مكتبة الإمام الباقر (ع)

فهرس الكتاب

 

2 ـ منهج التزكية عند الإمام الباقر (عليه السلام)

رسم الإمام (عليه السلام) للجماعة الصالحة منهجاً واقعياً متكاملاً وشاملاً لتزكية النفس وتربيتها بحيث يكون كفيلاً بتحقيقها عند مراعاته بشكل دقيق.

وتتحدد معالم هذا المنهج بالنقاط التالية :

أ ـ الارتباط الدائم بالله تعالى

الارتباط بالله تعالى والاستسلام له والعزم على طاعته من شأنه أن يمحّص القلوب ، ويطهّر النفوس ، لأنه ينقل الإنسان من مرحلة التفكّر والتدبّر في عظمة الله تعالى وهيمنته ورقابته الى مرحلة العمل الصالح في ظلّ هذا التدبر ، فالعزم يتبعه العون منه تعالى ، ويتبعه التثبيت على المضي في طريق تزكية النفس .

والارتباط بالله تعالى يبدأ بمعرفته التي تحول بين الإنسان وبين مخالفة ربّه وخالقه ، قال (عليه السلام) : « ما عرف الله من عصاه»[1].

فإنّ المعرفة تنتج الحبّ والحبّ الصادق يحول بين الإنسان وبين مخالفة محبوبه.

والارتباط بالله تعالى يتجسد في مراتب عديدة منها : حسن الظن بالله ورجاء رحمته ، فقد روى عن جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال : « والذي لا اله إلاّ هو ما اُعطي مؤمن قط خير الدنيا والآخرة إلاّ بحسن ظنّه بالله ورجائه له وحسن خلقه والكف عن اغتياب الناس »[2].

ويتحقق الارتباط بالله تعالى أيضاً عن طريق المداومة على العبادات وقد حثّ الإمام (عليه السلام) الجماعة الصالحة على كثرة العبادة، حتى جعلها احدى خصائصهم ـ كما تقدم ـ .

وحثّ (عليه السلام) على قراءة القرآن الكريم والسير على منهاجه.

كما حثّ (عليه السلام) على جعل الروابط والعلاقات الاجتماعية قائمة على أساس القرب والبعد من الله تعالى ، فقد أورد أحاديث لرسول الله (صلى الله عليه وآله) تؤكد على ذلك ومنها قوله (صلى الله عليه وآله) : « ودّ المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان ، ومن أحبّ في الله ، وأبغض في الله ، وأعطى في الله ، ومنع في الله ; فهو من أصفياء الله »[3].

ب ـ الاقرار بالذنب والتوبة

ان منهج أهل البيت (عليهم السلام) يهدف الى علاج النفوس البشرية ، واستجاشة عناصر الخير فيها ، والى مطاردة عوامل الشر والضعف والغفلة.

والطبيعة البشرية قد تستقيم مرة وتنحرف مرة اُخرى ، ولهذا فإنّ العودة الى الاستقامة تقتضي محاسبة النفس باستمرار ، والاقرار بالأخطاء ، ثم التوبة ، والعزم على عدم العود ، ولذا أكّد الإمام (عليه السلام) على هذه المقومات ، وبدأ بالاقرار بالذنب كمقدمة للنجاة منه ، فقال (عليه السلام) : « والله ما ينجو من الذنب إلاّ من أقرّ به »[4].

وقال (عليه السلام) : « كفى بالندم توبة »[5].

والاقرار يتبعه الغفران بعد طلبه من الله تعالى ، قال (عليه السلام) : « لقد غفر الله لرجل من أهل البادية بكلمتين دعا بهما قال : اللهم إن تعذبني فأهل ذلك أنا ، وإن تغفر لي فأهل ذلك أنت ، فغفر له »[6].

والتوبة تمحي الذنب فيعود الانسان من خلالها الى الاستقامة ثانية ، قال (عليه السلام) : « التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ »[7].

ج ـ الحذر من التورّط بالذنوب

الحذر والحيطة من الذنوب ضرورة ملحة في تزكية النفس ، وهي تتطلب الدقة في تناول كل خالجة وكل حركة وكل موقف ، وتتطلب التحليل الشامل للاسباب والظواهر ، والعوامل المسبّبة للموقف ، والتعالي بالنفس في ميادينها الباطنية ، ولهذا دعا الإمام (عليه السلام) الى الحذر والحيطة من جميع الممارسات فقال: « انّ الله خبأ ثلاثة أشياء في ثلاثة اشياء : خبأ رضاه في طاعته ، فلا تحقرن من الطاعة شيئاً فلعلّ رضاه فيه ، وخبأ سخطه في معصيته فلا تحقرن من المعصية شيئاً فلعلّ سخطه فيه ، وخبأ أولياءه في خلقه ، فلا تحقرنّ أحداً فلعلّه ذلك الولي »[8].

ودعا (عليه السلام) الى الاحتياط في القول في الحكم على الاشخاص والاعمال والممارسات فقال : « لا يسلم أحد من الذنوب حتى يخزن لسانه »[9].

وقال (عليه السلام) لاحد أصحابه : « يا فضيل بلّغ من لقيت من موالينا عنّا السلام ، وقل لهم : إني أقول : أني لا أغني عنكم من الله شيئاً إلاّ بورع ، فاحفظوا السنتكم ، وكفّوا أيديكم ، وعليكم بالصبر والصلاة ; ان الله مع الصابرين »[10].

د ـ تعميق الحياء الداخلي

ان موجبات التزكية كامنة في النفس ذاتها ، قبل التأثر بالعوامل الخارجية ، والتزكية ليست مجرد كلمات ورؤى نظرية بل هي ممارسة وسلوك عملي ، يجب ان تنطلق من داخل النفس الانسانية ، ولا بد ان يتسلّح الانسان بالواعز الذاتي الذي يصدّه عن فعل القبيح ، ولذا أكّد الإمام (عليه السلام) على الحياء لأنه حصن حصين يردع الأهواء والشهوات من الانطلاق اللامحدود ، قال (عليه السلام) : « الحياء والإيمان مقرونان في قرن ، فإذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه »[11].

هـ ـ كسر الأُلفة بين الانسان وسلوكه الجاهلي

حينما يعتاد الانسان على السلوك الجاهلي فإنه سيأنس به ، ويألفه حتى يصبح وكأنه جزء من كيانه ، ترضاه نفسه ، ويقبله قلبه ، ولهذا فهو بحاجة الى كسر هذه الألفة وهذا الأُنس إن أراد أن يزكّي نفسه ويسمو بها الى مشارف الكمال ، ولذا أكّد الإمام (عليه السلام) على بعض الخطوات التي تكسر هذه الاُلفة ، فقال: « ان الله يبغض الفاحش المتفحّش »[12].

وزرع في النفس كراهية الطمع والرغبات المذلة ، فقال : « بئس العبد عبد يكون له طمع يقوده ، وبئس العبد عبد له رغبة تذله »[13].

ومن أجل زرع الكراهية للشر روى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله : « ألا إن شرار اُمتي الذين يكرمون مخافة شرّهم ، الا وإنّ من أكرمه النّاس اتقاء شرّه فليس منّي»[14].

وقال (عليه السلام) : « . . . إنّ أسرع الشر عقوبة البغي ، وكفى بالمرء عيباً أن يبصر من الناس ما يَعمى عليه من نفسه ، وأن يأمر للناس بما لا يستطيع التحوّل عنه ، وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه »[15].

فإذا كسرت الاُلفة بين الانسان وسلوكه الجاهلي فإنّه سيقلع عنه ، ويكون مهيّئاً لتقبل السلوك الاسلامي.

 

و ـ ازالة الحاجز النفسي بين الانسان والسلوك السليم

قد يحدث حاجز نفسي بين الانسان والسلوك السليم بسبب ضغط الأهواء والشهوات، أو بسبب الهواجس والوساوس المطبقة عليه ، وسوء التصور ، ورواسب الجاهلية ، والضعف البشري ، فلا بد من ازالة هذه الحواجز أولاً ثم التمرين على ممارسة السلوك السليم ثانياً .

فقد حبّب الإمام (عليه السلام) الى اصحابه السلوك الصالح ، بربطه بالعبادة وطلب العون من الله تعالى ، فقال : « ما من عبادة أفضل من عفّة بطن وفرج ، وما من شيء أحبُّ الى الله من أن يُسأل ، وما يدفع القضاء إلاّ الدعاء ، وإن اسرع الخير ثواباً البرّ . . . »[16].

وحبّب الى النفوس حسن الخلق والرفق ، فقال : « من اُعطي الخلق والرفق ، فقد اُعطي الخير كلّه ، والراحة ، وحسن حاله في دنياه وآخرته ، ومن حُرم الرفق والخلق كان ذلك له سبيلاً الى كل شرّ وبليّة إلاّ من عصمه الله تعالى »[17].

وحبّب الى نفوس أصحابه الأدب وحسن السيرة ، فقال : « ما استوى رجلان في حسب ودين قط إلاّ  كان أفضلهما عند الله آدبهما »[18].

وروى (عليه السلام) عن الإمام عليّ (عليه السلام) قوله : « انّ من أعون الأخلاق على الدين الزهد في الدنيا »[19].

وحثَّ (عليه السلام) على أداء العبادات المندوبة لكي تتجذر في النفوس وفي الارادة، لأنها تساعد على اصلاح النفس وتزكيتها ، وبيّن ثواب من عمل بها ، واستمر على أدائها في جميع الظروف والأحوال .

وحثَّ على التمرّن على الأخلاق الفاضلة والخصائص الحميدة ، فقال (عليه السلام): « عليكم بالورع والاجتهاد ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة الى من ائتمنكم عليها براً كان أو فاجراً ، فلو أن قاتل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ائتمنني على أمانة لأديتها اليه[20].

[1]  تحف العقول : 215 .

[2]  الكافي : 2 / 72 .

[3]  المحاسن : 263 .

[4]  الكافي : 2 / 311 .

[5]  وسائل الشيعة : 16 / 59 .

[6] المصدر السابق : 16 / 60 .

[7]  الكافي : 2 / 316 .

[8]  كشف الغمة : 2 / 148 .

[9]  تحف العقول : 218 .

[10]  تفسير العياشي : 1 / 68 .

[11] تحف العقول : 217 .

[12]  الكافي : 2 / 245 .

[13]  وسائل الشيعة : 16 / 24 .

[14]  الخصال : 1 / 15 .

[15] مختصر تاريخ دمشق : 23 / 86 .

[16] مختصر تاريخ دمشق : 23 / 86 .

[17] حلية الاولياء : 3 / 187 .

[18] مختصر تاريخ دمشق : 23 / 85 .

[19]  وسائل الشيعة : 16 / 12 .

[20]  تحف العقول : 219 .