مكتبة الإمام الباقر (ع)

فهرس الكتاب

 

2 ـ الحوار مع المذاهب والرموز المنحرفة

يعتبر الحوار احدى الوسائل التي تقع في طريق اصلاح الناس، حيث تزعزع المناظرة الهادفة والحوار السليم الأفكار والمفاهيم المنحرفة.

من هنا قام الإمام (عليه السلام) بمحاورة بعض رؤوس المخالفين، لتأثيرهم الكبير على أتباعهم لو صلحوا واستقاموا على الحقّ. وإليك بعض مناظراته:

      مع علماء النصارى: حينما أخرج هشام بن عبد الملك الإمام (عليه السلام) من المدينة الى الشام كان(عليه السلام) يجلس مع أهل الشام في مجالسهم، فبينا هو جالس وعنده جماعة من الناس يسألونه، اذ نظر الى النصارى يدخلون في جبل هناك، فسأل عن حالهم، فأُخبر انهم يأتون عالماً لهم في كل سنة في هذا اليوم يسألون عمّا يريدون وعمّا يكون في عامهم، وقد أدرك هذا العالم أصحاب الحوارييّن من اصحاب عيسى (عليه السلام)، فقال الإمام (عليه السلام): فهلمّ نذهب إليه؟ فذهب (عليه السلام) الى مكانهم، فقال له النصراني: اسألك أو تسألني؟ قال (عليه السلام): تسألني، فسأله عن مسائل عديدة حول الوقت، وحول أهل الجنّة، وحول عزرة وعزير، فأجابه (عليه السلام) عن كل مسألة.

فقال النصراني: يا معشر النصارى ما رأيت أحداً قطّ أعلم من هذا الرجل لا تسألوني عن حرف وهذا بالشام ردّوني فردّوه الى كهفه، ورجع النصارى مع الإمام (عليه السلام).

وفي رواية: انّه أسلم وأسلم معه أصحابه على يد الإمام (عليه السلام)[1].

مع هشام بن عبد الملك: ناظره هشام بن عبد الملك في مسائل متنوعة تتعلق بمقامات أهل البيت (عليهم السلام)، وميراثهم لعلم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وادعاء الإمام علي (عليه السلام) علم الغيب، فأجابه الإمام (عليه السلام) عن مسائله المتنوعة وناظره في اثبات مقامات أهل البيت (عليهم السلام) مستشهداً بالآيات القرآنية والاحاديث الشريفة، فلم يستطع هشام ان يردّ عليه، وناظره في مواضع اُخرى، فقال له هشام: (اعطني عهد الله وميثاقه ألاّ ترفع هذا الحديث الى أحد ما حييت)، قال الإمام الصادق (عليه السلام): فأعطاه أبي من ذلك ما أرضاه[2].

وقد ذكرنا تفصيل المناظرتين في بحث سابق فراجع[3] .

مع الحسن البصري: قال له الحسن البصري: جئت لأسألك عن أشياء من كتاب الله تعالى.

وبعد حوار قصير قال له (عليه السلام): بلغني عنك أمر فما أدري أكذاك أنت؟ أم يُكذب عليك؟ قال الحسن: ما هو ؟

قال (عليه السلام): زعموا أنّك تقول: إنَّ الله خلق العباد ففوّض اليهم اُمورهم.

فسكت الحسن... ثمّ وضّح له الإمام (عليه السلام) بطلان القول بالتفويض وحذّره قائلاً: وإيّاك أن تقول بالتفويض، فإنّ الله عز وجل لم يفوّض الأمر إلى خلقه، وهناً منه وضعفاً، ولا أجبرهم على معاصيه ظلماً[4].

وله (عليه السلام) مناظرات مع محمد بن المنكدر ـ من مشاهير زهاد ذلك العصر  ـ ومع نافع بن الأزرق أحد رؤساء الخوارج، ومع عبد الله بن معمر الليثي، ومع قتادة بن دعامة البصري[5] واحتجاجات لا يتحمّل شرحها هذا المختصر .

3 ـ إدانة فقهاء البلاط

جاء قتادة بن دعامة البصري الى الإمام (عليه السلام) وقد هيّأ له أربعين مسألة ليمتحنه بها، فقال له (عليه السلام): أنت فقيه أهل البصرة؟ قال قتادة: نعم، فقال (عليه السلام): «ويحك يا قتادة انّ الله عزّ وجل خلق خلقاً، فجعلهم حججاً على خلقه، فهم أوتاد في أرضه، قوّام بأمره، نجباء في علمه اصطفاهم قبل خلقه»، فسكت قتادة طويلاً، ثم قال: أصلحك الله، والله لقد جلست بين يدي الفقهاء، وقدّام ابن عباس، فما اضطرب قلبي قدّام أحد منهم ما اضطرب قدّامك[6].

وأدان الإمام الباقر(عليه السلام) أبا حنيفة لقوله بالقياس، وعلّق الاُستاذ محمد أبو زهرة على هذه الإدانة قائلاً: تتبيّن إمامة الباقر للعلماء، يحاسبهم على ما يبدو منهم، وكأنّه الرئيس يحاكم مرؤوسيه ليحملهم على الجادة، وهم يقبلون طائعين تلك الرئاسة[7].

4 ـ الدعوة الى أخذ الفكر من مصادره  النقيّة

لقد حذّر الإمام (عليه السلام) الناس من الوقوع في شراك الافكار والآراء والعقائد المنحرفة، وحذّر من البدع وجعلها أحد مصاديق الشرك فقال: « أدنى الشرك أن يبتدع الرجل رأياً فيُحَبّ عليه ويبغَض »[8].

كما حذّر من الإفتاء بالرأي فقال: «من أفتى الناس بغير علم ولا هوى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه»[9].

ومن هنا كان يدعو الناس الى اخذ العلم والفكر من منابعه النقية وهم أهل البيت المعصومون من كل زيغ وانحراف. قال(عليه السلام) لسلمة بن كهيل وللحكم بن عتيبة: «شرّقا وغرِّبا فلا تجدان علماً صحيحاً إلاّ شيئاً خرج من عندنا»[10].

وكان يحذّر من مجالسة أصحاب الخصومات ويقول: «لا تجالسوا أصحاب الخصومات، فإنهم يخوضون في آيات الله»[11].

كما كان يشجع على ذكر مقامات أهل البيت (عليهم السلام) وفضائلهم فإنّها من أسباب نشر الحق والفضيلة، فعن سعد الاسكاف، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): اني اجلس فأقصّ، واذكر حقكم وفضلكم. فقال (عليه السلام): « وددت انّ على كل ثلاثين ذراعاً قاصّاً مثلك »[12].

5 ـ نشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)

لقد فتح الإمام (عليه السلام) أبواب مدرسته العلمية لعامة أبناء الاُمة الإسلامية، حتى وفد اليها طلاب العلم من مختلف البقاع الإسلامية، وأخذ عنه العلم عدد كبير من المسلمين بشتى اتّجاهاتهم وميولهم ، منهم: عطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، والزهري، وربيعة الرأي، وابن جريج، والاوزاعي، وبسام الصيرفي[13]، وأبو حنيفة وغيرهم[14].

وفي ذلك قال عبد الله بن عطاء: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند أبي جعفر، لقد رأيت الحكم عنده كأنّه متعلم[15].

وكانت أحاديثه مسندة عن آبائه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، كما كان يرسل الحديث ولا يسنده. وحينما سئل عن ذلك، قال: إذا حدّثت بالحديث فلم اسنده، فسندي فيه أبي زين العابدين عن أبيه الحسين الشهيد عن أبيه علي بن أبي طالب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن جبرئيل عن الله عزّ وجلّ[16].

[1] بحار الانوار: 46 / 313 ـ 315.

[2] بحار الأنوار : 46 / 308 ، 316.

[3] راجع مبحث ملامح وأبعاد هامة في عصر الإمام الباقر(عليه السلام) .

[4] الاحتجاج : 2/184 .

[5] أعيان الشيعة : 1/653 .

[6] بحار الأنوار: 46 / 357.

[7] تاريخ المذاهب الاسلامية: 689.

[8] المحاسن: 207.

[9] المصدر السابق : 205.

[10] الكافي: 1 / 399.

[11] كشف الغمّة: 2 / 120.

[12] رجال الكشي: 215.

[13] سير أعلام النبلاء: 4 / 401.

[14] تاريخ المذاهب الإسلامية: 361.

[15] مختصر تاريخ دمشق: 23 / 79.

[16] اعلام الورى: 294.