الإمام الهادي(عليه السلام) وبغا الكبير وفي سنة (230 هـ ) أغار الأعراب من بني سليم على المدينة ونهبوا الأسواق وقتلوا النفوس ، ولم يفلح حاكم المدينة في دفعهم حتى ازداد شرّهم واستفحل فوجّه إليهم الواثق بغا الكبير ففرّقهم وقتل منهم وأسر آخرين وانهزم الباقون[1]. وللإمام حين ورود بغا بجيشه الى المدينة موقف تجدر الإشارة اليه، فإنّ أبا هاشم الجعفري يقول: كنت بالمدينة حين مّر بها بغا أيّام الواثق في طلب الأعراب. فقال أبو الحسن(عليه السلام): اُخرجوا بنا حتى ننظر الى تعبئة هذا التركي. فخرجنا فوقفنا فمرّت بنا تعبئته فمرّ بنا تركي فكلّمه أبو الحسن(عليه السلام) بالتركية فنزل عن فرسه فقبّل حافر دابته، قال (أبو هاشم) فحلّفت التركي وقلت له: ما قال لك الرجل؟ فقال: هذا نبيّ؟ قلت: ليس هذا بنبيّ. قال: دعاني باسم سُمّيت به في صغري في بلاد الترك ما علمه أحد الساعة[2]. وهذه الوثيقة التاريخية تتضمن بيان مجموعة من فضائل الإمام الهادي(عليه السلام) وكمالاته واهتماماته العسكرية والتربوية لأصحابه، وتشجيعه لبغا الذي واجه هذا الهجوم التخريبي للأعراب على مدينة الرسول(صلى الله عليه وآله) . وبالاضافة الى كرامات الإمام(عليه السلام) المتعددة لا تستبعد أن يكون الإمام(عليه السلام) قد استفاد من هذه الفرصة لكسب فرد في جيش بغا إذ بامكانه أن يكون حامل صورة ايجابية ورسالة خاصة عن الإمام(عليه السلام) يمكنه ايصالها في الموقع المناسب الى قائده بغا. وسوف نرى مواقف خاصة لبغا تجاه الإمام الهادي(عليه السلام) في المستقبل الذي ينتظره، فضلاً عن موقف له مع أحد الطالبيين بعد أن حاول قتل عامل المعتصم فتمرّد بغا على أمر المعتصم ولم يلق هذا الطالبي الى السباع[3]. ومن هنا قال المسعودي عنه: كان بغا كثير التعطّف والبر على الطالبيين.
وامتحن الواثق الناس في قضية خلق القرآن فكتب إلى القضاة أن يفعلوا ذلك في سائر البلدان وأن لا يجيزوا إلاّ شهادة من قال بالتوحيد، فحبس بهذا السبب عالماً كثيراً. وفي سنة احدى وثلاثين ]بعد المائتين[ ورد كتاب إلى أمير البصرة يأمره أن يمتحن الأئمة والمؤذنين بخلق القرآن ، وكان قد تبع أباه في ذلك ثم رجع في آخر أمره. وفي هذه السنة قتل احمد بن نصر الخزاعي وكان من اهل الحديث وقد استفتى الواثق جماعة من فقهاء المعتزلة بقتله فأجازوا له ذلك ، وقال: إذا قمت إليه فلا يقومن أحد معي فإني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد رباً لا نعبده ولا نعرفه بالصفة التي وصفه بها ، ثم أمر بالنطع فأجلس عليه وهو مقيد فمشى إليه فضرب عنقه ، وأمر بحمل رأسه إلى بغداد فصلب بها ، وصلبت جـثته في سرّ من رأى، واستمر ذلك ست سنين إلى ان ولي المتوكل فأنزله ودفنه ، ولما صلب كتب ورقة وعلقت في أذنه فيها : «هذا رأس احمد ابن نصر بن مالك دعاه عبد الله الإمام هارون إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه فأبى إلاّ المعاندة فعجله الله إلى ناره» ووكل بالرأس من يحفظه. وفي هذه السنة استفك من الروم الفاً وستمائة أسير مسلم فقال ابن داود ـ قبحه الله ـ ! من قال من الاسارى « القرآن مخلوق » خلصوه واعطوه دينارين ومن امتنع دعوه في الاسر[4]. قال الخطيب : كان احمد بن أبي داود قد استولى على الواثق وحمله على التشدد في المحنة ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن . ومن جملة من شملهم ظلم الواثق أبو يعقوب بن يوسف بن يحيى البوطي صاحب الشافعي الذي مات سنة (231 هـ ) محبوساً في محنة الناس بالقرآن ، ولم يجب إلى القول بأنه مخلوق وكان من الصالحين[5]. وجيء بأبي عبدالرحمن عبدالدين محمد الآذرمي (شيخ أبي داود والنسائي) مقيّداً الى الواثق وابن أبي داود حاضر، فقال له: أخبرني عن هذا الرأي الذي دعوتم الناس إليه، أعلمه رسول الله(صلى الله عليه وآله) فلم يَدعُ الناس إليه أم شيء لم يعلمه؟ فقال ابن أبي داود: بل علمه. فقال: فكان يسعه أن لا يدعو الناس إليه وأنتم لا يسعكم؟ قال: فبهتوا وضحك الواثق وقام قابضاً على فمه ودخل بيتاً ومدّ رجليه وهو يقول: وسع النبي(صلى الله عليه وآله) أن يسكت عنه ولا يسعنا! فأمر له أن يعطى ثلاثمائة دينار وأن يرد الى بلده ولم يمتحن أحداً بعدها ومقت ابن أبي داود من يومئذ. وعن يحيى بن أكثم: ما أحسن أحد الى آل أبي طالب ما أحسن إليهم الواثق، ما مات وفيهم فقير[6].
موقف الإمام الهادي (عليه السلام) من مسألة خلق القرآن لقد عمت الاُمة فتنة كبرى زمن المأمون والمعتصم والواثق بامتحان الناس بخلق القرآن وكانت هذه المسألة مسألة يتوقف عليها مصير الاُمة الإسلامية ، وقد بيّن الإمام الهادي (عليه السلام) الرأي السديد في هذه المناورة السياسية التي ابتدعتها السلطة فقد روي عن محمد بن عيسى بن عبيد اليقطين أنه قال: كتب علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) إلى بعض شيعته ببغداد : «بسم الله الرحمن الرحيم، عصمنا الله واياك من الفتنة فإن يفعل فاعظم بها نعمة وإلاّ يفعل فهي الهلكة. نحن نرى ان الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب فتعاطى السائل ما ليس له وتكلف المجيب ما ليس عليه ، وليس الخالق إلاّ الله وما سواه مخلوق ، والقرآن كلام الله لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالّين. جعلنا الله وإياك من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون »[7].
إخبار الإمام الهادي (عليه السلام) بموت الواثق كان الإمام الهادي (عليه السلام) يتابع التطورات السياسية ويرصد الأحداث بدقة. فعن خيران الخادم قال : قدمت على أبي الحسن (عليه السلام) المدينة فقال لي : ما خبر الواثق عندك ؟ قلت : جعلت فداك خلفته في عافية، انا من أقرب الناس عهداً به، عهدي به منذ عشرة أيام قال : فقال لي : ان اهل المدينة يقولون انّه مات، فلما ان قال لي : (الناس)، علمت انه هو ، ثم قال لي : ما فعل جعفر ؟ قلت: تركته أسوء الناس حالاً في السجن، فقال : أما إنه صاحب الأمر. ما فعل ابن الزيات ؟ قلت: جعلت فداك الناس معه والأمر أمره. فقال : اما انه شؤم عليه. ثم سكت وقال لي : لا بد ان تجري مقادير الله تعالى واحكامه. يا خيران ، مات الواثق وقد قعد المتوكل جعفر وقد قتل ابن الزيات. فقلت : متى جعلت فداك ؟ قال : بعد خروجك بستة أيّام[8]. وهذه الرواية دون شكّ تظهر لنا حدّة الصراع والتنافس على السلطة داخل الاُسرة العباسية الحاكمة ، كما تظهر لنا مدى متابعة الإمام (عليه السلام) للاوضاع العامة والسياسية أولاً بأول. واهتمامه الكبير هذا يوضح مستوى الحالة السياسية التي كانت تعيشها قواعد الإمام (عليه السلام) الشعبية ومواليه، فكان يوافيهم بمآل الاحداث السياسية ، ليكونوا على حذر أولاً; ولينمّي قابلياتهم في المتابعة وتحليل الظواهر ثانياً.
هو جعفر بن المعتصم بن الرشيد، اُمّه اُم ولد اسمها شجاع. أظهر الميل الى السنّة، ورفع المحنة وكتب بذلك الى الآفاق سنة (234 هـ )، واستقدم المحدّثين الى سامرّاء وأجزل عطاياهم وأمرهم أن يحدّثوا بأحاديث الصفات والرؤية. وقالوا عنه: انّه كان منهمكاً في اللذات والشراب، وكان له أربعة آلاف سُرِّيّة (أمة يتسرّى بها). وقال علي بن الجهم: كان المتوكل مشغوفاً بقبيحة اُم المعتزّ، والتي كانت اُم ولد له، ومن أجل شغفه بها أراد تقديم ابنها المعتزّ على ابنه المنتصر بعد أن كان قد بايع له بولاية العهد، وسأل المنتصر أن ينزل عن العهد فأبى، فكان يُحضره مجلس العامّة ويحطّ منزلته ويتهدّده ويشتمه ويتوعّده[9] . وكان المتوكل مسرفاً جداً في صرف بيت المال على الشعراء الذين يتقرّبون إليه بالمديح ـ في الوقت الذي كان عامة الناس يشتكون الفقر والحاجة ـ حتى قالوا: ما أعطى خليفة شاعراً ما أعطى المتوكّل، وفيه قال مردان ابن أبي الجنوب: فامسِك ندى كفّيك عني ولا تزد *** فقد خفتُ أن أطغى وأن اتجبّرا فقال المتوكل: لا أمسك حتى يغرقك جودي، وكان قد أجازه على قصيدة بمائة ألف وعشرين ألفاً[10]. ولعلّ من وصف المتوكل بالجود سوف يتراجع عن وصفه إذا سمع أن المتوكّل قال للبحتري: قُل فيّ شعراً وفي الفتح بن خاقان، فإني أحب أن يحيا معي ولا أفقده فيذهب عيشي ولا يفقدني، فقل في هذا المعنى، فقال البحتري: يا سيّدي كيف أخلفتَ وعدي *** وتثاقلت عن وفاء بعهدي؟ لا أرتني الأيام فقدك يا فتـ *** ـحُ ولا عَرَّقتْك ما عشتَ فقدي أعظم الرزء أن تقدّمَ قبلي *** ومن الرزء أن تؤخّر بعدي حذراً أن تكون إلفاً لغيري *** إذ تفرّدت بالهوى فيك وحدي
وقد قتل المتوكل والفتح بن خاقان في مجلس
لهوهما في ساعة واحدة وفي جوف الليل في الخامس من شوّال سنة (247
هـ ) كما سوف
الإمام الهادي (عليه السلام) والمتوكل العباسي وقد عُرف المتوكل ببغضه لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ولآل البيت(عليهم السلام) وشيعتهم ، ففي سنة (236 هـ ) أمر بهدم قبر الإمام الحسين(عليه السلام) وهدم ما حوله من الدور. ومنع الناس من زيارته وأمر بمعاقبة من يتمرّد على المنع. قال السيوطي: وكان المتوكّل معروفاً بالتعصّب فتألّم المسلمون من ذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء. فمما قيل في ذلك: بالله إن كانت اُمية قد أتت *** قتل ابن بنت نبيّها مظلوما فلقد أتاه بنو أبيه بمثله *** هذا لعمري قبره مهدومـــــا أسفوا على أن لا يكونواشاركوا *** في قتله فتتبّعوه رميما[11] ولم يقف المتوكّل عند حدّ في عدائه ونصبه لأهل البيت(عليهم السلام) وايذاء شيعتهم فقد قتل معلّم أولاده إمام العربية يعقوب ابن السكّيت حين سأله: من أحب إليك؟ هما ـ يعني ولديه المعتز والمؤيد ـ أو الحسن والحسين؟ فقال ابن السكّيت: قنبر ـ يعني مولى علي ـ خير منهما، فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتى مات، وقيل أمر بسلّ لسانه فمات، وذلك في سنة (244 هـ )[12]. وأهم حدث في زمن المتوكّل فيما يخص حياة أهل البيت(عليهم السلام) بحيث يكشف عمّا وصل إليه الرأي العام الإسلامي من التوجه إليهم والاهتمام بهم في الوقت الذي كان العباسيون يفقدون فيه موقعهم في النفوس هو حدث إشخاص المتوكّل للإمام علي الهادي(عليه السلام) من مدينة جدّه ووطنه الى سجون سرّ من رأى بعيداً عن حواضر العلم والدين والأدب. ففي سنة (234 هـ ) أي بعد سنتين[13] من سيطرته على كرسي الخلافة أمر المتوكل يحيى بن هرثمة بالذهاب إلى المدينة والشخوص بالإمام إلى سامراء ، وكانت للإمام (عليه السلام) مكانة رفيعة بين أهل المدينة ، ولمّا همّ يحيى بإشخاصه اضطربت المدينة وضج اهلها كما ينقل يحيى نفسه، حيث قال : دخلت المدينة فضج أهلها ضجيجاً عظيماً ، ما سمع الناس بمثله خوفاً على علي ـ اي الإمام الهادي (عليه السلام) ـ وقامت الدنيا على ساق ، لأنه كان محسناً إليهم ملازماً المسجد ، لم يكن عنده ميل إلى الدنيا فجعلت أسكتهم ، وأحلف لهم أني لم أومر فيه بمكروه وأنه لا بأس عليه ثم فتّشت منزله فلم أجد إلاّ مصاحف وأدعية ، وكتب علم، فعظم في عيني[14]. ونستفيد من هذه الرواية اُموراً منها : 1 ـ قوة تأثير الإمام الهادي (عليه السلام) وانشداد الناس إليه وتعلقهم به لكثرة احسانه إليهم، ولأنه يجسّد الرسول والرسالة في هديه وسلوكه. 2 ـ خشية السلطة العباسية من تعاظم أمر الإمام (عليه السلام) ومن سهولة اتصال الجماعة الصالحة به ، وإشخاصه إلى سامراء يعتبر إبعاداً له عنهم ومن ثم يمكن وضعه تحت المراقبة الشديدة . 3 ـ تأثر قائد الجيش العباسي ـ يحيى بن هرثمة ـ بالامام (عليه السلام) وتعظيمه له; لكذب الاتهامات حوله بالنسبة لعدّ العدة والسلاح للاطاحة بالخليفة العباسي. 4 ـ عزوف الإمام (عليه السلام) عن الدنيا وملازمة المسجد متخذاً من سيرة آبائه نبراساً له ، ومن المسجد طريقاً لبث علوم أهل البيت (عليهم السلام) وتصحيح معتقدات الاُمة . 5 ـ عزل الإمام (عليه السلام) عن شيعته ومحبيه ، فسامراء مدينة أسسها المعتصم العباسي وكانت تسكنها غالبية تركية (قوّاد وجنود) ولم يكونوا يعبؤون بالدين والقيم قدر اهتمامهم بالسيطرة والسلطة . |
|