مكتبة الإمام الهادي

فهرس الكتاب

 

 

أهل البيت(عليهم السلام)  وتربية الاُمة

وكان للأئمّة الأطهار(عليهم السلام) نشاط مستمر في مجال تربية الاُمّة عقائدياً وأخلاقياً وسياسياً وذلك من خلال تربية الأصحاب العلماء وبناء الكوادر العلمية والشخصيات النموذجية التي تقوم بمهامّ كبيرة مثل نشر الوعي والفكر الإسلامي وتصحيح الأخطاء المستجدة في فهم الرسالة والشريعة، ومواجهة التيارات الفكرية السياسية المنحرفة أو الشخصيّات العلمية المنحرفة التي كان يوظّفها الحاكم المنحرف لدعم زعامته.

وحيث كان الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) يُشكّلون النموذج الحيّ للزعامة الصالحة، عملوا على تثقيف الاُمة ورفع درجة وعيها بالنسبة لإمامتهم وزعامتهم ومرجعيتهم العامة.

وهكذا تفاعل الأئمة(عليهم السلام) مع الاُمة ودخلوا الى أعماق ضمير الاُمة وارتبطوا بها وبكل قطّاعاتها بشكل مباشر وتعاطفوا مع قطاع واسع من المسلمين; فإن الزعامة الجماهيرية الواسعة النطاق التي كان يتمتع بها ائمّة أهل البيت(عليهم السلام) على مدى قرون لم يحصل عليها أهل البيت صدفة أو لمجرد الانتماء لرسول الله(صلى الله عليه وآله); وذلك لوجود كثير ممن كان ينتسب إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) ولم يكن يحظى بهذا الولاء; لأن الاُمّة لا تمنح على الأغلب الزعامة مجاناً ولا يملك الفرد قيادتها وميل قلوبها من دون عطاء سخيّ منه في مختلف مجالات اهتمام الاُمّة ومشاكلها وهمومها.

 

سلامة النظرية الإسلامية

وهكذا خرج الإسلام على مستوى النظرية سليماً من الانحراف وإن تشوّهت معالم التطبيق من خلال الحكّام المنحرفين، وتحولّت الاُمّة إلى اُمّة عقائدية تقف بوجه الغزو الفكري والسياسي الكافر  حتى استطاعت أن تسترجع قدرتها وروحها على المدى البعيد كما لاحظناه في هذا القرن المعاصر بعد عصور الانهيار والتردي حيث بزغ نور الإسلام من جديد ليعود بالبشرية الى مرفأ الحق التليد.

وقد حقق الأئمّة المعصومون(عليهم السلام) كل هذه الانتصارات بفضل اهتمامهم البليغ بتربية الجماعة الصالحة التي تؤمن بهم وبإمامتهم فأشرفوا على تنمية وعيها وايمانها من خلال التخطيط لسلوكها وحمايتها باستمرار واسعافها بكل الأساليب التي كانت تساعد على ثباتها في خضمّ المحن وارتفاعها إلى مستوى جيش عقائدي رسالي يعيش هموم الرسالة ويعمل على صيانتها ونشرها وتطبيقها ليل نهار.

 

مراحل الحركة الرسالية للائمّة الراشدين (عليهم السلام)

وإذا رجعنا إلى تاريخ أهل البيت(عليهم السلام) والظروف التي كانت قد أحاطت بهم ولاحظنا سيرتهم ومواقفهم العامة والخاصة استطعنا أن نصنّف ظروفهم ومواقفهم إلى مراحل وعصور ثلاثة يتميز بعضها عن بعض بالرغم من اشتراكهم في كثير من الظروف والمواقف ولكن الأدوار تتنوع باعتبار مجموعة الظواهر العامّة التي تشكل خطّاً فاصلاً ومميّزاً لكل عصر.

فالمرحلة الاُولى من حياة الأئمّة(عليهم السلام) وهي (مرحلة تفادي صدمة الانحراف) بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله) تجسّدت في سلوك ومواقف الأئمّة الأربعة: علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين(عليهم السلام) فقاموا بالتحصينات اللازمة لصيانة العناصر الأساسية للرسالة وإن لم يستطيعوا القضاء على القيادة المنحرفة. لكنهم استطاعوا كشف زيفها والمحافظة على الرسالة الإسلامية نفسها. وبالطبع إنهم لم يهملوا الاُمّة أو الدولة الإسلامية بشكل عام من رعايتهم واهتماماتهم فيما يرتبط بالكيان الاسلامي والاُمّة المسلمة فضلاً عن سعيهم البليغ في بناء وتكوين الكتلة الصالحة المؤمنة بقيادتهم.

وتبدأ المرحلة الثانية بالشطر الثاني من حياة الإمام السجاد السياسية حتى الإمام الكاظم(عليه السلام)  وتتميز بأمرين أساسيين:

الأوّل منهما: يرتبط بالخلافة المزيّفة، فقد تصدى هؤلاء الأئمّة لتعريتها عن التحصينات التي بدأ الخلفاء يحصّنون بها أنفسهم من خلال دعم وتأييد طبقة من المحدّثين والعلماء (وهم وعّاظ السلاطين) لهؤلاء الخلفاء وتقديم صنوف التأييد والولاء لهم من أجل إسباغ الصبغة الشرعية على زعامتهم بعد أن استطاع الأئمّة في المرحلة الاولى أن يكشفوا زيف خط الخلافة ويشعروا الاُمّة بمضاعفات الانحراف الذي حصل في مركز القيادة بعد الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله).

والثاني منهما: يرتبط ببناء الجماعة الصالحة والذي اُرسيت دعائمه في المرحلة الاولى، فقد تصدى الأئمّة المعصومون في هذه المرحلة إلى تحديد الاطار التفصيلي وإيضاح معالم الخط الرسالي الذي اؤتمن الأئمّة الأطهار(عليهم السلام) عليه، والذي تمثّل في تبيين ونشر معالم النظرية الإسلامية  وتربية عدة أجيال من العلماء على أساس الثقافة الإسلامية التي استوعبها الأئمة الأطهار في قبال الخط الثقافي الذي استحدثه وعّاظ السلاطين.

هذا فضلاً عن تصديهم لدفع الشبهات وكشف زيف الفرق التي استحدثت من قبل خط الخلافة أو غيره.

والأئمّة في هذه المرحلة لم يتوانوا عن زعزعة الزعامات والقيادات المنحرفة من خلال دعم بعض الخطوط المعارِضة للسلطة ولاسيما بعض الخطوط الثورية منها والتي كانت تتصدى لمواجهة من تربَّع على كرسيّ خلافة الرسول(صلى الله عليه وآله) بعد ثورة الإمام الحسين(عليه السلام).

وأما المرحلة الثالثة من حياة الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام) فهي تبدأ بشطر من حياة الإمام الكاظم(عليه السلام) وتنتهي بالإمام المهدي(عليه السلام) فإنهم بعد وضع التحصينات اللازمة للجماعة الصالحة ورسم المعالم والخطوط التفصيلية لها عقائدياً واخلاقياً وسياسيّاً في المرحلة الثانية قد بدا للخلفاء أن قيادة أهل البيت(عليهم السلام) أصبحت بمستوى تسلّم زمام الحكم والعودة بالمجتمع الإسلامي إلى حظيرة الإسلام الحقيقي، مما خلّف ردود فعل للخلفاء تجاه الأئمّة(عليهم السلام)، وكانت مواقف الأئمّة تجاه الخلفاء تختلف تبعاً لنوع موقف الخليفة تجاههم وتجاه قضيتهم.

وأما فيما يرتبط بالجماعة الصالحة التي أوضحوا لها معالم خطها فقد عمل الأئمّة(عليهم السلام) على دفعها نحو الثبات والاستقرار والانتشار من جهة لتحصينها من الانهيار، واعطائها درجة من الاكتفاء الذاتي من جهة اُخرى.

وكان يقدّر الأئمّة أنهم بعد المواجهة المستمرة للخلفاء سوف لا يُسمح لهم بالمكث بين ظهرانيهم وسوف لن يتركهم الخلفاء أحراراً بعد أن تبين زيفهم ودَجلهم واتضحت لهم المكانة الشعبية للأئمّة المعصومين الذين كانوا يمثّلون الزعامة الشرعية والواقعية للاُمّة الإسلامية.

ومن هنا تجلّت ظاهرة تربية الفقهاء بشكل واسع ثم ارجاع الناس اليهم وتدريبهم على مراجعتهم للعلماء السائرين على خط أهل البيت(عليهم السلام) في كل قضاياهم وشؤونهم العامة تمهيداً للغيبة التي لا يعلم مداها إلاّ الله سبحانه والتي أخبر الرسول(صلى الله عليه وآله) عن تحققها وأملت الظروف عليهم الانصياع اليها.

وبهذا استطاع الأئمّة(عليهم السلام) ـ ضمن تخطيط بعيد المدى ـ أن يقفوا بوجه التسلسل الطبيعي لمضاعفات انحراف القيادة الإسلامية والتي كانت تنتهي بتنازل الاُمّة عن الإسلام الصحيح وبالتالي ضمور الشريعة وانهيار الرسالة الالهية بشكل كامل.

 

موقع الإمام الهادي(عليه السلام) في عملية التغيير الشاملة

والإمام علي بن محمد الهادي(عليه السلام) يصنّف في هذه المرحلة الثالثة من مراحل حركة أهل البيت(عليهم السلام) فهو قد مارس نشاطاً مكثّفاً لإعداد الجماعة الصالحة للدخول الى دور الغيبة المرتقب، وتحصين هذا الخط ضد التحدّيات التي كانت توجّه إليه باستمرار.

وسوف نقف على تفاصيل مواقف الإمام الهادي(عليه السلام) ونشاطاته وإنجازاته التي اختصّ بها عصره بعد التعرّف على ملامح عصره وأهم الظروف التي كانت تحيط به وبشيعته وبالاُمة الإسلامية جميعاً ضمن الفصول القادمة إن شاء الله تعالى.

 

 

الفصل الثاني

عصر الإمام علي بن محمّد الهادي (عليه السلام)

               

تحدثنا عن المرحلة الاُولى من حياة الإمام الهادي(عليه السلام) في ظلال والده الإمام محمد الجواد(عليه السلام) وقد كانت فترة قصيرة جداً لم تتجاوز ثماني سنين ـ على أكثر التقادير ـ وقد قضاها في المدينة المنورة، وكان في شطر منها بعيداً عن والده، وذلك لأن المعتصم العباسي قد استدعاه في سنة (218 هـ ) الى بغداد.

والمرحلة الثانية من حياة الإمام الهادي(عليه السلام) تناهز أربعاً وثلاثين سنة حيث تحمّل فيها أعباء منصب الإمامة منذ سنة (220 هـ ) الى سنة (254هـ ) واستمرت (34 سنة).

وعاصر فيها كلاً من: المعتصم(218 ـ 227 هـ ) والواثق(227 ـ232 هـ ). والمتوكل  (232 ـ 247 هـ ) والمنتصر (247 ـ 248 هـ ) والمستعين (248 ـ 252 هـ ). والمعتز (252 ـ 255 هـ ).

 

المعتصم (218 ـ 227 هـ )

هو محمد بن الرشيد، ولد سنة (180 أو 178)، واستولى على كرسي الخلافة سنة (218 هـ )  اُمه ماردة كانت أحظى الناس عند الرشيد. وقالوا عنه: انّه كان ذا شجاعة وقوة وهمّة وكان عريّاً من العلم. وكان إذا غضب لا يبالي من قتل، وكان من أشدّ الناس بطشاً، كان يجعل زند الرجل بين أصبعيه فيكسره.

وهو أوّل خليفة أدخل الأتراك الديوان وكان يتشبّه بملوك الأعاجم ويمشي مشيتهم، وبلغت غلمانه الأتراك بضعة عشر ألفاً.

وهجاه دعبل الخزاعي بالأبيات التالية:

ملوك بني العباس في الكتب سبعة***ولم يأتنا في ثامن منهم الكُتْبُ

كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة***غداة ثَوَوْا فيه وثامنهم كلب

وإنّي لأزهى كلبهم عنك رغبةً***لأنك ذو ذنب وليس له ذنب

لقد ضاع أمر الناس حيث يسوسهم***وصيف واشناس وقد عظم الخطب

وسار على ما كان عليه المأمون من امتحان الناس بخلق القرآن وقاسى الناس منه مشقة في ذلك وقتل عليه خلقاً من العلماء وضرب الإمام أحمد بن حنبل في سنة عشرين ومائتين. وفيها تحوّل المعتصم من بغداد وبنى سرّ من رأى بعد أن اعتنى باقتناء الترك وبذل الأموال الطائلة فيهم حتى ألبسهم الديباج ومناطق الذهب وأصبحوا يؤذون الناس ببغداد حتى هدّده أهل بغداد بمحاربته إن لم يخرجهم منها،. ولهذا بنى سامراء وأخرجهم من بغداد.

وغزا المعتصم الروم سنة (223 هـ  ) و فتح عمورية ومات في ربيع الأوّل سنة (227 هـ ) ودامت حكومة المعتصم ثماني سنين وثمانية أشهر.

 

الإمام الهادي(عليه السلام) والمعتصم العباسي

بعد اغتيال الإمام الجواد (عليه السلام) من قبل المعتصم عهد المعتصم إلى عمر بن الفرج أن يشخص بنفسه  إلى المدينة ليختار معلماً لأبي الحسن الهادي(عليه السلام) البالغ من العمر آنذاك ست سنين وأشهراً ، وقد عهد إليه ان يكون المعلم معروفاً بالنصب والانحراف عن أهل البيت (عليهم السلام) ليغذيه ببغضهم .

ولما انتهى عمر إلى يثرب التقى بالوالي وعرّفه بمهمته فأرشده الوالي وغيره إلى الجنيدي الذي كان شديد البغض للعلويين، فأرسل خلفه وعرّفه بالأمر فاستجاب له بعد أن عيّن له راتباً شهرياً ، وعهد إليه أن يمنع الشيعة من زيارته والاتصال به.

بادر الجنيدي الى  ما كان اُمر به من مهمّة تعليم الإمام(عليه السلام) إلاّ انه قد ذهل لما كان يراه من حدَّة ذكائه ، والتقى محمد بن جعفر بالجنيدي فقال له :« ما حال هذا الصبي الذي تؤدبه ؟» فأنكر الجنيدي ذلك وراح يقول :

« أتقول : هذا الصبي ؟!! ولا تقول هذا الشيخ؟ انشدك بالله هل تعرف بالمدينة من هو أعرف مني بالأدب والعلم ؟ » .

قال : لا .

فقال الجنيدي: « إني والله لأذكر الحرف في الأدب ، وأظن أني قد بالغت ، ثم إنّه يملي أبواباً استفيده منه ، فيظن الناس اني اُعلمه ، وأنا والله أتعلّم منه » .

وانطوت الأيام فالتقى محمد بن جعفر مرة أخرى بالجنيدي ، فقال له : ما حال هذا الصبي ؟

فأنكر عليه الجنيدي ذلك وقال : « دع عنك هذا القول ، والله تعالى لهو خير أهل الأرض ، وأفضل من برأه الله تعالى ، وإنه لربما همَّ بدخول الحجرة فأقول له : حتى تقرأ سورة ، فيقول: أيّ سورة تريد أن أقرأها ؟ فاذكر له السور الطوال ما لم يبلغ إليها فيسرع بقراءتها بما لم أسمع أصح منها ، وكان يقرأها بصوت أطيب من مزامير داود، انّه حافظ القرآن من أوله إلى آخره ، ويعلم تأويله وتنزيله .

وأضاف الجنيدي قائلاً: هذا الصبي صغير نشأ بالمدينة بين الجدران السود فمن أين عَلِم هذا العلم الكبير؟ يا سبحان الله !!

ثم نزع عن نفسه النصب لأهل البيت (عليهم السلام) ودان بالولاء لهم واعتقد بالامامة »[1].

لقد كان لأدب الإمام الهادي (عليه السلام) وحسن تعامله مع معلمه «الناصبي» أثر كبير في تحوله الاعتقادي وايمانه بزعامة أهل البيت (عليهم السلام).

ثمّ إنّ الجنيدي نفسه صرّح لغيره أنه تعلم من الإمام(عليه السلام) ولم يأخذ الإمام(عليه السلام) العلم منه ، وتلك خاصة للإمام وآبائه (عليهم السلام) ، فإنّ الإمام الرضا(عليه السلام) لما سُئل عن الخلف بعده أشار إلى الإمام الجواد(عليه السلام) وهو صغير ربّما في عمر كعمر الإمام الهادي(عليه السلام)، واحتج الرضا (عليه السلام) بقوله تعالى: ( وآتيناه الحكم صبياً )فالصغر والكبر ليس مورداً للإشكال فإن الله سبحانه جعل الامامة امتداداً للنبوة لتقتدي الناس بحملة الرسالة فهم القيّمون عليها والمجسّدون لها تجسيداً كاملاً ليتيسّر للناس تطبيق أحكام الله تعالى بالاقتداء بالائمة(عليهم السلام) .

وتعكس لنا هذه الرواية الاهتمام المبكر من قبل المعتصم بالامام الهادي(عليه السلام) من أجل تطويق تحركه وعزله عن شيعته ومريديه كما يتّضح ذلك من أمره بأن يمنع اتصال الشيعة به. يُضاف الى ذلك أن المبادرة لتعليم الإمام في سنّ مبكّرة لا يبعد أن يكون للتعتيم على علم الإمام وهو في هذا العمر كما حدث لأبيه الجواد(عليه السلام) حين تحدّى كبار العلماء ولم يعهد منه أنه كان قد تعلّم عند أحد.

فهذا الإسراع يعدّ محاولة للحيلولة دون بزوغ اسم الإمام الهادي(عليه السلام) وسطوع فضله عند الخاص والعام، لأنّ ما سوف يصدر منه يمكن أن يُنسب الى معلّمه ومربّيه.

غير أن الإمام(عليه السلام) بخلقه وهدوئه استطاع أنّ يفوّت الفرصة على الخليفة وبلاطه ويُظهر للناس علمه وإمامته التي عيّنها الله له.

 

الواثق (227 ـ 232 هـ )

هو هارون بن المعتصم، اُمه رومية، ولد في شعبان (196 هـ ) واستولى على الخلافة في ربيع الأوّل (227 هـ ). وفي سنة (228 هـ ) استخلف على السلطة أشناس التركي وألبسه وشاحين مجوهرين وتاجاً مجوهراً.

وكان كثير الأكل جداً حتى قال ابن فهم: أنه كان يأكل في خوان من ذهب وكان يحمل كل قطعة منه عشرون رجلاً.

وكان الواثق كأسلافه الحاكمين في الإسراف وقضاء الوقت باللهو والمفاسد .

وقيل عنه أ نّه كان وافر الأدب مليح الشعر ، وكان أعلم الخلفاء بالغناء ، وله اصوات وألحان عملها نحو مائة صوت وكان حاذقاً بضرب العود ، راوية للأشعار والأخبار .

وكان يحب خادماً له أهدي له من مصر فأغضبه الواثق يوماً ثم انه سمعه يقول لبعض الخدم: والله انه ليروم ان أكلمه ـ اي الواثق ـ من أمس فما أفعل، فقال الواثق في ذلك شعراً :

يا ذا الذي بعد أبي ظل مختفراً***ما أنت إلاّ مليك جاد إذ قدرا

لولا الهوى لتحاربنا على قدر***وان اقف منه يوماً فسوف ترى[2]

وفي سنة (229 هـ ) حبس الواثق كتّاب دولته وألزمهم أموالاً عظيمة، فأخذ من أحمد بن اسرائيل ثمانين ألف دينار ومن سليمان بن وهب ـ كاتب ايتاخ ـ اربعمائة ألف دينار، ومن الحسن بن وهب أربعة عشر ألف دينار، ومن ابراهيم بن رباح وكتّابه مائة ألف دينار، ومن أحمد بن الخصيب مليوناً من الدنانير، ومن نجاح ستين ألف دينار، ومن أبي الوزير مائة وأربعين ألف دينار[3].

فكم كان مجموع ثرواتهم بحيث أمكنهم دفع تلك الضرائب؟

وإذا كانت هذه ثروة الكاتب العادي، فكم هي ثروة الوزير نفسه؟

ولعلّ من نافلة القول أن هذه الأموال إنّما اجتمعت عند هؤلاء على حساب سائر أبناء الاُمة الإسلامية الذين كانوا يعانون من الفقر وحياة التقشّف التي أنتجها الظلم الى جانب التفاضل الطبقي الفاحش.

[1] مآثر الكبراء في تاريخ سامراء : 3 / 91 ـ 95 .

[2] تاريخ الخلفاء : 343 ـ 345 .

[3] الكامل في التاريخ: 5/269.