أولاً : في حماية الرسُول صلّى الله عليه واَله وسلّم
ثانياً : بعد غياب الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم
ثالثاً : في مقام الإمامة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص33
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أوّلاً : في حماية الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم
:
8-رواية الحديث الشريف
9-بيعة الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم
10-الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم يعمل
11-الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم يقول
12-الحسين عليه السلام والبكاء
13-الحب والبُغض
14-السلْم والحرْب
15-وديعةُ الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص35
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
8-رواية الحديث الشريف
وُلِدَ الحسينُ عليه السلام ، وجدّه الرسول صلّى الله عليه
واَله وسلّم منهَمكٌ في بثّ الرسالة الإسلاميّة ، والدولة آخذة بالأوج والرفعة ،
والرسولُ القائدُ لا ينفكّ يدبّر أُمورها ، ويرعى مصالحها ، ويُعالج شؤونها ،
ويخطّط لها .
فالحسين السبط ، الذي يدور في فلك جدّه الرسول ، ويجلس في حجره
، ويصعد على ظهره ، ويرتقي عاتقه وكاهله ، لابُدّ وأن يمتلىء بكلّ وجوده من كلام
الرسول وحديثه ، فهو يسمع كلّ ما يقول ، ويرى كلّ ما يفعل ، وقد عاشر جدّه سبعاً من
السنين ، تكفيه لأنْ يعيَ منه الكثير من الأُمور التي تعدّ في اصطلاح العلماء
حديثاً لرسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، و سُنّة له .
وقد ابتدأ ابن عساكر برواية بعض الأحاديث التي سمعها الحسين من
جدّه ، وأوَل حديث ذكره هو [1]: قال عليه السلام: سمعت رسول الله صلّى الله عليه
واَله وسلّم يقول : < ما من مسلم ولا مسلمةٍ يُصاب بمصيبة وإنْ قدم عهدها ، فيُحدِث
لها استرجاعاً ، إلاّ أحدَثَ اللهُ له عند ذلك ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص36
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأعطاهُ ثوابَ ما وعده عليها يوم أُصيبَ بها( 35).
أَوَ من القَدَرِ أن يكون هذا أوّل حديثٍ يُروى في ترجمة الإمام
الحسين عليه السلام ? أوْ أنّ الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم أراد أنْ يلقّنَ
الحسين في أوّل دروسه له ، درساً في الصبر على المُصيبة ، التي تكون قطب رحى سيرته
، ومقرونة باسمه مدى التاريخ ؟
إنّ في ذلك - حقّاً - لَعِبْرةً
وحديث ثانٍ نقله ابن عساكر في ترجمة الإمام عليه السلام : [2]
قال : إنّ أبي حدّثني - يرفع الحديث إلى النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم - أنّه
قال : المغبون : لا محمود ، ولا مأجور ( 36).
وهذا درس نبويّ عظيم : فإنّ عمل الإنسان لدنياه يستتبعُ الحمدَ
، وعمله لاَخرته يستتبعُ الأجر ، والأعمالُ بالنيّات . أمّا أنْ يُحتالَ عليه
ويُغبَنَ ، فيؤخذَ منه ما لا نيّة له في إعطائه ، فهذا هو المغبونُ الذي لا يُحمدُ
على فعله إنْ لم يُعاتَبْ ، ولا يؤجرُ على شيءِ لم يقصدْ به وجهَ الله والخير ، بل
هو أداة لتجرُّؤ الغابنين واستهتارهم ، كما يؤدّي إلى الاستهزاء بالقِيَم و استحماق
الناس.
ففي هذا الحديث دعوة إلى التنبهِ والحذر واليقظة ، حتّى في
الأُمور البسيطة الفرديّة ، فكيف بالأُمور المصيريّة التي ترتبط بحياة الأُمّة ؟
إنّ في ذلك - أيضاً - عِبْرةً ، لقّنها الرسولُ صلّى الله عليه
واَله وسلّم لحفيده الحسين عليه السلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(35) و (36 ) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 /115).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص37
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
9- بيعة الرسول
الّذين لم يبلغوا الحُلُمَ لم يُكلَفوا في الدين الإسلامي بما
يشقّ عليهم ، ولم يُعامَلوا إلاّ بما يلائم طفولتهم من الاَداب .
فأمر مثل البيعة , التي تعني الالتزام بما يَقع عليه عقدها ، لا
يصدُر إلاّ من الكبار ، لأنّها تقتضي الوعيَ الكاملَ ، ومعرفة المسؤوليّة ، والشعور
بها ، وتحمّل ما تستتبعه من أُمور ، وكلّ ذلك ليس للصغار قبل البلوغ فيه شأن . إلاّ
أنّ النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم ميّزَ بعض من كان في عمر الصغار من
أهل البيت عليهم السلام بقبول البيعة منهم . وهذا يستلزم أنْ
يكون عملهم بمستوى عمل الكبار ، وإلاّ لنافى الحكمة , التي انطوى فعل الرسول عليها
بأتمّ شكلٍ وبلا ريبٍ فالمسلمون يربأون بالنبيّ وحكمته ، أن يقوم بأمرٍ لغوٍ .
وجاء الحديث عن الإمام أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه
السلام : [194] أنّه قال : إنّ النبي صلّى الله عليه واَله وسلّم بايعَ الحسن
والحسين ، وعبد الله بن عبّاس ، وعبد الله بن جعفر ، وهم صغار لم يبلغوا . قال :
ولم يبايع صغيراً إلاّ منِّا (37).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(37 ) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 129 )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص38
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وتدل هذه البيعة على أنّ قلّة الأعوام في أولاد هذا البيت
الطاهر ، ليستْ مانعةً عن بُلوغهم سنّ الرشد المؤهّل للأعمال الكبيرة المفروضة على
الكبار ، مادام فعلُ الرسول المعصوم يدعمُ ذلك ، ومادام تصرّفهم يكشف عن أهليّتهم
ومادام الغيبُ ، والمعجز الإلهيّ يُبَيّن ذلك .
فليس صِغَرُ عمر عيسى عليه السلام مانِعاً من نبوّته مادام
المعجِز يرفده في المهد يكلّم الناس صبيّاً ، وليس الصِغرَ في عمر الحسين مانِعاً
من أن يُبايعه جدّه الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم .
10-الرسولُ يعملُ
وَجَدَ الرسولُ صلّى الله عليه واَله وسلّم سبطَه الحسينَ ،
يلعبُ مع غلمانٍ في الطريق ، فأسرعَ الجد أمامَ القوم ، وبسطَ يديه ليحتضنَه ، فطفق
الحسينُ يمرُّ هاهنا مرّةً ، وهاهنا مرّةً ، يُداعبُ جدّه ، يفرّ منه دلالاً ، كما
يفعلُ الأطفالُ ، فجعلَ الرسولُ العظيم يُضاحكُهُ حتّى أخذه .
ذكر هذا في الحديث ، وأضاف الراوي له ، قال[: [112 و115] فوضع
الرسولُ إحدى يديه تحت قفاه ، والأُخرى تحت ذقنه ، فوضع فاه على فيه ، فقبّله ،
وقال : حُسينٌ منّي ، وأنا من حُسين ، أحَبَ الله من أحبَ حُسيناً ، حُسين سِبْط من
الأسباط (38).
إنّ الرسول - وهو يحمل كرامة الرسالة ، وثقل النبوّة ، وعظمة
الأخلاق ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(38 ) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 ./ 120)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص39
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهيبة القيادة - يُلاعبُ الطفلَ على الطريق . فلابُدّ أن يكون
لهذا الطفل شأنٌ كريمٌ ، وثقيلٌ ، وعظيمٌ ، ومهيبٌ ، مناسبٌ لشأن الرسول نفسه ،
ويُعلن عن سبب ذلك فيقول : حُسَينٌ منّي وأنا من حُسَينٍ ,ليؤكّد على هذا الشأن ،
وأنّهما - : الحسين والرسول - وِفقان ,كما سنراه في الفقرة التالية [11].
ومنظر آخر : حيثُ الرسولُ , الذي هو أشرف الخلق وأقدسهم ، فهو
الوسيط بين الأرض وبين السماء ، فهو أعلى القِمَم البشريّة التي يمكن الاتّصال
بالسماء مباشرة ، بالاتّصال بها .
ومَنْ له أنْ يرقى هذا المُرتقى العالي ، الرهيب ؟
لا أحدَ ، غيرُ الحسنِ ، وأخيه الحسينِ ، فإنّهما كانا يستغلاّن
سجود النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم إذا صلَى ، فيثبانِ على ظهره ، فإذا استعظم
الأصحاب ذلك وأرادوا منعهما ، أشار النبي إليهم أنْ :دعوهما .ثمّ لا يرفع الرسول
رأسه من سجوده حتّى يقضيا وطرهما ، فينزلان برغبتهما .
وفي نصّ الحديث [116 و142 و143] : فلمّا أن قضى الرسول الصلاةَ
، وضعهما في حجرهِ ، فقال : مَنْ أحبّني ، فليحبَ هذينِ.
إنّ عملهما مع لطافته لا يستندُ إلى طفولةٍ تفقد الوعي والقصد ،
لأنّهما أجَلُّ من أن لا يُميّزا بينَ حالة الصلاة وغيرها ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص40
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وموقف الرسول العظيم تجاههما لا يستند إلى عاطفةٍ بشريّة فهو في
أعظم الحالات قرباً من الله .
فهما يصعدان على هذه القمّة الشمّاء ، وهو في حالة العروج إلى
السماء ، فإنّ
الصلاة معراج المؤمن ، والرسول سيّد المؤمنين .
فأيّ تعبيرٍ يمكن أنْ يستوفي وصف هذه العظمة ، وهذا العُلوّ ? ?
وهذا الشموخ ? الذي لا يُشك في تقرير الرسول له ، وعدم معارضته إيّاه بل إظهاره
الرضا والسرور به .
وهل حَظِيَ أحَد بعدَهما بهذه الحظوة الرفيعة ? كلاّ ، لا أحد .
أمّا قبلهما ، فنعم : أبوهما عليٌّ ، الذي هو خيرٌ منهما ، قد
رَقِيَ - بأمْر من الرسول - ظهرَه الشريف ، يومَ فتح مكّة ، فصعدَ على سطح الكعبة
وكسّر الأصنام , وفي ذلك المقام قال الإمام عليه السلام: خُيلَ إليَ لو شِئْتُ
نِلْتُ اُفُقَ السماء (39).
إنّ الشرفَ في الرُقيّ على ظهر النبيّ صلّى الله عليه واَله
وسلّم - وهو المثال المجسَد للقُدس والعُلوّ - لا يزيد على شرف الصاعد ، إذا كان
مثل عليّ والحسن والحسين ، ممّن هو نفس النبيّ أو فلذة منه .
وقد عبّر الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم عن هذه الحقيقة في
حديثه مع عمر ، لمّا قال :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(39) المستدرك على الصحيحين (2 /366).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص41
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[148] رأيتُ الحسنَ والحسين على عاتقي النبيّ صلّى الله عليه
واَله وسلّم، فقلتُ: نِعْم الفرسُ تحتكُما فقال النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم:
ونِعْمَ الفارسان هُما(40). إنّه نَفْث لروح الفروسيّة ، وتعبير عن أصالة الشرف ،
بلا حدود
11-الرسول يقول
ولاحظنا أنّ الرسول - بعد أن يعمل - يقول : حسينٌ منّي وأنا من
حسين.
فأمّا أنّ الحسينَ من الرسول ، فأمرٌ واضحٌ واقعٌ ، فهو سبطه :
ابن بنته ، وَلَدَتْه الزهراءُ وحيدةُ الرسول ، من زوجها عليّ ابن عمّ الرسول .
ومع وضوح هذه المعلومة ، فلماذا يُعلنها الرسول ، وماذا يريد أن
يُعلن بها ؟
هل هذا تأكيدٌ منه صلّى الله عليه واَله وسلّم على أنّ عليّاً
والد الحسين هو نفسُ الرسول , تلك الحقيقة التي أعلنتها آية المباهلة ؟ كما سبق في
الفقرة [5] أو أنّ الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم يريد أن يُمَهّد بهذه الجملة
: حُسَينٌ منّي , لما يليها من قوله : وأنا من حُسينٍ ? تلك الجملة المثيرة للتساؤل
: كيف يكون الرسول من الحسين ؟
والجواب : أنّ الرسول ، لم يَعُدْ بعدَ الرسالة - شخصاً ، بل
أصبحَ مثالاً ، وَرمْزاً ، وأُنموذجاً ، تتمثّل فيه الرسالةُ بكلّ أبعادها وأمجادها
، فحياتُه هي رسالتُه ،
ورسالتُه هي حياته .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(40 ) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور( 7 /122).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص42
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن الواضح أنّ أيّ والدٍ إنّما يسعى في الحياة ليكون له ولد ،
كي يخلفَه ، ويحافظ عَلى وجوده ليكون استمراراً له . فهو يدافع عنه حتّى الموت
ويحرصُ على سلامته وراحته ، لأنّه يعتبره وجوداً آخر لنفسه
إذا كانت هذه رابطةُ الوالد والولد في الحياة المادّية ، فإنّ
الحسين عليه السلام قد سعى من أجل إحياء الرسالة المحمديّة بأكبر من ذلك ، وأعطاها
أكثر ممّا يُعطي والد ولَده ، بل قدّم الحسينُ في سبيل الحفاظ على الرسالة كلّ ما
يملك من غالٍ ، حتّى فلذات أكباده : أولاده الصغار والكبار ، وروّى جذورها بدمه
ودمائهم , فقد قدّم الحسين عليه السلام للرسالة أكثر ممّا يقدّم الوالدُ لولده ،
فهيَ إذنْ أعزّ من ولده ، فلا غروَ أن تكون هي مِنهُ .
وقد ثبتَ للجميع - بعد كربلاء- أنّ الرسالة التي كانت محمّدية
الوجود ، إنّما صارت حُسينيّة البقاء .
فالرسالة المحمّديّة التي مثّلتْ وجودَ الرسول ، كانت في العصر
الذي كادتْ الأيدي الأُمويّة الأثيمة أنْ تقضيَ على وجودها ، قد عادتْ من الحسين
ولذلك قال صلّى الله عليه واَله وسلّم : . . . وأنا من حسين .
ولم تقف تصريحاتُ الرسول في الحسين عند هذا الحدّ ، بل هناك
نصوص أُخر تكشف أبعاداً عميقةً في العلاقة بين الحسين وجدّه ، وتبتني على أُسس
ثابتة للاهتمام البالغ من الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم بسبطيه الحسن والحسين
.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص43
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فممّا قال فيهما : [58 - 60]: الحسن والحسين هما ريحانتاي من
الدنيا(41). حتّى كنّى أباهما عليّاً : أبا الريحانتين , وقال له [159 - 160] :
سلام عليك ، أبا أوصيك بريحانتَيَ من الدنيا ، فعن قليلٍ ينهدّ ركناك ، والله
خليفتي عليك( 42 ) .
فلمّا قبض النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم قال عليّ عليه
السلام : هذا أحد الركنين .
فلمّا ماتت فاطمة عليها السلام ، قال عليه السلام : هذا الركن
الاَخر .
فبقى الحسنان نعم السلوة لعليّ بعد أخيه الرسول وبعد الزهراء
فاطمة البتول ، يَسْتَر عليه السلام بالنظر إليهما ، ويتمتّع بشبههما بالرسول ،
ويشمّهما ، كما كانا الرسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ريحانتيْهِ ، ويقول
لفاطمة [124]: ادعي لي بابنيّ > فيشمهمّا ويضمهمّا( 43).
والحديث المشهور عنه صلّى الله عليه واَله وسلّم : [62 - 82]
الحسنُ والحسينُ سيّدا شباب أهل الجنّة( 44) الذي رواه من الصحابة : أبوهما عليّ
عليه السلام ، والحسينُ نفسُه ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(41) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 / 118)
( 42) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7/ 123)
(43) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 /120)
(44) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7/ 119)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 44
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وابنُ عبّاس ، وعمرُ بن الخطّاب ، وابنُ عمر ، وابنُ مسعود ،
ومالكُ بن الحويرث ، وحُذَيْفةُ بن اليمان ، وأبو سعيد الخُدْري ، وأنسُ بن مالك .
ونجد في بعض ألفاظ الحديث تكملة هامّة حيث قال الرسولُ صلّى
الله عليه واَله وسلّم : [69 و71] . . . وأبوهما خير منهما (45)
وإذا كانت الجنّةُ هي مأوى أهل الخير ، وقد حتمها الله للحسنين
، وخصّهما بالسيادة فيها ، فما أعظم شأن من هُوَ خير منهما ، وهو أبوهما عليّ عليه
السلام ؟ لكن إذا كان الحديث عن الحسنَيْن ، فما لأبيهما يُذكر هاهُنا ؟
إنّ النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم المتّصل بالوحي ،
والعالِم من خلاله بما سيُحدثه أعداء الإسلام ، في فتراتٍ مظلمة من تاريخه ، من
تشويهٍ لسمعة الإمام عليّ عليه السلام ، مع ما له من شرف نَسَبه ، وصهره من رسول
الله ، وأُبوّته للحسن والحسين فإنّهم لم يتمكّنوا من تمرير مؤامراتهم على الناس ،
إلاّ بالفصل بين السبطين الحسنين فيُفضّلونهما ، وبين عليّ فيضلّلونه !!
لكنّ الرسولَ ، يوم أعلنَ عن مصير الحسنين ، ومأواهما في الجنّة
، وسيادتهما فيها ، أضاف جملة : وأبوهما خير منهما , مؤكّداً على أنّ الّذين ينتمون
إلى دين الإسلام ، ويقدّسون الرسولَ و حديثَه و سُنّته ، ويحاولون أن يحترموا آل
الرسول ، وسبطيه ، لكونهما سيّدي شباب أهل الجنّة ، ولأنهما من قُربى النبيّ صلّى
الله عليه واَله وسلّم ، مُتجاوزينَ عليّاً تبعاً لِما أملَتْ عليهم سياسةُ الطغاة
البُغاة من تعاليم ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(45 ) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 /119).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص45
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنّ هؤلاء على غير هَدْي الرسول!!
إذْ مهما يكنْ للحسن والحسين من مؤهّلات اكتسبا بها سيادة
الجنّة ، أوضحُها انتماؤهما إلى الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم ، فهما سبطاه من
ابنته الزهراء فاطمة , فأبوهما عليّ اكتسبَه بأنّه ابن عمّه نسباً ، وربيبه طفلاً ،
ونفسه نصّاً ، وصهره سبباً ، وهو زوج الزهراء فاطمة ، وهو خيرٌ منهما لفضله في
السبق والجهاد ، وكلّ الذاتيّات التي منه أخذاها ، والتي جعلته أخاً وخليفة للنبيّ
، وكفؤً للزهراء ، وأباً للحسنين ، وإماماً للمسلمين .
ومع وضوح هذا التصريح النبويّ الشريف ، فإنّ التَعتيم المضلّل
الذي كثّفه بنو أُميّة ، فملأوا به أجواءَ البيئات الإسلامية مَنَعَ من انصياع
الأُمّة لفضل عليّ عليه السلام ، فهاهم يفضّلون الحُسَينَ وأُمَهُ ، ويُحاولون غمط
فضل عليّ ، وفصله عنهما : ففي الحديث ، قال مولىً لحُذيفةَ : [202] كانَ الحسينُ
آخذاً بذراعي في أيّام الموسم ، ورجلٌ خلفَنا يقول : الّلهمّ اغفر له ولأُمّه .
فأطال
ذلك . فتركَ الحسينُ عليه السلام ذراعي ، وأقبل عليه ، فقال :
قد آذيتنا منذ اليوم تستغفرُ لي ، ولأُمّي ، وتترك أبي وأبي خير منّي ، ومن أُمّي
!!
12-الحسين والبكاء
روى ابن عساكر بسنده قال : [170] خرج النبيّ صلّى الله عليه
واَله وسلّم من بيت عائشة فمرّ ببيت فاطمة ، فسمع حُسيناً يبكي ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص46
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقال : ألم تعلمي أنّ بُكاءه يؤذيني (46).
[319] وقال صلّى الله عليه واَله وسلّم لنسائه : لا تُبكوا هذا
الصبيّ - يعني حسيناً -(47 )
ولماذا يؤذيه بكاءُ هذا الطفل بالخصوص ? وكلّ طفلٍ لابُدّ أن
يبكي ، وإذا كان إنسانٌ رقيقَ العاطفة ، فلابُدّ أن يتأذّى من بكاء كلّ طفلٍ ، أيّ
طفل كان ، فلماذا يذكر النبيّ العطوف ، الحسينَ خاصّة ? لكنّ القضية التي جاءت في
الحديث لا تتحدّث عن هذه العاطفة ، وإنّما تشير إلى معنىً آخر , فبكاء الحُسين ،
يؤذي النبيّ لأنّه يذكّره بحزنٍ عظيمٍ سوف يلقاهُ هذا الطفل ، تبكي له العيون
المؤمنة وتحزن له القلوب المستودعة حبّه , وإذا كان الرسولُ صلّى الله عليه واَله
وسلّم يتأذّى من صوت بكاء هذا الطفل وهو في بيت أبويه ، فكيف به إذا وقف عليه يوم
عاشوراء في صحراء كربلاء وقد كظّه الظمأُ ، يطلب جرعة من الماء ؟
وإذا كانت دمعةُ الحسين تعزّ على رسول الله أن تجريَ على خده
فكيف بدمه الطاهر حين يُراقَ على الأرض ؟
إنّ أمثال هذا الحديث رموز تُشير إلى الغيب ، وإلى معانٍ أبعدَ
من مجرّد العاطفة وأرقّ .
والأذى الذي يذكره النبيّ ، أعمقَ من مجرّد الوجع وأدقّ .
وللبكاء في سيرة الحسين منذ ولادته بل وقبلها ، وحتّى شهادته بل
وبعدها ، مكانة متميّزة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(46 ) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور( 7 / 125).
(47 ) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور(7 / 134).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص47
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقد بكتْهُ الأنبياء كلّهم حتّى جدّه الرسول قبل أن يولد
الحسينُ , وبكاه أهلُ البيت بما فيهم جدّه الرسول يوم الولادة , وبكاه أهلُه
وأصحابهُ يوم مقتله ، وبكى هو أيضاً على مصابه .
وبعد مقتله بكاهُ كلّ من سَمِعَ بنبأ شهادته : أُمّهات المؤمنين
، والصحابةُ المؤمنون .
وبكاهُ الأئمّة المعصومون ، ومن تبعهم ، مدى القرون حتّى جاء في
رواية عن الحسين عليه السلام نفسه أنّه قال : أنا قتيلُ العَبْرة ، ما ذكرني مؤمن
إلاّ وبكى . وعبّر عنه بعض الأئمّة بعَبْرة كلّ مؤمنٍ .
ولقد تحدّثتُ عن مجموع النصوص الواردة في البكاء على مصيبة
الحسين , في بعض الحسينيّات التي ألّفتها(48).
13-الحُب والبُغْض
أنْ يُحبّ الإنسانُ أولاده ونَسْلَه ، فهذا أمر طبيعي جدّاً ،
أمّا أنْ يربطَ حُبّهم بحبّه ، فهذا أمرٌ آخر ، فليس حبّهم ملازماً لحبّه ، وليس
لازماً أو واجباً - في كلّ الأحوال - أن يحبَهم كلّ مَنْ أحبّ جدّهم .
لكنّ الرسولَ فرضَ الربْطَ بين الحبَيْنِ ، حبَ أولاده ، و
عترته ، وحبّه هو صلّى الله عليه واَله وسلّم ، فكان يُشير إلى الحسن والحسين ،
ويقول : [116] مَنْ أحبَني فليُحبّ هذينِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(48 ) لاحظ : ذكرى عاشوراء وتأمّلاتها التراثية فقهياً وأدبياً
- مخطوط - وجهاد الإمام السجّاد عليه السلام (ص179 - 187).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص48
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنّ عاطفة الحُبّ بين الرسول والأُمّة ، ليس هو العشق فحسبْ ،
بل هو أيضاً حُبّ العَقيدة والتقديس والإجلال والسيادة ، لِما تمتّع به الرسولُ من
ذاتيّات
جمالية وكمالية ، وأُبوّة ، وشرف ، وكرامة ، وجلال ، وعطف ,
وحنان ، وصفات متميّزة .
وإذا كان الحسنان ، قد استوفيا هذه الخصالَ ، وبلغا إلى هذه
المقامات حَسَباً ونَسَباً ، فمن البديهيّ أنّ مُحِبّ الرسول ، سيحبّهما ، بنفس
المستوى ، لِما يجد فيهما ممّا يجد في جدّهما الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم .
ولأجل هذا المعنى بالذات ، نجد الرسولَ يعكسُ تلك الملازمة ،
فيقول : في نصوص أُخرى : من أحبّهما فقد أحبّني , فيجعل حُبَهُ متفرعاً من حبّهما ،
بعد أن جعل في النصّ الأول حبّهما متفرّعاً من حبّهِ .
فإذا كان سببُ الحُبّ ومنشؤُه واحداً ، فلا فرق بين الجملتين :
مَنْ أحَبّني فليُحِبَ هذيْنِ , و مَنْ أحَبَهما فقد أحبّني .
والنصوص التي أكّد فيها الرسولُ صلّى الله عليه واَله وسلّم على
حُبّ آل محمّد , ومنهم الحسين عليه السلام ، كثيرة جدّاً ، روى منها ابن عساكر
قسماً كبيراً(49 ).
ويتراءى هذا السؤالُ : :لماذا كلّ هذه التصريحات ، مع كلّ ذلك
التأكيد ? وإنّ المؤمنين بالرسالة والرسول ، لابُدّ وأنّهم يُكرمون آل الرسول ,
ويودّونهم ، ويحبّونهم حبّ العقيدة والإيمان وعلى أقلّ التقادير ، مشياً على أعرافٍ
من قبيل :لأجْل عَيْنٍ ألْفُ عَيْنٍ تُكْرَمُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(49) لاحظها في الصفحات (79 - 100) من تاريخ دمشق ، ترجمة
الإمام الحسين عليه السلام .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص49
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و المَرْءُ يُحفظ في وُلدهِ , تلك الأعراف التي كانت سائدةً بين
أجهْل البشر في ذلك العصر ، فكيف بالّذين ملأتهم تعاليم الإسلام وَعْياً ؟
هذا ، مع الغضّ عمّا كان لأهل البيت النبويّ ، من الكرامة
والشرف والمكانة العلميّة والعمليّة ، ممّا لا يخفى على أحدٍ من المسلمين .
فإذا نظرنا إلى آثارهم ومآثرهم ، فهل نجد أحداً أحقّ بالحبّ
والتكريم منهم ? وأَوْلى بالتفضيل والتقديم ؟
فلماذا كلّ ذلك التأكيد من جدّهم الرسول على حُبّهم , وربط ذلك
بحبّه هو ؟ إنّ هذا السؤال تسهل الإجابة عنه ، إذا لاحظنا أنّ الرسول صلّى الله
عليه واَله وسلّم قد أضاف على نصوص الملازمة الثانية : من أحبّهما فقد أحبّني ,
قوله :[ 118- 123] ومن أبغضهما فقد أبغضني (50)
عجباً ، فكيف يُفترضُ وجود من يُبغض الحسن والحسين ؟ ولماذا
يُريدُ أحدٌ ممّن ينتمي إلى دين الإسلام ، أن يُبغض الحسنَ أو الحسين ؟ وهذه
الأسئلة أصعب من السؤال السابق ، قطعاً ، إذ يلاحَظ فيها : أنّ الرسولَ صلّى الله
عليه واَله وسلّم قد فرضَ وجود من يُبغض الحسنين ، ورَبَطَ بين بُغضهما ، وبُغضه هو
ثمّ هناك ملاحظة في مسألة البُغض ، وهي أنّ الملازمة فيه ، من طرف واحد ، وقد كان
في الحبّ من الطرفين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(50) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور( 7 / 120).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص50
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فلم يَرِد في البغض : من أبغضني فقد أبغضهما ؟ وقد يكون
السببُ في الملاحظة الثانية : أنّ فرض بُغض النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم ، في
المجتمع الإسلاميّ ، أمر لا يمكن تصوُّره ولا افتراضُه ، إذ هو يساوي الكفر
بالرسالة ذاتها ، وبالمرسِل والمرسَل أيضاً .
لكن بُغْض آل الرسول , فهو على فظاعته , قد تحقّق على أرض
الواقع ، فقد كان في أُمّة الرسول بالذات مَن أبغضَ الحسنين ، ولعنَهما على منابر
الإسلام ، بل وُجِدَ في الأُمّة مَنْ شهر السيفَ في وجهيهما ، وقاتلهما .
وهل قُتِلَ الحسينُ عليه السلام على يدِ أناسٍ من غير أُمّة
جدّه الرسول محمّد ? ولماذا ؟
إنّ الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم أعلنَ بالنّص المذكور -
الذي هو من دلائل النبوّة - أنّ بُغضه , وإنْ لم يفترضه المسلم مُباشرةً ، ولا
يتمكّن المنافق
والكافر من إظهاره علانيةً ، إلاّ أنّه يتحقّق من خلال بُغْض
الحسن والحسين ، لأنّ : مَنْ أبغضهما فقد أبغض النبيّ , لِما في بغضها من انتهاك
المُثُل التي يحتذيانها ، ونبذ المكارم التي يحتويانها ، ورفض الشرائع التي
يتّبعانها , وهي نفس المُثُل ، والمكارم ، والشرائع ، التي عند الرسول نفسه صلّى
الله عليه واَله وسلّم فبغضهما ليس إلاّ بغضاً له صلّى الله عليه واَله وسلّم
ولرسالته .
ولقد رَتَبَ النتائج الوخيمة على بُغضهما في قوله صلّى الله
عليه واَله وسلّم : [131] مَنْ أحبّهما أحببتُه ، ومَنْ أحببتُه أحبَه الله ، ومَنْ
أحبَه الله أدخلهُ جنّات النعيم . ومَنْ أبغضهما أو بغى عليهما ، أبغضتُه ، ومَنْ
أبغضتُه أبغضَه اللهُ ، ومَنْ أبغضَه اللُه أدخله نارَ جهنّم ، وله عذاب مقيم (
51).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(51) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 /121).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص51
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لكنّ الذين أسلموا رَغْماً ، ولم يتشرّبوا بروح الإسلام ،
وظلّتْ نعراتُ الجاهليّة عالقةً بأذهانهم ، ومترسّبةً في قلوبهم ، جعلوا كلّ الذي
وردَ عن الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم من النصوص في حقّ أهل بيته الكرام ،
وارداً بدافع العاطفة البشريّة ، نابعاً عن هواهُ في أبناء ابنته مُعْرضين عن
قدسيّة كلام الرسول الذي حاطه بها الله ، فجعل كلامه وحياً ، وحديثه سُنّةً
وتشريعاً ، وطاعته فرضاً ، ومخالفته كفراً ونفاقاً ، وجعل ما ينطق بعيداً عن الهوى
، بل هو وحي يُوحى , فأعرضوا عن هذه النصوص الاَمرة بحبّ الحسنين ، والناهية
والمتوعّدة على بغضهما ، بأشدّ ما يكون , ونبذوها وراءهم ظِهْرِيّاً ، فَعَدَوْا
على آل الرسول ظلماً ، وعَسْفاً ، وتشريداً ، وسبّاً ، ولعناً ، وقتلاً .
وخَلَفَ من بعد ذلك السَلَفَ ، خَلْف أضاعوا الحقّ ، وأعرضوا عن
أوامر النبيّ ونواهيه ، واتّبعوا آثار سَلَفٍ وجدوه على أُمّةٍ ، وهم على آَثارهم
يُهرعُون .
فبعد أنْ ضيّع السَلَفُ على آل محمّدٍ فرصة الخلافة عن النبيّ ،
وتوليّ حكم الأُمّة ، وقهروهم على الانعزال عن مواقع الإدارة ، وغصبوا منهم أريكة
الإمامة ، وفرّغُوا أيديهم عن كلّ إمكانات العمل لصالح الأُمّة ، وأودعوا المناصب
المهمّة والحسّاسة في الدولة الإسلاميّة بأيدي العابثين من بني أُميّة والعبّاس .
وبعد أنْ أضاعَ الخَلَفُ على آل محمّدٍ فُرَصَ إرشاد الأُمّة
وهدايتها تشريعيّاً ، فلم يفسحوا لفقههم أن يُنشَر بين الأُمّة ، ومنعوهم من بيان
الأحكام الإلهيّة ،
وحرّفوا وِجْهة الناس عنهم ، إلى غرباء دخلاء على هذا الدين
واُصوله ، وسننه ومصادر معرفته وفكره .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(52) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 /121).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 52
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فأصبحتْ الأُمّةُ لا تعرفُ أنّ لاَل محمّدٍ صلوات الله وسلامه
عليهم فقهاً يتّصِل - بأوضح السُبُل وأصحّ الطرق - برسول الله صلّى الله عليه واَله
وسلّم مُباشرةً ، ويستقي أحكامه من الكتاب والسُنّة ، من دون الاتّكال على الرأي
والظنّ ، بل بالاعتماد على اُصول علميّة يقينيّة .
وأمست الأُمّةُ لا تعرفُ أنّ علوم آل محمّد ، محفوظةٌ في كنوز
من التُراث الضخم الفخم ، يتداوله أتباعهم حتّى اليوم .
ولكنْ لمّا كُتبت السُنّة الشريفة وجُمعتْ ودُوّنتْ ، وبرزتْ
للناس المجموعة الكبيرة من أحاديث الرسول الداعية إلى حُبّ آل محمّد , وقفَ الخلفُ
على حقيقةٍ مُرّةٍ ، وهي : كيف كان موقف السَلَف من آل محمّد ? وأين موقع آل محمّد
في الإسلام حكماً وإدارةً ، وفقهاً وتشريعاً ؟ فأين الحب الذي أمر به الرسولُ ،
لأهل بيته ؟ وكيف لا نجد في التاريخ من آل محمّد إلاّ مَنْ هو مقتولٌ بالسيف ، أو
بالسمّ ، أو معذّبٌ في قعر السجون وظُلَمِ المطامير ، أو مُشَرَد مطارَد ، أو مُهان
مبعد ؟
فكيفَ يكونُ البُغضُ ، الذي نهى عنه الرسول لأهل بيته ، إن لم
يكن هكذا ؟
فلّما وقفَ الجيلُ المتأخّر على هذه الحقيقة المرّة ، وخوفاً من
انكشاف الحقائق ، ولفظاعة أمر البغض المعلن ، ولكي لا تحرقهم ناره المتوعّد بها ،
لجأوا إلى تحريفٍ وتزوير ، انطلى على أجيالٍ متعاقبة من أُمّة الإسلام . وهو ادّعاء
حُبّ آل الرسول , مجرّدَ اسم الحُبّ ، الفارغ من كلّ ما يؤدي إلى إعطاء حقّ لهم في
الحكم والإدارة ، أو الفقه والتشريع .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص53
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد صنّفوا على ذلك الأحاديث وجمعوا المؤلّفات ، مُحاولين إظهار
أنّهم المحبّون لاَل محمّد ، مُتناسين ، ومتغافلين : أنّ الحبّ - الذي يؤكّد عليه
الرسولُ لنفسه ولأهل بيته ، صلّى الله عليه واَله وسلّم - ليس هو لفظ الحبّ , ولا
الحبّ العشقيّ الفارغ من كلّ معاني الولاء العمليّ ، والاقتداء والاتّباع
والتأسّي ، ورفض المخالفة ، ونبذ المخالفين .
فلو أظهر أحدٌ الحبَ لرسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ولم
يعمل بشريعته وخالف الأحكام التي جاء بها ، ولم يتعبّد بولايته وقيادته وسيادته ،
ولم يلتزم بنبوّته ورسالته لم يكن مُحبّاً له صلّى الله عليه واَله وسلّم .
فكيف يكون محبّاً لاَل محمّد عليهم السلام مَنْ لم يُتابعهم في
فقههم ، ولم يأخذ الشريعة منهم ، ولم يقرّ بإمامتهم ، ولم يعترفْ بولايتهم ، ولم
يُسندْ إليهم شيئاً من أُمور دينه ولا دنياه ؟؟
أنّها إحدى الكُبَر .
فضلاً عمّن واجَهَ آل محمّد بالقتْل واللعن والتشريد ، فهل يحقّ
لمثلهم أنْ يدّعوا حبّ الرسول ? واتّباعه ? وهو الذي يقول : ومن أبغضهم أبغضني ؟
فكيف بمن قتلهم ولعنهم على المنابر ? وسبى نساءهم وأولادهم في
البلاد ؟
وإنّ من التغابي أنْ يرتديَ في عصرنا الحاضر بعضُ السلفييّن ،
تلك العباءة المتهرّئة ، عباءة التحريف للحقائق ، فيُنادي :علّموا أولادكم حُبّ
الرسول وآل الرسول , ويطبع كتاباً بهذا الاسم مُتجاهلاً معنى حُبّ الحسين - مثلاً -
وقد مضى على استشهاده أكثر من ألف وثلاثمائة وخمسين عاماً
وكيف يكون الحبّ للأموات ?
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص54
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أليس بتعظيم ذكرهم ، ونشر مآثرهم ، الاستنان بسنتهم ، واتّباع
طريقتهم ، والتمجيد بمواقفهم ، ونبذ معارضتهم ، ورفض معانديهم ، ولعن قاتليهم
وظالميهم ؟
فكيف يدّعي حُبَ الحسين ، مَنْ يمنع أن يُجرى في مجلسٍ ذكر
الحسين ، والتألّم لمصابه ، وذكر فَضائله ، والإعلان عن تأييد مواقفه ، وإحياء
ذكراه سنويّاً بإقامة المحافل والمجالس ؟
أو من يُحرّم ذكر قاتله بسوء ، وذكر ظالميه بحقائقهم ؟
أو من يُحاول أن يبّرر قتله ، ويُوجّهَ ما جرى عليه ، بل يعظّم
قاتله ويمجّده ، ويصفه بإمرة المؤمنين ؟
ويَقْسو على محبّيه ، وذاكريه ، والباكين عليه ? ومع ذلك يدّعي
حُبّه , ويدعو إليه
إنّ التلاعُب بكلمة : الحُبّ , إلى هذا المدى ليس إلاّ تشويهاً
لقاموسَ اللغة العربيّة ، ومؤدّى ألفاظها ، وتجاوزٌ على أعراف الأُمّة العربيّة ،
وهذا تحميق للقرّاء ،واستهزاء بالثقافة والفكر والحديث النبوي .
إنّها سُخرية لا تُغتفر
14-السلم والحرب
إذا أفاضَ الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم في ذكر فضائل أهل
البيت : عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، عليهم السلام ، فهو العارفُ بها وبهم ،
والمعلّم الذي يُريد أنْ يُعرّف أُمّته بهؤلاء الّذين سيخلُفُونه من بعده هُداةً لا
تضل الأُمّة ما تمسّكت بهم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص55
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد صرّح الرسول بذلك ، عندما ذكرهم بأسمائهم ، وقال : [158]
ألا ، قد بيّنتُ لكم الأسماء ، أنْ تضلّوا( 52).
ولقد أعلن الرسولُ عن فضلهم في كلّ مشهدٍ وموقفٍ ، وبلّغ كلّ ما
يلزمُ من التمجيد بهم ، وإيجاب مودّتهم وحبّهم ، والنهي عن بغضهم وإيذائهم ، فأبلغَ
ما هو مشهور مستفيض ، من دون نكير .
أمّا أن يُعلنَ الرسولُ صلّى الله عليه واَله وسلّم عن أنّه :
سلم لمن سالموا ، وحرب لمن حاربوا ,فهذا أمر عظيم الغرابة فهل هم في معركة ؟ أو
يتوقّع الرسولُ أن تُشَنَ حرب ضدّ أهله ? فيُعلن موقفه منها , و ها هم أهله يعيشون
في كنفه ، وفي ظلّ تجليله واحترامه ، ويغمرهم بفيض تفضيلاته ، وإيعازه للأُمّة
بتقديسهم وتكريمهم , فمن الغريب حقّاً أنْ يجمع عليّاً وفاطمة ، والحسنَ والحسين ،
ويقول لهم : [135] أنا سلم لمن سالمتُم ، وحرب لمن حاربتم .
و يقول في مرضه الذي قُبض فيه : [134] حَنا عليهم وقال : أنا
حَرْبٌ لمن حاربكم ، وسِلْمٌ لمن سالمكم.
52) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7/ 123).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص56
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ووجه الغرابة : أنّ الإنسان يكادُ يقطع بأنّه لم يَدُرْ في
خَلَدِ أيّ واحدٍ ممّن عاصر الرسول وآمن به ، أو صحبه فترة وسمعَه يؤكّد ويكرّر
الإشادة بفضل أهل البيت وتكريمهم وتفضيلهم وتقديمهم ، حتّى آخر لحظة من حياته في
مرض موته , لم يَدُرْ في خَلَد واحدٍ من الصحابة المؤمنين بالرسالة المحمّدية أنْ
يشنّ حرباً على آل الرسول ، أو يضرمَ ناراً على بابهم , أو يشهر سيفاً في وجه أحدهم
? أو يحرق خبأهم وفيه النساء والأطفال ؟
فلذلك لم يُوجّه رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم خطاباً
بهذا المضمون إلى الأُمّة ، لأنّهم كانوا يذعرون ، لو قال لهم : سالموا أهل بيتي ،
ولا تُحاربوهم .
لكنّها الحقيقة التي يعلمها الرسولُ من وحي الغيب ، ولابُدّ أن
يقولها لآَله حتّى يكونوا مستعدّين لها نفسّياً ، ولا ينالهم منها مفاجأة ، ولا
يُسْقَط في أيديهم. فلذلك وجّه الخطاب إليهم بذلك خاصّة ، في كلّ النصوص ، وكأنّه
دعمٌ معنويٌّ منه ، لمواقفهم ، وحثّ لهم على المضيّ في السبيل التي يختارونها ،
وهكذا كان :
فما أن أغمض النبيُّ عينيْه ، حتّى بدت البغضاءُ ضدَّ أهل البيت
:
فكانت لهم مع ابنته الزهراء فاطمة مواقفُ أشدّ ضراوةً من حروب
الميادين ، لأنّها حدّدتْ أُصول المعارضة ، ومعالمها ، وكشفتْ عن أهدافها , وقد
جاءتْ صريحةً في خطاباتها الجريئة التي أعلنتها في مسجد رسول الله , فطالبتْ أبا
بكر بحقوق آل محمّد من بعده : من مقام زوجها في الخلافة ، ونحلة أبيها في فدك ،
وإرثها منه كما كتبه الله وشرّعه في القرآن .
فقامتْ عليها السلام تُحاكمه في مسجد رسول الله ، أمام الأُمّة
، معلنةً لمطالبها بمنطق الأدلّة المحكمة ، من القرآن الكريم ، والسُنّة الشريفة ،
وبالوجدان والضمير ، ومُنادية بلسان أبيها الرسول وذاكرة وصاياه بحقّها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص57
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقوبلتْ بالنكران والخذلان .
فصرّحتْ وهي تُشهد الله ، بأنّها لهم قالية ، وعليهم داعية
غاضبة تذكّرهم بحديث أبيها - المتمثّل على الأذهان - القائل : فاطمة بَضْعَة مِنّي
، فَمَنْ أغْضَبَهَا أغْضَبَني (53) ذلك الحديث الذي لم يملك أحد تجاهه غير القبول
والتسليم والإذعان .
وتموت فاطمة عليها السلام شهيدة آلامها وغُصّتها .
ثمّ حروب أُثيرت ضدّ عليّ عليه السلام :
في وقعة الجمل ، حيثُ اصطفّت مع عائشة فئةٌ ناكثةٌ بيعتَها له ,
تُحارب الإمام إلى صفّ الزبير وطلحة ، يطالبون بدمٍ ليس لهم .
وفي صفّين ، حيث تصدّت الفئة الباغية لحقٍّ قد ثبت للإمام عليّ
عليه السلام وأقرَ به الصحابةُ أنصاراً ومهاجرين ، وفضلاء الناس التابعين ، وإلى
صفّه كبيرّ المهاجرين والأنصار : عمّارُ , الذي بشّره الرسولُ صلّى الله عليه واَله
وسلّم بالجنّة ، وقال له : تقتلك الفئة الباغية ,فقتلته فئةُ معاوية .
وفي النهروان ، حيثُ واجهه القُراَنيّون ,الّذين لم يتجاوز
القرآن تراقيهم ، الّذين مرقوا من الدين كما تمرق الرمية من السهم ، فكانوا هم
الفئة المارقة .
وفي كلّ المواقف والمشاهد ، وقفَ الحسنان إلى جنب أبيهما أمير
المؤمنين عليه السلام .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(53) صحيح البخاري ( 5/ 36) باب مناقب فاطمة عليها السلام و (5
/26) باب مناقب قرابة رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص58
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وحُوربَ الحسنُ عليه السلام عسكرياً ، ونفسيّاً ، حتّى قضى .
وحُوربَ الحسينُ عليه السلام ، حتّى سُفك دمه يوم عاشوراء .
إنّ الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم أعلن موقفه من كلّ هذه
الحروب في حديثه لهم : أنا حرب لمن حاربكم.
فإنّما حُوربَ أهل البيت ، لأنّهم التزموا بهدى الرسول .
وقد أدّى كلّ منهم ما لديه من إمكانات ، في سبيل الرسالة
المحمّدية ، حتّى كانتْ أرواحهم ثمناً للحفاظ على وجودها ، كي لا تخمد جذوتها ، ولا
تنطمس معالمها .
15-وديعةُ الرسول
ولم يدّخر الرسولُ صلّى الله عليه واَله وسلّم وُسْعاً في إبلاغ
أُمّته ما لأهل بيته من كرامةٍ وفضلٍ وحُرمةٍ ، منذُ بداية البعثة الشريفة ، من
خلال وحي الاَيات الكريمة ، وما صَدَرَ منه صلّى الله عليه واَله وسلّم من قولٍ ،
وفعلٍ ، وعلى طول الأعوام التي قضاها في المدينة المنوّرة بين أصحابه وزوجاته في
المسجد ، وفي الدار ، وخارجهما على الطريق ، وفي كلّ محفل ومشهد .
لقد وَعَدَ على حبّهم ، وتوعَدَ على بُغضهم وحربهم ، وأبلغَ ،
وأنذرَ ، ورغّبَ وحذّر ، بما لا مزيدَ عليه .
ولمّا حُضِر ، ودَنَتْ وفاتُه ، اتّخذ قراراً حاسِماً نهائياً ،
في مشهد رائع ، يخلد على الأذهان ، فلنصغ للحديث من رواية أنس بن مالك خادم النّبي
صلّى الله عليه واَله وسلّم :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص59
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[167] جاءت فاطمة ، ومعها الحسن والحسين ، إلى النبيّ صلّى الله
عليه واَله وسلّم ، في المرض الذي قبض فيه . فانكبّتْ عليه فاطمة ، وألصقتْ صدرها
بصدره ، وجعلت تبكي ، فقال النّبي صلّى الله عليه واَله وسلّم : مَهْ ، يا فاطمة ,
ونهاها عن البكاء . فانطلقت إلى البيت ، فقال النبي صلّى الله عليه واَله وسلّم -
وهو يستعبر الدموع - : اللّهمّ أهل بيتي ، وأنا مستودعهم كلّ مؤمن , ثلاث مرّات(
54) فالمشهدُ رهيبٌ : رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم مسجّىً ، ستفقده
الأُمّة بعد أيّام ، وتفقد معه : الرحمة للعالمين ,
وأمّا أهل البيت عليهم السلام ، فسيفقدون - مع ذلك - الأبَ ،
والجدَ ، والأخَ ، تفقد الزهراء أباها ، ويفقد الحسنان جدّهما ، ويفقد علي أخاه
وانكبابُ فاطمة على أبيها ، يعني منتهى القُرْبِ ، إذ لا يفصلُ
بينهما شيء سوى الصدر ، والصدرُ محلّ القلب ، والقلبُ مخزنُ الحبّ ، فالتصاق
الصدرين بين الأب والبنت ، في مرض الموت ، يُنبىء عن منظر رهيب مليء بالحزن
والعاطفة ، بما لا يمكن وصفه .
وليس هناك ما يعبّر عن أحزان فاطمة عليها السلام ، إلاّ
العَبْرة تجريها ،
والرسول الذي يؤذيه ما يؤذي ابنته فاطمة ، لا يستطيع أن
يشاهدَها تبكي ، فينهاها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(54) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7/ 124).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص60
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لكنّه هو الاَخر ، لا يقلّ حزنهُ على مفارقة ابنته الوحيدة ،
وسائر أهل بيته ، الذي أعلمه الغيبُ بما سيجري عليهم من بعده ، فلم يملك إلاّ
استعبار الدموع .
على ماذا يبكي رسول الله ؟
إنّ كلامه الذي قاله يكشفُ عن سبب هذا البكاء في مثل هذه الحالة
، والمحتضرُ إنّما يوصي بأعزّ ما عنده ، فهو في أواخر لحظات حياته ، إنّما يفكّر في
أهمّ ما يهتمّ به ، فيوصي به ، والرسول يُشهدُ الله على ما يقولُ ، فيقول : اللّهمّ
، أهل بيتي . ويجعلهم وديعةً , يستودعُها كلَ مؤمنٍ برسالته ، وحفظ الوديعة من
واجبات المؤمنين } الَذِينَ هُمْ لأِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ {[الآية 8
من سورة المؤمنون 23 ] ويؤكّد على ذلك ، فيقوله ثلاث مرّات .
ولا يُظنّ - بعد هذا المشهد ، وهذا التصريح - أنّ هناك طريقة
أوغلَ في التأكيد على حفظ هذه الوديعة ، ممّا عمله الرسول صلّى الله عليه واَله
وسلّم ، ولكن لنقرأ السيرة الحسينيّة لِنجدَ ما فعلته الأُمّة بوديعة الرسول هذه
وفي خصوص الحسين جاء حديث الوديعة , في رواية زيد بن أرقم قال :
[322] أما - والله - لقد سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم يقول: اللّهمّ
إنّي استودعكه وصالح المؤمنين .
وقد ذكر ابن أرقم هذا الحديث في مشهد آخر ، حيثُ كان منادماً
لابن زياد ، فجيْ برأس الحسين ، فأخذ ينكث فيه بقضيبه ، فتذكّر ابن أرقم هذا الحديث
، كما تذكّر أنّه واجب عليه أن يقوله في ذلك المشهد الرهيب الاَخر ، وراح يتساءل :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص61
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فكيف حفظُكم لوديعة رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ؟
مع أنّ زيد بن أرقم نفسه هو ممّن يُوَجَه إليه هذا السؤال ؟
وسنقرأ الإجابة في الفصل [31] ضمن : المواقف المتأخّرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص63
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثانياً : بعد غياب الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم:
16- ضَياع بعدَ الرسول
17- موقف من عمر
18- مع أبيه في المشاهد
19- في وداع أخيه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص65
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
16- ضياع بعد الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم
ولئن ذهبَ قولُهم : المرء يُحْفَظُ في ولده ,مثلاً سائراً فإن
لذلك أصلاً قرآنياً أدّبَ اللهُ به عباده المؤمنين ، على لسان عبده الصالح الخضر ،
حيث أقام الجدار الذي كان للغلامين اليتيمين في المدينة ، معلّلاً بأنّه ( كَانَ
أَبُوهُمَا صَالِحاً ) [الاَية 81 من سورة الكهف 18] فلصلاح أبيهما استحقّ
الغلامانِ تلك الخدمة من الخضر . لكنّ كثيراً ممّن ينتسب إلى أُمّة النبيّ محمّد
صلّى الله عليه واَله وسلّم ، لم يُكرموا آلَ محمّد ، من أجل الرسول ، ولم تُمهل
الأُمّة أهلَ البيت ، أكثر من أن يُغمِضَ الرسولُ عينيه ، ولمّا يقْبر جسده الشريف
، عَدَوْا على آله ، فغصَبُوا حقّهم في خلافته ، ثم انهالوا عليهم بالهتك والضرب ،
حتّى أقدموا على إضرام النار في دار الزهراء ابنته ، وأسقطوا جنينها ، وأغضبوها ،
حتّى قضت الأيّام القلائل بعد أبيها معصّبةَ الرأس ، مكسورة الضلع ، يُغشى عليها
ساعة بعد ساعة ، وماتت بعد شهور فقط من وفاة أبيها ، وهي لهم قالية
وما كان نصيب الغلامين ، السبطين ، الحسن والحسين ، من الأمّة
بأفضل من ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص66
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بل تكوّنتْ - على أثر ذلك التصرّف المشين - فرقة سياسيّة تستهدف
آل النبيّ بالعداء والبغضاء ، فدبّرت المؤامرة التي اغتالت عليّاً في محرابه ،
وطعنت الحسن في فسطاطه ، وقتلت الحسين في وضح النهار يوم عاشوراء في كربلائه ، كما
يذبح الكَبْش جهاراً ، أمام أعين الناس ، من دون نكير
ولم يكن هذان الغلامان بأهونَ من غلامي الخضر ، إذ لم يكن
أبوهما أصلح من رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، قطعاً .
ولقد جابه الحسينُ عليه السلام بهذه الحقيقة واحداً من كبار
زعماء المعادين لاَل محمّد ، والمعروف بنافع بن الأزرق ، في الحديث الاَتي :
[203] قال له الحسين : إنّي سائلك عن مسألة : } وَأَمَا
الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَينِ يَتِيمَيْنِ فِي المَدِينَةِ { [الاَية 81 من سورة
الكهف 18] يابن الأزرق : مَنْ حُفِظَ في الغلامين ؟ قال ابن الأزرق : أبوهما
قال الحسين : فأبوهما خيٌر ، أم رسول الله صلّى الله عليه واَله
وسلّم ?(55) إنّها الحقيقة الدامغة ، لكن هل تنفع مَنْ أُشربوا قلوبهم النفاق ،
وغطّى عيونهم الجهل ، والحقد ، والكراهية للحقّ ؟
لقد كان من نتائج هذا الضياع أنّه لم يمضِ على وفاة الرسول
خمسون عاماً ، حتّى عَدَتْ أُمَتُه على وديعته , و ريحانته الحسين ، وقتلته بأبشع
صورة
وهل يُتصوّرُ ضياع أبعد من هذا ?
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(55) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 / 130و 131) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص67
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكان من نتائج ذلك الضياع المفضوح ، أنّ التاريخَ المشوّه ،
وأهله العملاء (56) تغافلوا عن وجود أهل البيت ، طيلة الأعوام التي تلتْ وفاة
النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم ، حتّى خلافة الإمام عليّ عليه السلام ، فهذا
الحسينُ ، لم نجدْ له ذكراً مسجّلاً على صفحات التاريخ طيلة العهد البكري ، ولا
العُمَريّ ، ولا العُثماني ، سوى فلتاتٍ تحتوي على كثير من أسباب ذلك التغافل
17-موقف من عُمر
ومن تلك الفلتات ، حديث تضمّن موقفاً للحسين من عمر : لمّا
جَلَسَ على منبر الخلافة , والحسينُ دون العاشرة من عمره . وبفرض وجوده في بيت أبيه
الإمام عليّ عليه السلام ، وقد امتلأ بكلّ ما يراهُ وليدُ البيت ، أو يسمعهُ, من
حديث وأحداث ، مهما كان خفيّاً أو كانت صغيرة ، ولا يُفارق ذهنه ، بل قد يقرأ الصبي
ممّا حوله أكثر ممّا يقرأه الكبير من الكلمات المرتسمة على الوجوه ، ويسمعُ من
النبرات أوضح المداليل التي لا تعبّر عنها أفصح الكلمات .
كيف ، والحسينُ هو الذي أهّله جدّهُ الرسول صلّى الله عليه
واَله وسلّم لقبول البيعة منه ، وأهّلته أُمّه الزهراء للشهادة على أنّ فدكاً
نحلتها من أبيها وهو في السابعة، عندما طلب أبو بكر منها الشهود
ويكفي الحسينَ أنْ يعرفَ من خُطبة أُمّه الزهراء في مسجد رسول
الله ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(56) وهناك فلتات من المؤرّخين الّذين تصدّوا لتسجيل بعض
الحقائق ، مثل ابن إسحاق صاحب السيرة ، وعمر بن شبّة صاحب الكتب الكثيرة ، لكن
تراثهم هجر واندثر ، ولم تبق منه إلاّ نتف ، فيها الدلالات الواضحة على ما نقول .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص68
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن انزواء أبيه في البيت ، طيلة أيّام الزهراء ، أنّ حقّاً
عظيماً قد غُصب منهم .
مضافاً إلى أنّه يجدُ بيتهم الملتصقَ ببيت الرسول ، ولا يفصله
عنه سوى الحائط ، أمّا بابُه فقد فتحهُ الله على المسجد ذاته ، لمّا أحلّ لأهله من
المسجد ما لم يحلّ لأحد غيرهم ، بعد أن كان بيت فاطمة في جوف المسجد [158] [182].
إنّ الحسينَ يجد هذا البيتَ العظيم : كئيباً ، مهجوراً ،
خِلْواً من الزحام ، ومن بعض الاحترام الذي كان يَفيض به ، أيام جدّه الرسول قطب
رحى الإسلام ، وأبوه عليّ يدور في فلكه .
ويجدُ الحسينُ أنّ القومَ يأتمرونَ في مَراحٍ ناءٍ ، حيث الوجوه
الجدُد ، قد احتلّوا كلّ شيءٍ : الأمر ، والنهي ، والمحراب ، والمنبر
وقد أبرزَ ما تكدّس على قلبه ، لمّا حضر يوماً إلى المسجد ،
ورأى عمر على منبر الإسلام ، فلنسمع الموقف من حديثه: [178-180] قال عليه السلام :
أتيتُ على عمر بن الخطّاب ، وهو على المنبر ، فصعدتُ إليه ، فقلتُ له : انزلْ عن
منبر أبي ، واذهبْ إلى منبر أبيك
فقال عمر : لم يكنْ لأبي منبر , وأخذني ، وأجلسني معه ، فجعلتُ
أُقلّبُ حصىً بيدي ، فلمّا نزل انطلق بي إلى منزله ، فقال لي : مَنْ علّمك ؟ قلتُ :
ما علّمنيه أحدٌ
( قال : منبرُ أبيك والله ، منبرُ أبيك والله ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص69
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهلْ أنبتَ على رؤوسنا الشعرَ إلاّ أنتم)(57) قال : يا بُنيَ ،
لو جعلت تأتينا ، وتغشانا( 58) والحديث إلى هُنا فيه أكثر من مدلولٍ :
فصعودُ الحسين إلى عمر - وهو خليفة - على المنبر ، مُلْفتٌ
للأنظار ، ومُذكرٌ بعهد الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم حين كان سبطاه الحسنان
يتسلّقان هذه الأعواد ، ويزيدُ الرسولُ في رفعهما على عاتقه ، أو في حجره
أمّا بالنسبة إلى الخليفة فلعلّها المرّة الأُولى والأخيرة في
ذلك التاريخ ، أنْ يصعد طفلٌ إليه ، فضلاً عن أن يقول له تلك المقالة ، إذ لم يسجّل
التاريخ مثيلاً لكل ذلك .
وقوله لعمر : انزل عن منبر أبي , فليس النزول ، يعني - في
المنظار السياسيّ - مدلوله اللغوي الظاهر ، وإنّما هو الانسحاب عن موقع الخلافة
التي تَشَطّر هو وصاحبه ضرعيها ، في السقيفة ، فقدّمها إليه هناك ، حتّى يرخّصها له
اليوم .
و ( منبر أبي ) فيها الدلالة الواضحة ، إذا أُريد بها الحقيقة
الظاهرة ، فأبوه عليّ عليه السلام هو صاحب المنبر ، لاعتقاد الحسين بخلافة أبيه بلا
ريب .
وإن أُريد بها الحقيقة الأُخرى - الماضية - فأبوه هو النبيّ
صلّى الله عليه واَله وسلّم ، فلماذا انتقل المنبرُ الذي أسّسهُ وبنى بُنيانَه ،
إلى غير أهله ؟
وقوله : (اذهَبْ إلى منبر أبيك ) فيه الدلالة الفاضحة ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(57) ما بين القوسين من مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور .
(58) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 127 ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص70
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فالحسينُ وكلّ الحاضرين يعلمون أنّ الخطّاب أبا عمر ، لم يكن له
منبرٌ ، بلْ ولا خَشَبة يصعدُ عليها
أمّا عمر فقد أحْرجه الموقفُ واضطرّه - وهو على المنبر - أن
يعترفَ : إنّه لم يكن للخطّاب منبر , والنتيجة المستلهَمة من هذا الاعتراف ، أنّ
المنبر له أهلٌ يملكونهُ ، وأهلهُ أحقّ بالصعود عليه ، وتولّي أُموره ، فما الذي
أدّى إلى تجاوزهم واستيلاء غيرهم عليه ، واستحواذه على اُموره دونهم ؟
ولكنّ عمر ، اصطحب الطفلَ ، ليجريَ معه عملية تحقيق , لسوء ظنّه
، بأنّ وراء الطفل مؤامرةً دَبَرتْ هذا الموقفَ ، واستغلّتْ طفولة الحسين ، فذهب به
إلى منزله ، وقال له : مَنْ علَمك ؟ مع أنّ الحسين لا يحتاج إلى مَنْ يُعلّمه مثل
تلك الحقيقة المكشوفة ، وهو يعيش في بيت يعرّفه كلّ الحقائق .
وإذا انطلت الأُمور على العامّة من الناس ، فهناكَ الكثير ممّن
يأبى أنْ يتقنّع بقناع الجهل والعناد والعصبيّة المقيتة ، أو ينكر النهار المضيء
وبقيّة الحديث مثيرة أيضاً : فالحسين الذي صارحَ بالحقيقة ،
وقام يؤدّي دوره في إعلانها للناس ، أخذ عمر يُطايبهُ ، فيدعوه إليه بقوله : يا
بُني ، لو جعلت تأتينا فتغشانا , فيأتيه الحسينُ يوماً ، وقد خلا بمعاوية - أميره
على الشام - في جلسة خاصّة ، ويُمنع الجميعُ من اقتحام الجلسة المغلقة ، حتّى ابن
عمر .
فيأتي الحسينُ ، ويرجعُ ، فيطالبُه عمر ، وهُنا يعرّفه الحسينُ
بأنّه أتاه فوجده خالياً بمعاوية .
لكنّ عمر يُطلق تصريحاً آخر ، صارفاً لأنظار العامة ، فيقول
للحسين : أنت أحقّ بالإذن من ابن عمر , وإنّما أنبَتَ ما ترى في رؤوسنا الله ، ثمّ
أنتم , ووضع يده على رأسه .
وهكذا ينتهي هذا الحديث الذي يدلّ على نباهة الحسين منذ الطفولة
، وأدائه دوره الهامّ بشجاعة هي من شأن أهل البيت ، وجرأة ورثها - في ما ورث - من
جدّه الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم .
ولكنّ عمر ، كان احْذَقَ من أنْ تؤثّر فيه أمثال هذه المواقف ،
فكان يُطوّقُ المواقف بالتصريحات ، والتصرّفات ، فبين الحين والاَخر يُطلق : لولا
عليٌّ لهلك عمر.
ولمّا دوّن الديوان ، وفرض العطاء : [182] ألحق الحسن والحسين
بفريضة أبيهما مع أهل بَدْر لقرابتهما برسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ،
ففرض لكلّ واحد منهما خمسة آلاف( 59).
وهل يبقى أثر لما يُنتقدُ به أحدٌ إذا كان في هذا المستوى من
القول والعمل . لكنّ الذين اعتقدوا بخلافة عمر ، واستنّوا بسُنتّه ، وجعلوا منها
تشريعاً في عرض الكتاب والسُنّة النبوية ، لم يُراعوا في الحسين حتى ما راعاه عمر
18-مع أبيه في المشاهد
كانت حروب الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ، ومشاهده ،
محكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(59) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 /127).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص71
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أهل الولاء ، ومجمع أهل الصفاء ، من الصفوة النُجباء ، من أصحاب
الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم ، والتابعين لهم بإحسان .
فمن أدرك الفتح لحِق به ، وكان في ركبه ، يُقارع الّذين خرجوا
على إمام زمانهم من الّذين نكثوا بيعتهم له في المدينة ، ونابذوه الحرب في البصرة .
. . ، تقودهم أُمّهم على الجَمل , لها الهبل , والذين بغَوا عليه في صِفّين ،
يقودهم مُعاوية إلى الهاوية ، هو وفئته الباغية , والّذين مرقوا من الدين ، ساحِبين
ذُيول الهوان في النهروان .
إنّ عليّاً عليه السلام كان محور الحقّ في عصره ، يدورُ معه
حيثما دار ، بنصّ النبيّ المختار ، وبقوله : عليّ مع الحقّ ، والحقّ مع عليّ يدور
معه حيثما دار , او : لم يفترقا حتى يردا عليَ الحوض(60).
وصحابة النبيّ من المهاجرين والأنصار ، يتفانون في الذبّ عن
الإمام ونصرته ، ويتهافتون بين يديه مُضحّين بأرواحهم دونه ، بعد أنْ وجدوا في
شخصهِ متمثلة كلُّ دلائل النبوّة ، ومتحقّقة عنده كلّ أخبار الرسالة .
وعمّار - الفاروق بين الحقّ والباطل في الفتنة - يأتمر بأوامره
.
والنجمان المتألقان ، السِبطان الأكرمان ، سيّدا شباب أهل
الجنّة في ركاب أبيهما ، ويسيران في ظِلّ رايته .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(60) ورد باللفظ الثاني عن اُمّ سلمة رضي الله عنها ، في تاريخ
دمشق ، لابن عساكر ترجمة الإمام علي عليه السلام ( 3/151) رقم 1172 ، ونقله الخطيب
في تاريخ بغداد (14/ 321) رقم 7643 ، وورد في ترجمة سعد من تاريخ دمشق (20/ 157)
باللفظ الأوّل عنها ، ونقله في مجمع الزوائد(7 /236).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص73
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكلّ أُولئك يفتخرون أنَهم وُفقوا للكون مع الإمام الذي يمثّل
الحق ، كما كان لأصحاب النبي الفخر بصحبته صلّى الله عليه واَله وسلّم .
وقد رووا في تسمية الاُمراء يوم الجمل : [212] وعلى الميسرة
الحسين بن عليّ .
وذكر المحلّي في تعبئة أمير المؤمنين عليه السلام لعسكره في
صفّين : على خيل ميمنته الحسن والحسين ، وعلى رجّالتها عبد الله بن جعفر ، ومسلم بن
عقيل وعلى الميسرة محمّد بن الحنفيّة ومحمّد بن أبي بكر ، وعلى رجالتها هاشم بن
عتبة . وعلى جناح القلب عبد الله بن العبّاس وعلى رجالتها الأشتر ، والأشعث . وعلى
الكمين : عمّار بن ياسر(61).
19- في وداع أخيه الحسن عليه السلام
ووقف الحسين ينعى صنوه ، وشقيقه في كلّ الحياة ، وفي الفضائل ،
وفي المشاكل ، وإن سبقه في الولادة ستّة اشهر وعشرة أيام ، فقد سبقه في الشهادة عشر
سنين , وفي الكلمة التي ألقاها الحسينُ على قبر أخيه كثيرٌ من المعاني الجامعة ،
على لسان هذا الصنو الموتور بأخيه ، قال عليه السلام :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(61) الحدائق الوردية (ص40).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص74
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رحمك الله ، أبا محمّد ، إنْ كنتَ لتناصر الحقّ عند مظانّه ،
وتؤثر الله عند مداحضِ الباطل وفي مواطن التقيّة بحُسْن الرويّة . وتستشف جليل
معاظم الدنيا بعينٍ لها حاقرة ، وتقبض عنها (62) يداً طاهرة . وتردعُ ما ردة (63)
أعدائك بأيسر المؤونة عليك . وأنتَ ابن سلالة النبوّة ، ورضيع لُبان الحكمة .
وإلى رَوْحٍ وريحان ، وجنّةِ نعيمٍ , أعظم الله لنا ولكم الأجر
عليه ، ووهب لنا ولكم السلوة وحسن الأسى عليه (64 ) .
حقّاً ، يعزُّ على أبي عبد الله الحسين ، أن يفقد عضده ، في
أحلك الظروف حيثُ شوكة بني اُميّة في تقوٍّ ، وأحوال الأُمّة في تردٍّ ، وقد كانَ
الإمام الحسن عليه السلام صامداً في مواجهة المعاناة التي تحمّلها ، فتجرّع غصص
الصلح مع معاوية ، ذلك الذي ألجأه إليه وَهْنُ الجبهة الداخلية ، وشراسة الأعداء
الخارجيّين ، وتسلّل الخَونة من أمراء جيشه ، وفساد خُلق الأُمّة وانعدام الخَلاق
إلى حدّ التكالب على الدنيا وحبّ الحياة ، والهروب من الموت .
إن كان الإمام الحسنُ عليه السلام يُواجه هذه المصاعب ، فإنّه
لم يكن وحيداً ، بل كان الحسين إلى جانبه يعضُده ، لكن الحسينَ عليه السلام حين
ينعى أخاه سوف يبقى لما سيتحمّله من أعباء المسؤوليّات ، وحيداً ، بلا عضُدٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(62) في مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور : وتفيض عليها .
(63) في المختصر : بادرة .
(64) تاريخ دمشق، ترجمة الإمام الحسن عليه السلام (ص233)
رقم(369) ومختصر تاريخ دمشق، لابن منظور ( 7/ 46).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص75
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولكنّه الواجب الإلهيّ يفرض على الإمام أن يقف أمام كلّ
التحديات التي تهدّد كيان الإسلام ، مهما كانت خطيرة وصعبة ، ولو على حساب وجود شخص
الإمام الذي هو أعزّ مَنْ في الوجود ، وهذا هو الدرس الذي تلقّنه من جدّه الرسول
طفلاً ، ومن أبيه شابّاً ، ومن أخيه كهلاً .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص77
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثالثاً : في مقام الإمامة:
20- مقوّمات الإمامة
21- البركة والإعجاز
22- الحجّ في سيرة الحسين عليه السلام
23- مع الشعر والشعراء .
24- رعاية المجتمع الإسلاميّ .
25- مواقف قبل كربلاء .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص79
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
20- مقومات الإمامة
إنّ الإمامة في الحضارة الإسلامية هي ولاية أُمور المسلمين
المرتبطة بدينهم ، وبدنياهم , والإمام هو الوالي ، المدبّر لتلك الأُمور حسب
المصالح المتوفّرة في زمنه ، وبالأدوات والأساليب الممكنة له كمّاً وكيفاً .
ولابُدّ أن يتّصف الإمامُ بالأهليّة التامّة لمثل تلك الولاية ،
التي يرتبط بها مصيرُ الأُمّة كلّها ، والإسلام نفسه ، كما أنّ إرادته هي التي
تحدِّدُ مسير الدولة ودوائرها وسياستها .
ومن أجل خُطورة المنصب ، وعظمة ما يترتّب عليه ويرتبط به من
أُمور مصيريّة ، فإنّ العلم بتوفّر تلك الأهليّة ، التي تكوّنها مقوّمات خلقيّة ،
ونفسية وقابليّات ، ونيّات ، وأهداف ، لا يمكن الاطّلاع عليها إلاّ من خلال المعرفة
التامّة ، والتداخل الوثيق في الماضي والحاضر ، وحتى المستقبل المستور ، وذلك ليسَ
متصوّراً حصوله إلاّ لله العالم بكلّ الأُمور .
ومن هُنا ، فإنّ عنصر النَصّ , والتعيين الإلهيّ من خلاله لشخص
الإمام
المالك لأهليّة الإمامة ، شرط أساسيّ ، وضروريّ ، لإثبات
الإمامة لأَي إمام .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص80
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثمّ المواصفات الأُخرى :
فالعلم بالدين ، بجميع معارفه وشؤونه ، وبشكلٍ كامل وتامّ ، من
أبده الأُمور اللازم وجودها في الإمام الذي يتولّى أمر الدولة الإسلامية ، ومن
الواضح : أنّ ذلك لا يحصل إلاّ بالاتّصال الوثيق بمصادر المعرفة الإسلامية الثرّة
الغنية ، والبعيدة عن الشوب والتحريف ، ليكون الإمام أعلم الناس ، ومرجعاً لهم في
أُمور الدين ، ومعارفه .
والفضل ، وأدواته : من الشرف ، والتقى ، ومكارم الأخلاق ،
فلابُدّ أن يكون الإمام مقدَماً على أُمّته فيها ، حتّى يكون القدوة لهم .
والقيادة ، بأن يكون بمستوى رفيع من الحكمة والتدبير ، والجرأة
في الإقدام على الصالح للدين وللمسلمين ، والمتكفّل لعزّتهم ودوامه .
وفي الفترة من سنة (50) إلى سنة (60) انحصرت هذه الخلال ،
واجتمعت في شخص الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام ، بالإجماع وبلا منازع .
أمّا النصّ : فقد روى أهلُ الإسلام كافّة أنّ النبيَّ صلّى الله
عليه واَله وسلّم قال في الحسن والحسين صلوات الله عليهما : ابناي هذان إمامان ،
قاما أو قعدا , ذلك الحديث الذي أجمع عليه أهل القبلة ، وتلقته الأُمّة بالقبول ،
وبلغ حدّ التواتر( 65).
مضافاً إلى الأدلّة الخاصّة الدالّة على إمامة الحسين عليه
السلام بعد أخيه الحسن ، وما دلّ على أنّ الأئمّة اثنا عشر ، أوّلهم عليّ أمير
المؤمنين ، والاَخَرون من ذرّيّته . ممّا طفحت به كتبُ الإمامة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(65) رواه الشيخ المفيد في النكت في مقدمات الأُصول ، الفقرة
(82) وقد خرجناه في هامشه ونقلنا ما قاله علماء الإسلام حول تواتره .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص81
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأمّا العلم : فمن أوْلى باستيعابه من الحسين الذي تربّى في حجر
الرسول وهو مدينة العلم ، ونشأ ونما في مدرسة حِجْر أمّهِ الزهراء البتول ، ولازم
عليّاً أباه باب مدينة العلم ، وصحب أخاه الحسن الإمام بإجماع أُولي العلم ؟
فلابُدّ أنّه قد امتلأ من علم الدين من هذه العيون الصافية .
وقد أجمع أهل الولاء على تقدّمه على مَنْ عاصره في ذلك ،
والتزموا بإمامته لذلك ، أمّا الآَخَرون فقد اضطرّهم هذا الواقع إلى الاعتراف :
فهذا ابنُ عمر - لمّا يُحاسب على تصّرفه ، ويقاس عمله إلى عمل الحسنين عليهما
السلام المتّزن والمليء بالحكمة - مع أنّهما أصغر سنّاً منه - أجاب ابن عمر بقوله :
[176 - 177] ابنا رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، إنّهما كانا يُغَرّان
بالعلم غَرَا , أي يُزَقّانِه ، كما يَزُقّ الطائر فرخه ، وهذا يُعطي أنّهما كانا
منذ الصِغَر يَبُث فيهما جَدهما ، وأبُوهما ، وأُمهما : العلمَ . فَهَلْ يكون أحدٌ
أعلمَ منهما في عصرهما ؟
وروى عكرمة ، حديثاً فيه الاعتراف بعلم الحسين عليه السلام ،
إليك نصّه بطوله [203] روى عِكْرِمة : بينما ابن عباس يحدّث الناس إذ قام إليه
نافعُ بن الأزرق ، فقال له : يابن عبّاس ، تفتي الناسَ في النملة والقَمْلة ، صِفْ
لي إلهك الذي تعبدُ , فأطرق ابن عبّاس إعظاماً لقوله ، وكان الحسينُ بن عليّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص82
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جالساً ناحيةً ، فقال : إليّ يابن الأزرق , قال [ ابنُ الأزرق ]
: لستُ إيّاك أسألُ
قال ابن عبّاس : يابن الأزرق ، إنّه من أهل بيت النبوّة ، وهم
ورثةُ العلم .
فأقبل نافعٌ نحو الحسين ، فقال له الحسينُ : يا نافع ، إنّ مَنْ
وضع دينه على القياس لم يزل الدهر في التباس ، سائلاً ، ناكباً عن المنهاج ، طاعناً
بالاعوجاج ، ضالاًّ عن السبيل ، قائلاً غير الجميل .
يابن الأزرق ، أصِفُ إلهي بما وصف به نَفْسَه ، وأُعرّفه بما
عرّف به نفسه ، لا يُدرَك بالحواسّ ، ولا يُقاس بالناس ، قريبٌ غير ملتصق ، وبعيدٌ
غير منتقص ، يُوحَّد ولا يبعّض ، معروفٌ بالآيات ، موصوفٌ بالعلامات ، لا إلهَ إلاّ
هو الكبيرُ المتعالُ .
فبكى
ابنُ الأزرق، وقال: يا حسينُ ، ما أحسنَ كلامك .
قال له الحسين : بلغني أنّك تشهدُ على أبي وعلى أخي بالكفر ،
وعليَّ ؟
قال ابن الأزرق : أما والله ، يا حسينُ ، لئن كان ذلك ، لقد
كنتمْ منارَ الإسلام ، ونجومَ الأحكام (66).
فشهادة ابن عبّاس الحقّة ، بأنّ الحسين عليه السلام من أهل بيت
النبوّة ، وهم ورثة العلم , ليست الأُولى منه ، لكن رواية عكرمة - وهو من الخوارج -
لها دليل على خضوع الأعداء لعلم أهل البيت .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(66) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظو ر( 7 / 130).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص83
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أمّا إعراضُ ابن الأزرق عن مسائلة الحسين ، وتوجّهه إلى ابن
عبّاس ، فهذا يكشف جانباً من مظلوميّة أهل البيت ، وصَدّ الناس عن معادن العلم
وورثته وخزنته وهكذا - دائماً - يحاول الدجّالون إزواء أهل الحقّ بالإعراض عنهم
وإغفال ذكرهم , وتناسي وجودهم , ولكن الله يأبى إلّا أنْ يتمّ نوره .
أمّا الحسين عليه السلام فهو لا يترك الأمر سُدىً ، بينما
السؤالُ على رؤوس الأشهاد عن أعظم قضيّة جاء من أجلها الإسلام ، وهيَ التوحيد , فهو
ينبري
للجواب . حيث كان السؤال أمامه , فهو المقصود به , في وجه ابن
عمّه ابن عباس , فسكوتُه يعني سكوت أهل البيت , بالرغم من تجاسر ابن الأزرق !؟
أمّا ابنُ الأزرق ، فحيثُ يجدُ الحقّ من معدنه ، لا يملك إلاّ
الإقرار والخضوع والقبول , ولمّا يستغلُّ الإمامُ الحسين عليه السلام الموقف ليحرق
جذور العُدوان ، ويقطع شأفةَ الظلم ، ويبدّد نتائج المهاترات السياسية طيلة الأعوام
السوداء ، ممّا تكدّس في عقول علماء الأُمّة - مثل ابن الأزرق - وصار فكرة ورأياً
وقولاً ، على فظاعته ، وشناعته ، وسوئه ، وهو تكفيره أهل البيت عليهم السلام بدلاً
من تقديسهم - ولمّا يُبهتُ الحسينُ ابنَ الأزرق ، ويواجهه بهذا الكلام الثقيل ، لا
يملك ابنُ الأزرق أيضاً إلاّ الاعتراف ، والتراجع عن أشدّ المواقف للخوارج التزاماً
وتصلُّباً واعتقاداً .
ويصرّح ابن الأزرق معترفاً بأنّ أهل البيت : منارُ الإسلام
ونجومُ الأحكام. .
وابن هندٍ : ذلك العدو اللدود لمحمّد وآل محمّد ، ولما جاءوا به
من معالم دين الإسلام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 84
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومكارم الأخلاق ، والذي استنفد كلّ سهام مكره ودهائه في قمع هذا
الدين ، واجتثاث أُصوله وفروعه ، وقتل ذويه وأنصاره ، وإطفاء أنواره ، وتهديم مناره
، وتحريف شرائعه وإبطال أحكامه , هذا المنافق الحسود الحقود ، لم يجدْ بُدّاً من
الاعتراف بعلم الحُسين والإشادة بمنزلته , فقد أخذَ الحسينُ عليه السلام العلومَ في
مسجد رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، حيثُ فتحَ عينه ، وتعلّم ألف باء
الحياة والإسلام معاً ، ومعلّمه الأمين هو جدّه رسول الله صلّى الله عليه واَله
وسلّم , واليومَ ، حينَ آلتْ إلى الإمام الحسين عليه السلام مهمّة تعليم الأُمّة
وإرشادها ، اتّخذ نفس المسجد مدرسةً .
وابنُ هندٍ - ذلك الضلّيل - الذي لم يهدأ لحظةً يجدّ في تحريف
مسيرة الإسلام ، ويطمس تعاليمه السامية ، لا يمكنه أنْ يتغافلَ عن وجود تلك المدرسة
، لأنّه باسمها يتسنّمُ العرشَ ، ولا يمكنه أنْ يغضّ الطرفَ عن وجود معلّمٍ مثل أبي
عبد الله الحسين ، الذي هو الامتداد الحقيقيّ لجدّه الرسول مؤسّس المدرسة ، فقال
معاوية لرجل من قريش : [ 189]إذا دخلتَ مسجد رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم
فرأيتَ حلقةً فيها قومٌ كأنَّ على رؤوسهم الطيرُ ، فتلك حلقة أبي عبد الله ،
مؤتزراً على أنصاف ساقيه ، ليس فيها من الهُزّيلى شيء.
والهزّيلى فعلُ المشعوذ الذي يسحر أعينَ الناس ، لكن ليس في
مجلس درس الحسين عليه السلام إلاّ حقائق المعرفة ، وعيون الحكمة ، والعلم الموروث ،
ومعارف الكتاب ، وأحكام السُنّة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص85
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأمّا الفضل : فلا يرتاب مسلمٌ بأنّ آل محمّد أشرف بني هاشم ،
وأنّ بني هاشم أشرفُ قريش ، وأنّ قريشاً أشرفُ العرب ، وآلُ محمّد ، أعرقُ بني هاشم
نسباً ، وأطهرُهم رحماً ، وأكرمُهم حَسَباً ، وأوْفاهم ذِمَماً ، وأحمدُهم فعلاً ،
وأنزهُهم ثوباً ، وأتقاهُم عملاً ، وأرفعُهم هِمماً .
وقد أقرّ لهم العدوّ والصديقُ بالشرف والفضل والكرم والمجد(67).
فهذا عمرو بن العاص - الداهية النكراء الذي حارب آل محمّد
جهاراً عن علمٍ وعَمْدٍ ، وبكلّ صلافةِ وحِقْدٍ ، زاعماً أنّه يستغلّ الظروف
المؤاتية لصالح دُنياه القصيرة - يعلنُ عن بعض الحقيقة ، عندما يستظلّ بالكعبة ،
التي كان يعبد أصنامها من قبلُ ، فجاء جدُّ الحسين ليشرّفه وقومه بعبادة الله ،
ويطهرّ الكعبة من رجس الأصنام والأزلام .
وبالرغم من أنّ ابن النابغة ، نبغَ في محاربة كلّ القيم التي
جاء بها الإسلامُ ، وعارضَ كلّ الذين وقفوا مدافعين عن تلك القيم ، وكانت لهم
فضيلةُ التشرّف
بها ، وجدّ بكلّ دهاء ومكرٍ وحيلةٍ يملكها ، فنفثَ في الأُمّة
روحَ الجاهلية ليعيدَ مجدها ، ونابذَ عليّاً والحسن والحسين عليهم السلام بكلّ
الطرق ، ووقف في وجه العدالة سنين طوالاً .
لكنّه اليومَ ، يجدُ الكعبة وبناءَها الرفيعَ الشامخَ ،
تَزْخَرُ بالعظمة الإسلاميّة ، طاهرةً من أوثان الجاهليّة وأرجاسها ، فلا يجدُ
بُدّاً من الاعتراف ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(67) لاحظ مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 /125).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص86
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبينما هو كذلك إذ رأى الحسينَ ابنَ ذلك الرسول ، فلم يملك
أيضاً إلاّ الاعتراف ، فقال [190] : هذا أحبُّ أهل الأرض إلى أهل السماء ، اليومَ .
ومعاوية ، أخوه الضلّيل ، يخنعُ لهذه الحقيقة ، يومَ دخلَ
الحسنُ والحسينُ عليه ، فأمرَ لهما بمأتي ألف درهم ، وقال متبجّحاً : خذاها وأنا
ابن هند ، ما أعطاها أحدٌ قبلي ، ولا يُعطيها أحدٌ بعدي
وكأنَ معاوية استغلّ سياسة الإمام الحسن عليه السلام المبتنية
على عدم مجابهته بالأجوبة ، حتّى وُصِفَ بأنّه كان : سكّيتاً , ولكن الحسين ، وهو
يسير
على خطّ إمامه الحسن عليه السلام ولا يخرج عن طوع إرادته - يعطي
الموقفَ حقّه ، ويدمغُ معاويةَ بالحقيقة الصارخة ، ويقول : [5] والله ، ما أعطى
أحدٌ قبلَك ، ولا أحدٌ بعدَك لرجلين أشرفَ ولا أفضلَ منّا( 68) فأُفْحِمَ معاوية ،
ولم يَحْرِ جواباً .
وأمّا الآخَرون : فالمؤمنون يتشرّفون بآل محمّد ، كابن عبّاس
حبر الأُمّة ، وتلميذ أمير المؤمنين عليه السلام ، فهو قرين الحسنين في التربية في
هذا البيت الطاهر ، بيت الرسالة ، والإمامة ، رفيع العماد ، وبالرغم من تقدّمه في
السنّ على الحسنين ، فهو لمعرفته بفضلهما ، وجلالتهما ، وشرفهما على قومهما ، لا
يقصّر في إظهار ما يعرف ، وإبراز ما يجب القيام به تجاههما من الحرمة والكرامة ، في
ما قال الراوي [188] : رأيتُ ابن عبّاس ، آخذاً بركاب الحسن والحسين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(68) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 /115).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص87
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقيل له : أتأخذُ بركابهما وأنتَ أسَن منهما ؟ فقال : إنّ هذين
ابنا رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، أوَ ليس من سعادتي أن آخذ بركابيهما
?( 69).
بلى ، إنّها من نعم الله الكبرى ، ومن السعادة العظمى ، أن
يتشرّف الإنسان بخدمة أشرف الخلق وأفضلهم ، وخاصة في تلك الظروف السياسية الحرجة
وأنْ يُقدّم بذلك خدمة للأُمّة فيعرّفها بفضل أهل البيت عليهم السلام .
وحتّى أبو هريرة : الذي التقى بالنبيّ في أواخر سنّيّ حياته
صلّى الله عليه واَله وسلّم , فأسلم في السنة السابعة للهجرة , ملازماً الصُفّة
الشريفة بباب المسجد على شبع بطنه , فلابدّ أنّه كان يرى الحسين يروح ويغدو ، بين
بيت أُمّه الزهراء وجدّه الرسول ، ويصحب جدّه في رواحه إلى المحراب ، وعلى ظهر
المنبر ، وغدوّه منهما . هذا الذي ادّعى ملازمة الرسول أكثر من أصحابه الّذين شغلهم
الصفقُ بالأسواق ، وانفضّوا إلى التجارات ، فكان لذلك أكثرهم حديثاً - بزعمه - على
الإطلاق ، حتّى اتّخذَ لنفسه موقعاً رفيعاً في نفوس من صدّقه من الناس ، على الرغم
ممّن كذّبه من كبار الصحابة وزوجات النبيّ ، كعليّ عليه السلام ، وعمر ، وعائشة
(70) فهو إذنْ - حسب زعمه - يعلمُ من الحسين عليه السلام وفضائله أكثر ممّا يعرفه
غيره ، لكنّه يبيتُ من أمر إعلانها وروايتها على خَطَرين :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(69) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 / 128).
(70) انظر تدوين السُنّة الشريفة (ص7-488) والمحدّث الفاصل
(ص4-555).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص88
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فكيفَ يظهرُها ، في دولة بني أُميّة - وهو يرتعُ في مراعيهم ،
ويطمعُ في برّهم ويقصعُ من مضيرتهم ؟
وكيفَ يتغافلُ عنها ، وله دعاوٍٍ طويلةٌ عريضةٌ في سماع الحديث
الكثير عن رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، والاتّصال به باستمرار ؟
وإذا اضطرّ إلى إبراز شيءٍ فهو يعتمد على الإجمال .
اقرأ معي هذه الصورة من مواقف أبي هريرة [191]: . . . أعْيَى
الحسينُ فقعدَ في الطريق ، فجعل أبو هريرة ينفُضُ الترابَ عَن قدميه بطرف ثوبه
فقال الحسين : يا أبا هريرة ، وأنتَ تفْعَل هذا ؟
قال أبو هريرة : دعني ، فو الله ، لو يعلمُ الناسُ منك ما أعلمُ
، لحملوك على رقابهم (71).
لكن , لماذا قصّر أبو هريرة في تعليم الناس بعض ما يعلمُ عن
الحسين ؟ فلو كان يعلّمهم لم يكن الجهلُ يؤدّي بالناس إلى أنْ يحملوا رأسَ الحسين
على رؤوس الرماح , ولا أنْ يطؤوا جسده بخيولهم ، بدل أنْ يحملوه على رقابهم ? أليسَ
هذا غَدْراً بأُمّة الإسلام، وإماتة للسُنّة التي كان أبو هريرة ينوء بدعوى حملها ؟
وأمّا القيادة : فقد اتّفقتْ كلمةُ مؤرّخي الإسلام فكريّاً
وسياسيّاً ، على أنّ الإمام الحسين عليه السلام قد أدّى دوراً عظيماً في فترة
إمامته ، وأنّه بمواقفه كان المانع الوحيد عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(71) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 /128) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص89
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انهيار الإسلام وقواعده ، على أيدي بني أُميّة وعمّالهم ، وأنّه
بقيادته الحكيمة للإسلام في تلك الفترة ، وبتضحيته العظيمة في كربلاء، كان الصدّ
الأساسي من العودة إلى الجاهلية الأُولى .
فالحسين عليه السلام قد أحيى الإسلام بمواقفه قبل كربلاء ، وفي
كربلاء، واستمرّت آثار حركته إلى الأبد ، وبذلك تحقّق مصداق قول الرسول صلّى الله
عليه واَله و سلّم : حسينٌ منّي وأنا من حسين , كما شرحناه في الفقرة [11] السابقة.
أمّا عن صلابة الحسين عليه السلام ، وإقدامه في نصرة الحقّ خارج
إطار كربلاء فقد مرّ بنا موقفه من عمر في الفصل [17] وسنقف على مواقفه من معاوية في
الفصل [25].
وأمّا حديث كربلاء وبطولاتها ، وأشجانها فقد عقدنا له الباب
الثالث التالي ، بفصوله المروّعة .
21-البركة والإعجاز
من معجزات النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم المذكورة في سيرته
، أنّه تفلَ في بئرٍ قد جفّتْ ، فكثرَ ماؤها وعذبَ وأمهى ، وأمرى ، وهذا المعجزُ من
بركة نبيّ الرحمة للعالمين قليلٌ من كثيرٍ ، وغيضٌ من فيضٍ .
والحسينُ عليه السلام ابنُ ذلك النبيّ ، وبضعةٌ منه ، وعصارةٌ
من وجوده ، والسائر على دربه ، والساعي في إحياء رسالته ، فهو يمثّلُ في عصره جدّه
الرسول جسدّياً ، ويمثّلُ رسالته هدياً ، فلا غروَ أنْ يكون له مثلُ ما كان لجدّه
من الإعجاز ، وهو سائر في طريقه إلى الشهادة والتضحية من أجل الإسلام ، ليفعلَ ما
لم يفعله أحَدٌ من قبله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص90
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والإمامةُ - عندنا نحنُ الشيعةَ الإمامية - تشترك مع النبّوة في
كلّ شيء إلاّ أنّ النبوّةَ تختصُّ بالوحي المباشر ، وبالشريعة المستقلّة ، أمّا
الثبوت بالنصّ ، والأهداف ، والوسائل ، والغايات ، فهما لا يفترقان في شيء من ذلك .
بل الإمامةُ امتدادٌ أرضيٌّ للرسالة السماويّة ، فلا غروَ أنْ
يَمُدّ اللهُ الإمامَ بما يمدُّ النبيّ من القُدرة على الخوارق التي لا يستطيعها
البشرُ .
أليس الهدفُ من الإعجاز إقناعُ الناس بالحقّ الذي جاء به
الأنبياء ? فإذا كان ما يدعو إليه الأئمّةُ هو عينُ ما يدعو إليه الأنبياء ، فأيّ
بُعْدٍ في دعم هؤلاء بما دعمَ به أولئك ? من دون تقصيرٍ في حقّ اُولئك ، ولا
مغالاةٍ في قدر هؤلاء ؟
ومهما كانَ ، فإنّ الحسينَ عليه السلام لمّا خرج من المدينة
يريدُ مكّة مرّ بابن مطيع ، وهو يحفر بئره ، وجرى بينهما حديثٌ عن مسير الإمام ،
وجاء في نهايته [201]: قال ابن مطيع : إنّ بئري هذه قد رشحتُها ، وهذا اليوم أوان
ما خرجَ إلينا في الدلو شيء من الماء ، فلو دعوتَ اللهَ لنا فيها بالبركة .
قال الحسينُ عليه السلام : هاتِ من مائها . فأُتيَ من مائها في
الدلو ، فشرِبَ منه ، ثمّ تمضمضَ ، ثمّ ردّه في البئر ، فأعذَبَ ، وأمْهى (72)
وهذا من الحسين عليه السلام - أيضاً - غيضٌ من فيضٍ ، وهو معدن
الكرم والفيْض . إلاّ أنّ حديثَ الماء ، والحسينَ في طريقه إلى كربلاء، فيه عِبْرة
، تستدرّ العَبْرة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(72) في مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 130) وأُمْريَ ،
هكذا مضبوطاً ، بدل (وأمهى).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص91
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهل هي إشارات غيبيّة إلى أنّ الحسينَ سيواجهُ المنعَ من الماء،
وسيُقتلُ عَطشاً , وهو منبعُ البركة ، من فيض فمه يعذبُ الماءُ وينفجرُ ينبوعُه ؟
وهل كان ذلك يخطرُ على بالٍ ؟
لكنّ ذكر العطش والبحث عن الماء ، له شأنٌ آخر في حديث كربلاء
22 - الحجّ , في سيرة الحسين عليه السلام
للحجّ في تراث أهل البيت عليهم السلام شأنٌ عظيم ، وموقعٌ
متميّزٌ بين عبادات الإسلام ، فهم يبالغون في التأكيد على أنّ الكعبة هي محورُ
الدين ، ومدار الإسلام ، ونقطة المركز له ، وقطب رحاه ، على المسلمين غاية تعظيمه
والوفادة إليه .
ومن الواضح أنّ من الفوائد المنظورة للحجّ ، والتي صرّحتْ بها
الآَياتُ الكريمة ، وأصبحتْ لذلك أفئدةُ المؤمنين تهوي إليه هو دلالته الواضحة على
خلوص النيّة ، والتركيز على وحدة الصفّ الإسلامي ، وتوحيد الأهداف الإسلامية ، التي
تركّزت عند الكعبة ، وتمحورت حولها .
وأهلُ البيت عليهم السلام كانوا في هذا التكريم العظيم جادّين
أقوالاً وأفعالاً ، فالنصوص الواردة لذلك مستفيضةٌ بل متواترةٌ ، وقد أقدموا على
ذلك عملياً
بأساليب شتّى :
منها : الإكثار من أداء الحجّ ، وقد جاء في سيرة الحسين عليه
السلام : [2 - 193] إنّه حجّ ماشياً خمساً وعشرين , وإنّ نجائبه معه ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص92
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تُقاد وراءه(73 ) إنّها الغاية في تعظيم الحجّ ، بالسعي إلى
الكعبة على الأقدام ، لا عن قلّة راحلة ، بل إمعاناً في تجليل المقصد والتأكيد على
احترامه .
وهذا على الرغم من ازدحام سنيّ حياته بالأعمال ، فلو عدّدنا
سنيّ إمامته العشر ، وسنوات إمامة أخيه الحسن العشر كذلك ، وسنوات إمامة أبيه الخمس
، لاستغرقت خمساً وعشرين حجّة .
فهل حجّ الحسينُ عليه السلام في الفترة السابقة بعض السنوات ؟
وأُسلوبٌ آخر من تعظيم أهل البيت للكعبة والبيت والحرم : أنّهم
لم يُقْدموا على أيّ تحرّكٍ عسكريّ داخلَ الحرم المكّيّ ، وكذلك الحرم المدنيّ ،
رعايةً لحرمتهما أنْ يُهدَر فيهما دمٌ ، وتهتكَ لهما حرمةٌ على يد الحكّام
والأُمراء الظالمين ، وجيوشهم الفاسدة ، المعتدية على حرمات الدين .
ومن أجل ذلك خرج الإمام عليّ عليه السلام من الحجاز ، وكذلك
الإمام الحسين عليه السلام ، وكلّ العلويّين الّذين نهضوا ضدّ جبابرة عصورهم ،
وطواغيت بلادهم ، خرجوا إلى خارج حدود الحرمين حفظاً لكرامتهما
، ورعاية لحرمتهما (74)
وبهذا الصدد جاء في حديث سيرة الحسين عليه السلام أنّه خرج من
مكّة معجّلاً ، جاعلاً حجّه عمرةً مفردة ، حتّى لا تُنتهك حرمةُ البيت العتيق بقتله
، بعد أنْ دسَّ يزيدُ جلاوزته ليفتكوا بالإمام ، ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(73) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 /129)
(74) راجع جهاد الإمام السجّاد عليه السلام (ص68- 69)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص93
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإذا كان الظالمون لا يلتزمون للكعبة والحرم بأيّة حرمة ،
ويستعدّون لقتل النفوس البريئة فيه ، وهتك الأعراض في ساحته ، وحتّى لهدمه وإحراقه
، كما
أحدثوه في تاريخهم الأسود مراراً ، وصولاً إلى أغراضهم السياسية
المشؤومة .
فإنّ بإمكان الحسين عليه السلام أنْ يسلبهم القدرةعلى تلك
الدنائة ، فلا يوفّر لهم فرصة ذلك الإجرام ، ولا يجعل من نفسه ودمه موضعاً لهذا
الإقدام الذي يريده المجرمون ، فلا يحقّق بحضوره في الحرم ، للمجرمين أغراضهم
الخبيثة ، بقتله وهتك حرمة الحرم ، وإن كان مظلوماً على كلّ حال .
وهذه هي الغاية القصوى في احترام الكعبة ، وحفظ حرمة الحرم .
وقد صرّح الإمام الحسين عليه السلام بهذه الغاية لابن عبّاس ،
لمّا وقف أمام خروجه إلى العراق ، فقال [243]: لئنْ أُقتل بمكان كذا وكذا ، أحَبُّ
إليَّ من أنْ استحلَّ حرمتها .
[244] وفي نصّ آخر : . . . أحبُّ إليَّ من أنْ يُستحلَّ بي ذلك(
75)
والنص الوارد في نقل الطبراني : . . . أحبُّ إليَّ من أنْ
يُستحلَّ بي حرمُ الله ورسوله (76)
وهذه مأثرةٌ اختصَّ بها أهلُ البيت عليهم السلام لابُدّ أنْ
يمجّدها المسلمون .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(75) لاحظ : مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7/ 142)
(76) تاريخ دمشق، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام (ص190-193)
هامش(3).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص94
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
94- مع الشعر والشعراء
الشعرُ يجري في وجدان الشعوب مجرى الدم ، ومعه يجري ما يحتويه
الشعر من معنىً ومضمون ، وللشعراء في المجتمعات - وخاصة المجتمع العربيّ - وجودٌ
مؤثّرٌ لا يمكن إنكاره .
واختلف الشعراءُ في أغراضهم وأهدافهم ، باختلاف طبائعهم ،
وأُصولهم ، وانتماءاتهم القبليّة والطائفيّة ، وأهدافهم وأطماعهم الدينيّة
والدنيوية ، وما إلى ذلك من وجهات نظر ، وغايات ، وآمال .
والمالُ الذي يسيلُ له لعابُ كثيرٍ من الناس ، يُغري من الشعراء
مَن امتهنوا الشعرَ ، وحمّلوه مؤونة حياتهم المادّية ، قبلَ أنْ يكونَ بنفسه غرضاً
، يحدوهم إلى نيل مكانة اجتماعية في الأدب واللغة ، أو خلود الذكر في الحضارة
البشرية ، أو علوّ الكعب والشرف بين الأقران والأهل والعشيرة ، أو الخُلْد والثواب
والأجر في الآَخرة .
أمّا المالُ عند أهل الشرف والكرامة والإنسانية والعزّة
النفسيّة ، من أصحاب
الأهداف السامية الكُبرى ، فهو وسيلةٌ وليس هدفاً .
وكما أنّ الله تعالى ذكره استخدمَ المالَ لأغْراض العُبور على
الجسور ، والوصول بها إلى الأهداف الربّانيّة ، فجعلَ للمؤلَفة قلوبهم حقّاً في
أموال الله , فكذلك الحسينُ عليه السلام ، اتّباعاً للقرآن ، وتطبيقاً له فإنّه
كانَ يستخدمُ المالَ لهدف معنويّ إلهيّ سامٍ . فكان يُعطي شعراء عصره ، ولمّا عوتبَ
، قال : [199] إنّ خيرَ المال ما وقَى العِرْضَ (77)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(77) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 -129).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص95
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و العِرضُ هُنا ليس هو النامُوس , إذْ ليس بين المسلمين من
يَخالُ أنْ يَنالَ من عِرض أهْل بَيْت الرسالة بل المراد به العِرْض السياسيّ الذي
اسْتَهدفه من آل محمّد الأُمويّون ، فكانوا يكيلون سَيْلَ التهم والافتراء ضدّ عليّ
وآل محمّد ، على حساب المدائح لمخالفيهم من آل عثمان و مروان وطواغيت آل أبي سفيان
.
فكانت مبادرةُ الإمام الحسين عليه السلام قطعاً لأعذار
المتسوّلين بشعرهم والمستغلّين لهذا المنبر الشعبيّ الفاعل ، في سبيل جمع الحُطام
الزائل ، وعلى حساب تحكيم سلطة الظلمة الجائرين , فكان عطاءُ الحسين عليه السلام
يحدّ من اتجّاه الشعراء إلى أبواب الحكّام ، ويقلّل من فرص استغلالهم من قبل
الجائرين ، كما يُوصِدُ أمام السفلة أبواب التعرّض للشرفاء من معارضي السلطة
وأنصارِها الطُغاة البغاة( 78)
ويُمكن أنْ تُفسَر ظاهرة رواية الشعر المنسوب إلى الأئمّة عليهم
السلام ، على أساس من هذا المنطلَق ، فبالرغم من أنّ قول الشعر لا يليقُ بأُولئك
العلماء ، القادة ، السادة ، الّذين كانت لهم اهتمامات كبرى ، ومع أنّ الشعر
المنسوب أكثرهُ ضعيف اللفظ والوزن ، ولا وقع له في مجال اللغة والأدب فضلاً عن أنْ
يُقاسَ بكلماتهم النثريّة التي هي في قمّة البلاغة والفصاحة , إلاّ أنّ من الممكن
أن تصدُرَ - لو صحّت النسبةُ - من أجْل ملىء الفراغ في دنيا الشعر ، والذي انهمك
فيه الشعراء بأغراضٍ أُخرى ، وقلّت فيها النخوة الدينية عندهم ، فلا يبعدُ أنْ يكون
للأئمّة عليهم السلام شعرُ يسدّ بعض هذا الفراغ ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(78) انظر موقف الحسين عليه السلام من الفرزدق الشاعر هامش
(ص207) من تاريخ دمشق ، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص96
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويجذب قلوب الناس إلى المعاني والأغراض الصالحة التي تحتويه ,
أو يكون بعضُ الموالين قد حاول ذلك ، فأخذ من الأئمّة المعاني ونظمها بشكل سهل ،
ليتهيّأ لكلّ الناس حفظه وتداوله ، فنسب إلى الأئمة باعتبار معانيه .
ومن الشعر المنسوب إلى الإمام الحسين عليه السلام :
ومهما يكن ، فإنّ ابن عساكر قد روى من الشعر المنسوب إلى الإمام
الحسين عليه السلام ، الشيء الكثير ، نختار منه ما يلي :
[205] خرجَ سائل يتخطّى أزقّة المدينة ، حتّى أتى باب الحسين بن
عليّ ، فقرع الباب ، وأنشأ يقول :
لم يَخَبِ اليَوم مَنْ رجــــاكَ
ومَنْ * حرّكَ من خلف بابــــك الحَلَـــقَهْ
فأنْتَ ذو الجودِ أنْتَ معدِنُه(79) * أبوكَ قد كان قاتــــلَ
الفَسَقـــــــَهْ
وكان الحسينُ بن علي واقفاً يُصلّي ، فَخَفَفَ من صلاته ، وخرجَ
إلى الأعرابيّ ، فرأى عليه أثر ضُرّ وفاقة ، فرجع ونادى بقَنْبرٍ فأجابه : لبّيك ،
يابنَ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم , قال : ما تبقّى معكَ من نفقتنا ؟ قال
: مائتا درهم ، أمرتني بتفريقها في أهل بيتك , قال : فهاتها ، فقد أتى مَنْ هو
أحقُّ بها منهم. فأخذها ، وخرج ، فدفعها إلى الأعرابيّ ، وأنشأ يقول :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(79) في مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور : وأنت جود وأنت معدنه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص97
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خُذْها فإنّـــــــــي إليـــــــــــك معـــتذِر
* واعلم بأنّي عــليــــــك ذو شَفــــــَقَهْ
لو كان في سيرنا الغداة عصاً (80) * كانَتْ سمانا عليـــــــــك
مُنْدَفـــقـــــهْ
لكنّ ريبَ الزمـــــــــان ذو نَـــــــــــكَدٍ * والكف منّا قليــــــــلـــة النَفـــــــــَقهْ
فأخذها الأعرابيُّ وولّى وهو يقول :
مُطَهرونَ نقيّــــــــات ثيــــــــابُهــــــم * تجري الصلاةُ عليهم أينما ذُكــــروا
فأنتمُ أنتمُ الأعـــلــــــــــــــونَ عندكمُ * علمُ الكـــتاب وما جاءتْ به
السورُ
من لم
يكنْ علــــــــــويّاً حين تنسبُه * فماله في جميع الناس مُفتخرُ(81)
[208] وأنشدوا ، له عليه السلام :
أغْنِ عن المخلــــوق
بالخالقِ * تغن عن الكــــــاذب والصادقِ
واسترزق الرحمنَ من فضلـه * فليس غـــير الله مـــــن رازقِ
مَنْ ظنَ أنّ الناس يُغــــــــنونَه * فليس بالـــــــرحمن بالواثــقِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(80) في مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور : لو كان في سيرنا عصاً
تمدّ إذن!
(81) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 / 1 - 132)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص98
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أو ظنَ أنَ المال من كسبهِ * زلّتْ به النعلان من حالقِ(82)
[209] وروى الأعمش ، له عليه السلام :
كلّما زِيْدَ صاحبُ المال مـــــالا
* زِيــْدَ في هَمّه وفـــي الاشتَغالِ
قد عرفناكِ يا منغصّة العــيشِ
* ويــا دارَ كـــلّ فــــانٍ وبـــــــالِ
ليس يصفو لزاهدٍ طلب الزهدِ
* إذا كـــــــانَ مثقلاً بالعيالِ(83)
[210] وروي أنّ الحسين عليه السلام أتى المقابر بالبقيع فطاف
بها ، وقال :
ناديتُ
سُكّـــــان القــبور فأُسْكتوا * وأجابني عن صمتهم ندب الجثى
قالت أتدري ما صنــــعتُ بساكني * مزّقتُ ألْحــــــُمَهم وخرّقتُ الكِسا
وحشوْتُ أعينهم تراباً بعــــــــدما * كانتْ تــــــؤذى بالقليل من القذى
أمّا العـــــظام فإننّي فـــــــرّقتهـــا * حتّى تباينتِ المفــــاصل والشوى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(82) و ( 83 ) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 /132) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص99
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قطّعتُ ذا من ذا ومن هاذاك ذا * فتركتُها رمماً يطول بها
البِلى(84)
[211] وأنشدوا له عليه السلام :
لئن كانت الدُنيا تُعــــــدُّ نفيســــــةً * فدارُ ثوابِ الله أعـــلى
وأنْبـــــــلُ
وإن كانت الأبدان للموت أُنشِئــتْ * فقــــتلُ سبيل الله بالسيــف
أفضلُ
وإن كــانتِ الأرزاقُ شيئاً مقــدَراً
* فقلّة سعي المر في الكسب أجملُ
وإن
كانتِ الأمــوال للترك جُمِعَتْ * فما بالُ متروكٍ به المرُ يبخلُ(85)
24-
رعاية المجتمع الإسلاميّ
إنّ من أهمّ واجبات الإمام هو رعاية المجتمع الإسلامي عن كَثَبٍ
، وملاحظة كلّ صغيرة وكبيرة في الحياة الاجتماعيّة ، ورصدها ، ومحاولة إصلاحها
وإرشادها ، ودفع المفاسد والأضرار ، بالأساليب الصالحة ، وبالإمكانات المتوافرة ،
دَعْماً للأُمّة الإسلاميّة ، وحفظاً للمجتمع من الانهيار أو التصدّع .
وقد ورد عن الإمام الحسين عليه السلام حديث مهمّ يدلّ على عمق
اهتمام الإمام بهذا الأمر الهامّ :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(84) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 /132) باختلاف يسير
(85) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 /133) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص100
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال جُعيد الهمدانيّ : أتيتُ الحسين بن عليّ وعلى صَدْره سكينة
ابنتهُ ، فقال : يا أُخْتَ كلب ، خذي ابنتك عنّي , فسألني ، فقال : أخبرني عن شباب
العرب ? قلتُ : أصحاب جُلاهقات ومجالس
قال عليه السلام : فأخبرني عن الموالي ? قلتُ : آكل رِبا ، أو
حريص على الدنيا
قال عليه السلام : ( إِنَا للهِ وَ إِنَا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ )
والله ، إنّهما لَلصنفان اللذانِ كنّا نتحدّثُ أنّ الله تبارك وتعالى ينتصرُ بهما
لدينه .
يا جُعيد همدان : الناس أربعة :
فمنهم من له خَلاق ، وليس له خُلُق
ومنهم من له خُلق ، وليس له خَلاق .
ومنهم من ليس له خُلُق ولا خلاق ، فذاك أشرّ الناس
ومنهم من له خُلُق وخلاق ، فذاك أفضل الناس.
وهذا الحديث يدلّ على مراقبة دقيقة ، من الحسين عليه السلام ،
لمجتمع عصره : فقوله : كُنّا نتحدّث , يدلّ - بوضوحٍ - على تداول الأمر ، والتدبير
الحكيم والمشورة المستمرّة ، من الإمام ومن كان معه ، حول السُبل الكفيلة لنصرة
الدين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص101
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإعزازه وتقوية جانبه ، وتهيئة الكوادر الكفوءة لهذه الأغراض
وإنجاحها .
والتركيز على شباب العرب , بالذات ، يعني الاعتماد على الجانب
الكيفيّ في الكوادر العاملة، إذ بالشباب يتحقّق التحرّك السريع والجريء ، فهم عصب
الحياة الفعّال ، وعليهم تعقد الآَمال ، وهم يمثلّون القوّة الضاربة .
وأمّا الموالي , فهم القاعدة العريضة ، التي ترتفع أرقامها في
أكثر المواجهات والحركات ، وهم أصحاب العمل والمال ، والّذين دخلوا هذا الدين عن
قناعة بالحقّ ، وحاجة إلى العدل .
ولكن سياسة التهجين ، والتدجين ، الأُموية ، جرّت شباب العرب ،
إلى اللهو واللعب . وجرّت الموالي إلى الالتهاء بالأموال والتكاثر بها .
وهنا تأتي كلمة (إِنَا للهِ وَإِنَا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) في
موقعها المناسب ، لأنّها تُقالُ عند المصيبة ، والمصيبة الحقيقية أنْ تموتَ روحُ
القوّة والتضحية والنضال في هذين القطاعين المهمّين من الأُمّة .
وتقسيمه عليه السلام المجتمع إلى : مَنْ له خُلُق وكرامة وشرف ،
يعتمد الأعراف الطيّبة ، وتدفعه المروءة إلى التزام العدل والإنصاف ، ورفض الجور
والفساد والامتهان ، ويرغب في الحياة الحرّة الكريمة في الدنيا .
وإلى من له خَلاق ودين وعمل صالح وضمير ووجدان وعقيدة ورجاء
ثواب ، يدفعه كلّ ذلك إلى نبذ الباطل ، وبذل الجهد في سبيل إحقاق الحقّ .
فمن جمعَ الأمرين فهو أفضلُ الناس جميعاً ، وهو ممّن تكون له
حميّة ، ويسعى في الدخول في من ينتصر الله به لدينه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص102
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن تركهما معاً ، فهو من أذلّ الناس وأحقرهم ، وهل شرّ أشرّ من
الذُلّ .
ومن التزمَ واحداً ، فقد أخطأ طريق العمل الصالح ، وهو في ذلّ
ما ترك الآَخر ، وهل يُرجى الخير من ذليل ? وإنْ كان محسناً أو صالحاً ؟
وموقف آخر : قال بشر بن غالب الأسديّ : قدمَ على الحسين بن عليّ
أناسٌ من أنطاكية فسألهم : عن حال بلادهم ? وعن سيرة أميرهم فيهم ? فذكروا خيراً ،
إلاّ أنّهم شكوا البَرد(87).
فالإمام عليه السلام يستكشف الأوضاع السائدة في بلاد المسلمين ،
حتى ابعدَ نقطة شمالية ، وهي أنطاكية , وهي رقابة تنبع من قيادة الإمام للاُمّة ،
فمع فراغ يده من السلطة القائمة ، فهو لا يتخلّى عن موقعه ، ويخطّط له .
25 -
مواقف قبل كربلاء
التزم الحسينُ بمواقف أخيه مدّة إمامة الحسن عليه السلام ، لأنّ
الحسين من رعاياه ، وتجب عليه طاعته والانقيادُ له ، لما هو من الثابت أنّ الإمام
إنّما يتصرف حسب المصالح اللازمة ، وطبقاً للموازين الشرعيّة ، التي تمليها عليه
الظروف ، وبالأدوات والإمكانات المتيسّرة له .
وقد استغلّ معاويةُ حلم الإمام الحسن عليه السلام ، ليتمادى في
غيّه ، ويزيدَ في تجاوزاته وتعدّياته ، فخطّطَ لذلك خططاً جهنّميّة ، تؤدّي نتائجها
إلى هدم كيان الإسلام ، وضرب قواعده ، بداً بتحريف الحقائق ونشر البدع ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(87) تاريخ بغداد (3 /63).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص103
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومنع الحديث النبويّ , وإبطال السُنّة ، في بلاط الأُمراء
والحكّام ، ثمّ محاولة نشر ذلك في ساحة البلاد الإسلامية الواسعة .
لكنّ الذي كان يمنعه وجود الأعداد الكبيرة من أنصار الحقّ ،
وأعوان الإمام
عليّ عليه السلام الذين حافظ على وجودهم الإمام الحسن عليه
السلام بمخطّطه العظيم ومواقفه الصائبة بالتزام الصلح المفروض ، والشروط التي كانت
هي قيوداً تُكبّل معاوية لو التزمها ، وتُخزيه لو خرقها .
ولقد خالفَ معاوية كثيراً من بنود الصلح ، فأخزى نفسه في مخالفة
العهد الموقّع من قبله ، وكانَ أخطرَ ما قام به هو الفتك بالصلحاء من
الشيعة الّذين كانُوا يتصدّون لمُنْكره ، وللبدع التي كان ينشرها ، وللأحاديث
المكذوبة التي كان يُذيعها على ألسنة وُلاته ووعّاظ بلاطه .
فلمّا ماتَ الحسنُ بن عليّ - والكلام من هُنا لسليم بن قيس
الهلالي ، المؤرّخ الذي عاش الأحداث وسجّلها بدقّة - : ازداد البلاءُ والفتنةُ ،
فلم يَبْقَ لله وليٌ إلاّ خائفٌ على نفسه ، أو مقتول ، أو طريد ، أو شريد(88).
وكانت الفترة التالية عصر إمامة الحُسين عليه السلام ، وكانت
مزاولات معاوية التعسّفية بلغت أوْجَ ما يتصوّر ، وكادتْ مخطّطاته أنْ تُثمِر ، وقد
اتضّح لجميع الأُمّة - صالحها و طالحها - استهتار معاوية بالمواثيق التي التزم بها
نفسه في وثيقة الصلح ، والعهود التي قطعها على نفسه أمام الأُمّة ، وتبيّن للجميع
أنّ ما يزاوله إنّما هو الملك والسلطة ، وليس هو الخلافة عن الله ورسوله ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(88) لاحظ كتاب سليم (ص 165) والاحتجاج للطبرسي (296) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص104
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقد انفتحتْ أمامَ الحسين عليه السلام آفاقٌ جديدة وأُتيحت له
ظروفٌ مغايرةٌ ، ووجب عليه التصّدي لاستثمارات معاوية من خططه الجهنّميّة التي
أعدّها طوال السنين التي حكم فيها من سنة (40) للهجرة ، وحتّى أواخر أيام ملكه
.
اجتماع منى العظيم :
قال سليم في تتمّة كلامه السابق : فلمّا كان قبل موت معاوية
بسنتين ، حَجّ الحسين بن عليّ عليه السلام و عبد الله بن جعفر و عبد الله بن عبّاس
معه .
وقد جمع الحسين بن علي عليه السلام بني هاشم : رجالَهم ونساءهم
ومواليهم وشيعتهم ، من حجّ منهم ومن لم يحجّ ، ومن الأنصار ممّن يعرفونه وأهل بيته .
ثم لم يَدَعْ أحداً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه واَله
وسلّم ، ومن أبنائهم والتابعين ، ومن الأنصار المعروفين بالصلاح و النُسُك ، إلاّ
جمعهم .
فاجتمع عليه < بمِنَى > أكثر من ألف رجل( 89 ) .
ويمكن اعتبار اجتماع مِنى هذا العظيم ، موقفاً سياسياً هامّاً ،
من وجهين :
1 - أنَه تظاهرة كبيرة ، تجمع عَدَداً كبيراً من ذوي الشهرة ،
والوجهاء المعروفين بين الأُمّة ، بحيث لا يمكن إغفال أثرها ولا منع الناس من
التساؤلات حولها .
2 - أنّه أكبر مَجْلِسٍ يضم أصحابَ الرأي من رجالات الأُمّة ،
وشخصيّاتها ممّن له الحقّ في إبداء الرأي ، وسنّ القانون ، وهم النُخْبة المقدّمة
من أهل الحلّ والعقد ، ومن جميع القطّاعات الفاعلة في المجتمع الإسلامي وهم :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(89) كتاب سليم بن قيس (ص 165) والاحتجاج للطبرسي (ص296) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص105
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العلويّون ، والصحابة - المهاجرون والأنصار - والتابعون ، ومن
النساء ، وطبقة الأبناء ، وطبقة الموالي .
بحيث يمكن أن يعتبر ذلك
(استفتاءاً شعبيّاً عامّاً) من خلال
وجود ممثّلين لكلّ طبقات الشعب المسلم .
وتبدو الحكمة و الحنكة في انتخاب الزمان، والمكان، لعقد ذلك
المجمع العظيم:
فأرض منى المفتوحة الواسعة ، وهي جزء من الحرم - تسع لمثل هذا
الاجتماع العظيم في ساحة واحدة ، وفي وسط كلّ الوافدين عليها ، من الحجّاج المؤدّين
للواجب ، أو غيرهم القائمين بأعمال أُخرى ، واجتماع رهيب ، مثل ذلك ، لا يخفى على
كلّ الحاضرين في تلك الأرض المفتوحة ، وبذلك ينتشر الخبر ، ولا يُحصَر بين الأبواب
المغلقة أو جدران مكانٍ خاصٍ .
ولابدّ أنْ يكونَ الاجتماعُ في زمان الحضور في مِنى وهو يوم
العيد الأكبر - يوم الأضحى - العاشر من ذي الحجّة ، فما بعد ، إذ على الجميع -
الناسكين والعاملين معهم - الوجود على أرض مِنى ، لأداء مناسكها او تقديم الخدمات
إلى الوافدين .
وفي انتخاب مثل هذا المكان ، في مثل ذلك الزمان ، مع نوعية
الأشخاص المنتخبين للاشتراك في هذا الاجتماع ، دلالات واضحة على التدبير والاهتمام
البليغ الذي كان يوليه الإمام لهذا الموقف .
وأمّا محتوى الخطاب التاريخي الذي ألقاه الإمام الحسين عليه
السلام فهو ما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص106
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سنقرؤه معاً ( 90 ) :
خطبة الإمام بمنى :
أمّا بعدُ ، فإنَ هذا الطّاغية قد فَعَلَ بنا و بشيعتِنا ما قد
رأيتُم وعلِمتُم وشهِدتُم .
وإنّي أُريد أن أسألَكُم عن شيٍ، فإنْ صدقتُ فصدقوني ، وإن
كذبتُ فكذبوني .
اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي ، ثمّ ارجعوا إلى أمصارِكُم
وقبائِلِكُم ، فَمَن أمِنْتُم من النّاسِ وَوَثِقْتُم بهِ فادعوهم إلى ما تعلمونَ
من حقنا . فإنّي أتخوَفُ أن يُدرسَ هذا الأمرُ ، ويذهبَ الحق ويُغلَب ( وَاللهُ
مُتِم نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ ) . [التوبة 9/الاية 32 ]
أنشدكم الله : أتعلمون أنّ عليّ بن أبي طالب كان أخا رسول الله
- صلّى الله عليه واَله وسلّم - حين آخى بين أصحابِهِ فآخى بينه وبين نفسه ، وقال :
أنت أخي وأنا أخوك في الدّنيا والاَخرة ?
قالوا : اللّهمّ نعم ،
قال : أنشدكم الله : هل تعلمون أنّ رسول الله صلّى الله عليه
واَله وسلّم اشترى موضعَ مسجدِهِ ومنازِلِهِ فَاْبتناهُ ثُمّ اْبتنى فيه عشرةَ
منازل ، تسعة له ، وجعل عاشرها في وسطِها لأبي ، ثمّ سَدَ كُلَ بابٍ إلى المسجد
غيرَ بابِه ، فتكلَمَ في ذلك من تكلَمَ ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(90) اعتمدنا في نقل نصّ الخطاب على ما أثبته الشيخ محمد صادق
نجمي ، في تحقيقه القيّم الذي أصدره باسم < خطبه حسين بن علي عليه السلام در منى >
باللغة الفارسية ، وطبعته مؤسّسة القدس في مشهد سنة 1411 هج- وقد ذكر أنّ مجموع
الخطبة جأ على شكل مقاطع في كلّ من كتاب سليم ، والاحتجاج للطبرسي ، وتحف العقول
لابن شعبة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص107
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقال : ما أنَا سددتُ أبوابَكُمْ وفتحتُ بابَهُ ولكنّ الله
أمرني بسد أبوابِكُم وفتحِ بابِه ، ثمّ نهى النّاس أن يناموا في المسجد غيره ، وكان
يُجنب في المسجد ومنزله في منزل رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم فوُلِدَ
لرسولِ الله صلّى الله عليه واَله وسلّم وله فيه أولاد
قالوا : الّلهمّ نعم .
قال : أ فتعلمون أنّ عمر بن الخطّاب حَرِصَ على كُوَةٍ قَدْرَ
عينهِ يَدَعُها في منزلهِ إلى المسجد فأبى عليه ، ثُمّ خطب فقال : إنّ الله أمرني
أن أبني مسجداً طاهراًلا يسكُنُهُ غيري وغير أخي وبنيه ?
قالوا : الّلهمّ نعم .
قال : أَنْشُدُكم الله : أتعلمون أنّ رسول الله صلّى الله عليه
واَله وسلّم نصبه يوم غدير خمّ فنادى له بالولايةِ وقال : ليبلّغ الشّاهدُ الغائب ?
قالوا : الّلهمّ نعم .
قال : أَنْشُدُكم الله : أتعلمون أنّ رسول الله صلّى الله عليه
واَله وسلّم قال له في غزوة تبوك : أنت منّي بمنزلةِ هارونَ مِنْ مُوسى ، وأنت ولي
كُل مُؤمنٍ بعدي ؟
قالوا : اللّهمّ نعم .
قال : أَنْشُدُكم الله : أتعلمون أنّ رسول الله صلّى الله عليه
واَله وسلّم حين دعا النّصارى من أهل نجرانَ إلى المباهلةِ لم يأتِ إلاّ بهِ
وبصاحبَتِهِ وابنيهِ ?
قالوا : الّلهمّ نعم .
قال : أَنْشُدُكم الله : أتعلمون أنَهُ دفع إليه اللّواء يومَ
خيبر ثمّ قال : لأدفعه إلى رجلٍ يحبهُ الله ورسولُهُ ويُحِب الله ورسولَهُ كرّار
غير فرّارٍ ، يفتحُها الله على يديه ?
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص108
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قالوا : الّلهمّ نعم .
قال : أتعلمون أنّ رسول الله بعثه ببراءَةٍ وقال : لا يبلّغ
عنّي إلاّ أنا أو رجل منّْي ?
قالوا : الّلهمّ نعم .
قال : أتعلمون أنّ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم لم
تنزل به شدّة قط إلاّ قدّمَهُ لها ثقةً بهِ وأنّه لم يدْعُهُ باْسمِهِ قط إلاّ يقول
: يا أخي ، واْدعُوا لي أخي ?
قالوا : الّلهمّ نعم .
قال : أتعلمونَ أنّ رسولَ الله صلّى الله عليه واَله وسلّم قضى
بينَهُ وبينَ جعفرٍ وزيدٍ فقال : يا علي أنتَ منّي وأنا منك ، وأنت ولي كُل مُؤمنٍ
بعدي ?
قالوا : الّلهمّ نعم .
قال : أتعلمون أنَهُ كانت مِنْ رَسُولِ الله صلّى الله عليه
واَله وسلّم كلَ يوم خلوة وكُلَ ليلةٍ دخْلَة ، إذا سألَهُ أعطاهُ وإذا سكت ابتدأه
?
قالوا : الّلهمّ نعم .
قال : أتعلمونَ أنَ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم فضّله
على جعفرٍ وحمزة حين قال : لفاطمة عليها السلام : زوّجْتُكِ خيرَ أهلِ بيتي ،
أقدمَهُمْ سِلْماً ، وأعظَمَهُمْ حِلْماً ، وأكثَرَهُم عِلْماً ?
قالوا : الّلهمّ نعم .
قال : أتعلمون أنّ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم قال :
أنا سيّدُ وُلْدِ بني آدَمَ ، وأخي عليّ سيّدُ العرَبِ ، وفاطمةُ سيّدةُ نساءِ أهلِ
الجنّةِ ، والحسنُ والحسينُ ابناي سيّدا شبابِ أهلِ الجنةِ ?
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص109
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قالوا : الّلهمّ نعم .
قال : أتعلمونَ أنّ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم أمره
بغسلِهِ وأخبَرهُ أنّ جبرئيلَ يُعينُهُ عَلَيْهِ ?
قالوا : الّلهمّ نعم .
قال : أتعلمونَ أنّ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم قال
في آخر خطبة خَطَبَها : إنّي تركتُ فيكُمُ الثَقَلَيْن كتابَ الله وأهلَ بيتي ،
فتمسَكُوا بِهما لن تَضِلوا ?
قالوا : الّلهمّ نعم .
ثمّ ناشَدَهُم أنّهم قد سمعوه يقول : <مَن زَعَم أنَهُ يُحبني
ويُبغِضُ عليّاً فقد كَذِبَ ، ليسَ يُحبّني ويُبغضُ علّياً> ، فقال له قائل : يا
رسول الله وكيف ذلك ? قال : لأنّه منّي وأنا منهُ ، من أحبَهُ فقد أحبَني ، ومَن
أحبَني فقد أحبَ الله ، ومَن أبغضَهُ فقد أبغضَني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله ?
قالوا : الّلهمّ نعم ، قد سمعنا . . .
اعتبروا أيها النَاسُ بما وَعظَ الله به أولياءَ هُ من سُوءِ
ثَنائِهِ على الأحبار إذْ يقول : ( لَوْلا ينهاهُمُ الرَبَانيّوُنَ وَالأَحْبارُ
عَنْ قَوْلِهُم الإثْمَ ) وقال : ( لُعِنَ الّذينَ كَفَرُوا مِنْ بَني إسْرَائيلَ -
إلى قوله - لبئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُون)
وإنَما عابَ الله ذلك عليهم ، لأنّهم كانوا يَرَوْنَ من
الظَلَمَةِ الّذين بين أظْهُرِهِم المُنكرَ والفَساد فلا ينهونهم عن ذلك رَغبةً
فيما كانوا ينالونَ منهم ، ورهبةً ممّا يحذرون ، والله يقول : ( فلا تَخْشواْ
النَاسَ وَاْخشَوْن ) وقال : ( المُؤْمِنُونَ واْلمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أولياءُ
بَعْضٍ يأمرونَ بِاْلمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اْلمُنْكَرِ ) . فبدأ الله بالأمر
بالمعروفِ والنّهي عن المنكر فريضةً منه لعلمِه بأنَها إذا أُديَتْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص110
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأُقيمت استقامتِ الفرائضُ كلها هَينُها وصَعْبُها ، وذلك أنّ
الأمرَ بالمعروفِ والنّهيَ عَن المُنْكر دعاء إلى الإسلام مع رد المَظَالِم
ومخالفةِ الظّالمِ وقسمةِ الفَيء والغنائمِ وأخذِ الصَدَقاتِ من مواضِعِها ووضعِها
في حقّها .
ثمّ أنتم أيّتُها العصابةُ عصابة باْلعِلْمِ مشهورة وبالخيرِ
مذكورة وبالنصيحة معروفة وبالله في أنفُسِ النّاسِ مهابة ، يهابُكُمُ الشّريفُ
وَيُكْرِمُكُمُ الضعيفُ وَيُؤْثُِركُم مَنْ لا فضلَ لكم عليه ، ولا يدَ لكم عنده ،
تشفعون في الحوائج إذا امتنعت مِنْ طُلابِها ، وتمشُونَ في الطّريقِ بهيبة الملوك
وكرامة الأكابرِ . أليس كُلّ ذلك إنّما نِلتُموهُ بما يُرجى عندكُم من القيامِ بحق
الله وإن كنتم عن أكثر حقّهِ تقصُرُونَ فاسْتَخْفَفْتُمْ بحقّ الأئمّة ، فأمّا حقّ
الضعَفاءِ فَضَيَعْتُمْ ، وأمّا حقّكم بزعْمِكُمْ فَطَلَبْتُم ، فَلا مالاً بذلتموه
، ولا نفساً خاطَرْتُم بِها للّذي خلَقَها ، ولا عشيرةً عاديتموها في ذاتِ الله .
أنتُم تتمنّونَ على الله جَنَتَهُ ومجاورةَ رُسُلِهِ وأماناً من
عذابهِ
لقد خشيتُ عليكم - أيها المُتَمَنّونَ على الله - أن تَحِلَ
بكُم نقمة مِن نقماتِهِ لأنّكم بلغتم من كرامة الله منزلة فُضّلتمْ بها ، ومن
يُعرَفُ بالله لا تُكْرِمُونَ ، وأنتُم بالله في عباده تُكْرَمُونَ .
وقد تَرَوْنَ عهودَ الله منقوضَةً فلا تَفزَعُون ، وأنتُم لبعضِ
ذِمَمِ آبائِكُمْ تَفْزَعُون وَذِمّةُ رسولِ الله مخفورة ، والعُميُ والبُكُم
والزّمنى في المدائنِ مهملة لا تَرحَمُونَ ولا في مَنزِلَتِكُم تعملون ، ولا مَنْ
عَمِلَ فيها تُعينون . وبالادّهانِ والمُصَانَعَةِ عند الظَلَمَةِ تأمنون .
كُلّ ذلك ممّا أمركم الله بهِ من النّهي والتّناهي وأنتم عنه
غافلونَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص111
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأنتُم أعظم النّاس مصيبة لما غلبتم عليه من منازلِ العلماء لو
كنتُم تشعرون ، ذلك بأنّ مجاريَ الأُمورِ والأحكامِ عَلَى أيدي العُلَماء بالله
الاُمناءِ عَلَى حَلاَلِهِ
وَحَرَامِهِ ، فأنتُم المَسْلُوبونَ تلك المنزلةِ وَما
سُلِبْتُم ذلك إلاّ بتفرقِكُم عن الحقّ واْختلافِكُم في السُنّة بعد البيّنة
الواضحة ، وَلَوْ صَبَرْتُم علَى الأذَى وتحمّلْتُم المؤونة في ذاتِ الله كانت
أُمور الله عليكُم تَرِدُ وعنكم تصْدُرُ وَإِلَيْكُمْ تَرْجعُ ، ولكنَكُم مكّنتُم
الظَلَمَة مِنْ منزِلَتِكُمْ ، وأسلمتم أُمور الله في أيديهم ، يَعملون بالشبُهاتِ
، ويَسيرونَ في الشَهَواتِ ، سلّطهم على ذلك فرارُكُم مِنَ الموتِ وإعجابُكُم
بالحياة التّي هي مفارقتُكُم ، فأسلمتم الضعفاءَ في أيديهم فمن بين مُستعبَدٍ
مقهورٍ ، وبين مستضعَف على معيشتِهِ مغلوبٍ ، يتقلّبون في المُلكِ بآرائِهم ،
ويستشعِرونَ الخِزْيَ بأهوائهم ، اقتداءً بالأشرار وجرأةً على الجّبارِ ، في كُلّ
بَلَدٍ منهم على مِنْبَرِهِ خطيب مُصْقع .
فالأرضُ لهم شاغرة ، وأيديهم فيها مبسوطة ، والنّاسُ لهم خَوَل
، لا يدفعون يد لامسٍ ، فمن بين جبّار عنيدٍ ، وذي سطوةٍ على الضعفةِ شديدٍ ،
مُطَاعٍ لا يَعْرِفُ
المُبْدِى المعيدَ .
فيا عجباً ! وما لي لا أعجبُ ! والأرض من غاش غَشُومٍ ، ومتصدقٍ
ظلومٍ ، وعامِلٍ على المُؤمنينَ بهم غيرُ رحيمٍ !
فالله الحاكمُ فيما فيه تنازعنا ، والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا
.
الّلهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تَنافُساً في
سُلْطانٍ ، ولا اْلتِماساً من فضول الحطامِ ، ولكن لنُرِيَ المعالِمَ من دينك ،
ونُظْهِرَ الإصلاحَ في بلادِك ، ويأمنَ المظلُومونَ مِنْ عبادِك ، ويُعْمَلَ
بفرائِضِكَ وسُنَنِك وأحكامِك .
فإنَكُم إن لا تَنْصُرونا وتنصفونا قويت الظّلمة عليكم ،
وعَمِلَوا في إطفاءِ نُورِ نَبيكُم . وحسبُنا الله وعليه توكّلنا وإليه أنَبْنَا
وإليه المصيرُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص112
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنّ هذا الموقف يعتبر ، أقوى معارضة علنية أقدم عليها الحسين
عليه السلام في مواجهة معاوية وإجراءاته الخطرة التي دأب - طول حكمه - بعد استيلائه
على أريكة الحكم في سنة (40) للهجرة على العمل بكلّ دهاء وتدبير ، لتأسيس دولته
المنحرفة عن سنن الهدى والصلاح والتقى ، فحاول في الردّة عن الإسلام إلى إحياء
الجاهلية الأُولى بما فيها من الظلم والعصبية والتجسيم لله ، والقول بالجبر
والإرجاء وما إلى ذلك من الأفكار التي تؤدّي إلى تحميق الناس وإخماد جذوة الحركة
الثورية الإسلامية ، والتوحيدية الإصلاحية .
فكانت حركة الحسين عليه السلام ، وبهذا الأُسلوب المحكم الرصين
، وفي الزمان والمكان المنتخبين بدقّة ، أوّل معارضة معلنة ضّد كلّ الإجراءات تلك .
وإن كان الإمام الحسين عليه السلام لم يكفّ مدّة إمامته عن مواجهة معاوية بشكل خاصّ
في القضايا الجزئيّة ، وفي اللقاءات الخاصّة ، لكنّ هذا الإجراء
العظيم اعتبره رجال الدولة ثورة مُعْلنة ، وتحرّكاً سياسياً
خَطِراً على الدولة ، ومؤدّياً إلى تبخير كلّ الجهود والاَمال والطموحات التي عملوا
من أجلها طوال عشرين سنة من حكمهم الفاسد .
معاوية بين فكي الأَسَد :
كان من مخطّطات معاوية مخالفة كلّ التراتيب الإدارية الإسلامية
حتّى في شكل تعيين الخليفة خارجاً عن جميع الاَراء حتى تلك التي عملها الخلفاء قبله
، فَعَمَد إلى تجاوز سنن الّذين سبقوه كلّهم ، فلا هو عمل كما فعل أبو بكر في العهد
لعمر من بعده ، ولا عمل مثل عمر في جعلها شُورى ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص113
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولا أرجع الأمر إلى أهل الحلّ والعقد يختارون لأنفسهم ، بل
عَمَدَ إلى تنصيب ابنه خليفة وأخَذ البيعة له قبل أن يموت ، ليعلنها < مُلكاً
عَضُوضاً > بعد أن كانت خلافةٍ !وكان هذا الإجراء من أخطر ما أقدم عليه معاوية في
آخر سنيّ حياته ، ولذلك كان للناس مواقف متفاوتة تجاه هذه البدعة ، أمّا الحسين
عليه السلام فقد استغلّ ذلك للإعلان عن مخالفة هذا الإجراء لبنود وثيقة الصلح
الموقّعة من قبل معاوية , فلا خلاف بين العلماء أنّ الحسن إنّما سلّم الخلافة
لمعاوية حياته لا غير ( 91 ).
مع أنّ يزيدَ ، كان معروفاً بين الأُمّة بفسقه ، ولهوه ، وعدم
لياقته للأدنى من الخلافة ، فَضلاً عنها .
ولم يُخفِ الحسين عليه السلام نشاطه ، حتّى عرف منه ذلك ، فجأته
الوفود يقولون له : < [254 ص 197] قد علمنا رأيك ورأي أخيك > .
فقال عليه السلام : < إنّي أرجو أن يُعطيَ الله أخي على نيّته
في حُبّهِ الكفَ ، وأن يعطيني على نيّتي في حُبّي جهاد الظالمين >( 92 ) .
إنّ كلمة < الجهاد > تهزّ الحكومة الظالمة ، التي تخيّلت أنّها
قد قطعت شأفة أهل الحق ، واجتثّت أُصول التحرّك الجهاديّ ، بقتل كبار القوّاد ،
وطمس معالم الحقّ ، وتشويه سمعة أهل البيت ، وسلب الإمكانات المادّية منهم .
ولكن لمّا يَسْمع الحكّام كلمة < جهاد الظالمين > من الحسين
عليه السلام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(91) ذكر ذلك أبو عمر ابن عبد البرّ في الاستيعاب ، بهامش
الإصابة(1 /373.
(92) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 /137) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص114
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السبط الوحيد الذي تشخص إليه أبْصار البقيّة الباقية من
المسلمين ، والقلائل
الّذين بقوا من أولاد الشهداء والصحابة الصلحاء الّذين ضاقوا
ذرعاً من تصرّفات معاوية وولاته الجائرين ، فإنّ الأُمراء يتهيّبون الوضع ، بلا ريب
.
وخاصة مثل مروان بن الحكم - ابن طريد رسول الله ولعينه - الذي
لم يجد فرصة للإمارة على مدينة الرسول ، إلاّ حكم معاوية ، وإلاّ فأين هو من مثل
هذا المقام الذي لم يحلُم به ?
فهاهو يجد في تحرّك الإمام الحسين عليه السلام أنّ أجراس الخطر
تدقّ تحت آذانه ، وهو العدوّ اللدود للحسين وأهل بيته ، منذ القديم ، يوم وقف في
حرب الجَمَل يُشعل فتيل الحرب ضدّ الإمام عليّ عليه السلام ، لكنّه فشل واندحر
وأُسِرَ وذَلَ ، ومَنّ عليه الإمامُ فيمن مَنّ عليهم من أهل تلك الحرب .
وهو - وإن استفاد من حكم معاوية - إلاّ أنّه لا يكنّ لمعاوية
ولا لاَل أُميّة ودّاً ، بعد أن أصبح ذيلاً لهم ، ويراهم منتصرين في صفّين ، بينما
هو اندحر أمام عليّ وانكسر في وقعة الجمل .
والاَن ، يريد أن يضرب بسهم واحد هدفين ، فكتب إلى معاوية :
[254 ص197] إنّي لستُ آمنُ أن يكونَ حُسين مُرصِداً للفتنة ، وأظن يومكم من حسينٍ
طويلاً ( 93 ) .
ولكنّ معاوية أذكى من مروان ، فهو يعلم أنّ تحرّشه بالحسين لا
يصلح لتحقيق مآربه ، فكتب إلى الحسين في بعض ما بلغه عنه :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(93) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7/ 137 ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص115
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[ص198] إنّي لأظنّ أنّ في رأسك نزوةً ، فوددتُ أنّي أدركتها ،
فأغفرُها لك.
وهكذا يُحاول معاوية، أن <يتحلّم> لكيْ يمتَصَ من ثورة الإمام
وحركته شيئاً مّا.
ويظهر من الكتاب الثاني ، أنّه أحسَ بخطورة حين كتب إلى الإمام
بما يتهدّده ، بما نصّه : ([254 ص198] أمّا بعد ، فقد انتهتْ إليَ أُمور أرغبُ بك
عنها ، فإن كانت حقّاً لم أُقارّك عليها ، ولعمري) إنّ من أعطى الله صفقة يمينه
وعهده
لجدير بالوفاء . (وإن كانت باطلاً ، فأنت أسعد الناس بذلك ،
وبحظّ نفسك تبدأ ، وبعهد الله تفي ، فلا تحملني على قطيعتك والإسائة بك ، فإنّي متى
أُنكرك تنكرني ، وإنّك) متى تكدني أكدك . وقد اُنْبِئتُ أنّ قوماً من أهل الكوفة قد
دعوكَ إلى الشقاق ، (فاتّقِ شقّ عصا هذه الأُمّة ، وأن يرجعوا على يدك إلى الفتنة)
.
وأهل العراق من قد جرّبتَ ، قد أفسدوا على أبيك وأخيك (وقد
جرّبتَ الناس وبلوتهم ، وأبوك كان أفضل منك ، وقد كان اجتمع عليه رأي الّذين يلوذون
بك ، ولا أظنّه يصلح لك منهم ما كان فسد عَليه) . فاتّقِ الله ، واذكر الميثاق
(وانظر لنفسك ودينك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص116
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( ولا يستخفنّك الّذين لا يُوقنون )(96).
رسالة الإمام إلى معاوية :
ولقد اغتنم الإمامُ جواب هذا الكتاب ، فرصةً لتوجيه السهام
المربكة على معاوية ، لِتُنتزعَ ثقتُه بتدبيراته الخبيثة ، وينغّصَ عليه استثمار
جهوده الكبيرة التي زرعها طيلة سنوات حكمه ، وليعرّفه أنّه رغم السكوت المرير طيلة
تلك الفترة ، فإنّ الإمامَ لَهُ ولمخططاته بالمرصاد ، وأنّه مراقب لأعماله
وتصرّفاته الهوجاء ومتربّص للوثبة عليه حينما تسنح له الفرصة، وتؤاتيه الإمكانات ،
وإن لم تحنْ بعدُ.
ولقد كان جواب الإمام - على ذلك التهديد - صاعقةً على معاوية
بحيث لم يُخْفِ تأثّره من ذلك فأصدر كلمةً قصيرة تنبى عن كلّ مخاوفه ، فقال :
[ص198] إنْ أثَرنا بأبي عبد الله إلاّ أسَداً( 97 ) .
ولقد تداول الرواةُ نبأ هذا الجواب وتناقلوه ، واعترف كثير منهم
بشدّة محتواه .
قال البلاذري : فكتب إليه الحسين كتاباً غَليظاً ، يعدّد عليه
فيه ما فعل . . . ، ويقول له : إنّك قد فُتِنتَ بكيد الصالحين مذ خُلقتَ ، فكدني ما
بدا لك . وكان آخر الكتاب : والسلام على مَن اتّبع الهُدى .
وكان معاوية - من شدّة تأثّره وارتباكه - يشكو ما كتب به
الحسينُ إليه ، إلى الناس( 98 ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(96) لفّقنا الكتاب من ما أورده ابن عساكر خارج الأقواس ، وما
ذكره البلاذري داخلها ، ولا ريب أن الكتاب نسخة واحدة ,وإنّما حصل التقطيع
والاختصار من الرواة . ولاحظ مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور(7/ 137)
(97) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7/ 137 ) .
(98) أنساب الأشراف (3/ 3 - 154)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص117
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لكنّ سَرَقة الحضارة ، وخَوَنة التاريخ ، حاولوا جهد إمكانهم أن
يختصروا ما في هذا الكتاب ، وأن لا يُوردوا إلاّ جزءاً منه .
فلذلك نجد رواية ابن عساكر تقتصر على قوله [ص198]: فكتب إليه
الحسين : أتاني كتابك ، وإنّي بغير الذي بلغك عنّي جدير ، والحسنات لا يهدي لها
إلاّ الله ، وما أردت لك محاربة ولا عليك خلافاً ، وما أظنّ لي عند الله عذراً في
ترك جهادك ، وما أعلم فتنةً أعظم من ولايتك أمر هذه الاُمّة( 99 ) .
وينقطع الحديث عند ابن عساكر ، بينما الكتاب يحتوي على فقرات
هامّة ، لا تفي بالغرض منها هذه القطعة القصيرة.
ولوضع هذه القطعة في إطارها المناسب ، رأينا إيراد الجواب
كاملاً نقلاً عمّا أورده المؤرّخ القديم البلاذري في أنساب الأشراف( 100 ) قال :
فكتب إليه الحسين : أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك تذكر أنّه :
بلغك عنّي أُمور ترغب عنها ، فإن كانت حقّاً لم تقارّني عليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(99)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7/ 137 ) .
(100) لقد نقل المحموديّ نصّ الجواب الكامل عن أنساب الأشراف في
ترجمة معاوية ، وذكر من مصادره مجموعة كبيرة من أُمّهات كتب التاريخ والحديث ، منها
: الأخبار الطوال ، للدينوري (ص224) والإمامة والسياسة لابن قتيبة (ص131) ورجال
الكشي (ترجمة عمرو بن الحمق) والاحتجاج للطبرسيّ (ص297) غير من روى قطعاً منه ،
فراجع هامش تاريخ دمشق (ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ص198) وهامش أنساب الأشراف
(ترجمته عليه السلام3 / 153) تحقيق المحمودي..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص118
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولن يهديَ إلى الحسنات ولا يسدّد لها إلاّ الله .
فأمّا ما نمي إليك ، فإنّما رقّاه الملاّقون ، المشّاؤون
بالنمائم ، المفرّقون بين الجمع . وما أُريد حرباً لك ، ولا خلافاً عليك ، وأيمُ
الله لقد تركت ذلك ، وأنا أخاف الله في تركه، وما أظنّ الله راضياً منّي بترك
محاكمتك إليه، ولا عاذري بدون الاعتذار إليه فيك وفي أوليائك القاسطين الملحدين ،
حزب الظالمين وأولياء الشياطين .
ألستَ قاتل حجر بن عدي وأصحابه المصلّين العابدين - الّذين
ينكرون الظلم ، ويستعظمون البدع ، ولا يخافون في الله لومة لائمٍ - ظلماً وعدواناً
، بعد إعطائهم الأمان بالمواثيق والأيمان المغلَظة ?
أوَ لستَ قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله صلّى الله عليه
واَله وسلّم
الذي أبلته العبادةُ فصفّرتْ لونه ، وأنحلتْ جسمه [ بعد أن
آمنته وأعطيته من عهود الله عزّ وجلّ وميثاقه ما لو أعطيته العصم ففهمتْه لنزلتْ
إليك من شعف الجبال ، ثمّ قتلتَه جرأةً على الله عزّ وجلّ ، واستخفافاً بذلك
العهد)(101) ؟!
أوَ لستَ المدّعي زياداً بن سُميّة ، المولود على فراش عُبيْدٍ
عبد ثقيف ? وزعمتَ أنّه ابنُ أبيك ، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم
: الولد للفراش وللعاهر الحَجَر , فتركتَ سُنّة رسول الله صلّى الله عليه واَله
وسلّم وخالفتَ أمره متعمّداً ، واتّبعتَ هواك مكذّباً ، بغير هُدىً من الله . ثمّ
سلّطته على العراقين ، فقطع أيدي المسلمين ، وسملَ أعينهم ، وصلبهم على جذوع النخل
,كأنّك لستَ من هذه الأُمّة ، وكأنّها ليستْ منك ?
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(101) ما بين المعقوفتين ، لم يرد في رواية البلاذري ، وإنّما
أخذناه من الاحتجاج للطبرسي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص119
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد قال رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم : من ألْحَقَ
بقومٍ نسباً ليس لهم ، فهو ملعون.
أوَ لستَ صاحب الحضرميّين الّذين كتب إليك ابنُ سُميّة أنّهم
على دين عليّ، فكتبت إليه : أُقتل مَن كان على دين عليّ ورأيه , فقتلهم ومثَل بهم
بأمرك ? ودينُ عليٍّ دينُ محمّدٍ صلّى الله عليه واَله وسلّم الذي كان يضربُ عليه
أباك ، والذي انتحالُك إيّاه أجلسك مجلسك هذا ولولاهمو كان أفضلُ شرفك تجشُّم
الرحلتين في طلب الخمور
وقلتَ :اُنظر لنفسك ودينك والأُمّة ,واتقّ شقّ عصا هذه الاُمّة
، وأن تردَّ الناسَ إلى الفتنة.
[فلا أعرف فتنةً أعظمُ من ولايتك أمر هذه الأُمّة] (102) ولا
أعلم نظراً لنفسي
وديني أفضل من جهادك ، فإنْ أفعله فهو قربةٌ إلى ربّي ، وإن
أتركه فذنبٌ أستغفرُ الله منه في كثيرٍ من تقصيري ، وأسأل الله توفيقي لأرشد أُموري
.
وقلت فيما تقول : إن أُنكرك تنكرني وإن أكدك تكدني.
[و هل رأيك إلاّ كيدُ الصالحين منذُ خُلقتَ ? فكدني ما بدا لك
](103) فإنّي أرجو أنْ لا يضرّني كيدُك ، وأنْ لا يكون على أحدٍ أضرَّ منه على نفسك
، على أنّك تكيدُ فتوقظُ عدوّك وتوبقُ نفسك ، كفعلك بهؤلاء الّذين قتلتَهم ومثّلتَ
بهم ، بعد الصلح والأيمان والعهد والميثاق ، فقتلتَهم من غير أنْ يكونوا قتلوا ،
إلاّ لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقّنا بما به شرفتَ وعرفت ، مخافةَ أمرٍ لعلّك لو لم
تقتلهم مُتَ قبل أن يفعلوه ، أو ماتوا قبل أن يدركوه ? فأبشر يا معاوية بالقصاص ،
وأيقن بالحساب .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(102)ما بين المعقوفتين لم يرد في البلاذري ، وإنّما ورد في ابن
عساكر ، والاحتجاج .
(103) ما بين المعقوفتين لم يرد في البلاذري - في ترجمة معاوية
- لكنّه ذكره في القطعة التي نقلها في ترجمة الحسين عليه السلام ، وقد سبق أن
نقلناها ، فلاحظ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص120
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واعلم أنّ لله كتاباً لا يُغادرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها
، وليس الله بناسٍ لك أخذك بالظنّة ، وقتلك أولياءَهُ على الشبهة والتهمة, ونفيك
إيّاهم من دار الهجرة إلى الغربة والوحشة ](104)
وأخذك الناس بالبيعة لابنك غلامٌ سفيهٌ يشربُ الشرابَ ويلعبُ
بالكلاب .
ولا أعلمك إلاّ قد خسرتَ نفسك، وأوبقتَ دينك ، وأكلتَ أمانتك ،
وغششتَ رعيّتك [ وسمعت مقالة السفيه الجاهل، وأخفتَ التقيّ الورع الحليم ] (105)
وتبوّأت مقعدك من النار ، فبعداً للقوم الظالمين .
والسلام على من اتّبعَ الهُدى( 106)
إنّ موقف الإمام الحسين عليه السلام هذا الذي أبداه في جواب
معاوية ، أربك معاوية بحيث فوجىء به ، وهو في أواخر أيّامه ، وقد استنفدَ كلّ
الجهود واستعدَّ ليجنيَ ثمارها ، فإذا به يواجه أسداً من بني هاشم يثورُ في وجهه ،
ويحاسبه على جرائمه التي تكفي واحدةٌ منها لإدانته أمام الرأي العام ، فكان يقول :
إن أثرنا بأبي عبد الله إلاّ أسداً.
إنّ الحسين عليه السلام باتّخاذه هذا الموقف من معاوية ، وضعَ
أمامَ إنجازاته حجرةً عرقلتْ سيرها ، وأوقفتْ إنتاجها السريع ، ممّا جعلَ معاوية
يفكّر ويُخطّط من جديد ، ولكن كبر السنّ لم يُساعده ، والأجل لم يمهله ، وإن كان قد
فتح للحسين صفحة في وصاياه لابنه من بعده .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(104) من الاحتجاج ، ولم يذكره البلاذري .
(105)ما بين المعقوفتين عن الاحتجاج .
(106)هذا السلام لم يرد في النص الكامل الذي نقله البلاذري ،
وإنّما ذكره في ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ، قال : وكان في آخر الكتاب
:والسلام على من اتبع الهدى!!.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص121
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أمّا الإمام الحسين عليه السلام فقد بدأ بالعمل لحركةٍ جهاديّة
استتبعتْ تحطيم كلّ منجزات معاوية ، في حركةٍ لم تطُلْ سبعة أشهرٍ بدأتْ من منتصف
رجب سنة (60) - حين مات معاوية - وانتهت في يوم عاشوراء العاشر من المحرم سنة (61)
. فكان حديثُ كربلاء وما تضمّنه من مآسٍ وأحزان ، وما تبعه من إحياء للإسلام من
جديد ، حتّى أصبح حسيني البقاء , بعد أن كان محمّديّ الوجود. وصدّق ما قال رسول
الله صلّى الله عليه واَله وسلّم: حسين منّي وأنا من حسين .