مكتبة الإمام الباقر (ع)

فهرس الكتاب

 

الفصل الثاني

اغتيال الإمام محمّد الباقر (عليه السلام) واستشهاده

 

ولم يمت الإمام أبو جعفر (عليه السلام) حتف أنفه، وإنما اغتالته بالسم أيد اُمويّة أثيمة لا تؤمن بالله، ولا باليوم الآخر، وقد اختلف المؤرخون في الأثيم الذي أقدم على اقتراف هذه الجريمة.

فمنهم من قال: إن هشام بن الحكم هو الذي أقدم على اغتيال الإمام فدسّ اليه السم[1] والأرجح هو هذا القول لأن هشاماً  كان حاقداً على آل النبي بشدة وكانت نفسه مترعة بالبغض لهم وهو الذي دفع بالشهيد العظيم زيد بن علي (عليه السلام) الى إعلان الثورة عليه حينما استهان به، وقابله بمزيد من الجفاء، والتحقير. ومن المؤكد أن الإمام العظيم أبا جعفر قد أقضّ مضجع هذا الطاغية، وذلك لذيوع فضله وانتشار علمه، وتحدث المسلمين عن مواهبه، ومن هنا أقدم على اغتياله ليتخلص منه.

ومنهم من قال: إنّ الذي أقدم على سم الإمام هو ابراهيم بن الوليد[2].

ويرى السيد ابن طاووس أنّ إبراهيم بن الوليد قد شرك في دم الإمام(عليه السلام)[3] ومعنى ذلك أن إبراهيم لم ينفرد وحده باغتيال الإمام(عليه السلام) وإنما كان مع غيره.

وأهملت بعض المصادر اسم الشخص الذي اغتال الإمام (عليه السلام) واكتفت بالقول إنه مات مسموماً[4].

دوافع اغتيال الإمام الباقر (عليه السلام):

أما الأسباب التي أدت بالاُمويين الى اغتيال الإمام (عليه السلام) فهي:

1 ـ سمو شخصية الإمام الباقر (عليه السلام): لقد كان الإمام أبو جعفر (عليه السلام) أسمى شخصية في العالم الإسلامي فقد أجمع المسلمون على تعظيمه، والاعتراف له بالفضل، وكان مقصد العلماء من جميع البلاد الإسلامية.

لقد ملك الإمام (عليه السلام) عواطف الناس واستأثر بإكبارهم وتقديرهم لأنه العلم البارز في الاسرة النبوية ، وقد أثارت منزلته الاجتماعية غيظ الاُمويين وحقدهم فأجمعوا على اغتياله للتخلص منه.

2 ـ أحداث دمشق:

لا يستبعد الباحثون والمؤرخون أن تكون أحداث دمشق سبباً من الأسباب التي دعت الاُمويين الى اغتياله (عليه السلام) وذلك لما يلي:

أ ـ تفوق الإمام في الرمي على بني اُمية وغيرهم حينما دعاه هشام الى الرمي ظاناً بأنه سوف يفشل في رميه فلا يصيب الهدف فيتخذ ذلك وسيلة للحط من شأنه والسخرية به أمام أهل الشام. ولمّا رمى الإمام وأصاب الهدف عدة مرات بصورة مذهلة لم يعهد لها نظير في عمليات الرمي في العالم، ذهل الطاغية هشام، وأخذ يتميز غيظاً ، وضاقت عليه الأرض بما رحبت ، وصمم منذ ذاك الوقت على اغتياله.

ب ـ مناظرته مع هشام في شؤون الإمامة، وتفوق الإمام عليه حتى بان عليه العجز  ممّا أدّى ذلك الى حقده عليه.

ج ـ مناظرته مع عالم النصارى، وتغلبه عليه حتى اعترف بالعجز عن مجاراته أمام حشد كبير منهم معترفاً بفضل الإمام وتفوّقه العلمي في أمّة محمد(صلى الله عليه وآله)، وقد أصبحت تلك القضية بجميع تفاصيلها الحديث الشاغل لجماهير أهل الشام[5]. ويكفي هذا الصيت العلمي أيضاً أن يكون من عوامل الحقد على الإمام(عليه السلام) والتخطيط للتخلّص من وجوده.

 

نصّه على الإمام الصادق (عليه السلام) :

ونصّ الإمام أبو جعفر (عليه السلام) على الإمام من بعده قبيل استشهاده فعيّن الإمام الصادق(عليه السلام) مفخرة هذه الدنيا، ورائد الفكر والعلم في الإسلام، وجعله مرجعاً عاماً للاُمة من بعده، وأوصى شيعته بلزوم اتباعه وطاعته.

وكان الإمام أبو جعفر (عليه السلام) يشيد بولده الإمام الصادق (عليه السلام) بشكل مستمر ويشير الى امامته، فقد روى أبو الصباح الكناني، أنّ أبا جعفر نظر الى أبي عبدالله يمشي، فقال: ترى هذا؟ هذا من الذين قال الله عزّ وجلّ : ( ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين)[6].

كل هذه الاُمور بل وبعضها كان يكفي أن يكون وراء اغتياله(عليه السلام) على أيدي زمرة جاهلية ، افتقرت الى أبسط الصفات الإنسانية، وحرمت من أبسط المؤهلات القيادية.

وصاياه:

وأوصى الإمام محمد الباقر (عليه السلام) الى ولده الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) بعدة وصايا كان من بينها ما يلي:

1 ـ انه قال له: يا جعفر أوصيك بأصحابي خيراً، فقال له الإمام الصادق: جُعلت فداك والله لأدعنهم، والرجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحداً[7].

2 ـ أوصى ولده الصادق (عليه السلام) أن يكفّنه في قميصه الذي كان يصلي فيه[8] ليكون شاهد صدق عند الله على عظيم عبادته، وطاعته له.

3 ـ إنه أوقف بعض أمواله على نوادب تندبه عشر سنين في منى[9]. ولعل السبب في ذلك يعود الى أن منى أعظم مركز للتجمع الاسلامي، ووجود النوادب فيه مما يبعث المسلمين الى السؤال عن سببه، فيخبرون بما جرى على الإمام أبي جعفر (عليه السلام) من صنوف التنكيل من قبل الامويين واغتيالهم له، حتى لا يضيع ما جرى عليه منهم ولا تخفيه أجهزة الاعلام الاُموي.

وسرى السم في بدن الإمام أبي جعفر (عليه السلام)، وأثّر فيه تأثيراً بالغاً، وأخذ يدنو اليه الموت سريعاً، وقد اتجه في ساعاته الأخيرة بمشاعره وعواطفه نحو الله تعالى، فأخذ يقرأ القرآن الكريم، ويستغفر الله، فوافاه الأجل المحتوم ولسانه مشغول بذكر الله فارتفعت روحه العظيمة الى خالقها، تلك الروح التي أضاءت الحياة الفكرية والعلمية في الإسلام والتي لم يخلق لها نظير في عصره.

وقد انطوت برحيله أروع صفحة من صفحات الرسالة الإسلامية التي أمدّت المجتمع الاسلامي بعناصر الوعي والازدهار.

وقام ولده الإمام الصادق (عليه السلام) بتجهيز الجثمان المقدس فغسّله وكفنه، وهو يذرف أحر الدموع على فقد أبيه الذي ما أظلت على  مثله سماء الدنيا في عصره علماً وفضلاً وحريجة في الدين.

ونقل الجثمان العظيم ـ محفوفاً بإجلال وتكريم بالغين من قبل الجماهير ـ الى بقيع الغرقد، فحفر له قبراً بجوار الإمام الأعظم أبيه زين العابدين  (عليه السلام) وبجوار عم أبيه الإمام الحسن سيد شاب أهل الجنة (عليه السلام) وأنزل الإمام الصادق أباه فى مقرّه الأخير فواراه فيه، وقد وارى معه العلم والحلم، والمعروف والبر بالناس.

لقد كان فقد الإمام أبي جعفر (عليه السلام) من أفجع النكبات التي مُني بها المسلمون في ذلك العصر، فقد خسروا القائد، والرائد، والموجه الذي بذل جهداً عظيماً في نشر العلم، وبلورة الوعي الفكري والثقافي بين المسلمين.

والمشهور بين الرواة أنه توفي وعمره الشريف 58 سنة .

وكانت سنة وفاته ـ بحسب الرأي المشهور ـ سنة 114 هـ .

تعزية المسلمين للإمام الصادق (عليه السلام) :

هرع المسلمون وقد قطع الحزن قلوبهم الى الإمام الصادق (عليه السلام) وهم يعزونه بمصابه الأليم، ويشاركونه اللوعة والأسى بفقد أبيه، وممن وفد عليه يعزيه سالم بن أبي حفصة، قال: لما توفي أبو جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) قلت لأصحابي انتظروني حتى أدخل على أبي عبدالله جعفر بن محمد فأعزيه به، فدخلت عليه فعزيته، وقلت له: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب والله من كان يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فلا يسأل عمن بينه وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله) والله لا يرى مثله أبداً قال: وسكت الإمام أبو عبدالله (عليه السلام) ساعة، ثم التفت الى أصحابه فقال لهم: قال الله تعالى: «إن من عبادي من يتصدق بشق من تمرة فاربيها له، كما يربي أحدكم فلوه»[10].

وخرج سالم وهو منبهر فالتفت الى أصحابه قائلاً: ما رأيت أعجب من هذا!! كنا نستعظم قول أبي جعفر (عليه السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) بلا واسطة، فقال لي أبو عبدالله (عليه السلام) قال الله بلا واسطة[11].

[1] بحار الأنوار : 46 / 312.

[2] أخبار الدول : 111.

[3] بحار الأنوار: 46/216.

[4] نور الأبصار : 131، الأئمة الاثنى عشر لابن طولون : 281.

[5] راجع بحار الأنوار: 46/309 ـ 311.

[6] اصول الكافي : 1/306.

[7] اصول الكافي : 1/306.

[8] صفة الصفوة: 2/63، تاريخ ابن الوردي : 1/184، تاريخ أبي الفداء : 1/214.

[9] بحار الأنوار : 11/62.

[10] الفلو بفتح الفاء، وضم اللام وتشديد الواو ـ المهر الصغير، والاثنى فلوة، والجمع أفلا.

[11] أمالي الشيخ الطوسي: 125، راجع حياة الإمام محمد الباقر لفضيلة الشيخ باقر شريف القرشي: 2/386 ـ 395.