم الشمس للسهم مثبتٌ     وإن جهلَ القارىُّ يوما فراماها

لقد ملتَ عليَّ بطرا، ونسبتَ إليَّ مالم أكن له بأهل أشرا، فلم ترقب فيَّ إلاّ، كأنك لم تفز من مديحي بالقدح الرقيب(906) والمعُلى:

تذكركم فيكَ القوافي فاخرتْ     من سجد الناسُ له حتى سجد

___________________________________

906 كذا في المخطوطتين والمطبوعتين، ولعله يريد: القريب.

وكيف أقول: لستُ أجد لنسيانك ذلك المديح معنى، واللّهُ تعالى يقول:

كلا إنَّ الانسانَ ليطغى، إن رآه استغنى، وليت شعري كيف خفَّت هضبة حلمك بعدما أرسى بك الوقار دهرا، بل كيف استبدلتَ الاسراع بالاناة فنثلت عليَّ كنانة شعرك تطاولا وفخرا، فملاتَ قلبي ألما، حتى أدميت البنان تأسفا وندما، وحتى خلعتُ لبسة المتجلد، بمقيمٍ من الحزازة مقعد، وطفقتُ انشئ ثمّ أنشد:

لـي اللوم قد كلفتُ نفسي iiخطةً      عـواقبها تدمى عليها iiالاصابعُ
وأوردتـها  رنقا من الذلّ iiآجنا      يـسؤُ  المعالي أنني فيه iiشارع
ودنَّستُ  من أبرادها ثوب iiعفةٍ      إبـائيَ تـسهيمٌ لـه iiووشـايع
وعـرَّضتها  بـعد الاباء iiلسبَّةٍ      (اذا ذُكرت تستكُ منها المسامع)

أجل: وليت سبق السيفُ إليَّ هذا العذل، أيُّ خطةٍ أسوء وأفظع، أم أيُّ سبّةٍ اذا ذُكرت في المجالس عليَّ أشنع، من أنّي وضعتُ نفسي لكم وضع مَن يريد الارتفاع(907) بكم، بل وضع مَن ينتجع هشيم كرمكم انتجاع الرائد، ويحرم على سراب جودكم حرمَ المحلي‌ء عن الموارد، على أنّي أحقُّ بما قاله الفرزدق:

أتيناك لا من حاجةٍ عرضت لنا     اليكَ ولا من قلةٍ في مجاشع

___________________________________

907 في المطبوع: الانتفاع.

وامتهنتُ نفسي بأن صرتُ لكم شاعر، ناشرا ذكركم بالجميل بين الاكابر والاصاغر، كم أزففت لكم غادة كعاب، تخجل بحسنها الاتراب، لا اريد بذلك منكم إلاّ الوداد، وصفاء المحبة والاتحاد، ولو أنّي استام لها بقدر محاسنها المهر، لعزَّ على الاكفاء أن تحظى منها بشطر، فطفقت تنظر إليَّ بعين محتقر، وتخاطبني بما تخاطب به مَن هو اليك مفتقر، فمهلا أبا حسن، لا تشمخ بأنف مَن بزهرة دنياه قد افتتن:

إنْ أكن مهديا لك الشعر إني     لابنُ بيتٍ تُهدى له الاشعارُ

___________________________________

907 في المطبوع: الانتفاع.

بل لعليّ لا يعد المتطاولُ عليّ لمجده ما اعدُّه(908) من الخصائص، لنسبي اللباب وحسبي الخالص، تنميني إلى ذرى العلياء، سادةٌ علماء، قادةٌ حكماء، ذادةٌ زعماء، هم للشرف الوضَّاح أقدم اسرة، وللمجد الصراح أكرم عترة، ما منهم إلاّ هضبة وقارٍ وحلم، ولجَّة كرمٍ وعلم، لا يشار إلاّ اليهم، ولا تعقد الخناصر إلاّ عليهم، لم يسرق ليَ الدهرُ أبا، ولم يغتصبْ لي الادعاء بسببك حسبا، فيا أيها اليقظان المتناوم، ليتك رقدت عن عتابك رقدة غيرك عن المكارم، هب أنّي جنبتُ منتجعك، بعدما كنت منضما بزعمك اليك في جملة من انتجعك، فأين أنت أيها السيد المطلبي، عن قول أبي الطِّيب المتنبي(909):

اذا ترحّلتَ عن قومٍ وقد قدروا     ألا تفارقهم فالراحلون همُ

___________________________________

908 في المخطوط: ما أعد.
909 هو أبو الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفي أشهر شعراء العربية. ولد عام 303 هـ، قتله عند عودته إلى بغداد فاتك بن أبي جهل الاسدي بالقرب من دير العاقول بالنعمانية عام 354 هـ شرح ديوانه مائة علم من أعلام الادب. ترجمت له في كتابي ((شعراء الكوفة)) ج 1 ص 340.

وادَّعيتَ عليَّ أنّي غرَّني خلب، فطفقتُ أحسبه ماطرا يتحلّب، ورأيت خضرة دمنةٍ وجدتها مونقة، فخلتُها أزهار غوطةٍ ريّقة، فانفقتُ فيها باهر الحِكم العجيبة، وقلدتُ بجواهرها أعناق ناقصةٍ معيبة، لعمري لقد شغلتك هذه الفصاحة، عن أن تفطن لهذا الاثم الذي تعلَّق منك بتلك الساحة، لانك قد علمت أني لم أمدح إلاّ مَن لو حصلتُ لبعض المجيزين منهم الاجازة، لكان من شرف الرئاسة الكبرى بمفازةٍ وأيِّ مفازة، وزعمت أنك بلغتَ من الرفعة والسناء، ما استغنيت به عن المدح والثناء:

فاذا مدحت فلا لتكسب رفعةً     للشاكرين على الاله ثناء

فقلتَ قول المتطاول، إن الشعر لا يرفع مَن هو خامل، كأنك لم تعلم، باجماع من تقدَّم، أنه يضع الرفيع، ويرفع الخامل الوضيع، كما غضَّ من شرف بني نمير، ورفع من بني أنف الناقة وهم أذل عشير، وهذا الارجاني(910) يقول:

لولا زهيرٌ والمديح له     لم يدرِ هذا الناس مَن هرمُ

___________________________________

910 هو أحمد بن محمد بن الحسين الارجاني، الملقب ناصح الدين، فقيه شاعر، تولى قضاء تستر، وتوفي بها في ربيع الاول سنة 544 هـ وكانت ولادته عام 460 هـ له ديوان شعر طبع ببيروت.

ودعْ كل ذلك وخبّرني إنَّ من خلع لباس الحمد ولم يرغب بلبسه، ولم يكن من أهلِ (ومن يوق شحَّ نفسه). بماذا أكمل رفعته، وأيُّ الافعال صدقه فيما وصف به مجده ونعته، وذكرتَ وأنت الخليق الجدير، أنك عزمت على بدائع فكرتي أن اقلدها ذا شرفٍ خطير، فقلْ لي أية غيرةٍ عليها لمن انزلها منه في جانب الاهمال، واغفلها وهي من اللواتي تأنف أن تعدَّ في الاغفال، تحقيقا لما اقرَّه في ذهنك الجهلة الجفاة، وتصديقا لمن لا تصدَّق فيهم الامهات:

أخلاقك الغرُّ الصفايا مالها     حملت قذى الواشين وهي سلافُ

والافكُ في مرآة رأيك ماله     يخفي وأنت الجوهر الشفاف

ولا ملامة عليك، وإن توجّه اللوم كله اليك، إذ لا يستطيع أنْ يحولَ طباعه، من فتح لافواه المنافقين اذنا سمّاعة، قد استخفك رهطٌ ماهم بأبرّ قط، ممن أنزل فيهم (وكان في المدينة تسعة رهط). ما أنت لهم بقدوة، وغيَّركَ لحجّ افئدتهم بالحب مشعرٌ ومروة، ينزهونك من الريب، ويثلبونك بظهر الغيب، يبرز أحدهم مشتملا بلباس التقوى، وهو قد بلغ من خبث السريرة غايتها القصوى:

كم تقيٍّ للخلق يُظهرُ نسكا     ولباري النفوس في السرّ عاصي

فهو في نسكه تراه أبا ذرٍ     وعند التحقيق فابنُ العاص

قد نصبوك فخا لاختيال صيدهم، واتخذوك سلّما يعرجون عليك إلى اغتيال مَن أرادوه بكيدهم، وأنت ولا اريد أن أنسب اليك رذيلة، قد جرت عادتك ولا اقول إنها غير جميلة، إنك تنيل من نال منك، وتميل إلى مَن مال عنك، المرائي أسعد عندك حظا، ممن محض لك الصدق في المودة محضا، كم مالت نفسك لا لذي سناء، ميل الناقة من شرهة إلى تناول الغذاء، ثمّ تابعتْ له الشهادة، أنه كادت(911) تئني مثلك له الوسادة، حتى حصل له بشهادتك من التنويه، مالم يحصل من قبله لزياد بن أبيه، وحتى خلنا أنك عازمٌ على استلحقاه، رغبةً فيه لما ثبت عندك من غزارة علمه وشرف أعراقه، ثمّ قلنا إن سيدنا الاكيس، هو وهذا الورع المقدس، لو لم يكونا في النبل رضيعي لبان، وفي حلبات الفضل شريكي عنان، لما نفي عنه هذه الاسترابة، ثمّ أنابه منابة، فرويدا أيها المشتمل، ما هكذا تورد الابل، قد كان لكم قبل هذا عذرٌ لكم، انكم دعوتم الناس لامرٍ لكم علُّه ونهلُه، فأيُّ عذرٍ لكم اليوم في دعائكم لامرٍ إنْ تمَّ اعتزلكم كلُه، فحوشيتَ أبا الهادي وعزَّ علينا أن نرى منك بعض الخفة والطيش، في الاكثار من الحث على تأمير هذا الفاضل على من لك قبلنا من الجيش، فاطرحْ لجاجَك، فقد رجع بنا الاذعانُ إلى الاقتداء بهذا الاوحد الذي نهج منهاجك، ونهنه من بادرة جهل ابن اخيك، فذلك أليقُ وأحرى من جلب الوقيعة فيه وفيك، فلقد ثبت عندنا أنَّ مَن بالغتما بتأييده، وشدّ أزره وتشييده، هو العالم الرباني، بل فردُ الفضل الذي لولا مَن لا تصرِّحُ به لحلفْنا أنه ليس له ثاني، إذ لو لم يكن عن(912) سيدنا أخذ وعلى قوله اعتمد، وإلى رأيه في جميع الامور قد استند، حتى صار من أهل الكشف والاستقامة، الذين تتنزل عليهم الملائكة بالاسرار لما نصَّ عليه ربُّ الفضل بالامامة؛ فيا أيها الرئيس الاجل، سبق السيف العذل، والبثْ قليلا يلحق الهيجا حمل(913)، فلقد أطلقَ غربه لساني، وحلفَ أن لا يكفكف من جري أدهم القلم بناني، حتى يأخذ غرار يراعتي مأخذه، وحتى ينفذ غرب براعتي منفذه، والبادي أظلم، وسيعلم أينا الذي يقرع سنَّ الندم:

مـا الـمجدُ إلاّ مـا بناهُ iiلساني      لا مـا تـزحزحه مـن iiالبنيانِ
وحليُّ  جيد الفضل نظمُ iiفرائدي      لا مـا تـنظَّم مـن فريد جمان
يـا فاخرا لا في ملابس مدحتي      هـذي  ثـيابُ الفخر لا iiثوبان
ومطاولا لا في صِلات قصائدي      هـنَّ  الـمكارم هـنَّ لا iiقعبان
ولـقد صـدقتَ فقلتَ أيةُ حكمةٍ      لـمَا  نـطقتَ جرتْ بأيِّ iiلسان
مَـن لـم تصدقه الفعالُ iiفمدحُه      ضـربٌ  من التخليط iiوالهذيان

___________________________________

911 في المخطوط: كانت.
912 في المطبوع: من سيدنا.
913 الامثال لا تغير ونصه: لبث قليلا.
 
الصفحة السابقةالفهرسالصفحة اللاحقة

 

طباعة الصفحةبحث