مكتبة الإمام الباقر (ع)

فهرس الكتاب

 

4 ـ الدعوة الى مقاطعة الحكم القائم

دعا (عليه السلام) الى مقاطعة الحكم الجائر ونهى عن إسناده بأي شكل من أشكال المساندة وإن كانت لا تتعلق بسياستهم، فقال (عليه السلام) ـ في معرض جوابه عن العمل معهم ـ : «ولا مدة قلم، إنّ أحدهم لا يصيب من دنياهم شيئاً إلاّ أصابوا من دينه مثله»[1].

ووضّح أساسيات التعامل مع الحكام الجائرين والفاسقين بقوله: «لا دين لمن دان بطاعة من عصى الله»[2].

وأكد (عليه السلام) على أن تكون العلاقة معهم علاقة التوجيه والارشاد، والقيام بأداء مسؤولية الوعظ فقال: «من مشى الى سلطان جائر، فأمره بتقوى الله، وخوّفه ووعظه كان له مثل أجر الثقلين من الجن والانس، ومثل أعمالهم»[3].

واستثنى (عليه السلام) المواقف التي تتخذ من أجل مصلحة الإسلام الكبرى، فجوّز إسنادهم بالسلاح إن كان القتال مع أعداء الإسلام، لأنهم يدفعون بالسلاح العدو المشترك، قال (عليه السلام) لمن كان يحمل إليهم السلاح: «إحمل إليهم، فإنّ الله يدفع بهم عدوّنا وعدوّكم ـ يعني الروم ـ وبعهم، فإذا كانت الحرب بيننا فلا تحملوا»[4].

وقال (عليه السلام) في حق حكّام الجور: «ان ائمة الجور واتباعهم لمعزولون عن دين الله والحقّ، قد ضلّوا بأعمالهم التي يعملونها»[5].

5 ـ مواقفه المباشرة من الحكّام المنحرفين

انّ دور الإمام الحقيقي هو دور القدوة، ومن أهم المسؤوليات الملقاة على عاتقه إصلاح الحاكم والاُمة معاً، والقضاء على الانحراف في مهده. أو الحيلولة دون التمادي فيه، وهذا الدور تختلف أساليبه وبرامجه تبعاً للعوامل والظروف السياسية المحيطة بالامام، وتتغيّر المواقف تبعاً للمقومات التالية:

أ ـ المصلحة الاسلامية العامة.

ب ـ المصلحة الاسلامية الخاصة، والتي تتعلق بالحفاظ على منهج أهل البيت (عليهم السلام) ورفده بالعناصر النزيهة، لضمان استمرار حركته في الاُمة.

ت ـ الظروف العامة والخاصة من حيث قوة الحاكم، وقوة القاعدة الشعبية لأهل البيت (عليهم السلام).

وكانت التقيّة اُسلوباً يتخذه الإمام (عليه السلام) في مواقفه من الحاكم الجائر عندما لا تكون المواجهة العلنية مفيدة ومثمرة، وأوضح الإمام حدودها بقوله : « التقية في كل ضرورة »[6]. وقال (عليه السلام): «إنما جعلت التقيّة ليحقن بها الدماء، فإذا بلغ الدم فلا تقيّة»[7].

وفي العهود التي سبقت عهد عمر بن عبد العزيز، كان الإمام (عليه السلام) يتّقي المواجهة مع الحاكم حفاظاً على كيان أهل البيت (عليهم السلام) وإبعاداً لأنصاره عن حراب الحاكم وأعوانه، ولم يتدخل (عليه السلام) في شؤون الحاكم الاّ في حدود ضيّقة، وحينما وصل الأمر الى عمر بن عبد العزيز وتبدلت الاوضاع والظروف تقرب عمر بن عبدالعزيز إلى أهل البيت (عليهم السلام) وفضّلهم على بني أمية، قائلاً: اُفضّلهم لأنّي سمعت... أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول: «إنّما فاطمة شجنة[8] منّي يسرّني ما أسرّها، ويسوؤني ما أساءها، فأنا ابتغي سرور رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأتقي مساءته»[9].

واستثمر الإمام (عليه السلام) هذه الحرية النسبيّة، فقام بدوره في اصلاح الحاكم وأجهزته وإرشاده وحثّه على الاستقامة في التعامل مع الرعيّة.

وحينما بعث اليه ان يقدم عليه، لبّى (عليه السلام) الدعوة واجتمع معه، وأخذ ينصحه ويطلب منه أن يوفق بين ممارساته وبين القيم الاسلامية في مجال التعامل، وممّا جاء في نصائحه له قوله (عليه السلام): «... فاتق الله، واجعل في قلبك اثنتين تنظر الّذي تحبّ أن يكون معك إذا قدمت على ربِّك، فقدِّمه بين يديك، وتنظر الذي تكرهه أن يكون معك إذا قدمت على ربِّك، فابتغ به البدل، ولا تذهبن إلى سلعة قد بارت على من كان قبلك ترجو أن تجوز عنك، واتق الله يا عمر وافتح الأبواب وسهّل الحجاب، وانصر المظلوم وردّ المظالم»[10].

واستشاره عمر في بعض الأمور، وحينما أراد الرجوع الى المدينة قال له عمر: فأوصني يا أبا جعفر، فقال (عليه السلام): «اُوصيك بتقوى الله واتّخذ الكبير أباً، والصغير ولداً، والرجل أخاً»[11].

وفي عهد هشام بن عبد الملك كان (عليه السلام) يتحرك تبعاً لمواقف هشام من حيث اللين والشدة، فحينما دخل هشام المسجد الحرام نظر الى الإمام (عليه السلام) وقد أحدق الناس به، فقال: من هذا ؟ فقيل له: محمد بن علي بن الحسين، فقال: هذا المفتون به أهل العراق؟! فأرسل اليه، وسأله بعض الاسئلة، فأفحمه الإمام (عليه السلام) وظهر عليه أمام أتباعه[12].

ولمّا حُمل الى الشام وأراد هشام أن ينتقص منه، نهض قائماً ثم قال: «أيها الناس أين تذهبون وأين يراد بكم؟ بنا هدى الله أوّلكم، وبنا يختم آخركم، فإن يكن لكم ملك معجّل، فإنّ لنا ملكاً مؤجلاً...»[13].

6 ـ موقفه من الثورة المسلحة

وقف الإمام (عليه السلام) موقف الحياد من الثورات التي قادها الخوارج، فلم يصدر منه تأييد ولا معارضة، لكي لا يستثمر قادة الثورات أو الحكّام موقف الإمام (عليه السلام) لصالحهم، ولكي تستمر روح الثورة في النفوس.

وفي عهده (عليه السلام) لم تنطلق أي ثورة علوية يقودها أحد أهل البيت (عليهم السلام)

أو أحد أنصارهم، لأنّ الإمام (عليه السلام) كان مشغولاً ببناء وتوسعة القاعدة الشعبية، لكي تنطلق فيما بعد ، أي بعد اكمال العدّة والعدد، وكان (عليه السلام) يوجّه الانظار الى ثورة أخيه زيد التي أخبر أنها ستنطلق في المستقبل القريب.

وكان يربط بين موقف زيد المستقبلي وبين موقفه(عليه السلام) منه فيقول: «أ مّا عبد الله فيدي التي أبطش بها، وأما عمر فبصري الذي أبصر به، وأما زيد فلساني الذي أنطق به[14] ...»[15].

وكان (عليه السلام)يحذِّر من خذلان زيد ومحاربته فيقول: «ان أخي زيد بن علي خارج فمقتول على الحق، فالويل لمن خذله، والويل لمن حاربه، والويل لمن قاتله»[16].

وكان (عليه السلام) هو الموجّه لحركة أخيه زيد، وكان زيد أحد المنضوين تحت لواء إمامته، وكانت حركته العسكرية ذراعاً واقعياً لأهل البيت (عليهم السلام) ليقاوموا من خلالها انحراف الحكّام بعد عجز الاساليب الاخرى عن التأثير.

وممّايؤكد هذه التبعية قول زيد رحمه الله:

فمن لي سوى جعفر بعده***إمام الورى الأوحد الأمجد[17]

فتأجلت الثورة المسلحة الى وقتها المناسب وتفجّرت بعد أقلّ من عشر سنين من استشهاد الإمام محمد الباقر (عليه السلام).

[1] الكافي: 5 / 107.

[2] بحار الانوار: 2 / 122.

[3] بحار الأنوار : 72 / 375.

[4] الكافي: 5 / 112، كتاب المعيشة، باب بيع السلاح منهم.

[5] المحاسن: 93.

[6] بحار الانوار: 72 / 399.

[7] المصدر السابق .

[8] الشجن : القرع من كل شيء.

[9] بحار الأنوار: 46 / 320.

[10] المصدر السابق : 75 / 182.

[11] مختصر تاريخ دمشق: 23 / 77.

[12] المصدر السابق: 23 / 79.

[13] مناقب آل أبي طالب: 4 / 206 .

[14] عبدالله الباهر أخو الإمام الباقر(عليه السلام) ، كان من أبرز علماء المسلمين في فضله، وسموّ منزلته العلمية ، وقد روى عن أبيه علوماً شتى ، وكتب الناس عنه ذلك. «غاية الاختصار 106» .

     وأما عمر بن علي بن الحسين(عليه السلام) فهو أخو الإمام الباقر(عليه السلام) أيضاً كان فاضلاً جليلاً ووُلّي صدقات النبي(صلى الله عليه وآله) وصدقات أمير المؤمنين(عليه السلام) وكان ورعاً سخيّاً، ويروى عنه، قال: يشترط على من ابتاع صدقات علي(عليه السلام) أن يثلم في الحائط كذا وكذا ثلمة لا يمنع من دخله أن يأكل منه.

     وكذلك زيد الشهيد فإنه ثالث إخوته ، وكان من أجلّ علماء المسلمين وقد تخصص في علوم كثيرة كعلم الفقه والحديث والتفسير وعلم الكلام وغيرها، وهو الذي تبنّى حقوق المظلومين والمضطهدين، وقاد سيرتهم النضالية في ثروته الخالدة التي نشرت الوعي السياسي في المجتمع الإسلامي وساهمت مساهمة إيجابية وفعّالة في الإطاحة بالحكم الاُموي.

[15] سفينة البحار: 2 / 273.

[16] مقتل الخوارزمي: 2 / 113.

[17] مناقب آل أبي طالب: 4 / 213.