ثالثاً : المنهج التثقيفي عند الإمام الباقر (عليه السلام)العلم خير وسيلة لتجلية حقيقة التصور الاسلامي، والمنهج الإلهي في الحياة الانسانية. وهو الوسيلة المُثلى لتوجيه الجماعة الصالحة للارتفاع بها الى مستوى الامانة العظيمة التي ناطها الله بها. ولذا كان أهل البيت (عليهم السلام) يتشدّدون مع الجماعة الصالحة في أمر تلقي العلوم المرتبطة بالعقيدة والشريعة من مصادرها الأصيلة وهي القرآن والسنة الشريفة . وفي منهج الإمام الباقر (عليه السلام) التثقيفي والتعليمي المعد للجماعة الصالحة نلاحظ التأكيد على الاُمور التالية : 1 ـ الحث على طلب العلمحثّ الإمام (عليه السلام) على طلب العلم ، وخصوصاً علم الفقه فقال : « الكمال كل الكمال : التفقه في الدين ، والصبر على النائبة وتقدير المعيشة »[1].
وحث (عليه السلام) على السؤال باعتباره مفتاح
العلم ، وروى عن 2 ـ موقع العلماء المتميّز وفضلهم بيّن الإمام الباقر (عليه السلام) فضل العالم وقدّمه على العابد ، لأن العلم الحقيقي يجعل الانسان على وعي كامل بالحقائق والتصورات وبالاحداث والمواقف ، فلا يختلط عليه أمر بأمر ولا موقف بموقف فيكون قادراً على التمييز والتشخيص ، وإصابة الواقع في جميع مجالاته ، قال (عليه السلام) : « عالم ينتفع بعلمه أفضل من ألف عابد »[3]. وقال (عليه السلام) : « والله لموت عالم أحبّ الى ابليس من موت سبعين عابداً »[4]. وبيّن (عليه السلام) خصائص العالم فقال : « إنّ الفقيه حق الفقيه : الزاهد في الدنيا ، الراغب في الآخرة ، المتمسك بسنة النبي»[5]. 3 ـ الاخلاص في طلب العلمحث (عليه السلام) على إخلاص النية في طلب العلم ، بأن يكون الهدف النهائي من طلبه للعلم هو الوصول الى الحقّ ، وتقريره في عقول الناس وقلوبهم تقرباً الى الله تعالى ، وتجسيداً لمنهجه في الحياة. قال (عليه السلام) : « من طلب العلم ليباهي به العلماء ، أو يماري به السفهاء ، أو يصرف به وجوه الناس اليه ، فليتبوء مقعده من النار ، إنّ الرئاسة لا تصلح إلاّ لأهلها »[6]. 4 ـ ضرورة نشر العلم وتثقيف الناسحث الإمام (عليه السلام) على نشر العلم وتعليمه للناس ، وإشاعته في الأوساط المختلفة ، نهي عن كتمانه ، بقوله (عليه السلام) : « من علّم باب هدى فله أجر من عمل به ، ولا ينقص اُولئك من اُجورهم شيئاً . . . »[7]. وقال (عليه السلام) : « رحم الله عبداً أحيا العلم . . . يذاكر به أهل الدين وأهل الورع »[8]. وجعل على العلم زكاة فقال : « زكاة العلم أن تعلّمه عباد الله »[9]. كما جعل تذاكره ومدارسته صلاة ، فقال : « تذاكر العلم دراسة ، والدراسة صلاة حسنة »[10]. 5 ـ مزالق وآفات المتعلّمينان الانسان مهما اُوتي من علم فإنه يبقى بحاجة الى المزيد ، ويبقى في كثير من الأحيان جاهلاً ببعض الحقائق ، لذا حثّ الإمام (عليه السلام) على الاحتياط في الاجابة لكي يأمن الانحراف ، ولا تؤدي الى تغرير الآخرين، قال (عليه السلام) : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، وتركك حديثاً لم تروه خير من روايتك حديثاً لم تحصه »[11]. وقال: « ما علمتم فقولوا، وما لم تعلموا فقولوا : الله اعلم ، ان الرجل لينتزع الآية من القرآن يخرّ فيها أبعد ما بين السماء والأرض »[12]. وجعل هذا الاحتياط حقاً لله على العباد ، فقال : « حق الله على العباد : أن يقولوا ما يعلمون ، ويقفوا عندما لا يعلمون »[13]. 6 ـ المرجعية العلميةمن الحقائق المشهورة عند المسلمين أنّ علياً (عليه السلام) أعلم الصحابة بكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله) ، وهو باب علم الرسول (صلى الله عليه وآله) ، وقد علّم أبناءه ما تعلّمه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكانوا يتوارثون العلم فيما بينهم، من هنا كان أهل البيت (عليهم السلام) أعلم الناس بالقرآن والسنّة ، ولهذا أكّد الإمام الباقر (عليه السلام) على مرجعية أهل البيت (عليهم السلام) العلمية ، وبيّن أن علمهم موروث منذ آدم الى يومه هذا، فقال : « ان العلم الذي نزل مع آدم (عليه السلام) لم يرفع ، والعلم يتوارث ، وكان عليّ (عليه السلام) عالم هذه الاُمة ، وانه لم يهلك منّا عالم قط إلاّ خلفه من أهله من علم مثل علمه ، أو ما شاء الله »[14]. وبيّن اختصاص أهل البيت (عليهم السلام) بعلم القرآن ظاهره وباطنه فقال: « ما يستطيع أحد ان يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الاوصياء »[15]. كما بيّن أنّ علمهم (عليهم السلام) علم صائب، فقال : « ليس عند أحد من الناس حقّ ولا صواب ولا أحد من الناس يقضي بقضاء حقّ إلاّ ما خرج منّا أهل البيت»[16]. وقد أثبت الواقع أهليّتهم (عليهم السلام) للمرجعية العلمية العامّة للمسلمين جميعاً، فكانوا مقصد العلماء من جميع أمصار العالم الاسلامي . وكان (عليه السلام) يحث الجماعة الصالحة على الرجوع لأهل البيت الأطهار تجسيداً لهذه المرجعية وتحصيناً لهم من الزيغ والانحراف[17]. وكان أيضاً يرشد اصحابه الى مراجعة العلماء الذين أخذوا العلم من أهل البيت (عليهم السلام) واتقنوا فنونه واُسسه وقواعده[18]. 7 ـ المؤسسات الثقافيةكان للإمام الباقر (عليه السلام) دور كبير في توسيع المؤسسات الثقافية ، فقد أسس عدة مدارس في أهم الامصار الإسلامية : مدرسة المدينة : وكان يشرف عليها مباشرة ، وينتقي منها الفقهاء ليواصلوا حمل العلم ونشره . مدرسة الكوفة : وكان يشرف عليها من تتلمذ على يديه ، وتخرّج من مدرسته ، وقد اثمرت هذه المدرسة في نشر علوم أهل البيت (عليهم السلام) وارجاع الناس اليهم ، حتى اعترف الحاكم الاُموي هشام بن عبدالملك بهذه الحقيقة ، فقد أشار إلى الإمام (عليه السلام) قائلاً : هذا المفتون به أهل العراق[19]. ولذا أمر الاُمويون بمنع أهل العراق من الالتقاء بالإمام (عليه السلام)[20] . مدرسة قم : وكان يشرف عليها بعض من تتلّمذ على يدي الإمام (عليه السلام)، وهي متفرعة من مدرسة الكوفة . وتأثرت بمدرسة الكوفة وقم مدارس اُخرى في الشرق الإسلامي ، كمدرسة الري وخراسان[21]. وهنالك مدارس جوّالة كان يؤسسها طلابه أينما حلّوا وهي محدودة بحدود عدد الأفراد المشرفين وبمقدار الاستجابة لهم من قبل الناس . والمؤسسات الثقافية كان لها دور كبير في تخريج الفقهاء والمبلغين من مختلف الأمصار . وكانت أساليب الإمام التثقيفية متنوعة ، بعضها ذو طابع فردي والآخر ذو طابع جماعي. كما كان التثقيف يتم عن طريق التدريس ، واُخرى عن طريق الرسائل والوصايا. ولم يكن تثقيفه وتعليمه مقتصراً على الفقه والاُصول أو العلوم الدينية بشكل خاص، بل كان شاملاً لجميع العلوم المعروفة آنذاك[22]. |
[1] الكافي : 1 / 32 . [2] حلية الاولياء : 3 / 192 . [3] المصدر السابق : 3 / 183 . [4] تذكرة الخواص : 304 . [5] الكافي : 1 / 70 . [6] المصدر السابق : 1 / 47 . [7] الكافي : 1 / 35 . [8] المصدر السابق : 1 / 41 . [9] المصدر السابق : 1 / 41 . [10] المصدر السابق : 1 / 41 . [11] المصدر السابق : 1 / 50 . [12] المصدر السابق : 1 / 42 . [13] الكافي : 1 / 43 . [14] المصدر السابق : 1 / 222 . [15] المصدر السابق: 1 / 228 . [16] المصدر السابق : 1 / 399 . [17] المحاسن: 213. [18] بحار الانوار : 46 / 328 . [19] مختصر تاريخ دمشق : 23 / 79 . [20] المصدر السابق : 23 / 83 . [21] دور أهل البيت (عليهم السلام) في بناء الجماعة الصالحة : 1 / 133 . [22] الإرشاد : 264 . |