ثانياً : تأسيس المدرسة الفقهية النموذجية[1]لقد جهد الإمام الباقر وولده الصادق (عليهما السلام) على نشر الفقه الاسلامي وتبنّيا نشره بصورة إيجابية في وقت كان المجتمع الاسلامي غارقاً في الأحداث والاضطرابات السياسية، حيث أهملت الحكومات في تلك العصور الشؤون الدينية إهمالاً تاماً، حتى لم تعد الشعوب الاسلامية تفقه من أمور دينها القليل ولا الكثير، يقول الدكتور علي حسن: «وقد أدى تتبعنا للنصوص التأريخية إلى امثلة كثيرة تدل على هذه الظاهرة ـ أي اهمال الشؤون الدينية ـ التي كانت تسود القرن الأول سواء لدى الحكام أو العلماء أو الشعب، ونعني بها عدم المعرفة بشؤون الدين، والتأرجح وعدم الجزم والقطع فيها حتى في العبادات، فمن ذلك ما روي أن ابن عباس خطب في آخر شهر رمضان على منبر البصرة فقال: اخرجوا صدقة صومكم فكان الناس لم يعلموا، فقال: من ها هنا من أهل المدينة؟ فقوموا إلى إخوانكم فعلموهم، فإنهم لا يعلمون فرض رسول الله(صلى الله عليه وآله)[2] . فأهل البلاد الاسلامية لم يعرفوا شؤون دينهم معرفة كافية، وقد كان يوجد في بلاد الشام من لا يعرف عدد الصلوات المفروضة، حتى راحوا يسألون الصحابة عن ذلك[3] . إن الدور المشرق الذي قام به الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام) في نشر الفقه وبيان أحكام شريعة الله كان من اعظم الخدمات التي قدّماها للعالم الاسلامي. وسعى إلى الأخذ من علومهما أبناء الصحابة والتابعون، ورؤساء المذاهب الاسلامية كأبي حنيفة ومالك وغيرهما، وتخرج على يد الإمام أبي جعفر(عليه السلام) جمهرة كبيرة من الفقهاء كزرارة بن اعين، ومحمد بن مسلم وابان ابن تغلب، وإليهم يرجع الفضل في تدوين أحاديث الإمام (عليه السلام) وقد أصبحوا من مراجع الفتيا بين المسلمين، وبذلك أعاد الإمام أبو جعفر (عليه السلام) للإسلام نضارته وحافظ على ثرواته الدينية من الضياع والضمور. ومن الجدير بالذكر أن الشيعة هم أول من سبق إلى تدوين الفقه . فقد قال مصطفى عبد الرازق: «ومن المعقول أن يكون النزوع إلى تدوين الفقه كان أسرع إلى الشيعة لأن اعتقادهم العصمة في أئمتهم أو ما يشبه العصمة كان حرياً إلى تدوين أقضيتهم وفتاواهم»[4]. وبذلك فقد ساهمت الشيعة في بناء الصرح الاسلامي، وحافظت على أهم ثرواته... ولابد لنا من وقفة قصيرة للنظر في فقه أهل البيت (عليهم السلام) الذي هو مستمد من الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله). مميّزات مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) الفقهيّة1 ـ الاتصال بالنبي (صلى الله عليه وآله) : والشيء المهم في فقه أهل البيت (عليهم السلام) هو أنه يتصل اتصالاً مباشراً بالنبي (صلى الله عليه وآله) فطريقه إليه أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وجعلهم النبي (صلى الله عليه وآله) سفن النجاة، وأمن العباد، وعدلاء الذكر الحكيم حسبما تواترت الاخبار بذلك. قال(عليه السلام): «لو إننا حدثنا برأينا ضللنا كما ضل من قبلنا، ولكنا حدثنا ببينة من ربنا بينها لنبيه(صلى الله عليه وآله) فبينها لنا»[5]. 2 ـ المرونة : إن فقه أهل البيت يساير الحياة، ويواكب التطور، ولا يشذ عن الفطرة ويتمشى مع جميع متطلبات الحياة، فليس فيه ـ والحمد لله ـ حرج ولا ضيق، ولا ضرر، ولا إضرار، وإنما فيه الصالح العام، والتوازن في جميع مناحي تشريعاته، وقد نال اعجاب جميع رجال القانون، واعترفوا بأنه من أثرى ما قنن في عالم التشريع عمقاً وأصالة وإبداعاً. 3 ـ فتح باب الاجتهاد : إنّ من أهم ما تميز به فقه أهل البيت (عليهم السلام) هو فتح باب الاجتهاد، فقد دلّ ذلك على حيوية فقه أهل البيت، وتفاعله مع الحياة واستمراره في العطاء لجميع شؤون الانسان، وإنه لا يقف مكتوفاً أمام الاحداث المستجدة التي يبتلى بها الناس خصوصاً في هذا العصر الذي برزت فيه كثير من الأحداث واستحدثت فيه كثير من الموضوعات، وقد أدرك كبار علماء المسلمين من الأزهر مدى الحاجة الملحّة إلى فتح باب الاجتهاد، ومتابعة الشيعة الإمامية في هذه الناحية. قال السيد رشيد رضا: «ولا نعرف في ترك الاجتهاد منفعة ما، وأ مّا مضارّه فكثيرة، وكلها ترجع إلى إهمال العقل، وقطع طريق العلم، والحرمان من استغلال الفكر، وقد أهمل المسلمون كل علم بترك الاجتهاد، فصاروا إلى ما نرى»[6]. 4 ـ الرجوع الى حكم العقل : انفرد فقهاء الامامية عن بقية المذاهب الاسلامية فجعلوا العقل واحداً من المصادر الأربعة لاستنباط الاحكام الشرعية، وقد أضفوا عليه أسمى ألوان التقديس فاعتبروه رسول الله الباطني، وإنه مما يُعبَد به الرحمن، ويكتَسب به الجنان. ومن الطبيعي ان الرجوع إلى حكم العقل إنّما يجوز إذا لم يكن في المسألة نص خاص أو عام وإلا فهو حاكم عليه، وإن للعقل مسرحاً كبيراً في علم الاصول الذي يتوقف عليه الاجتهاد. ثالثاً : الاصلاح السياسياستثمر الإمام (عليه السلام) بعض ظروف الانفراج السياسي النسبي من أجل بناء وتوسعة القاعدة الشعبية، وتسليحها بالفكر السياسي السليم المنسجم مع رؤية أهل البيت (عليهم السلام)، وتعبئة الطاقات لاتخاذ الموقف المناسب في الوقت المناسب، ولهذا لم تنطلق أي ثورة علوية في عهده، لعدم اكتمال شروطها من حيث العدة والعدد. وكان الإمام (عليه السلام) يقدّم للاُمة المفاهيم والافكار السياسية الأساسية مع الحيطة والحذر; وكانت له مواقف سياسية صريحة من بعض الحكام لإعادتهم الى جادة الصواب. |
[1] راجع حياة الإمام محمد الباقر (عليه السلام) ، باقر شريف القرشي 1/215 ـ 226. [2] الاحكام في أصول الاحكام لابن حزم: 2 / 131. [3] سنن النسائي: 1 / 42. [4] تمهيد لتأريخ الفلسفة الاسلامية: ص202. [5] اعلام الورى: 270. [6] الوحدة الاسلامية: 99. |