محاولة اغتيال الإمام الباقر(عليه السلام)وهنا أمر الطاغية بمغادرة الإمام أبي جعفر(عليه السلام) لمدينة دمشق خوفاً من أن يفتتن الناس به، وينقلب الرأي العام ضد بني اُمية، ولكنه أوعز الى أسواق المدن والمحلات التجارية الواقعة في الطريق أن تغلق محلاتها بوجهه، ولا تبيع عليه أية بضاعة، وأراد بذلك هلاك الإمام(عليه السلام) والقضاء عليه. وسارت قافلة الإمام(عليه السلام) وقد أضناها الجوع والعطش فاجتازت على بعض المدن فبادر أهلها الى إغلاق محلاتهم بوجه الإمام، ولما رأى الإمام ذلك صعد على جبل هناك، ورفع صوته قائلاً: «يا أهل المدينة الظالم أهلها أنا بقية الله، يقول الله تعالى: (بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين* وما أنا عليكم بحفيظ). وما أنهى الإمام هذه الكلمات حتى بادر شيخ من شيوخ المدينة فنادى أهل قريته قائلاً: «يا قوم هذه والله دعوة شعيب ، والله لئن لن تخرجوا الى هذا الرجل بالأسواق لتؤخذنّ من فوقكم، ومن تحت أرجلكم فصدّقوني هذه المرة، وأطيعوني، وكذبوني فيما تستأنفون فاني ناصح لكم...». وفزع أهل القرية فاستجابوا لدعوة الشيخ الذي نصحهم ، ففتحوا حوانيتهم واشترى الإمام ما يريده من المتاع[1] وفسدت مكيدة الطاغية وما دبّره للإمام(عليه السلام) وقد انتهت إليه الأنباء بفشل مؤامرته. ولم يقف عند هذا الحد فقد أخذ يطلب له الغوائل حتى دسّ اليه السم القاتل، كما سنذكر ذلك فيما بعد. أهم ملامح عصر الإمام محمد الباقر (عليه السلام)1 ـ في الفترة الواقعة بين سنة ( 95 هـ ـ 97 هـ ) وفي بداية تصدّي الإمام محمد الباقر (عليه السلام) للامامة كان الحاكم الاُموي: الوليدُ بن عبد الملك قد بدأ باتخاذ بعض الاساليب لامتصاص النقمة الشعبية التي خلقتها السياسة الارهابية التي انتهجها السفّاك الأثيم الحجّاج بن يوسف وبعض الولاة الآخرين[2]. 2 ـ تصدّعت الجبهة الداخلية للبيت الاُموي المرواني ، ودبّ الخلاف بين الوليد وأخيه سليمان، حيث أراد الوليد خلعه ومبايعة ابنه عبد العزيز، فأبى عليه سليمان، ولم يجبه للبيعة جميع الولاة باستثناء الحجّاج وقتيبة بن مسلم وبعض الخواصّ من الناس، فعزم الوليد على السير إليه ليخلعه بالقوّة فمات قبل ذلك[3]. 3 ـ وفي بداية حكومة سليمان بن عبد الملك انشغل سليمان بمتابعة ولاة الوليد وعزلهم عن مناصبهم[4] وحاول إصلاح بعض الاوضاع المتردّية تقرباً إلى الناس، فأطلق المعتقلين وفكَّ الأسرى[5]. 4 ـ كانت الدولة محاطة بجملة من المخاطر من الداخل والخارج[6]. فانشغل الحكّام والولاة عن ملاحقة أو محاصرة الإمام الباقر (عليه السلام) خوفاً من قاعدته الشعبية العريضة والمتنامية فتصدى (عليه السلام) للإمامة وقام بأداء دوره الاصلاحي والتغييري في أوساط الاُمة الاسلامية، بعيداً عن المواجهة السياسية العلنية للنظام القائم. مظاهر الانحراف في عصر الإمام الباقر(عليه السلام) :إن إقصاء أهل البيت (عليهم السلام) عن موقع القيادة وإمامة المسلمين أدّى الى الانحراف في جميع مجالات الحياة، وترك تأثيره السلبي على جميع مقومات الشخصية، في الفكر والعاطفة والسلوك، فعمّ الانحراف الدولة والاُمة معاً، كما عمّ التصورات والمبادئ، والموازين والقيم، والأوضاع والتقاليد، والعلاقات والممارسات العملية جميعاً. نعم تغلغل الانحراف في ميدان النفس، وميدان الحياة الاجتماعية، وتحوّل الإسلام الى طقوس ميتة لا تمتّ الى الواقع بصلة، خلافاً لأهداف الإسلام الذي جاء من أجل تقرير المنهج الإلهي في الحياة. فانحسر عن الكثير من تلك المجالات ليصبح علاقة فرديّة بين الإنسان وخالقه فحسب. أوّلاً : الانحراف الفكري والعقائديازداد الانحراف في عهود الملوك المتعاقبين على الحكم، وكان للافكار والعقائد نصيبها الاكبر من هذا الانحراف، ولم يكترث الحكّام بهذا الانحراف بل شجّعوا عليه; لأنه كان يخدم مصالح الحكم القائم، ويشغل المسلمين عن همومهم الأساسية وبخاصة التفكير في مجال تغيير الاوضاع وإعادتها الى ما كانت عليه في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام). فكثرت في عهد الاُمويين الانحرافات الفكرية والعقائدية وتعدّدت وتعاظمت ، وأصبح لها أتباع وأنصار، وتحولت الى تيارات وكيانات خالف الكثير منها الاُسس الواضحة للعقيدة الاسلامية، وابتدعوا ما لا يجوز من الاُمور المخالفة للقرآن الكريم وللسنة النبوية، فانتشرت أفكار الجبر والتفويض والإرجاء، كما انتشرت أفكار التجسيم وتشبيه الله تعالى بخلقه، وكثرت الشبهات حول ثوابت العقيدة، وكثر الحديث حول ماهية الله تعالى وذاته، وتنوّعت تيّارات الغلوّ، حتى زعم البعض حلول الذات الإلهية في قوم من الصالحين، وقالوا بالتناسخ، وانتشرت الزندقة، فجحدوا البعث والنشور، وأسقطوا الثواب والعقاب وزُوِّرت الأحاديث والروايات واختُلِق كثير منها; لدعم التسلط الاُموي، كما راج اختلاق الفضائل لصالح المنحرفين من الصحابة، وطرحت نظرية عدالة جميع من صحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو رآه أو ولد في عهده، بينما منعوا ـ من جانب آخر ـ من نشر فضائل أهل البيت(عليهم السلام). وكان للحكّام دور كبير في تشجيع هذا الانحراف المتمثّل في اختلاق النصوص وقد وصف الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ذلك قائلاً: «إنّ مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة أقسام: أحدها : الغلو. وثانيها : التقصير في أمرنا. وثالثها : التصريح بمثالب أعدائنا»[7]. وانتشرت ظاهرة الإفتاء بالرأي، وراج القياس في الأحكام والتفسير بالرأي لآيات القرآن المجيد ، كما انتشرت أفكار التصوّف والاعتزال عن الحياة، وفصل الدين عن السياسة. وأشغل الحكّام كثيراً من الناس بالجدل في المسائل العقلية التي لا فائدة فيها، وشجّعوا على اقامة مجالس المناظرة والجدل العقيم في ذات الله تعالى وفي الملائكة، وفي قدم القرآن أو حدوثه. وهكذا كان للحكّام دور كبير في خلق المذاهب المنحرفة والتشجيع عليها، لا سيّما بعض المذاهب التي كانت تحمل شعار الانتساب الى أهل البيت (عليهم السلام) كالكيسانية لغرض شق صفوف أتباع أهل البيت (عليهم السلام) الذين كانوا يستهدفون الواقع السياسي المنحرف. |
[1] المناقب : 4/690، بحار الأنوار : 11/75، راجع حياة الإمام محمد الباقر(عليه السلام) : 2/40 ـ 66. [2] المنتظم في تاريخ الأمم والملوك: 7 / 3. [3] المصدر السابق : 7 / 12 . [4] الكامل في التاريخ: 5 / 11. [5] المنتظم: 7 / 13. [6] الكامل في التاريخ: 5 / 13 وما بعدها.
[7]
عيون أخبار الرضا: 1 / 304. |