مكتبة الإمام الباقر (ع)

فهرس الكتاب

 

3ـ التوازن في العلاقة مع الحكّام

إنّ مقاطعة الحاكم الجائر هي إحدى الخصائص التي اختص بها أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ، وقد كانت ارشادات وأوامر الإمام الباقر (عليه السلام) الى أفراد الجماعة الصالحة تؤكد على المقاطعة في جميع صورها ، لأنّ العمل مع الجائر يؤدي الى احتمالات واقعية ، هي:

أ ـ تقويته ودعم أركان دولته المنحرفة .

ب ـ ممارسة الاعمال المنحرفة التي يمليها الواقع المنحرف .

ت ـ تأثر العامل معه ـ في بعض الأحيان ـ بالاغراء المتنوع ، بالأموال والمناصب والجاه ، وقد يؤدي هذا إلى التخلي عن الانتماء الى الجماعة الصالحة.

ث ـ تحول العامل الى عدو للجماعة الصالحة في بعض الاحيان .

ولهذا أمر (عليه السلام) بمقاطعة الحاكم الجائر[1]. وجعل العمل مع الجائر دليلاً على كراهية الجنّة ، تشديداً منه على عدم الدخول معه في الاعمال. عن عقبة ابن بشير الأسدي ، قال : دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فقلت له : اني من الحسب الضخم من قومي ، وانّ قومي كان لهم عريف فهلك ، فأرادوا ان يعرفوني عليهم ، فما ترى لي ؟

قال (عليه السلام) : « فإن كنت تكره الجنة وتبغضها ، فتعرّف على قومك ، يأخذ سلطان جائر بإمرئ مسلم يسفك دمه ، فتشركهم في دمه ، وعسى أن لا تنال من دنياهم شيئاً »[2].

وعلى الرغم من أوامره في مقاطعة الحاكم الجائر إلاّ انّه راعى المصلحة الإسلامية العليا في موارد عديدة ، فجوّز (عليه السلام) بيع السلاح أو حمله الى اتباع السلطان[3] للمساهمة في ردّ أعداء الكيان الاسلامي ، ولإثبات حسن التعامل للحاكم إن سمع أو لاحظ هذه الإسناد .

وكان (عليه السلام) لا يمتنع إن دعاه الحاكم للقاء  به ، ولا يمنع أصحابه من ذلك ، حفاظاً على أمنهم ، لأنّ التمرد على طلبه قد يؤدي الى كشف نواياهم في المعارضة وعدم الرضى بحكمه .

ولم يمنع (عليه السلام) أفراد الجماعة الصالحة من المشاركة في الغزوات التي كان يقودها حكّام الجور المسلمون في مختلف الأزمان .

4 ـ مراعاة المستويات المختلفة

راعى الإمام (عليه السلام) في أوامره وتعليماته ، وفي اشراك أفراد الجماعة الصالحة في النشاطات والاعمال المختلفة ، تفاوت مستويات الأفراد المختلفة من حيث الطاقات والامكانيات ، ومن حيث الوعي والادراك ، ودرجة التحمّل، والقدرة على أداء الواجب أو الاستمرار في الأعمال ، وحدّد لكل فرد مستواه ; لكي يكلّف بقدر مستواه .

عن سدير قال : قال لي أبو جعفر (عليه السلام) : « ان المؤمنين على منازل ، منهم على واحدة ، ومنهم على اثنين ، ومنهم على ثلاث ، ومنهم على أربع ، ومنهم على خمس ، ومنهم على ست ، ومنهم على سبع ، فلو ذهبت تحمّل على صاحب الواحدة ثنتين لم يقو ، وعلى صاحب الثنتين ثلاثاً لم يقو ، وعلى صاحب الثلاث أربعاً لم يقو . . . »[4].

وكذا الحال في اعطاء الاسرار المتعلقة بالفضائل والكرامات لأهل البيت (عليهم السلام) أو الاسرار السياسية ، فلكل فرد حسب طاقته العقلية والعاطفية والبدنية .

 

ثامناً : الإمام الباقر (عليه السلام) والنظام الاقتصادي للجماعة الصالحة

للاقتصاد دور كبير في حركة الاُمم والجماعات ، من حيث النمو والثبات والتكامل ، ومدّها بالقدرة على مواجهة الصعاب التي تقع في طريق النمو والتكامل ، فهو أحد العوامل الاساسية في بناء الحضارات ورفدها باُسس البقاء والاستمرار ، حتى ان الإسلام في جميع مراحله لم يحقق أهدافه القريبة أو البعيدة إلاّ بالاستعانة بالاقتصاد ، وبالمال الذي هو العصب الاساسي له .

وأكّد الإمام الباقر (عليه السلام) في توجيهاته وارشاداته للجماعة الصالحة على أهمية المال في نجاح أعمالها ، واستقامة شؤونها ، وقوة كيانها ، فقال (عليه السلام) : « ... هي الدنانير والدراهم خواتيم الله في أرضه ، جعلها الله مصلحة لخلقه ، وبه تستقيم شؤونهم ومطالبهم »[5].

التأكيد على أهمية العامل الاقتصادي

وحثّ الإمام (عليه السلام) على العمل لكسب الرزق ، والاستغناء عن الناس ، حين حثّ على التجارة والزراعة والصناعة وعلى تعلم الحرفة، وكان (عليه السلام) يعمل بنفسه ويرى انّ في العمل طاعة لله ، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أ نّه قال : إنَّ محمّد بن المنكدر كان يقول : ما كنت أرى أنّ عليّ بن الحسين (عليه السلام) يدع خلفاً أفضل منه ، حتى رأيت ابنه محمد بن عليّ (عليه السلام) فأردت أن أعظه فوعظني ، فقال له أصحابه : بأي شيء وعظك ؟ قال : خرجت الى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة ، فلقيني أبو جعفر محمد بن عليّ ، وكان رجلاً بادناً ثقيلاً وهو متكئ على غلامين أسودين أو موليين ، فقلت في نفسي : سبحان الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا ، أما والله لأعظنه ، فدنوت منه فسلّمت عليه فردّ عليّ بنهر ، وهو يتصبّب عرقاً ، فقلت : أصلحك الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحال ما كنت تصنع ؟

فقال (عليه السلام) : لو جاءني الموت وأنا على هذه الحالة جاءني وأنا في طاعة من طاعة الله عزوجل ; اكفُّ بها نفسي وعيالي عنك وعن النّاس ، وإنما كنت أخاف أن لو جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي الله .

فقلت : صدقت يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني[6].

وكان (عليه السلام) يستشهد بسيرة آبائه وأجداده للحث على العمل وطلب الرزق ، فقد روى (عليه السلام) : أن رجلاً لقي أمير المؤمنين (عليه السلام) وتحته وسق من نوى ، فقال له : ما هذا يا أبا الحسن تحتك ؟ فقال : مائة عذق ان شاء الله ، فغرسه فلم يغادر منه نواة واحدة[7].

وكان ينهى عن الكسل والتقاعس عن العمل ، وقد جعل الكسل عن الآخرة ملازماً للكسل عن طلب الدنيا ، فقال : « إنّي لأبغض الرجل ـ أو أبغض للرجل ـ أن يكون كسلاناً عن أمر دنياه ، ومن كسل عن أمر دنياه ، فهو عن أمر آخرته أكسل »[8].

وبيّن ان الرزق من الله تعالى ، وهو الذي حدّد لكل نفس رزقها ، فما على الانسان إلاّ السعي لطلبه ، قال (عليه السلام) : « ليس من نفس إلاّ وقد فرض الله عزّوجلّ لها رزقاً حلالاً يأتيها في عافية ، وعرض لها بالحرام من وجه آخر ، فإن هي تناولت شيئاً من الحرام قاصّها به من الحلال الذي فرض لها ، وعند الله سواهما فضل كثير ، وهو قوله عزوجلّ : ( واسألوا الله من فضله )[9] . . . »[10].

ونهى عن جمع المال من المكاسب المحرّمة ومنها الغلول ، فقد سأله عمّار بن مروان عنها فقال : « كل شيء غلّ من الإمام فهو سحت ، وأكل مال اليتيم وشبهه سحت ، والسحت أنواع كثيرة : منها أجور الفواجر ، وثمن الخمر والنبيذ ، والمسكر ، والربا بعد البيّنة ، فأمّا الرُّشا في الحكم ، فإنّ ذلك الكفر بالله العظيم وبرسوله »[11].

ونهى (عليه السلام) عن الربّا لأن فيه غصباً لحقوق الآخرين ، وإضعافاً لروح الودّ والإخاء ، وأماتة لروح الزهد في الدنيا والاحسان للآخرين ، ولذا اعتبره (عليه السلام) من أخبث المكاسب ، فقال (عليه السلام) : « أخبث المكاسب كسب الرّبا »[12].

ولم يحبّذ لانصاره العمل غير اللائق بهم وان كان حلالاً كالعمل في الحجامة[13].

[1] كفاية الأثر : 251 .

[2] رجال الكشي : 204 .

[3] الكافي : 5 / 112 .

[4] الكافي : 2 / 45 .

[5] أمالي الطوسي : 2 / 123 .

[6] الكافي : 5 / 73 ـ 74 .

[7] المصدر السابق : 5 / 75 .

[8] المصدر السابق : 5 / 85 .

[9] النساء (4) : 32 .

[10]  الكافي : 5 / 80 .

[11] المصدر السابق : 5 / 126 .

[12] الكافي : 5 / 147 .

[13] المصدر السابق : 5 / 116 .