مكتبة الإمام الباقر (ع)

فهرس الكتاب

 

وقد تجلّى دوره الاصلاحي في الممارسات التالية :

1 ـ الدعوة الى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحرّران الانسان والمجتمع من الوان الانحراف في الفكر والعاطفة والسلوك، ويحوّلان المفاهيم والقيم الاسلامية الثابتة الى ممارسات سلوكية واضحة المعالم، تترجم فيها الآراء والنصوص الى مشاعر وعواطف وأعمال وحركات وعلاقات متجسدة في الواقع لكي تكون الاُمة والدولة بمستوى المسؤولية في الحياة، والمسؤولية هي حمل الأمانة الإلهية وخلافة الله تعالى في الأرض.

ومن هنا جاءت تأكيدات الإمام (عليه السلام) على هذه الفريضة التي جعلها شاملة لجميع مرافق الحياة الانسانية حيث قال: «ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصالحين، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتردّ المظالم وتعمّر الأرض، وينتصف من الاعداء ويستقيم الأمر، فأنكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم ، وصكّوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم...»[1].

وحذّر (عليه السلام) من مغبّة التخليّ عن المسؤولية، ومداهنة المنحرفين حكّاماً كانوا أم من سائر أفراد الأمة فقال: «أوحى الله تعالى الى شعيب النبي (عليه السلام) إنّي لمعذّب من قومك مائة ألف: أربعين ألفاً من شرارهم، وستين ألفاً من خيارهم، فقال: يا ربّ هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار ؟

فأوحى الله عز وجل إليه: إنهم داهنوا أهل المعاصي، ولم يغضبوا لغضبي»[2].

وحث (عليه السلام) على هذه المسؤولية وبيّن آثار التخلي عنها فقال: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله عزّ وجلّ، فمن نصرهما أعزّه الله، ومن خذلهما خذله الله عز وجل»[3].

2 ـ نشر المفاهيم السياسية السليمة

وجّه الإمام (عليه السلام) الأنظار الى دور أهل البيت (عليهم السلام) في قيادة الاُمة، وتوجيهها نحو الاستقامة والرشاد فقال: «نحن ولاة أمر الله وخزائن علم الله، وورثة وحي الله، وحملة كتاب الله، طاعتنا فريضة، وحبّنا إيمان، وبغضنا كفر، محبّنا في الجنة، ومبغضنا في النار»[4].

وحذّر الاُمة من الابتعاد عن نهج أهل البيت (عليهم السلام) فقال (عليه السلام) : «برئ الله ممن يبرأ منّا، لعن الله من لعننا، أهلك الله من عادانا»[5].

وحثّ (عليه السلام) على نصرتهم فقال : «من أعاننا بلسانه على عدوّنا أنطقه الله بحجته يوم موقفه بين يديه عزّ وجلّ»[6].

ووضّح (عليه السلام) حدود الموالاة لهم، وبيّن المعيار لمعرفة الموالاة والموالين في حالة التباس المفاهيم واختلاط المعايير، فقال: «أمّا محبتنا، فيخلص الحبّ لنا كما يخلص الذهب بالنّار لا كدر فيه، من أراد أن يعلم حبّنا، فليمتحن قلبه فإن شاركه في حبّنا حبّ عدوِّنا، فليس منّا ولسنا منه»[7].

وأ كّد على انّ طرق تولّي الإمام لمنصب الامامة منحصرة بالنصّ والوصية، ولا عبرة بما هو الشائع من البيعة والعهد والغلبة، ومما جاء في ذلك قوله (عليه السلام): «كل من دان الله عزّ وجلّ بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله فسعيه غير مقبول، وهو ضالّ متحيّر، والله شانئ لأعماله...»[8].

وبيّن مواصفات الإمام لكي تتمكن الاُمة من التمييز والتشخيص في خضم الاحداث التي حُرِّفت فيها المفاهيم وزُوِّرت فيها الحقائق فقال (عليه السلام) : «ان الإمامة لا تصلح الاّ لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن المحارم، وحلم يملك به غضبه، وحسن الخلافة على من ولي، حتى يكون له كالوالد الرحيم»[9].

ورسم قاعدة كلية في أساسيات حقوق وواجبات الإمام تجاه الاُمة، لكي تدرك الاُمة مدى قرب وبعد الحكّام عن أداء مسؤوليتهم، فقال (عليه السلام): «حقّه عليهم أن يسمعوا ويطيعوا... وحقهم عليه: يقسم بينهم بالسوية ويعدل في الرعيّة»[10].

وفي خضم الاحداث الصاخبة وما طرأ من تشويه وتدليس في الحقائق، بيّن (عليه السلام) المفهوم الحقيقي للتشيع، لكي لا يعطي مبرّراً للحكّام الاُمويين لتشويه سمعة أنصار أهل البيت (عليهم السلام) في المحافل المختلفة، واستغلال بعض السلبيات للطعن في مفاهيم الولاء والتولي، فقال (عليه السلام): «فوالله ما شيعتنا الاّ من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون الاّ بالتواضع، والتخشع، والامانة، وكثرة ذكر الله، والصوم، والصلاة، والبر بالوالدين، والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة، والغارمين، والأيتام، وصدق الحديث وتلاوة القرآن، وكفّ الألسن عن الناس الاّ من خير، وكانوا اُمناء عشائرهم في الأشياء»[11].

والتشيّع ليس ادعاءً بل هو ممارسة عملية محسوسة في الواقع، والشيعي هو مثال التديّن والاخلاص والطّاعة لله تعالى.

ولم يكتف الإمام الباقر(عليه السلام) ببيان المظاهر الخارجية لمن ينتسب لمدرسة أهل البيت(عليهم السلام) وإنّما تعدّى ذلك الى مجموعة من المعالم الفريدة لشيعتهم، فقال (عليه السلام): «انّما شيعة علي (عليه السلام) الشاحبون الناحلون الذابلون، ذابلة شفاههم، خميصة بطونهم، متغيّرة ألوانهم، مصفرّة وجوههم، إذا جنّهم الليل اتّخذوا الأرض فراشاً، واستقبلوا الأرض بجباههم، كثير سجودهم، كثيرة دموعهم، كثير دعاؤهم، كثير بكاؤهم، يفرح الناس وهم محزونون»[12].

3 ـ فضح الواقع الاُموي

كشف الإمام (عليه السلام) حقيقة الحكم الاُموي وكيفية وصوله الى الحكم، وما مارسه من أعمال لإدامة السيطرة على رقاب المسلمين، ووضّح الجرائم التي ارتكبها سلف هؤلاء الحكّام في حق أهل البيت (عليهم السلام) وأنصارهم، فبعد أن بيّن ملابسات الخلافة، وكيفية الاستحواذ عليها وإقصاء أهل البيت (عليهم السلام) عن موقعهم فيها، قال: «... وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن  (عليه السلام) فَقُتِلَتْ شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة، وكان من يذكر بحبّنا والانقطاع الينا سُجِن أو نُهِبَ ماله، أو هُدِمَت داره، ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد الى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين (عليه السلام) ثم جاء الحجّاج فقتلهم كل قتلة، وأخذهم بكل ظنٍّ وتهمة، حتى أنّ الرجل ليقال له: زنديق أو كافر، أحبُّ اليه من أن يقال: شيعة عليّ، وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير ـ ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً ـ يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة، من تفضيل بعض من قد سَلَفَ من الولاة، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها، ولا كانت ولا وقعت وهو يحسب أ نّها حقٌّ لكثرة من قد رواها ممّن لم يعرف بكذب، ولا بقلة ورع»[13].

[1] تهذيب الاحكام: 6 / 180.

[2] المصدر السابق: 6 / 181.

[3] الخصال: 1 / 42.

[4] مناقب آل أبي طالب: 4 / 223.

[5] بحار الانوار: 27 / 222.

[6] المصدر السابق: 2 / 135.

[7] المصدر السابق : 27 / 51.

[8] الكافي: 1 / 184.

[9] الخصال: 1 / 116.

[10] بحار الانوار: 27 / 244.

[11] الكافي: 2 / 74.

[12] بحار الانوار: 65 / 149.

[13] شرح نهج البلاغة: 11 / 42، 44.