الباب الثالث الفصل الأول المسيرة الرسالية لأهل البيت(عليهم السلام) منذ عصر الرسول(صلى الله عليه وآله) حتى عصر الإمام الهادي(عليه السلام)
تعتبر الرسالة الإسلامية الكون مملكة لله سبحانه، والإنسان خليفة له وأميناً من قبله، ينبغي له أن يقوم بأعباء المسؤولية التي حمّله الله إيّاها. ومادامت الحياة الدنيا تعتبر شوطاً قصيراً في مسيرة الإنسان الطويلة فالأهداف التي ينبغي للمشرِّع الحكيم وللإنسان المشرَّع إليه أن يستهدفها لا تتلخّص في تحقيق مآرب هذه الحياة الدنيا الفانية وإنّما تمتد بامتداد حياته الباقية في عالم الآخرة. والإسلام يريد للإنسان أن يتربّى على هذه الثقافة التي تصنع منه كائناً متكاملاً سويّاً دؤوباً في تحقيق الأهداف الرسالية الكبرى. وقد كان التخطيط الربّاني لتربية الإنسان في هذا الاتجاه حكيماً ومتقناً حين تزعّم الرسول الخاتم(صلى الله عليه وآله) المجتمع الإنساني وهيمن على كل العلاقات الاجتماعية وغيرها ليصوغ من هذا الإنسان نموذجاً فريداً. ولم يكن الطريق أمام عملية التغيير الجذري التي بدأها النبي(صلى الله عليه وآله) في المجتمع الإنساني طريقاً قصيراً يمكن تحققه خلال عقد أو عقدين من الزمن بل كان طريقاً ممتداً بامتداد الفواصل المعنوية الضخمة بين الجاهلية والإسلام. ولم يكن كل ما حقّقه الرسول(صلى الله عليه وآله) في هذه البرهة المحدودة كافياً لاجتثاث كل الجذور الجاهلية من عامة أبناء الجيل الأوّل وايصاله الى الدرجة اللازمة من الوعي والموضوعية والتحرز من كل رواسب الماضي الجاهلي بحيث يؤهله للقيمومة على خط الرسالة . وتكفي الأحداث المرّة التي أعقبت وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) وما جرى بين صحابة الرسول من سجالات سجّلها المؤرخون في المصادر التي بأيدينا لتشهد على أن جيل الصحابة لم يرتقِ الى درجة الكفاءة اللازمة ليخلف الرسول على رسالته. من هنا كان منطق العمل التغييري يفرض على الرسول(صلى الله عليه وآله) أن يصون تجربته الرائدة ـ التي كان يريد لها الخلود والبقاء وهو الذي أعلن بأنه خاتم المرسلين وانّه لا نبي بعده.. كان يفرض عليه أن يصون تجربته ـ من كل ما يؤدي الى ضعفها أو إنهيارها، وذلك باعطاء القيمومة والوصاية على تجربته لقيادة كفوءة معصومة قد أعدّها بنفسه كما يريد وكما ينبغي; لتقوم بالمهمة التغييرية الشاملة خلال فترة طبيعية من الزمن بحيث تحقق للرسالة أهدافها التي كانت تنشدها من ارسال الرسل وتقديم منهج رباني كامل للحياة .
عقبات وأخطار أمام عملية التغيير الشاملة لم يكن الإسلام نظرية بشرية لكي تتحدَّد فكرياً من خلال ممارسة تجارب الخطأ والصواب في التطبيق ، وإنما هو رسالة الله التي حُدّدت فيها الأحكام والمفاهيم وزوّدت ربّانياً بكلّ التشريعات العامّة، فلا بدّ لزعامة هذه التجربة من استيعاب الرسالة بحدودها وتفاصيلها ووعي كامل لأحكامها ومفاهيمها، وإلاّ كانت مضطرة إلى استلهام مسبقاتها الذهنية ومرتكزاتها القَبْلية وذلك يؤدّي إلى نكسة في مسيرة التجربة وبخاصة إذا لاحظنا أن الإسلام كان هو الرسالة الخاتمة لرسالات السماء التي تمتد مع الزمن وتتعدى كل الحدود الاقليمية والقومية، الأمر الذي لا يسمح بأن تمارس زعامته تجارب الخطأ والصواب التي تتراكم فيها الأخطاء عبر فترة من الزمن حتى تشكل ثغرة تهدد التجربة بالسقوط والانهيار[1]. وقد برهنت الأحداث التي جرت على آل الرسول(عليهم السلام) بعد وفاته(صلى الله عليه وآله) استئثاراً بالخلافة دونهم على هذه الحقيقة المرّة وتجلّت آثارها السلبيّة بوضوح بعد نصف قرن أو أقلّ من ممارسة الحكم من قبل جيل المهاجرين الذين لم يُرشّحوا من قبل الرسول(صلى الله عليه وآله) للإمامة ولم يكونوا مؤهلين للقيمومة على الرسالة. فلم يمض ربع قرن حتى بدأت الخلافة الراشدة تنهار تحت وقع الضربات الشديدة التي وجّهها أعداء الإسلام القدامى; إذ استطاعوا أن يتسلّلوا إلى مراكز النفوذ في قيادة التجربة بالتدريج حتّى صادروا بكل وقاحة وعنف تلك القيادة وأجبروا الاُمّة وجيلها الطليعي الرائد على التنازل عن شخصيّته وقيادته وتحوّلت الزعامة إلى ملك موروث يستهتر بالكرامات ويقتل الأبرياء ويبعثر الأموال ويعطّل الحدود ويجمّد الأحكام ويتلاعب بمقدّرات الناس وأصبح الفيء والسواد بستاناً لقريش، والخلافة كرة يتلاعب بها صبيان بني اُمية[2].
مضاعفات الانحراف بعد الرسول(صلى الله عليه وآله) لقد واجه الإسلام بعد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله) انحرافاً خطيراً في صميم التجربة الإسلامية التي أنشأها هذا النبي العظيم(صلى الله عليه وآله) لاُمته. وهذا الانحراف في التجربة الاجتماعية والسياسية للأمّة والدولة الإسلامية كان بحسب طبيعة الاشياء من المفروض أن يتسع ليتعمق بالتدريج على مرّ الزمن; اذ الانحراف يبدأ بذرة ثمّ تنمو هذه البذرة، وكلما تحققت مرحلة من الانحراف; مهّدت هذه المرحلة لمرحلة أوسع وأرحب. فكان من المفروض أن يصل هذا الانحراف إلى خط منحن طوال عملية تاريخية زمنية طويلة المدى يصل به إلى الهاوية حين تستمر التجربة الإسلامية في طريق منحرف لتصبح مليئة بالتناقضات من كل جهة، وتصبح عاجزة عن تحقيق الحدّ الأدنى من متطلبات الاُمّة ومصالحها الإسلاميّة. وحينما يتسلسل الانحراف في خط تصاعدي فمن المنطقي أن تتعرض التجربة لانهيار كامل ولو بعد زمن طويل. إذن فالدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية كان من المفروض أن تتعرض كلّها للانهيار الكامل; لأن هذه التجربة حين تصبح مليئة بالتناقضات وحين تصبح عاجزة عن مواجهة وظائفها الحقيقية; تصبح عاجزة عن حماية نفسها; لأن التجربة تكون قد استنفدت إمكانية البقاء والاستمرار على مسرح التاريخ، كما أن الاُمّة ليست على مستوى حمايتها; لأن الاُمّة لا تجني من هذه التجربة الخير الذي تفكّر فيه ولا تحقق عن طريق هذه التجربة الآمال التي تصبو اليها فلا ترتبط بأي ارتباط حياتي حقيقي معها، فالمفروض أن تنهار هذه التجربة في مدى من الزمن كنتيجة نهائية حتمية لبذرة الانحراف التي غرست فيها.
انهيار الدولة الإسلامية ومضاعفاته ومعنى انهيار الدولة الإسلامية أن تسقط الحضارة الإسلامية وتتخلى عن قيادة المجتمع ويتفكك المجتمع الإسلامي، ويُقصى الإسلام عن مركزه كقائد للمجتمع وكقائد للاُمّة، لكن الاُمّة تبقى طبعاً، حين تفشل تجربة المجتمع والدولة، لكنها سوف تنهار أمام أول غزو يغزوها، كما انهارت أمام الغزو التتري الذي واجهته الخلافة العباسية. وهذا الانهيار يعني: أن الدولة والتجربة قد سقطت وأن الاُمّة بقيت، لكن هذه الاُمّة أيضاً بحسب تسلسل الأحداث من المحتوم أن تنهار كاُمّة تدين بالإسلام وتؤمن به وتتفاعل معه; لأن هذه الاُمّة قد عاشت الإسلام الصحيح زمناً قصيراً جداً وهو الزمن الذي مارس فيه الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) زعامة التجربة وبعده عاشت الاُمّة التجربة المنحرفة التي لم تستطع أن تعمّق الإسلام وتعمّق المسؤولية تجاه عقيدتها ولم تستطع أن تثقّفها وتحصّنها وتزوّدها بالضمانات الكافية لئلاّ تنهار أمام الحضارة الجديدة والغزو الجديد والأفكار الجديدة التي يحملها الغازي إلى بلاد الإسلام. ولم تجد هذه الاُمّة نفسها قادرة على تحصين نفسها بعد انهيار التجربة والدولة والحضارة بعدما اُهينت كرامتها وحُطِّمتْ ارادتها وغُلّت أياديها عن طريق الزعامات التي مارست تلك التجربة المنحرفة وبعد أن فَقَدتْ روحها الحقيقية، لأن تلك الزعامات كانت تريد اخضاعها لزعامتها القسريّة. إن هذه الاُمّة من الطبيعي أن تنهار بالاندماج مع التّيار الكافر الذي غزاها وسوف تذوب الاُمّة وتذوب الرسالة والعقيدة أيضاً وتصبح الاُمّة خبراً بعد أن كانت أمراً حقيقياً على مسرح التاريخ وبهذا ينتهي دور الإسلام نهائياً[3]. لقد كان هذا هو التسلسل المنطقي لمسيرة الدولة والاُمّة والرسالة بقطع النظر عن دور الأئمّة المعصومين الذين اُوكِلت إليهم من قبل الرسول(صلى الله عليه وآله) مهمة صيانة التجربة والدولة والاُمّة والرسالة جميعاً.
إنّ دور الأئمّة الاثني عشر الذين نصّ عليهم وعلى إمامتهم الرسول(صلى الله عليه وآله) واستخلفهم لصيانة الإسلام من أيدي العابثين الذين كانوا يتربّصون به الدوائر، وحمّلهم مسؤولية تطبيقه وتربية الإنسانية على أساسه وصيانة دولة الرسول الخاتم من الانهيار والتردّي يتلخّص في أمرين مهمّين وخطّين أساسيين: 1 ـ خط تحصين الاُمّة ضد الانهيار بعد سقوط التجربة، واعطائها من المقوّمات القدر الكافي لكي تبقى واقفة على قدميها بقدم راسخة وبروح مجاهدة وبإيمان ثابت. 2 ـ خط محاولة تسلّم زمام التجربة وزمام الدولة ومحو آثار الانحراف وارجاع القيادة إلى موضعها الطبيعي لتكتمل عناصر التربية الثلاثة ـ أعني الاُمة والشريعة والمربّي الكفوء ـ ولتتلاحم الاُمّة والمجتمع مع الدولة وقيادتها الرشيدة[4]. أما الخط الثاني فكان على الأئمّة الراشدين أن يقوموا بإعداد طويل المدى له، من أجل تهيئة الظروف الموضوعية اللازمة التي تتناسب وتتفق مع مجموعة القيم والأهداف والأحكام الأساسية التي جاءت بها الرسالة الإسلامية وأريد تحقيقها من خلال الحكم وممارسة الزعامة باسم الإسلام القيّم وباسم الله المشرّع للإنسان كل ما يوصله إلى كماله اللائق. ومن هنا كان رأي الأئمّة المعصومين من أهل بيت الرسول(صلى الله عليه وآله) في استلام زمام الحكم أن الانتصار المسلّح الآنيّ غير كاف لإقامة دعائم الحكم الإسلامي المستقر بل يتوقف ذلك على إعداد جيش عقائدي يؤمن بالإمام وبعصمته ايماناً مطلقاً بحيث يعيش أهدافه الكبيرة ويدعم تخطيطه في مجال الحكم ويحرس كل ما يحققه للاُمّة من مصالح وأهداف ربّانية. وأما الخط الأوّل فهو الخط الذي لا يتنافى مع كل الظروف القاهرة، وكان يمارسه الأئمّة الأطهار(عليهم السلام) حتى في حالة الشعور بعدم توفر الظروف الموضوعية التي تهيء الإمام(عليه السلام) لخوض معركة يتسلّم من خلالها زمام الحكم من جديد. إن هذا الدور وهذا الخط هو خط تعميق الرسالة فكرياً وروحيّاً وسياسياً في ضمير الاُمة بغية إيجاد تحصين كاف في صفوفها ليؤثّر في تحقيق مناعتها وعدم انهيارها بعد تردّي التجربة وسقوطها، وذلك بايجاد قواعد واعية في الاُمّة وايجاد روح رسالية فيها وايجاد عواطف صادقة تجاه هذه الرسالة في صفوف الاُمّة[5]. واستلزم عمل الأئمّة الطاهرين(عليهم السلام) في هذين الخطين قيامهم بدور رسالي ايجابي وفعّال على مدى قرون ثلاثة تقريباً في مجال حفظ الرسالة والاُمّة والدولة وحمايتها باستمرار. وكلما كان الانحراف يشتد; كان الائمّة الأبرار يتخذون التدابير اللازمة ضد ذلك، وكلما وقعت محنة للعقيدة أو التجربة الإسلامية وعجزت الزعامات المنحرفة من علاجها ـ بحكم عدم كفاءتها ـ بادر الأئمّة المعصومون إلى تقديم الحلّ ووقاية الاُمة من الأخطار التي كانت تهددّها. فالأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام) كانوا يحافظون على المقياس العقائدي في المجتمع الإسلامي بشكل مستمر إلى درجة لا تنتهي بالاُمّة إلى الخطر الماحق لها[6].
المهامّ الرساليّة للأئمة الطاهرين من هنا تنوعت مهامّ الأئمة الاثني عشر(عليهم السلام) في مجالات شتى باعتبار تعدد العلاقات وتعدّد الجوانب التي كانت تهمّهم كقيادة واعية رشيدة تريد تطبيق الإسلام وحفظه وضمان خلوده للإنسانية جمعاء. لأنّ الأئمّة مسؤولون عن صيانة تراث الرسول(صلى الله عليه وآله) الأعظم وثمار جهوده الكريمة المتمثلة في: 1 ـ الشريعة والرسالة التي جاء بها الرسول الأعظم من عند الله والمتمثلة في الكتاب والسنة الشريفين. 2 ـ الاُمّة التي كوّنها وربّاها الرسول الكريم بيديه الكريمتين. 3 ـ المجتمع السياسي الإسلامي الذي أوجده النبي محمد (صلى الله عليه وآله) أو الدولة التي أسسها وشيّد أركانها. 4 ـ القيادة النموذجية التي حقّقها بنفسه وربّى لتجسيدها الأكفّاء من أهل بيته الطاهرين. لكنّ استئثار بعض الصحابة بالمركز القيادي الذي رُشّح له الأئمّة المعصومون من قبل الله ورسوله(صلى الله عليه وآله) ونصّ عليهم الرسول(صلى الله عليه وآله) لاستلامه ولتربية الاُمّة من خلاله لم يكن ليمنعهم ذلك من الاهتمام بالمجتمع الإسلامي السياسي وصيانة الدولة الإسلامية من الانهيار بالقدر الممكن لهم بالفعل وبمقدار ما كانت تسمح به الظروف الواقعية المحيطة بهم. كما أن سقوط الدولة الإسلامية لا يحول دون الاهتمام بالاُمّة كاُمّة مسلمة ودون الاهتمام بالرسالة والشريعة كرسالة إلهية وصيانتها من الانهيار والاضمحلال التام. وعلى هذا الأساس تنوّعت مجالات عمل الأئمّة الطاهرين(عليهم السلام) جميعاً بالرغم من اختلاف ظروفهم من حيث نوع الحكم القائم ومن حيث درجة ثقافة الاُمّة ومدى وعيها وايمانها ومعرفتها بالأئمّة(عليهم السلام) ومدى انقيادها للحكام المنحرفين ومن حيث نوع الظروف المحيطة بالكيان الإسلامي والدولة الإسلامية ومن حيث درجة التزام الحكّام بالإسلام ومن حيث نوع الأدوات التي كان يستخدمها الحكّام لدعم حكمهم وإحكام سيطرتهم.
موقف أهل البيت(عليهم السلام) من انحراف الحكّام كان للأئمّة المعصومين(عليهم السلام) نشاط مستمر تجاه الحكم القائم والزعامات المنحرفة وقد تمثّل في إيقاف الحاكم عن المزيد من الانحراف، بالتوجيه الكلامي تارة، أو بالثورة المسلّحة ضد الحاكم حينما كان يشكّل انحرافه خطراً ماحقاً ـ كثورة الإمام الحسين(عليه السلام) ضد يزيد بن معاوية ـ وإن كلّفهم ذلك حياتهم وقد عملوا للحدّ من انحراف الحكام عن طريق إيجاد المعارضة المستمرة ودعمها بشكل وآخر من أجل زعزعة القيادة المنحرفة بالرغم من دعمهم للدولة الإسلامية بشكل غير مباشر حينما كانت تواجه خطراً ماحقاً أمام الكيانات الكافرة. |
|