هشام بن عبدالملكاستولى هشام بن عبدالملك على الحكم في اليوم الذي هلك فيه أخوه يزيد لخمس بقين من شوال وهو المعروف بأحول بني اُمية وكان حقوداً على ذوي الاحساب العريقة، ومبغضاً لكل شريف. ومن مظاهر بخله انه كان يقول: ضع الدرهم على الدرهم يكون مالاً[1] وقد جمع من المال ما لم يجمعه خليفة قبله[2]. وقال : ما ندمت على شيء ندامتي على ما أهب، إن الخلافة تحتاج الى الأموال كاحتياج المريض الى الدواء[3]. ودخل الى بستان له فيها فاكهة فجعل أصحابه يأكلون من ثمرها، فأوعز الى غلامه بقلع الأشجار وزراعة الزيتون لئلا يأكل منه أحد[4]. ووصفه اليعقوبي بأنه بخيل فظ ظلوم شديد القسوة، وهو الذي قتل زيد ابن علي، وتعرض الإمام أبو جعفر(عليه السلام) في عهده الى ضروب من المحن والآلام والتي كان من بينها ما يلي: حمل الإمام الباقر(عليه السلام) الى دمشق واعتقاله:لقد أمر الطاغية هشام عاملَه على المدينة بحمل الإمام الى دمشق وقد روى المؤرخون في ذلك روايتين: الرواية الاُولى: ان الإمام(عليه السلام) لما انتهى الى دمشق، وعلم هشام بقدومه أوعز الى حاشيته أن يقابلوا الإمام بمزيد من التوهين والتوبيخ عندما ينتهي حديثه معه. ودخل الإمام(عليه السلام) على هشام فسلم على القوم ولم يسلم عليه بالخلافة، فاستشاط هشام غضباً، وأقبل على الإمام(عليه السلام) فقال له: «يا محمد بن علي لا يزال الرجل منكم قد شق عصا المسلمين، ودعا الى نفسه، وزعم أنه الإمام سفهاً وقلة علم...». ثمّ سكت هشام فأنبرى عملاؤه وجعلوا ينالون من الإمام ويسخرون منه. وهنا تكلّم الإمام(عليه السلام) فقال: «أيها الناس: أين تذهبون؟ وأين يراد بكم؟ بنا هدى الله أولكم وبنا يختم آخركم، فان يكن لكم ملك معجّل، فان لنا ملكاً مؤجلاً، وليس بعد ملكنا ملك، لأنا أهل العاقبة، والعاقبة للمتقين...»[5]. وخرج الإمام بعد أن ملأ نفوسهم حزناً وأسى، ولم يستطعيوا الرد على منطقه القويّ. وازدحم أهل الشام على الإمام(عليه السلام) وهم يقولون : هذا ابن ابي تراب، فرأى الإمام أن يهديهم الى سواء السبيل، ويعرفهم بحقيقة أهل البيت، فقام فيهم خطيباً، فحمد الله واثنى عليه، وصلى على رسول الله ثم قال: اجتنبوا أهل الشقاق، وذرية النفاق، وحشو النار، وحصب جهنم عن البدر الزاهر، والبحر الزاخر ، والشهاب الثاقب، وشهاب المؤمنين، والصراط المستقيم، من قبل أن نطمس وجوهاً فنردّها على أدبارها أو يلعنوا كما لعن أصحاب السبت، وكان أمر الله مفعولاً... ثم قال بعد كلام له: أبِصِنْوِ رسول الله(صلى الله عليه وآله) ـ يعني الإمام أمير المؤمنين ـ تستهزئون؟ أم بيعسوب الدين تلمزون ؟ وأي سبيل بعده تسلكون؟! وأيّ حزن بعده تدفعون؟ هيهات برز ـ والله ـ بالسبق وفاز بالخصل واستولى على الغاية، وأحرز على الختار[6]فانحسرت عنه الأبصار، وخضعت دونه الرقاب، وفرع الذروة العليا، فكذب من رام من نفسه السعي، وأعياه الطلب، فأنّى لهم التناوش[7] من مكان بعيد؟! ثم قال: فأنّى يسدّ ثلمة أخي رسول الله(صلى الله عليه وآله) اذ شفعوا ، وشقيقه إذ نسبوا وندّ يده إذ قتلوا، وذي قرني كنزها إذ فتحوا، ومصلي القبلتين إذ تحرفوا، والمشهود له بالإيمان إذ كفروا، والمدعي لنبذ عهد المشركين إذ نكلوا والخليفة على المهاد ليلة الحصار إذ جزعوا ، والمستودع الاسرار ساعة الوداع...»[8]. ولمّا ذاع فضل الإمام بين أهل الشام، أمر الطاغية باعتقاله وسجنه. وحين احتف به السجناء وأخذوا يتلقون من علومه وآدابه، خشي مدير السجن من الفتنة فبادر الى هشام فأخبره بذلك فأمره بإخراجه من السجن، وإرجاعه إلى بلده[9]. الرواية الثانية: وهي التي رواها لوط بن يحيى الأسدي عن عمارة بن زيد الواقدي حيث قال: حج هشام بن عبدالملك بن مروان سنة من السنين[10]، وكان قد حج فيها الإمام محمّد بن علي الباقر وابنه الإمام جعفر الصادق(عليهما السلام) فقال جعفر أمام حشد من الناس فيهم مسلمة بن عبدالملك: «الحمد لله الذي بعث محمداً بالحق نبيّاً، وأكرمنا به، فنحن صفوة الله على خلقه، وخيرته من عباده، فالسعيد من تبعنا، والشقي من عادانا وخالفنا...». وبادر مسلمة بن عبدالملك الى أخيه هشام فأخبره، بمقالة الإمام الصادق(عليه السلام) فأسرّها هشام في نفسه، ولم يتعرض للإمامين بسوء في الحجاز إلا أنه لما قفل راجعاً الى دمشق أمر عامله على يثرب بإشخاصهما إليه ولما انتهيا الى دمشق حجبهما ثلاثة أيام، ولم يسمح لهما بمقابلته استهانة بهما، وفي اليوم الرابع أذن لهما في مقابلته ، وكان مجلساً مكتظاً بالاُمويين وسائر حاشيته، وقد نصب ندماؤه برجاساً[11] وأشياخ بني اُمية يرمونه. يقول الإمام الصادق(عليه السلام): «فلما دخلنا، كان أبي أمامي وأنا خلفه» فنادى هشام: «يا محمد ارم مع أشياخ قومك». فقال أبي: «قد كبرت عن الرمي، فإن رأيت أن تعفيني». فصاح هشام: «وحقّ من أعزّنا بدينه، ونبيّه محمّد لا أعفيك...» . وظن الطاغية أن الإمام سوف يخفق في رمايته فيتخذ ذلك وسيلة للحط من شأنه أمام الغوغاء من أهل الشام، وأومأ الى شيخ من بني اُمية أن يناول الإمام(عليه السلام) قوسه. فناوله، وتناول معه سهماً فوضعه في كبد القوس، ورمى به الغرض فأصاب وسطه، ثم تناول سهماً فرمى به فشق السهم الأول الى نصله. وتابع الإمام الرمي حتى شق تسعة أسهم بعضها في جوف بعض، ولم يحصل بعض ذلك لأعظم رام في العالم. وأخذ هشام يضطرب من الغيظ ، وورم أنفه، فلم يتمالك أن صاح: «يا أبا جعفر أنت أرمى العرب والعجم!! وزعمت أنك قد كبرت!!» ثم ادركته الندامة على تقريظه للإمام، فأطرق برأسه الى الأرض والإمام واقف. ولما طال وقوفه غضب(عليه السلام) وبان ذلك على سحنات وجهه الشريف. وكان إذا غضب نظر الى السماء. ولمّا بصر هشام غضب الإمام قام إليه واعتنقه، وأجلسه عن يمينه، وأقبل عليه بوجهه قائلاً: «يا محمد لا تزال العرب والعجم تسودها قريش، مادام فيها مثلك. لله درك!! مَن علّمك هذا الرمي؟ وفي كم تعلّمته؟ أيرمي جعفر مثل رميك؟...». فقال أبو جعفر(عليه السلام) : «إنا لنحن نتوارث الكمال». وثار الطاغية ، واحمرّ وجهه، وهو يتميز من الغيظ، وأطرق برأسه الى الأرض، ثم رفع رأسه، وراح يقول: «ألسنا بنو عبدمناف نسبنا ونسبكم واحد؟». ورد عليه الإمام مزاعمه قائلاً: «نحن كذلك، ولكن الله اختصنا من مكنون سرّه، وخالص علمه بما لم يخص به أحداً غيرنا». وطفق هشام قائلاً: «أليس الله بعث محمداً(صلى الله عليه وآله) من شجرة عبدمناف الى الناس كافة أبيضها وأسودها وأحمرها، فمن أين ورثتم ما ليس لغيركم؟ ورسول الله مبعوث الى الناس كافة، وذلك قول الله عزّ وجل: (ولله ميراث السموات والأرض) ؟ فمن أين ورثتم هذا العلم وليس بعد محمّد نبيّ، ولا أنتم أنبياء؟!» وردّ عليه الإمام ببالغ الحجة قائلاً: من قوله تعالى لنبيّه(لا تحرك به لسانك لتعجل به) فالذي لم يحرك به لسانه لغيرنا أمره الله تعالى أن يخصنا به من دون غيرنا، فلذلك كان يناجي أخاه علياً من دون أصحابه، وأنزل الله به قرآنا في قوله: (وتعيها اُذن واعية) فقال رسول الله : سألت الله أن يجعلها اُذنك يا علي، فلذلك قال علي: علّمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب، خصّه به النبي من مكنون سرّه، كما خصّ الله نبيّه، وعلّمه ما لم يخص به أحداً من قومه، حتى صار إلينا فتوارثناه من دون أهلنا». والتاع هشام من هذا الجواب، فالتفت الى الإمام ـ وهو غضبان ـ قائلاً: إنَّ عليّاً كان يدّعي علم الغيب والله لم يطلع على غيبه أحداً، فكيف ادّعى ذلك؟ ومن أين؟ فأجابه الإمام قائلاً: «إن الله أنزل على نبيّه كتاباً بين دفتيه فيه ما كان وما يكون الى يوم القيامة في قوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء) وفي قوله تعالى: (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) وفي قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء)وفي قوله تعالى: (وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين) وأوحى الله الى نبيّه أن لا يبقي في عيبة سرّه، ومكنون علمه شيئاً إلاّ يناجي به عليّاً، فأمره أن يؤلف القرآن من بعده، ويتولّى غسله وتحنيطه من دون قومه، وقال لأصحابه : حرام على أصحابي وقومي أن ينظروا الى عورتي غير أخي علي، فانه مني، وأنا منه، له ما لي، وعليه ما عليّ، وهو قاضي ديني، ومنجز موعدي، ثم قال لأصحابه: علي بن أبي طالب يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وعامّه إلا عند علي، ولذلك قال رسول الله : «أقضاكم علي» أي هو قاضيكم، وقال عمر بن الخطاب: لولا علي لهلك عمر، يشهد له عمر ويجحده غيره!». وأطرق هشام برأسه الى الأرض، ولم يجد منفذاً يسلك فيه للرد على الإمام ، فقال له: «سل حاجتك». قال الإمام(عليه السلام): «خلّفت أهلي وعيالي مستوحشين لخروجي». قال هشام: آنس الله وحشتهم برجوعك إليهم، فلا تقم وسر من يومك»[12]. وهذه الرواية لم تشر الى ما جرى على الإمام من الاعتقال في دمشق، ولكنها تشير الى خروج الإمام من المدينة في حالة غير طبيعية بحيث استوحش أهله من خروجه. الإمام الباقر(عليه السلام) مع قسّيس نصرانيوالتقى الإمام أبو جعفر(عليه السلام) في الشام مع قسيس من كبار علماء النصارى جرت بينهما مناظرة اعترف القسيس فيها بعجزه ، وعدم استطاعته على محاججة الإمام ومناظرته.
قال أبو بصير: قال أبو جعفر(عليه السلام) :
مررت بالشام ، وأنا متوجه الى بعض قلت: من الاُمة المرحومة. فقال: أمن علمائها أو من جهّالها؟ قلت: لست من جهّالها. فقال: أنتم الذين تزعمون أنكم تذهبون الى الجنة فتأكلون وتشربون ولا تُحْدِثون؟!! قلت: نعم. فقال: هات على هذا برهاناً. فقلت: نعم، الجنين يأكل في بطن اُمه من طعامها ، ويشرب من شرابها، ولا يُحْدِث. فقال: ألست زعمت أنك ليست من علمائها؟ قلت: لست من جهّالها. فقال: أخبرني عن ساعة ليست من النهار، ولا من الليل. فقلت: هذه ساعة من طلوع الشمس، لا نعدها من ليلنا، ولا من نهارنا وفيها تفيق المرضى. وبهر القسيس ، وراح يقول للإمام: ألست زعمت أنك لست من علمائها؟! فقلت: إنما قلت: لست من جهّالها. فقال : والله لأسألنك عن مسألة ترتطم فيها. فقلت: هات ما عندك. فقال: أخبرني عن رجلين ولدا في ساعدة واحدة، وماتا في ساعة واحدة؟ عاش أحدهما مائة وخمسين سنة، وعاش الآخر خمسين سنة؟ فقلت: ذاك عزير وعزرة، ولدا في يوم واحد، ولما بلغا مبلغ الرجال مرّ عزير على حماره بقرية وهي خاوية على عروشها ، فقال: أنّى يحيي الله هذه بعد موتها، وكان الله قد اصطفاه وهداه، فلمّا قال ذلك غضب الله عليه وأماته مائة عام ثم بعثه، فقيل له: كم لبثت؟ قال: يوماً أو بعض يوم. وعاش الآخر مائة وخمسين عاماً، وقبضه الله وأخاه في يوم واحد. وصاح القسيس بأصحابه ، والله لا اُكلّمكم ، ولا ترون لي وجهاً اثني عشر شهراً[13]، حيث توهم أنهم تعمّدوا إدخال الإمام أبي جعفر(عليه السلام) عليه لإفحامه وفضحه ، فنهض الإمام أبو جعفر(عليه السلام) وأخذت أندية الشام تتحدث عن وفور فضله، وعن قدراته العلمية. |
[1] البخلاء : 150. [2] اخبار الدول : 2/200. [3] انساب الأشراف : 8/399 طبعة دار الفكر المحققة 1417 هـ . [4] البخلاء: 150. [5] بحار الأنوار: 11/75. [6] الختار: الغدر. [7] التناوش : التناول. [8] مناقب آل أبي طالب : 4/203 ـ 204. [9] بحار الأنوار : 11/75. [10] ذكر اليعقوبي أن هشاماً حجّ سنة 106 هجرية. [11] البرجاس: جاء في معجم المعرّبات الفارسية: أن (البرجاس) هدف، «شي في الهواء، معلّق على رأس رمح أو نحوه» وهو معرّب ويراد به : هدف السهم. [12] دلائل الإمامة : 104 ـ 106.
[13]
الدر النظيم : 190 ، دلائل الإمامة : 106. |