الفصل الثالثتراث الإمام محمّد الباقر (عليه السلام)
علمنا أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) قد تنبّأ بأن حفيده محمد بن علي ابن الحسين (عليه السلام) سوف يبقر العلم بقراً ويفجره تفجيراً. وقد شهد معاصرو الإمام (عليه السلام) بهذه الظاهرة التي كانت ملفتة للنظر وتناقلها المؤرخون جيلاً بعد جيل. والتراث الذي تركه لنا هذا الإمام الهمام لهو خير دليل على صحة ما شهد به هؤلاء المؤرخون على مدى القرون والأجيال ودليل من دلائل نبوة جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله). لقد كانت المرحلة التي عاشها الإمام الباقر (عليه السلام) تتطلّب منه أن يقوم بتشييد اُسس الحضارة الإسلامية وتحصين الاُمة المسلمة بروافد المعرفة الإسلامية لتقف في وجه المدّ الثقافي الذي كان يخترق الحياة الإسلامية بسبب الفتوحات والانفتاح الحضاري على ثقافات الاُمم الوافدة على الدولة الإسلامية العظمى. ومن هنا نستطيع أن نقول: إن المعالم الرئيسية لرسالة الأئمة بعد الحسين (عليه السلام) تتلخص في التحصين المعرفي والثقافي للاُمة المسلمة بشكل عام وللجماعة الصالحة بشكل خاص . فإن الوقوف على تراثهم الذي قدّموه للاُمة الإسلامية خلال النصف الثاني من القرن الأول الهجري وحتى بداية القرن الثالث الهجري يكشف عن عظمة هذا التراث وتفرّده عمّا سواه من التراث الذي نجده لدى عامة الفرق الإسلامية ، ويتميّز عن كل ذلك بالاستيعاب لكل حقول المعرفة، وسلامة المصدر، ونقاء المحتوى، ووضوح الارتباط بمصادر المعرفة الربّانية المتمثلة بكتاب الله وسنّة رسوله (صلى الله عليه وآله). ولابد أن ينعكس ثراء هذا التراث وعظمته في هذه الموسوعة رغم اختصارها وعدم استيعابها لكل تراث الإمام الباقر (عليه السلام). وقد اخترنا من تراثه الثرّ نماذج في مختلف حقول العلم والمعرفة الإسلامية بمقدار ما تقتضيه صفحات هذا الجزء الخاص بالإمام الباقر(عليه السلام) أخذاً بالميسور والله من وراء القصد وهو الموفق للصواب. التراث التفسيري للإمام محمد الباقر (عليه السلام)لا ريب في ان القرآن الكريم هو أول مصادر التشريع الاسلامي وأهم مصادر الثقافة الإسلامية التي تعطي للاُمة الإسلامية وللرسالة الإلهية هويّتها الخاصة وتسير بالاُمة الى حيث الكمال الانساني المنشود . وقد اعتنى الإمام الباقر (عليه السلام) كسائر الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) بالقرآن الكريم تلاوةً وحفظاً وتفسيراً وصيانةً له عن أيدي العابثين وانتحال المبطلين ، فكانت محاضراته التفسيرية للقرآن الكريم تشكّل حقلاً خصباً لنشاطه المعرفي وجهاده العلمي وهو يرسم للاُمة المسلمة معالم هويتها الخاصة . ومن هنا خصص الإمام (عليه السلام) للتفسير وقتاً من أوقاته وتناول فيه جميع شؤونه . وقد أخذ عنه علماء التفسير ـ على اختلاف آرائهم وميولهم ـ الشيء الكثير[1] فكان من ألمع المفسّرين للقرآن الكريم في دنيا الإسلام . وقد نهج الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير القرآن الكريم منهجاً علميّاً خاصاً متّسقاً مع أهداف الرسالة واُصولها ونعى على أهل الرأي والاستحسان وأهل التأويل والظنون، فكان مما اعترض به على قتادة أن قال له : بلغني أنك تفسّر القرآن ! . فقال له : نعم . فانكر عليه الإمام (عليه السلام) قائلاً : « يا قتادة إن كنت قد فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت قد فسرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت ، يا قتادة ويحك إنما يعرف القرآن من خوطب به»[2]. وقد قصر الإمام أبو جعفر (عليه السلام) معرفة الكتاب العزيز على أهل البيت (عليهم السلام) فهم الذين يعرفون المحكم من المتشابه ، والناسخ من المنسوخ وليس عند غيرهم هذا العلم ، فقد ورد عنهم (عليهم السلام) «انه ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن ، الآية يكون أولها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل ينصرف الى وجوه»[3]. أما الأخذ بظواهر الكتاب فلا يعد من التفسير بالرأي المنهيّ عنه . وأ لّف الإمام الباقر (عليه السلام) كتاباً في تفسير القرآن الكريم نص عليه محمد بن اسحاق النديم في « الفهرست » عند عرضه للكتب المؤلفة في تفسير القرآن الكريم حيث قال : « كتاب الباقر محمد بن علي بن الحسين رواه عنه أبو الجارود زياد بن المنذر رئيس الجارودية ». وقال السيد حسن الصدر : وقد رواه عنه أيام استقامته جماعة من ثقاة الشيعة منهم أبو بصير يحيى بن القاسم الأسدي ، وقد أخرجه علي بن ابراهيم بن هاشم القمي في تفسيره من طريق أبي بصير[4] . |
[1] حياة الإمام محمد الباقر ، باقر شريف القرشي : 1 / 174 . [2] البيان في تفسير القرآن : 267 . [3] فرائد الاصول : 28 . [4] تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام : 327 ، الفهرست للشيخ الطوسي : 98 ، وحقق هذا التفسير المحامي السيد شاكر الغرباوي إلاّ انه لم يقدمه للنشر . |