فهرس الكتاب

مكتبة الإمام الحسين

 

 

الباب الثالث : سيرة الحسين عليه السلام في كربلاء

26- تباشير الحركة .

27- عراقيل على المسير .

28- من أنباء الغيب .

29- أصحابٌ أوفياء .

30- يومَ عاشوراء .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص125 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

26- تباشير الحركة

كانت المواقف الأخيرة التي وقفها الإمامُ الحسينُ عليه السلام في وجه معاوية تعتبُر تباشيرُ التحرّك المضادّ ، ضدّ مخطّطات معاوية .

وبالرغم من أنّ الإمام لم يُطاوعْ أحداً ممّن دعاهُ إلى خلع معاوية ، إذْ كان امتداداً لمواثيق أخيه الإمام الحسن عليه السلام ، ومن الموقّعين على كتاب الصلح مع معاوية ، ومع أنّ معاوية قد نقضَ العهدَ ، وخالفَ بنودَ الصلح في أكثر من نقطةٍ ، إلاّ أنّه بدهائه ومكره كانَ قد لبَّسَ نفسه ثوباً من التزوير لا يسهلُ اختراقُه ، وكان يحتالُ على الناس بالتحلّم والتظاهُر مستعيناً بالوضّاعين من رواة الحديث وبالدجّالين من أدعياء العلم ودعوى الصُحبة والزهد ، ممّا أكسبهُ عند العامّة العمياء ما لا يُمكنُ المساسُ به بسهولة .

إلاّ أنّ الإمام الحسين عليه السلام استغلّ موضوعَ تنصيبَ معاويةَ يزيدَ مَلِكاً ، وإلزامه الناسَ بالبيعة له ، إذْ كان هذا مخالفةً صارخةً لواحدٍ من بنود الصلح ، مع مخالفته للأعراف السائدة بين المسلمين ، ممّا لا يجهله حتّى العامّة ، وهي كونُ الصيغة التي طرحها للخلافة من بعده ، مبتدعةً لم يسبقْ لها مثيلٌ .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص126 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثمّ إنّ يزيد بالذات لم يكنْ موقعاً للأهليّة لمثل هذا المنصب الحسّاس ، بلْ كان معروفاً بالشرب ، واللعب ، والفجور ، بشكلٍ مكشوفٍ للعامّة.

وكانت هذه المفارقات ممّا يُساعدُ الإمام الحسين عليه السلام على اتّخاذ موقفٍ مبدئيٍّ ، جعله هو المنطلقَ للتحرّك ، كما تناقله الرواةُ ، فقالوا: [ص197] لمّا بايعَ معاويةُ بن أبي سُفيان الناسَ ليزيد بن معاوية كان حسين بن عليّ بن أبي طالب ممّن لم يبايع له( 107).

وبالرغم من وضوح أهداف الإمام لمعاوية ، وحتّى لمروان والّذين يحتوشونه ، حتّى أنّهم أعلنوا عن تخوّفاتهم وظنونهم بأنّ الإمام يفكّرُ في حركةٍ يسمّونها نزوة أو مرصداً للفتنة ,وما إلى ذلك ، لكنّهم لم يُقْدموا على أمرٍضدّهُ ، ولعلّ معاوية كان يُحاولُ أنْ يقضيَ عليه بطريقته الخاصّة في الكيد والمكر والاغتيال ، إلاّ أنّ سرعةَ الأحداث ، ومجيء الأجل لم تمهله, فكانت مواجهة الحسين عليه السلام وصدّه من آخر وصايا معاوية لابنه يزيد ،كما كانت هي من أُولى اهتمامات يزيد نفسه ، ففي التاريخ [255 ص199] توفّي معاوية ليلةَ النصف من رجب سنة ستّين ، وبايعَ الناسُ ليزيد، فكتبَ يزيدُ معَ عبد الله بن عمرو بن أُويس العامري إلى الوليد بن عُتبة ابن أبي سفيان- وهو على المدينة -:أنْ ادعُ الناسَ فبايعهم,وابدأ بوجوه قريش،وليكن أوّل من تبدأ به الحسين بن عليّ بن أبي طالب . . .( 108 ) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(107) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور(7 /136)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص127 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فبعث الوليد بن عُتبة من ساعته - نصفَ الليل - إلى الحسين بن عليّ .

إنّ اهتمام يزيد ، وتأكيده بأخذ البيعة أوّلاً من الحسين عليه السلام ، واستعجال الوالي بالأمر بهذا الشكل ، لم يكن إلاّ لأمر مبيّتٍ ومدبّرٍ من قِبَل البلاط ورجاله , ولابُدّ أنّ الإمام كان قد قدّرَ الحسابات ، فلّما طلبَ الوالي منه البيعة ، رَفَضَها وقال له : نصبحُ فننظرُ ما يصنعُ الناسُ ، ووثبَ فخرجَ ,كما جاء في نفس الحديث السابق .

ويبدو أنّ الوليد الوالي لم يكنْ متفاعلاً بشدّةِ مع الأمر ، أو أنّه لم يكنْ متوقّعاً لهكذا موقف من الإمام ،لأنّه لمّا تشادّ مع الحسين في الكلام قال الوليدُ : إنْ هُجنا بأبي عبد الله إلاّ أسداً.

ولكنّها هيَ الحقيقةُ التي وقفَ عليها معاويةُ في حياته ، وأطلقها ، وإنْ كان الوليدْ لم يعرفها إلاّ اليوم .

وتتمّة الحديث السابق : [ ص200] وخرجَ الحسينُ من ليلته إلى مكّة ، وأصبحَ النّاسُ ، وغدوا إلى البيعة ليزيد ، وطُلِبَ الحسينُ فلم يوجدْ (109).

وهكذا أفلتَ الحسينُ عليه السلام من والي المدينة ، وفيها مروان بن الحكم العدوّ اللدود لآَل محمّد ، والذي كان يحرّضُ الواليَ على قتل الحسين عليه السلام في نفس تلك الليلة إن لم يُبَايع .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(108) و (109) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 /138).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص128 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وخرج الحسين عليه السلام إلى مكّة ، التي هي أبعدُ مكانٍ من الأزمة هذه ، والتي سوف يتقاطرُ عليها الحُجّاجُ لقُرب الموسم ، فتكونُ قاعدةً أفْسحَ وأوسعَ للتحرّك الإعلاميّ في صالح الحركة .

27- عراقيل على المسير

لا ريب أنّ تخلّص الحسين عليه السلام من مسألة البيعة ، وخروجه بهذا الشكل المتخفي من المدينة ، لم يُرضِ الدولة ولا أجهزتها ، فلذلك تصدّوا للموقف بمحاولة اغتيال الحسين عليه السلام في مكّة، وفي زحام الموسم ، وقد جاء في بعض المصادر: أنّ يزيد بثَّ مَنْ يغتال الإمام ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة , وعلى أبعد احتمال كان الحسينُ عليه السلام يُجَرُ إلى المواجهة المسلّحة مع رجال الدولة في منطقة الحرم ، ذلك الأمرُ الذي لا يريدُهُ الحسينُ عليه السلام ، بل يربؤ بنفسه أنْ يقعَ فيه،كما عرفناه في الفقرة [22] فلذلك عزمَ على الخروج من مكّة [ ص205] فخرجَ متوجّهاً إلى العراق ، في أهل بيته ، وستّين شيخاً من أهل الكوفة ، وذلك يوم الاثنين في عشر ذي الحجّة سنة ستّين .

ولا بُدّ أنّ أجهزة الدولة كانت تلاحقُ الحسين وتراقبُ تحرّكاته ، وتحاول صدّه عن ما يريدُ ، و بالخصوص توجّهه إلى منطقة الكوفة في العراق التي تعتبر عند حكّام الشام أرضَ المعارضة الشيعيّة العلويّة ، وإذا أفلتَ الحسينُ عليه السلام منهم في المدينة ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص129 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فلا بُدّ من وضع العراقيل في طريقه حتّى يتراجعَ ، ولا يخرج إلى العراق .

ومن الملاحظ في طريق الحسين عليه السلام كثرة عدد الناصحين له عليه السلام بعدم الخروج إلى العراق ، وتكاد كلمتهم تتّفقُ على السبب ، وهو أنَ أهل العراق أهل غدرٍ وخيانةٍ ، وأنّهم قتلوا أباه وطعنوا أخاه.

ومن الغريب أنْ نجدَ في الناصحين : القريب والغريب ، والشيخ والشابّ ، والرجل والمرأة ، ثمّ نجدُ الصحابيّ ، والتابعيّ ، والصديق ، والعدوّ .

ومن جهة أُخرى : نجد إجابة الإمام الحسين عليه السلام لكلّ واحدٍ تختلفُ عن إجابته للآَخر ، ولكنّ الحقيقةَ واحدةٌ . وسكتَ عن إجابة البعض .

وأمّا تفصيل الأمر:

جاءه أبو سعيد الخُدْري ، فقال [ ص197]: يا أبا عبد الله ، إنّي لكم ناصحٌ ، وإنّي عليكم مشفقٌ ، وقد بلغني أنّه كاتبك قومٌ من شيعتكم بالكوفة يدعونك إلى الخروج إليهم ، فلا تخرجْ ، فإنّي سمعتُ أباك ، يقول بالكوفة : والله لقد مللتُهم وأبغضتُهم وملّوني وأبغضوني ، وما بلوتُ منهم وفاءً ومن فازَ بهم فازَ بالسهم الأخيب , والله ما لهم ثباتٌ ، ولا عزمُ أمرٍ ، ولا صبرٌ على سيفٍ.

ولم يذكروا جواب الإمام الحسين عليه السلام لأبي سعيد ، الصحابيّ الكبير ، ولعلّ الإمام تغافلَ عن جوابه ، احتراماً لكبر سنّه ، أو تعجّباً منه لعدم تعمقّه في الأُمور ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص130 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وعدم تفكيره في ما أصابَ الإسلام وما يهدّده من أخطار ، بقدر ما كان يفكرُ في سلامة الحسين عليه السلام ؟

وقال عبد الله بن عيّاش بن أبي ربيعة : [ ص201] أينَ تريدُ يابن فاطمة ? إنّي كارهٌ لوجهك هذا ، تخرجُ إلى قومٍ قتلوا أباك وطعنوا أخاك ، حتّى تركهم سخطةً وملّةً لهم . أُذكّرك اللهَ أنْ تغرّرَ بنفسك( 110)

ولم يذكروا جواب الإمام هنا أيضا .

وقال أبو واقد الليثي [ ص201]: بلغني خروج حسين ، فأدركته بِمَلَلٍ , فناشدته الله أنْ لا يخرجَ ، فإنّه يخرجُ في غير وجه خروج ، إنّما يقتلُ نفسه

وقد ذكر جواب الحسين عليه السلام لهذا أنّه قال :لا أرجع(111).

وكتب إليه المِسْوَرُ بن مخرمة : [ ص202] إيّاك أنْ تغترّ بكتب أهل العراق . . . إيّاك أنْ تبرحَ الحرمَ ، فإنّهم إنْ كانت لهم بك حاجةٌ فسيضربون إليك آباط الإبل حتّى يوافوك ، فتخرجَ في قوّةٍ وعدّة (112)

ويبدو أنّ المِسْوَر كان يعرفُ السبب الأساسيّ لتوجّه الحسين عليه السلام

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(110)(111)(112) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 /139)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص131 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وخروجه ، وهذا يدلّ على مزيد الارتباط والتداخُل مع قضيّة الحسين عليه السلام ، لكنّه - لجهله بمقام إمامة الحسين - يتصدّى بهذه اللهجة لتحذيره ، ولعدم وجود سوء نيّةٍ عنده ، يذكرُ خيانة أهل العراق ، ويقترحُ على الحسين عليه السلام مخرجاً ، وهو أنْ يترك العراقيّين ليُقْدِموا بأنفسهم على الخروج إلى الحسين عليه السلام ، وهذه نصيحةُ مشفقٍ ، متفهّمٍ لجوانب من الحقيقة ، وإن خفي عليه لبّها وجوهرها .

ولذلك نجد إن الحسين عليه السلام كان ليّناً في جوابه : فجزّاه خيراً ، وقال : أستخير الله في ذلك(113)

وكتبت إليه عَمْرةُ بنت عبد الرحمن ، تعظّمُ عليه ما يريدُ أنْ يصنعَ ، وتأمُرُهُ ! بالطاعة ولزوم الجماعة!! وتخبرهُ أنَه إنّما يُساقُ الى مصرعه ، وتخبره ، وتقول : [ص202] أشهدُ لحدّثتني عائشة أنّها سمعتْ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم يقول : يُقتلُ حسينٌ بأرض بابل(114).

إنّ تدخّلَ هذه المرأة في الأمر غريبٌ ، والنساءُ - الأكبر منها قدراً والأكثر منها معرفةً وحديثاً - حاضراتٌ ، والأغربُ أنّها تأمر الإمام بالطاعة ولزوم الجماعة , وهذه اللغة ، إنّما هي لغة الدولة ورجالها والمندفعين لها ، ولا أستبعد أنْ يكون وراء تحريك هذه المرأة - وهي ربيبةُ عائشة والراوية لحديثها - أيدٍ عميلة للدولة .

وقد كان جواب الإمام لها إلزامها بما رَوَتْ ، فلما قَرأ كتابها قال : فلا بُدّ لي - إذَنْ - من مَصْرعي ,

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(113)(114)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 /0 14 ) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص132 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومضى عليه السلام .

وأتاه أبو بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فقال : [ ص202] إنّ الرحم تُصارّني (115) عليك ، وما أدري كيف أنا عندك في النصيحة لك ؟

قال عليه السلام : يا أبا بكر : ما أنت ممّن يُستغشَ ولا يُتَهم ، فقل .

قال : قد رأيتَ ما صنعَ أهلُ العراق بأبيك وبأخيك ، وأنت تريدُ أنْ تسيرَ إليهم ، وهم عبيدُ الدنيا ، فيقاتلُك مَنْ قد وعدك أنْ ينصرك ، ويخذلُك من أنتَ أحبُّ إليه ممّن ينصرُ . فأذكّرك الَله في نفسك(116).

إنّ أبا بكر ، حسب النصّ عن الحسين ليس متّهماً ولا يتوقّعُ منه الغشُّ ، كما يُتّهم غيره من الناصحين , ثمّ يبدو أنّه إنسانٌ بعيدُ النظر حيثُ تنبّأ بأُمور ، أصبحت حقيقةً ، فيبدو أنّه كان مخلصاً في نصحه . ولذلك كان جواب الإمام الحسين عليه السلام له ، أن قال: [ ص202]جزاك اللهُ - يابن عمّ - خيراً ، فقد اجتهدتَ رأيك ومهما يقضِ اللهُ من أمرٍ يكنْ .

وكتب إليه عبدُ الله بن جعفر بن أبي طالب كتاباً يحذّره أهلَ الكوفة ، ويُناشده الله أنْ يشخصَ إليهم .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(115)في مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور : تظارني .

(116)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 /140) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص133 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فكتب إليه الحسين عليه السلام : [ ص202] إنّي رأيتُ رؤيا ، ورأيتُ فيها رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، وأمرني بأمرٍ أنا ماضٍ له ، ولستُ بمخبرٍ بها أحداً حتّى أُلاقي عملي(117)

وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص : [ ص202 - 203] إنّي أسألُ الله أنْ يُلهمك رُشدك ، وأنْ يصرفك عمّا يُرديك، بلغني أنّك قد اعتزمت على الشخوص إلى العراق، فإنّي أُعيذك بالله من الشقاق. فإنْ كنتَ خائفاً فأقْبِلْ إليّ ، فلكَ عندي الأمانُ والبرّ والصلة .

وعمرو هذا من الأُمراء الأقوياء ، في فلك الحكّام ، وذو عدّةٍ وعَدَدٍ ، ويبدو من كتابه أنّه على ثقةٍ من نفسه ، وأنّه إنّما كتب الكتاب مستقلاًّ ، وأمّا نيّته فلا يبعدُ أن يكون قد فكّر في التخلّص من الحسين عليه السلام وحركته بنحو سلميّ ، لأنّه كان ممّن يرشَحُ نفسه للحكم ، أو هو محسوبٌ على الدولة ، ولا يُحِبّ أنْ يتورّط في مواجهةٍ مع الحسين عليه السلام ، ومع هذا فهو جاهلٌ بكلّ الموازين والمصطلحات الإسلاميّة ، فهو يحذّر الإمام من الشقاق ثمّ هو يُحاولُ أن يُطمعَ الحسين في الأمان والبرّ والصلة

وقد كتب إليه الحسينُ عليه السلام جواباً مُناسباً هذا نصّه : [ ص203] إنْ كنتَ أردتَ بكتابكَ إليَ برّي وصلتي ، فجُزيتَ خيراً في الدنيا و الآَخرة . وإنّه لم يُشاققْ مَنْ دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنّني من المسلمين ,

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(117)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7/ 141 ) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص134 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وخيرُ الأمانِ أمانُ الله ، ولم يؤمِنِ الله من لم يَخَفْهُ في الدنيا ، فنسألُ اللهَ مخافةً في الدنيا توجبُ لنا أمانَ الآَخرة عنده(118).

ومن العِبَرِ أنّ عمراً - هذا - اغترّ بأمان خلفاء بني أُميّة فغدروا به ، وقطّعوه بالسيوف ، ولم ينفعه أهله وعشيرته ، فخسر أمان الدنيا وأمان الآَخرة

ويبقى من الناصحين العبادلة : ابن عبّاس ، وابن عمرو ، وابن الزُبير ، وابن عمر :

أمّا ابن عبّاس : فلو صحّت الرواية فإنّ يزيد بن معاوية ، دفعه على التحرّك في هذا المجال ، وكتبَ إليه يخبره بخروج الحسين إلى مكّة ، وقال له : [203] وأنتَ كبيرُ أهل بيتك والمنظور إليه ، فاكْفُفْهُ عن السعي في الفُرقة .

وتقول الرواية : إنّ ابن عبّاس أجاب يزيد ، فكتب إليه : إنّي لأرجو أنْ لا يكون خروجُ الحسين لأمرٍ تكرهه ، ولستُ أدعُ النصيحة له في كلّ ما يجمعُ اللهُ به الأُلفة وتُطفأ به النائرة .

وتقول الرواية : ودخل عبدُ الله بن العبّاس على الحسين ، فكلّمه ليلاً طويلاً ، [ص204] وقال : أنشدك اللهَ أنْ تهلكَ غداً بحال مضيعة ، لا تأتِ العراقَ ، وإن كنتَ لابُدّ فاعلاً ، فأقم حتّى ينقضي الموسم وتلقى النّاسَ ، وتعلم على ما يُصدرون ? ثمّ ترى رأيك .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(118)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 /141)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص135 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وتحدّد الرواية تاريخ هذا الحديث في عشر ذي الحجّة سنة ستّين.

وتقول الرواية : فأبى الحسين إلاّ أنْ يمضي إلى العراق ، وقال لابن عبّاس : يابن العبّاس ، إنّك شيخ قد كبُرتَ(119) ثمّ خرج عبدُ الله من عند الإمام عليه السلام ، وهو مغضب

ولو صحّت الروايةُ ، فإنّ إقدام ابن عبّاس على هذا العمل ، وانبعاثه ببعث يزيد ، وأُطروحته بتأخير الحركة ، وسائر كلامه يدلّ على تناسي ابن عبّاس لمقام الحسين عليه السلام في العلم والإمامة ، وعلى بُعده عن الأحداث .

فكان جواب الحسين عليه السلام بأنّه شيخ قد كبر تعبيراً هادئاً عن فقده للذاكرة ، وقوّة الحدس ، وما اتصّف به ابن عبّاس من الذكاء طول حياته الماضية ، والتي كشفتْ عنها مواقفُه السامية .

مع انّ الإمام الحسين عليه السلام ذكر لابن عبّاس أمراً جعله يهدأ، وهو قوله له: [ ص204] لأن أُقتلَ بمكان كذا وكذا ، أحبُّ إليَّ أنْ تستحلّ بي - يعني مكّة- فبَكى ابن عبّاس ، وكان يقول : فذاك الذي سلا بنفسي عنه(120).

وهذا ما يُبعدُ كلَّ ما احتوته تلك الرواية ، ولعلّ الرواة خلطوا بين ابن الزبير وابن عبّاس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(119)(120) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور . (7 /142).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص136 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولو كان يزيد قد تمكّنَ من تحريك شيخ بني هاشم في تنفيذ ما يُريد ، فكيف بغيره من البُلهاء والمغفَلين ، أو البسطاء والمستأجرين

وأمّا ابن عمرو بن العاص فلم تُؤثر عنه كلمة في الناصحين إلاّ أنّه قال - لمّا سُئِلَ عن الحسين ومخرجه -: [ ص206] أما إنّه لا يَحِيْكُ فيه السلاحُ (121)

ومعنى كلامه : أنّه لا يضرّه القتلُ مع سوابقه في الإسلام ، لكنّ الفرزدقَ الشاعرَ استشعرَ من الكلام دلالةً أُخرى ، ولعلّه عدّها تشجيعاً على الخروج وتأييداً وحثّاً عليه ، حتّى عَدَّ ذلك من ابن العاص نفاقاً وخبثاً

وأمّا ابن الزبير فقد حشرهُ بعض المؤرّخين في الناصحين وإنْ صحّت الرواية بذلك ، فهو بلا ريبٍ ممّن يُستغشُّ في نُصحه ، لأنّه هو الذي شبَّ على عداء أهل البيت النبويّ ، ودفع أباه في أتون حرب الجمل ، ووقفَ مع عائشة خالته في وجه العدالة ، ولقد أبدى حقده وسريرة نفسه ، لمّا استولى على الحكم في مكّة ، فكان يترك الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم حسداً لآله , وقد جمع آل أبي طالب في الشِعْب ، مهدّداً بالإحراق عليهم ، لمّا أبوا أنْ يُبايعوه ويعترفوا بإمارته . وقد كان يكيدُ للإمام زين العابدين في المدينة(122) هذا الرجل لم يُحاول نصح الحسين عليه السلام بعدم الخروج خوفاً عليه من قتلة أبيه وأخيه ، بل لا يذكر ذلك إلاّ شماتةّ ,

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(121) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 144 ) .

(122) لاحظ كتابنا جهاد الإمام السجاد عليه السلام ( ص283 ) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص137 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقد أجابه الإمام الحسين عليه السلام - كما في الرواية - متُناسياً هذا الماضي الأسود ، لكن مذكّراً إيّاه بمستقبل مشؤومٍ [248] فقال له : لأنْ أُقتلَ بمكان كذا وكذا أحبُّ إليَ من أنْ تستحلَّ بي - يعني مكّة - متنبئاً بتسبّبه في انتهاك حرمة البيت والحرم ، عندما يُعلنُ طغيانه في داخل مكّة ويستولي عليها ، ممّا يفتحُ يد جيش الشام لانتهاك حرمتها ، بل رميهم للكعبة وهدمها ,بينما الحسين عليه السلام خَرج من مكّة رعايةً لهذه الحُرمة أنْ تهتكَ . وهكذا كان أهلُ البيت يُحافظون على هذه الحرمة كما قرأناه في الفقرة [22] .

وهُناك نُقولٌ وأحاديثُ كثيرة تؤكّدُ أنّ ابن الزبير لم يكن إلاّ من المشجّعين للحسين عليه السلام على الخروج إلى العراق ، صرّحَ بذلك سعيد بن المسيّب( 123) واتّهمه بذلك بشدّة المِسْوَر بن مخرمة(124) وأمّا ابن عبّاس فقد واجه ابن الزبير بذلك ، حين قال له: [ ص204] يابن الزبير، قد أتى ما أحببتَ ، قرّتْ عينُك ، هذا أبو عبد الله يخرج ، ويتركك والحجاز ، وتمثّل :

يا لك مــن قُـــبَرةٍ بمعـــــــمر ِ * خلا لَك الجوّ فبيضي واصفري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(123)كما في ( ص201 ) من تاريخ دمشق ، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام.

(124)كما في ( ص202 ) من المصدر السابق ، وكذلك الحديث ( 331 ) منه .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص138 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ونقّري ما شئتِ أنْ تنقّريْ(125) .

وأمّا ابن عمر : ذلك المتظاهر بالورع المُظْلم ، الذي لم يميّز به الحقَّ ولم يبتعدْ عن الباطل ، يُحاولُ - بزعمه - الانعزال عن الفِتنة ، رغبةً في العفّة عن الدماء , وهو يتمرّغ في الأشدّ منها نجاسةً.

فإنّه كانَ أصغرَ قدراً من أن يجدَ الحلَّ المناسب للخروج عمّا يدخلُ فيه ، إنْ أحْسَنَ أنْ يدخُلَ في شيءٍ , فهو على أساسٍ من نظرته الضعيفة والملتوية امتنعَ عن مبايعة الإمام عليٍّ أمير المؤمنين عليه السلام المجمع على إمامته ، لكنّه يقصدُ الحجّاجَ الملحدَ ليُبايعه , زاعماً أنّه سمعَ رسولَ الله صلّى الله عليه واَله وسلّم يقول : مَنْ باتَ وليس في عُنقه بيعة ماتَ ميتةً جاهليّة (126) فمدّ الحجّاجُ إليه رجله يُبايعه بها ، وحاجَجَهُ في امتناعه عن بيعة عليّ عليه السلام بأنّه لمَا ترك بيعته أما كانَ يخافُ أنْ يموتَ في بعض تلك الليالي ,فكان الحجّاجُ المُلحدُ ، أبصَرَ في ذلك من ابن عمر المتزهّد .

وهكذا يجرُّ الخذلانُ بعضَ الناس إلى العمى عن رؤية ما بين يديه ، وهو يدّعي أنّه يرى الأُفقَ البعيدَ.

وبعد هذه المواقف الهزيلة ، يأتي ابنُ عمر إلى الحسين عليه السلام ليحشرَ نفسه في الناصحين له بعدم الخُروج إلى العراق ، زاعماً : [245] إنّ أهلَ العراق قومٌ مناكيرُ ، وقد قتلوا أباك وضربوا أخاك ، وفعلوا ، وفعلوا .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(125) بل اعتبر ابن عبّاس تعزية ابن الزبير له بمقتل الحسين عليه السلام شماتة كما في الحديث (330) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (7 /144)

(126) رواه مسلم في صحيحه ( 12./240 )

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص139 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولمّا أبى الإمام - بما سيأتي نقله - قال ابن عمر : [246] أستودعك الله من قتيل, لكن كلّ ما ذكره ابن عمر ، لم يكن ليخفى على الحسين نفسه ، لأنّه عليه السلام كان أعرفَ بأهل الكوفة ، وما فعلوه ، حيث كان فعلُهم بمنظرٍ منه ومسمعٍ ، وبغياب ابن عمر عن ساحة الجهاد ذلك اليوم ، فليس إلى تنبُّؤات ابن عمر حاجة ! و إذا كانتْ نظرةُ ابن عمر عدم التدخّل في السياسة ، والانعزال عن الفتن ، فليس تدخلُه اليوم ، ومحاولته منع الحسين من الخروج منبعثاً عن ذات نفسه ، وإنّما أمثاله من البُلْه يندفعون دائماً مع إرادات الظالمين ، ولو من وراء الكواليس ، أُولئك الّذين كان ابن عُمر يُغازلهم ويتقرّبُ إليهم مثل معاوية ، ويزيد ، والحجّاج.

وما أجابَ به الإمامُ الحسينُ عليه السلام هؤلاء الناصحين ، قد اختلفَ حَسَبَ الأشخاص ، وأهوائهم ، وأغراضهم ، ومواقعهم ، وقناعاتهم ، وقربهم ، وبُعدهم ، كما رأينا , وأمّا الجواب الحاسم ، والأساسيّ ، فهو الذي ذكره الإمام في جواب الأمير الأُمويّ عمرو بن سعيد ، فقال : [ص203]. . . إنّه لم يُشاققْ مَنْ دعا إلى الله ، وعمل صالحاً ، وقال : إنّني من المسلمين (127) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(127)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظو ( 7 /141) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص140 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فإذا كان الحسينُ عليه السلام خارجاً لأداء واجب الدعوة إلى الله ، فلا يكونُ خروجُه لغواً ، ولا يحقّ لأحدٍ أنْ يُعاتبه عليه ، لأنّهُ إنّما يؤدّي بإقدامه واجباً إلاهيّاً ، وضعه اللهُ على الأنبياء وعلى الأئمّة ، من قبل الحسين وبعده .

وإذا أحرز الإمامُ تحقّقَ شروط ذلك ، وتمَتْ عنده العدّةُ للخروج ، من خلال العهود والمواثيق ومجموعة الرسائل والكتب التي وصلتْ إليه . فهو لا محالةَ خارجٌ ، ولا تقفُ أمامه العراقيلُ المنظورةُ له والواضحة ، فضلاً عن تلك المحتملة والقائمة على الفرض والتخمين ، مثل الغدر به وهلاكه ، ذلك الذي عرضه الناصحون ، فكيف لو كان المنظور هو الشهادة والقتل في سبيل الله ، التي هيَ من أفضلِ النتائج المتوقّعة ، والمترقَّبة ، والمطلوبة لمن يدخلُ هذا السبيل . مع أنّها مَقْضِيّةٌ ، ومأمورٌ بها ، وتحتاجُ إلى توفيقٍ عظيمٍ لنيلها ، فهي إذنْ من صميم الأهداف التي يضَعها الإمامُ أمامَ وجهه ، لا أنّها موانعُ لإقدامه

وأمّا أهل العراق وسيرتهم ، وأنّهم أهلُ النفاق والشقاق ، وعادتهم الغدرُ والخيانة . فتلك أُمورٌ لا تُعرقلُ خُطّةَ الإمام في قيامه بواجبه ، وإنّما فيها الضررُ المتصوّرُ على حياة الإمام وتمسُّ راحته ، وليس هذا مهمّاً في حيال أمر القيادة الإسلاميّة ، وأداء واجب الإمامة ، حتّى يتركها من أجل ذلك ، ولذلك لم يترك الإمامُ عليٌّ عليه السلام أهلَ الكوفة ، بالرغم من استيائه منهم إلى حدّ الملل والسأم ، لكن لا يجوزُ له - شرعاً - أنْ يتركَ موقعَ القيادة ، وواجب الإمامة من أجل أخلاقهم المؤذية لشخصه .

وكذلك الواجب الذي أُلقي على عاتق الإمام الحسين عليه السلام بدعوة أهل العراق ، وأهل الكوفة ، بالخروج إليهم ، والقيام بأمر قيادتهم ، وهدايتهم إلى الإسلام ، لم يتأدَّ إلاّ بالخروج ، ولم يسقطْ هذا الواجبُ بمجرّد احتمال العصيان غير المتحقّق في ظاهر الأمر ,

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص141 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فكيف يرفعُ اليد عنه ? وما هو عذره عن الحجّة التي تمّتْ عليه بدعوتهم له ? ولم يَبْدُ منهم نكثٌ وغدرٌ بعدُ ؟

فلابُدّ أنْ يمضيَ الإمام في طريق أداء واجبه ، حتّى تكونَ له الحجّةُ عليهم إذا خانوا وغدروا ، كما حدثَ في كربلاء ، ولو على حساب وجوده الشريف .

وقد كان الإمام يُعلنُ ، ويُصرّحُ ، ويُشيرُ - باستمرارٍ - إلي كتب القوم ورسائلهم عندما يُسألُ عن وَجْه مسيره . ليدلّ المعترضين على خروجه ، إلى هذا الوجه الرصين المحكم ، وهذا الواجب الإلهيّ المستقرّ على الإمام عليه السلام .

وبهذا أسكتَ الإمامُ اعتراضَ ابن عمر فقال له مكرّراً : [246] هذه كتبهم وبيعتهم (128) وكلّ مسلمٍ يعلم أنّ الحّجة إذا تمّتْ على الإمام - بحضور الحاضر ووجود الناصر - فقد أخذَ اللهُ عليه أن يقومَ بالأمر عند انعدام العذر الظاهر ، ولا تصدُّه احتمالاتُ الخِذلان ، ولا يردعُه خَوفُ القتل عن ترك واجبه ، أو التقصير في ما فُرض عليه .

بل لابُدّ من أنْ يسيرَ على ما ألزمه اللهُ ظاهراً ، من القيام بالأمر وطلب الصلاح والإصلاح في الأُمّة ، حتّى تنقطعَ الحّجة ، ولا يبقى لمعتذرٍ عذرٌ.

وهكذا كانَ يعملُ الأنبياء من قبلُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(128)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور(7/ 135).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص142 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهاهو الحسين عليه السلام ،وارثُ كلّ الأنبياء, و إمامُ عصره ، وسيّد المسلمين في زمانه ، يجدُ المخطّط الأُمويّ لعودة الناس إلى الجاهليّة يُطبَقُ ، والإسلام بكلّ شرائعه وشرائحه يُهدّدُ بالاندثار والإبادة ، ويجدُ أمامه هذه الكثرة من كُتُب القوم ، ودعواتهم ، وبيعتهم ، و إظهارهم للاستعداد ، فأيُّ عذرٍ له في تركهم ? وعدم الاستجابة لهم ؟

وهل المحافظة على النفس ، والرغبة في عدم إراقة الدماء ، والخوف من القتل ، أُمورٌ تمنعُ من أداء الواجب ، وتعرقلُ مسيرة المسؤوليّة الكبرى ، وهي المحافظة على الإسلام و حرماته ? وإتمام الحجّة على الأُمّة بعد دعواتها المتتالية ? واستنجادها المتتابع ؟ ثمَ هَلْ تُعْقَلُ المحافظة على النفس ، بعد قطع تلك المراحل النضاليّة والتي كان أقلُّ نتائجها المنظورة القتلُ ، حيثُ إنّ يزيد صمّمَ على الفتك بالإمام عليه السلام الذي كان يجده السدّ الوحيدَ أمامَ استثمار جهود أبيه في سبيل الملك الأُمويّ العَضوض فلابدّ من أنْ يزيحه عن هذا الطريق ، وتتمنّى الدولة الأُمويّةُ لو أنَّ الحسينَ عليه السلام يقفُ هادئاً ولو للحظةٍ واحدةٍ حتّى يركّزَ في استهدافه ويقتله , وحبّذا لو كان قتل الحسين بصورة اغتيال حتّى يضيعَ دمُهُ وتهدرُ قضيتُهُ, وقد أعلنَ الحسينُ عليه السلام عن رغبتهم في أنْ يقتلوه هكذا ، و أنّهم مصمِّمون على ذلك حتّى لو وجدوه في جُحْرٍ , وأشارَ يزيد إلى جلاوزته أنْ يُحاولوا قتل الحسين أينما وجدوه ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة ، فلماذا لا يُبادرالإمام عليه السلام إلى انتخاب أفضل زمان ، وأفضل مكان ، وأفضل شكلٍ للقتل

الزمان : يوم عاشوراء , المسجّل في عالم الغيب ، والمثبَت في الصحف الأُولى ، وما تلاها من أنباء الغيب التي سنستعرضها .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص143 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وكذا المكان :كربلاء , الأرض التي ذكر اسمُها على الألسن منذ عصر الأنبياء .

أما الشكل الذي اختاره للقتل : فهو النضالُ المستميت الذي ظلّ صداهُ مُدَويّاً في اُذُن التأريخ ، يقضُّ مضاجع الظالمين والمزوّرين .

إنّ الإمام وبمثل ما قام به من الإقدام ، خلّد ذكره ومقتله على صفحات التاريخ ، حتّى لا تناله خيانات المنحرفين ، وجحود المنكرين ، وتزييف المزورين ، ويخلد في الخالدين(129)

وسيأتي حديثٌ عن علم الإمام بمقتله من الغيب ، وإقدامه على ذلك في الفقرة التالية[28]. .

28-من أنباء الغيب

للغيب والإيمان به ، دورٌ متميّزٌ في حضارة الدين ، والرسالات كلّها ، وفي الإسلام كذلك ، حتّى جعل من صفات المؤمنين أنّهم : ( يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ )

[ البقرة 3]

والرسول الأكرم صلّى الله عليه واَله وسلّم قد جاء بأنباء الغيب التي أوحاها اللُه إليه, وكلّ ما أخبر به منْ أنْباء المستقبل وحوادثه ، فهو من الغيب الموحى إليه ، إذ هو ( مَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَ وَحْيٌ يُوحَى عَلَمَهُ شَدِيدُ القُوَى) وكانت واقعةُ خروج الحسين إلى أرض العراق وقتله هُناك من دلائل النبوّة ، وشواهد صدقها حقّاً(130).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(129)انظر مقال: علم الأئمة بالغيب , ص 58 - 69 .

(130)أورد كثير من هذه الأخبار البيهقي في دلائل النبوّة ,وكذلك أبو نعيم في دلائل النبوّة , وهما مطبوعان متداولان . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص144 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقد استفاضتْ بذلك الأخبار ، وممّا نقله ابن عساكر [213]: عن عليّ عليه السلام قال: دخلتُ على رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم وعيناهُ تُفيضان فقلتُ: يانبيّ الله ، أغضبك أحدٌ ? ما شأنُ عينيك تُفُيضان ؟ قال: بل قام من عندي جبرئيل قبلُ ، فحدّثني أنّ الحسينَ يُقتلُ بشطّ الفرات(131)

وزار مَلَكُ القَطْر رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، فدخلَ الحسيُن يتوثّبُ على رسول الله فقال الملكُ : [217] أما إنّ أُمّتك ستقتله

وقد روى هذه الأنباء عن رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم : عليّ أمير المؤمنين عليه السلام ، وأُمّ سلمة أُمّ المؤمنين ، وزينب أُمّ المؤمنين ، وأُمّ الفضل مرضعةُ الحسين ، وعائشةُ بنت أبي بكر ، ومن الصحابة : أنسُ بن مالك ، وأبو أُمامة ، وفي حديثه : [219] قال رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم لنسائه : لا تُبكوا هذا الصبيَّ - يعني حسيناً - فكان يوم أُمّ سلمة ، فنزلَ جبرئيل ، فدخل رسول الله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(131)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 133).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص145 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صلّى الله عليه واَله وسلّم وقال لأُمّ سلمة : لا تَدَعي أحداً يدخلْ علَيَّ.

فجاء الحسينُ , وأرادَ أنْ يدخلَ ، فأخذتْه أُمّ سلمة فاحتضنتْه وجعلتْ تُناغيه وتسكّته ، فلمّا اشتدّ في البكاء خلّتْ عنه، فدخلَ حتّى جلس في حجر رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم . فقال جبرئيل للنبيّ : إنّ أُمتّك ستقتلُ ابنك هذا, فخرجَ رسولُ الله صلّى الله عليه واَله وسلّم قد احتضنَ حسيناً ،كاسفَ البال مهموماً . . . فخرجَ إلى أصحابه وهم جلوسٌ فقال لهم :إنّ أُمّتي يقتلون هذا , وفي القوم أبو بكر وعمر(132)

إنّ الذين بلغتهم هذه الأنباءُ وآمنوا بها ، غيبيّاً ، ليَزدادَ إيمانهم عمقاً وثباتاً لمّا يجدون الحسينَ عليه السلام يُقتلُ فعلاً ، وبذلك يكونُ الحسينُ عليه السلام ومقتلُه من شواهد النبوّة والرسالة ودلائلها الواضحة ، وبهذا تتحقّق مصداقيّة قول رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم : . . . وأنا من حُسين.

ونزولُ جبرئيل بالأنباء إلى النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم أمرٌ مألوفٌ إذْ هو مَلَكُ الوحي ، وموصلُ الأنباء ، أمّا نزولُ ملكُ القَطْر - المطر - وإخباره بذلك ، فهو أمر يستوقف القارىء! فهل في ذلك دلالةٌ خفيّةٌ على موضوع فقدان الماء في قضيّة كربلاء ، و< العطش الذي سيتصاعدُ مثل الدخان ، من أبْنِيَة الحسين ، يوم عاشوراء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(132)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 134).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص146 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومن دلائل الإمامة :

فعليٌّ عليه السلام أميُر المؤمنين ، الوصيُّ الذي تلقّى من النبيّ أدوات الخلافة : عينيّها و معنويّها ، خفيّها و علنيّها ، علومها الشرعيّة وأسرارها المودعة الجفريّة ، ما أسرّ كثيراً منها ، وأعلنَ عن البعض . فكانَ في ما أعلنَ عنه : الإخبار عن مقتل الحسين !.

قال صاحب مطهرته: [213] لمّا حَاذى عليه السلام نينوى , وهو منطلقٌ إلى صفّين , نادى : صبراً أبا عبد الله ، صبراً أبا عبد الله بشطّ الفُرات!

قلتُ : مَنْ ذا أبو عبد الله ؟ قال عليٌّ عليه السلام : دخلتُ على رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم وعيناهُ تُفيضان. . . فقال : قامَ من عندي جبرئيل قبلُ ، فحدّثني أنّ الحسين يُقتل بشطّ فرات . . .(133)

أمّا أينَ هيَ نينوى ? وأيُّ شاطىءٍ من شواطىء الفرات ، هو موضع قتل الحسين ؟ فإنّ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، قد هدى عليّاً عليه السلام إلى علامةٍ ,ووضع عنده عيّنةً من تربة الموضع ,قال له: هلْ لك أنْ اُشِمَك من تُربته ? فمدّ يده ، فقبضَ قبضةً من ترابٍ ، فأعطانيها .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(133) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 133).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص147 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وعلامة أُخرى ، إنّ هذه التربةَ مفيضةُ للدمعة ، وقد جرّبها عليُّ عليه السلام لأوّل مرّةٍ وقعتْ بيده ، فقال : فلم أملكْ عينيَّ أنْ فاضتا .

وبعد هذه الأعوام الطوال ، والحُسينُ يقربُ من الثلاثين من عمره ، يقفُ عليٌّ عليه السلام على هذه الأرض ، ليقفَ على تلكما العلامتين ، ويُعلنَ عن الغيب المستودع ، مرّتين ، مرّةً حينَ سارَ إلى صفّين ، كما قرأنا في الحديث السابق ، ومرّةً أُخرى حينما رجع من صفّين ، قال الراوي: [238] أقبلنا مرجعنا من صفّين، فنزلنا كربلاء، فصلّى بها عليٌّ صلاةَ الفجر، بينَ شجراتٍ و دوحاتِ حَرْمَل، ثمّ أَخَذَ كفّاً من بَعْر الغِزْلان فشمّه ، ثم قال : أُوّهْ ، أُوّهْ ، يُقتلُ بهذا الغائط قومٌ يدخلون الجنّةَ بغير حساب(134 ).

لقد شمّ عليٌّ تُربةَ هذه الأرض من يَد النبيّ أمسِ، ويشمّها اليومَ وهو على أرض كربلاء ، يقدّسها ، فيصلّي فيها .

ولئن كانت أنباءُ الرسولُ صلّى الله عليه واَله وسلّم من دلائل النبّوة ، فإنّ حضور عليٍّ عليه السلام على هذه الأرض ، وإعلانه عن أنباء الغيب التي أوحاها إليه الرسولُ ، وحمّلها عليّاً ، فهي من دلائل الإمامة .

وزاد عليّ عليه السلام أنْ حضر في كربلاء ، وقدّس أرضها ، وواسى ابنه الشهيد بنداء له : صَبْراً أبا عبد الله , صبراً أبا عبد الله .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(134)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 135 ) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص148 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وإذا كانتْ أنباءُ كربلاء من الغيب الذي يُوحيه اللهُ إلى الرسول ، فلابُدّ أنّ شيئاً من تلك الأنباء قد جاء في صُحُف الأنبياء ، مادامت الشريعةُ الإلهيّة واحدةً ، والحقائقُ الكونيّة بعينها متّحدةً ، والوقائعُ المتجدّدة محفوظةً في لوح الغيب ، والأهدافُ في الإعلان عنها بنفسها مُتكرّرةً , فماذا عن كربلاء في الصحف الأُولى؟

إنّ رجالاً من أهل الأديان قد تناقلوا بعض تلك الأنباء : [ص189] فهذا كعبُ الأحبار كان إذا مرَ عليٌّ عليه السلام يقول : يخرجُ من وُلد هذا رجلٌ يُقتلُ في عصابةٍ لا يجفُّ عرقُ خيولهم حتّى يردوا على رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم(135)

[ص189] وكان رأسُ الجالوت - وهو من أولاد الأنبياء السابقين - يقول : كُنّا نسمعُ أنّه يُقتلُ بكربلاء ، ابنُ نبيٍّ ، فكنتُ إذا دخلتُها ركضتُ فرسي حتّى أجوزَ عنها ، فلمّا قُتلَ حُسَينٌ ، جعلتُ أسير بعد ذلك على هيئَتي(136).

وإذا كانت الأنباء قد ذاعتْ وانتشرتْ ، ورُويتْ عن الصُحُف الأُولى ، وعن النبيّ ، وعن عليّ ، فأجدرْ بالحسين أبي عبد الله ، صاحب الأنباء ومحورها ، وموضوع حديثها ، أنْ يكونَ على علمٍ بها, ولقد أعلن عنها قبل كربلاء ، وكان يحلفُ بالله على النتيجة التي يلقاها ، ومن تلك الأنباء :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(135)و(136)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 135 ) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص149 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[267] قال الحسينُ عليه السلام : والله ، ليَعْتَدُنَ عليَّ كما اعتدتْ بنو إسرائيل في السبت

[268] وقال عليه السلام : والله ، لا يَدَعُوني حتّى يستخرجوا هذه العَلَقةَ من جوفي

[266] وقال من شافَهَ الحسينَ : رأيتُ أبْنِيةً مضروبةً بفلاةٍ من الأرض ، فقلتُ : لمن هذه ؟ قالوا : هذه لحسين, فأتيتُه ، فإذا شيخٌ يقرأ القرآن - والدموع تسيلُ علىخدّيه ولحيته - فقلتُ : بأبي أنت وأُمّي ، يابن رسول الله ، ما أنزلك هذه البلادَ والفلاةَ التي ليس بها أحد ؟

فقال : هذه كتبُ أهل الكوفة إليََّّ, ولا أراهم إلاّ قاتلي .

وأوْلى بالحسين عليه السلام أنْ يعلمَ ما يجري في الغيب من خلال إخبار جدّه المرسَل ، لأنّه من أعلام الإمامة التي زانها.

حديث كربلاء.. أحزانُها وتربتُها :

واسم كربلاء نفسه ، الذي لم يذكر في تراث العرب القديم ، وإنّما جاء على لسان الغيب ، وسمعه العربُ أوّلَ مرّة في حديث النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم ، في ما رواه سعيد بن جهمان ، قال : [233] إنّ جبرئيل أتى النبيَّ صلّى الله عليه واَله وسلّم بترابٍ من تربة القرية التي يُقتلُ فيها الحسينُ , وقيل : اسمها كربلاء !

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص150 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فقال رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم : كرب وبلاء(137)

فلابُدّ أنْ يكون هذا الاسمُ موضوعاً على تلك القرية ، لكن تداولها بدأ منذ هذا الحديث ، وأمّا استيحاء الكرب و البلاء منه ، فلم يؤثر إلاّ من هذا النصّ ، بالرغم من إيحاء حروف الكلمة ، ودلالتها التصوّرية التي لا يمكن إنكارها .

وعليٌّ عليه السلام أيضاً سأل عن هذا الاسم واستوحى منه نفس الوحي :

[278] قال الراوي : رجعنا مَعَ عليٍّ من صِفّين ، فانتهينا إلى موضعٍ ، فقال : ما يُسَمّى هذا الموضع ? قلنا : كربلاء! قال :كرب وبلاء, ثمّ قَعَدَ على رابِيةٍ وقال : يُقتلُ هاهنا قومٌ أفضلُ شهداء على ظهر الأرض ، لا يكون شهداءَ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم .

والحسينُ نفسُه ، حين نزلَ كربلاء ، تساءَلَ : [275] ما اسمُ هذه الأرض ؟

قالوا : كربلاء! قال عليه السلام : كرب وبلاء .

وبعد حديث الغيب كان إحضار عيّنةٍ من تُربة كربلاء , التي تكرّر الحديث عنها ، دعماً من الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم ، لكلّ ذلك الحديث بمصداقٍ ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(137)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور( 7 / 134 ) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص151 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ونموذج ، من تُربتها ، لتكونَ دليلاً عينيّاً من دلائل النبوّة ومعجزاتها [213] ففي حديث عليّ : أنّ جبرئيل قال للنّبيِّ : هلْ أُشمّك من تُربته ؟ فمدّ يده فقبض قبضةً من تُرابٍ ، فأعطانيها

وفي حديث أنس : [217] فجاءه بسهلةٍ ، أو تُرابٍ أحمر ، فأخذتْه أُمّ سلمة فجعلتْه في ثوبها .

وفي حديث أبي أُمامة : [219] فخرجَ على أصحابه وهم جلوس . . . قال : هذه تُربته , فأراهم إيّاها(138)

ولأُمّ سلمة - أُمّ المؤمنين - شأنٌ أكبرُ مع هذه التربة ، فقد روتْ حديثه بشيءٍ من التفصيل : [221 و222]..فاستيقظَ وفي يده تُربةٌ حمراءُ وقال : أخبرني جبرئيلُ : أنّ ابني هذا الحسينُ يُقتلُ بأرض العراق , فهذه تُربتها, أهلُ هذه المدرة يقتلونه.

بل زادها رسولُ الله صلّى الله عليه واَله وسلّم شرفاً بأنْ استودعها تلك التربةَ ، وكانتْ تحتفظُ بها ، في ما روته ، قالت :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(138)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 134 ).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص152 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[223] كان الحسن والحسين يلعبان بين يدي النبيّ صلّى الله عليه وآَله وسلّم في بيتي ، فنزل جبرئيل فقال : يا محمّد ، إنّ أُمّتك تقتلُ ابنك هذا من بعدك, وأومأ بيده إلى الحسين . فبكى رسولُ الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، وضمّه إلى صدره ، ثمّ قال : وديعةٌ عندكِ هذه التُربة , فشمّها رسولُ الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، وقال : وَيْحَ كربٍ وبلاء .

وقال : يا أُمّ سلمة إذا تحوّلتْ هذه التُربة دماً فاعلمي أنّ ابني قد قُتلَ . فجعلتْها أُمّ سلمة في قارورة ، ثمّ جعلتْ تنظرُ إليها كلّ يومٍ وتقولُ : إنّ يوماً تحوّلين دماً ليوم عظيم (139)

وهذه التفاصيل اختصّتْ بها أُمّ سلمة من بين زوجات النبيّ . أمّا حديثُ التُربة فقد رواه غيرها من النساء أيضاً :

فعائشة قالت : [228] فأشار له جبرئيل إلى الطفّ بالعراق ، وأخذ تربةً حمراءَ ، فأراه إيّاها فقال : هذه تربةُ مصرعه .

وزينب بنت جحش روتْ : [230] فأراني تربةً حمراءَ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(139)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 134) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص153 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأُمّ الفضل - مرضعةُ الحسين - قالتْ : [232] وأتاني بتربةٍ من تربته حمراءَ.

والعجيبُ في أحاديثهنّ ، كلّهنّ ، وأحاديث مِن غيرهنّ ، أنّها تحتوي على جامع مشترك هو الحُمرة لون الدم ، إلاّ أنّ حديثأم سلمة احتوى على تحوّل التربة إلى دَمٍ في يوم عاشوراء .

فما هذه الأسرارُ التي تحتويها هذه الأخبار ؟

وما سرُّ هذه التُربة التي : تُفيضُ دمعة الناظر إليها , وتتحوّلُ إلى دمٍ , ولها رائحة خاصّة , وكان طيبُها دليلاً عليها لمن يهواها :

[346] فلمّا أُجريَ الماءُ على قبر الحسين - في عصر المتوكّل العبّاسيّ - نضبَ بعد أربعين يوماً ، فجاء أعرابيّ من بني أسَدٍ ، فجعلَ يأخذُ قبضةً ويشّمُّها ، حتّى وقعَ على قبر الحسين وبكاه ، وقال : بأبي وأُمّي ما كان أطيبَك ، وأطيبَ تربتك ميّتاً ، ثمّ بكى وأنشأ يقول:

أرادُوا ليُخفوا قبره عن وليّه(140) * فطِيبُ ترابِ القبر دلَ على القبرِ(141)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(140)في المختصر : عن عدوّه ، فليلاحظ .

(141)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 155 )

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص154 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وتُوحي الكرب ، والدمّ ، والقتل ، والبلاء !

وهل يمكن الاطّلاعُ على تلك الأسرار إلاّ من خلال أنباء الغيب التي تُوحيها السماءُ على سيّد الأنبياء ؟

وإنّ من أعظم دلائل النبوّة والإمامة ، تحققُ تلك التنبؤات كلّها .

ولاتزالُ تُربةُ كربلاء ذاتها ، تتحوّلُ يوم عاشوراء إلى دَمٍ قانٍ .

ولايزال الموالون للحسين يعرفونها من رائحتها .

ولازال ترابُ كربلاء ، يُقدَسُ ، ويتقربُ إلى الله بالسجود عليه لطهارته وشرفه عند الله ، ويُتبرّكُ به و يُستشفى به ، لأن دم الحسين اُريق عليه ، في سبيل الله .

ولازالتْ أرضُ كربلاء توحي المآسيَ والكربَ والبلاء ، وتجري عليها المصائبُ و الاَلامُ ، وتجري فيها أنهارُ الدماء لأنّها كرب وبلاء .

29 - أصْحابٌ أوفياء

صمّم الإمام الحُسينُ عليه السلام على الخروج إلى العراق ، ولم تثنِه العراقيلُ التي كانتْ على طول طريقه ، ولم تثبّطه الاحتمالاتُ ، بل ولا ما كان واضحاً في المنظور السياسيّ- ذلك اليوم -من شدّة بطش الحكومة الأُمويّة وعدم ارعوائها عن فعل كلّ مخالفة ، حتّى الإبادة , ولا غدر أهل الكوفة وتقاعسهم عن نصرته بل سار يَسوقه الواجب الإلهيّ المفروض عليه ، لكونه إماماً للأُمّة ، يجب عليه القيام تلبية ندائها ، لإتمام الحجّة الظاهرة .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص155 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والمصير الغيبيّ الذي كان يعلمه هو ، يعلمه كلّ من سمعَ جدّه النبيّ يتحدّث عن كربلاء ، أو شاهده ، وشاهدَ أباه عليّاً ، يشمّان تربتها ويتناولانها ، ويتعاطيانها ، ويستودعانها , كان هذا المصيرُ يقودُ الإمامَ الحسين عليه السلام .بكلّ ثقة واطمئنان ونفس راضية مرضيّة .

وأمّا من كان مع الحسين ، في مسيره:

فقد كان عليه السلام يصطحبُ معه جَيْشاً يُشيرُ إليه ، ويستعرضُهُ ، كلّما سُئِلَ عنه ? ألا وهي أكداس الرسائل وكتب الدعوة الموجّهة إليه من الكوفة ، ممّن كان يعبّرُ عن رأي عامّة الناس ، من الرؤساء والأعيان .

إنّه عليه السلام كان يعدُّ تلك الأعداد من الكتب والرسائل جيشاً , يستحثّه المسير ، ويُصاحِبُه ، وكانَ كلّما عرضه على المتسائلين والمتشائمين ، بل الناصحين ، أُفْحِمُوا ، ولم يَملكوا جواباً !

وليس الاستنادُ إلى هذا الكمّ الهائل من عهود الناس - وفيهم أصحابُ الزعامة ، والكلمة المسموعة - بأهونَ من الاعتماد على أمثالهم من الأشخاص المجنّدين الحاضرين معه ، لو كانوا! فإنّ احتمالات الخَيانة والتخاذل في الأشخاص ، مثلها في أصحاب الرسائل والعهود ، إنْ لم تكن أقوى وأسرع!؟

وغريب أمرُ أُولئك الّذين ينظرُون إلى الموقف من زاوية المظاهر الحاضِرة ، ويحذفون من حساباتهم الأُمور غير المنظورة ، ويُريدون أن يُحاسِبوا حركة الإمام وخروجه ، على أساس أنّه إمامٌ عالم بالمصير ، بل لابُدّ أن يعرف كلّ شيءٍ من خلال الغيب , فكيف يُقدم على ما أقدم وهو عالم بكلّ ما يصير ؟

والغرابةُ في أنّ الإمام الحسين عليه السلام لو عَمِلَ طبقاً لما يعلمه من الغيب ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص156 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لحاسبه كلّ مَنْ يسمع بالأخبار ويقرأ التاريخَ ، أنّه تركَ دعوةَ الأمّة المتظاهرة بالولاء له ، من خلال آلاف الكتب والعهود الواصلة إليه بواسطة أُمناء القوم ورؤسائهم , واستند إلى احتمالات الخيانة والتخاذل ، التي لم تظهرْ بوادرُها إلاّ بالتخمين ، حَسَبَ ماضي هذه الجماعة وأخلاقهم . واعتماداً على الغيب الذي لم يؤمنْ به كثيرٌ من الناس في عصره ومن بعده ، ولم يسلّمه له غير مجموعة من شيعته!؟

فلو أطاعَ الإمام الحسينُ عليه السلام اُولئك الناصحين له بعدم الخروج ، لكان مطيعاً لمن لم تجبْ عليه طاعتُهم ، وتاركاً لنجدة من تجبُ عليه نجدتُهم كما أنّ طاعة أُولئك القلّة من الناصحين لم تكنْ بأجدرَ من طاعة الآَلاف من عامّة الشعب ، الّذين قدّموا له الدعوةَ ، وبإلحاح ، وقدّموا له الطاعة والولاء!

وقبل هذا ، وبعده : فإنّ الواجبَ الإلهيّ ، يحدُوه ، ويرسمُ له الخططَ ، للقيام بأمر الأُمّة ، فإذا تمّت الحجّةُ بوجود الناصر ، فهذا هو الدافع الأوّل والأساسيّ للإمام على الإقدام ، دون الإحجام على أساس الاحتمالات السياسية والتوقّعات الظاهرية ، وإنّما استند إليها في كلماته وتصريحاته لإبلاغ الحجّة ، وإفحام الخصوم ، وتوضيح المحّجة لكلّ جاهل ومظلوم(142)

وأمّا ظاهرياً: فقد كان في قلّةٍ من الناس , وهذا يوجبُ القلق ، في الوجه الذي سار فيه الإمام

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(142)وقد فصّلنا الحديث عن علم الأئمة بالغيب والاعتراض على إقدامهم بأنّه إلقاء إلى التهلكة ، في مقال مفصّل طبع في تراثنا العدد 37 .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص157 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[262 و265] قال زُهَيْر بن شدّاد الأسديّ - من أهل الثعلبيّة التي مرّ بها الحسين عليه السلام في طريقه إلى الشهادة - : أيْ ابن بنت رسول الله ، إنّي أراكَ في قلّةٍ من الناس ، إنّي أخافُ عليك , فأشارَ بسوطٍ في يده - هكذا - فضربَ حقيبةً وراءَه ، فقال : إنّ هذه مملوءةٌ كتباً ، هذه كُتُبُ وجوه أهل المصر !.

وقد كان أصحابُ الحسين عليه السلام من القلّة بحيث قد عدّهم التاريخ كمّاً ، عدّاً بأسمائهم ، وقبائلهم ، وأعيانهم , فكان معه من بني هاشم عدّةٌ معروفةٌ ، كما في الحديث : [ ص204] بعثَ الحسينُ إلى المدينة ، فقدمَ عليه مَنْ

خفّ معه ، من بني عبد المطلّب، وهم تسعة عشر رجلاً، ونساءٌ وصبيانٌ من إخوانه، وبناته ونسائهم(143)

ويقول الحديث الآَخر عن الذين استشهدوا معه عليه السلام من الهاشميّين [284 ] قُتل مع الحسين ستّة عشر رجلاً من أهل بيته(144)

والحسينُ عليه السلام هو السابع عشر , والّذين خرجوا من المعركة أحياء هم اثنان فقط ، أحدهما : عليّ زين العابدين ، والآَخر : الحسنُ المثنّى ، اللذان ارتُثّا (145) في المعركة ، واُخذا مَعَ الأسْرى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(143)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 143 )

(144)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 148 ) .

(145)ارثُتّ: أي قاتل وجرح في المعركة ، فاُخرج منها وبه رَمَق .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص158 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأمّا العدد الإجماليّ لمجموع الّذين حضروا مع الإمام في كربلاء , فقد جاء في الحديث [ ص205] فخرجَ متوجّهاً إلى العراق في أهل بيته ، وستّين شيخاً من أهل الكوفة(146)

وجاء في بعض المصادر المتخصّصة ذكر من حَضَر مع الحسين في كربلاء وعددهم يتجاوز المائة بقليل .

أمّا الّذين قتلوا معه ، فقد أُحصوا بدقّة ، وسجّلتْ أسماؤهم في كتب

الأنساب والمقاتل (147) والمشهور أنّ مجموع من قُتل معه هم ( 72 ) شهيداً(148)

وأمّا نوعية أنصار الحسين ، كيْفاً:

فقد مثّلوا كلّ شرائح المجتمع البارزة ، ذلك اليوم ، بالإضافة إلى عِيْنة الأُمّة أهل البيت . ففيهم من صحابة الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم : أنس بن الحارث بن نبيه الأسدي ، الكوفي .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(146)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 143 ) .

(147)من ذلك كتاب تسميةُ من قُتِلَ مع الحسين عليه السلام من أهله وأولاده وشيعته للفُضَيْل بن الزُبَيْر بن درهم الأسدي الرسّان الكوفي ، من أصحاب الباقر عليه السلام . وقد حقّقتُه ونشرته في مجلّة تراثنا الفصليّة التي تصدر في قم ، ( العدد الثاني ) ( 1406 ) .

وقد حاولتُ إعادة النظر فيه ، والاستدراك عليه ، والتقديم له بشكلٍ موسّع وأسأل الله التوفيق لنشره ثانيةً .

وهناك كتب متخصّصة لذكر أنصار الإمام الحسين الّذين كانوا معه في كربلاء ، من أشهرها إبصار العين في أنصار الحسين ,للشيخ محمّد السماوي .

(148)أُسد الغابة ، لابن الأثير ( 2 / 22 ) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص159 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهو الذي روى عن رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، قوله :[283] إنّ ابني هذا - يعني الحسين - يقتلُ بأرض يقالُ لها :كربلاء ,فمن شَهِدَ ذلك منكم فلينصره

قالوا : فخرج أنَسُ بن الحارث إلى كربلاء ، وقتلَ بها مع الحسين .

لكنّ حديث النبي وإخباره عن مقتل ابنه في كربلاء ، لم ينحصر سماعه بهذا

الصحابيّ العظيم . فأينَ كان سائر الصحابة الّذين عاصروا معركة كربلاء ؟

ولماذا لم يحضروا ، ولم ينصروا ؟

إنّ وجود العدّة القليلة من الصحابة الكرام في معركة كربلاء كافٍ لتمثيل جيل الصحابة الّذين كانتْ لهم عند الناس حرمةٌ وكرامةٌ بصحبة رسول الله ، وقد تمّتْ بوجودهم الحجّةُ ، إذْ يمثّلون الاستمرار العينيّ لوجود سُنّة الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم وحديثه وأمره ، في جانب الحسين عليه السلام.

وكان مع الحسين من أصحاب الإمام عليّ أمير المؤمنين عليه السلام : عمّار ابن أبي سلامة بن عبد الله الهمْداني ، الدالاني ، وغيره ، ممّن شاهدوا عليّاً وهو يُواسي الحسين في هذه الأرض بنداءاته المدوّية في فَضائه : صبراً أبا عبد الله ! وكانوا يمثّلون بحضورهم وجود عليّ عليه السلام وصرخاته وتشجيعاته للحسين وأصحابه .

وقد اشترك في معركة كربلاء إلى جانب الحسين عليه السلام أُناسٌ كانوا قبل قليل من أعدائه ، كالحرّ بن يزيد الرياحي .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص160 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وكان فيهم ممّن يكنّ أبلغ الحقد والعداء للإمام ، ومن المحكّمة الخوارج ، فانحازوا إلى الإمام لمّا سمعوا منه الحقّ ، وشاهدوا ما عليه من المظلومية ، وما كان عليه أعداؤه من الباطل والقساوة والتجاوز .

وحتّىكان في جيش الحسين عليه السلام ، ذي العدد الضئيل ، جنودٌ مجهولون ، لم تحرِّ كهم إلاّ أنْباء كربلاء ، التي بلغتْهم ، فبلغتْ إلى عقولهم ، وبلغتْ بهم قمم الشهادة ، فالخلود .

[269] قال العربان بن الهيثم :كان أبي يَتَبدى (149) فينزل قريباً من الموضع الذي كان فيه معركة الحسين ، فكنّا لا نبدو إلاّ وجدنا رجلاً من بني أسَدٍ هناك ، فقال له أبي : أراك ملازماً هذا المكان ؟

قال : بلغني أنَّ حُسَيْناً يُقتلُ هاهنا ، فأنا أخرج إلى هذا المكان ، لعلّي أُصادفه فأُقْتَلَ معه قال الراوي : فلّما قُتِلَ الحسين ، قال أبي: انطلقوا ننظر , هل الأسديُّ في مَنْ قُتِلَ ? فأتينا المعركةَ , وطوّفنا ، فإذا الأسديُّ مقتولٌ(150)

ولئنْ خان الجيشُ الكوفيّ بعهوده ، واستهترَ برسائله وكتبه ووعوده ، فإنّ أصحابَ الحسين عليه السلام - على قلّة العدد - ضربوا أروع الأمثلة في الوفاء ، والفداء ، وكانوا أكبرَ من جيش الكوفة في الشجاعة والبطولة والإقدام ، وقد مجّد الإمام الحسين عليه السلام بموقفهم العظيم في كلماته وخطبه في يوم عاشوراء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(149)أي يخرج إلى البادية .

(150)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 145) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص161 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أمّا هُمْ ، فكانوا يقفون ذلك الموقف عن بصائر نافذة ، وعن خبرة وعلم اليقين بالمصير ، ولقد أصبحَ إيثارهم بأرواحهم لسيّدهم الإمام الحسين عليه السلام عينَ اليقين ، للتاريخ ، ومضرب الأمثال للأجيال .

ومثالٌ واحدٌ ذكره ابن عساكر عن محمّد بن بشير الحضرميّ الذي لازمَ الحسينَ وكان معه في كربلاء : [200] إذْ جاءه نبأُ ابنه أنّه اُسِرَ بثغر الريّ ، فقال : عند الله أحتسبُه ونفسي ، ما كنتُ أُحبُّ أن يُؤسَرَ ، ولا أنْ أبقى بعده .

فسمع الحسينُ كلامه ، فقال له : رحمك الله ، وأنت في حلٍّ من بيعتي ، فاعملْ في فكاك ابْنِك !قال : أكَلَتْني السباعُ حَيّاً إنْ فارقتُكَ !

فقال له الحسين : فأعْطِ ابنك هذه الأثواب البُرود ، يستعِنْ بها في فداء أخيه . فأعطاه خمسة أثواب ، قيمتها ألف دينار(151)

إنّ الكلمة لتقصُر عن التعبير في وصف موقف هؤلاء ، كما أنّ الذهن ليعجز عن تصوير ما في قلوبهم من الودّ والإخلاص لإمامهم . إلاّ بتكرار عباراتهم نفسها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(151)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 129 - 130 ) ولقد تحدّثنا عن المواقف الأُخرى للشهداء ، تلك المليئة بالوفاء والإيثار في مقال بعنوان : شهداء حقّاً , نشر في مجلة ذكريات المعصومين ، الكربلائيّة عام 1385 هجريّة ,عدد محرم .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص162 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وبهذه النفوس الكبيرة ، والعقول البالغة الرشيدة ، والقلوب المليئة بالولاء ، والمفعمة بالإخلاص ، وعلم اليقين بالموقف والمصير ، وبالشجاعة والجرأة والبطولة النادرة والثبات على الطريق ، دخل الحسين عليه السلام معركته الفاصِلة في كربلاء .

30- يَوْمُ عاشوراء

[ص207] ولمّا خرج الحسين ُ، وبلغ يزيد خروجه كتبَ إلى عُبيد الله بن زياد عامله على العراق يأمره بمحاربته وحمله إليه إنْ ظفرَ به , فوجّه اللعينُ عُبيد الله الجيش إلى الحسين عليه السلام مع عمر بن سعد .

وعدل الحسينُ إلى كربلاء، فلقيه عمر هناك ، فاقتتلوا ، فقُتلَ الحسينُ رضوانُ الله عليه ورحمته وبركاته ، ولعنةُ الله على قاتليه .

وكان قتلهُ في العاشر من المحرّم سنة إحدى وستّين ، يوم عاشوراء(152)

وهو يوم في تاريخ المسلمين عظيمٌ، وهو على آل الرسول أليمٌ .

أمّا عظمتهُ ، فهي من أجل اقترانه بالحسين عليه السلام ، ذلك الإمام العظيم

الذي مثّل الرسول في شخصه ، لكونه سبطه الوحيد ذلك اليوم ، ولكونه كبير أهل بيته ، وخامس أهل الكساء المطهَرين من عترته ، والذي مثّل الرسالة في علمها وسموّها وخلودها .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(152)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 145 ) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص163 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فكانتْ معركةُ عاشوراء معركةَ الإيمان الذي تمثّل في الحسين عليه السلام ، والكفر الذي حاربه ، ومعركة الحقّ الذي تجسّد في الحسين عليه السلام ، والباطل الذي قاومه ، ويعني ذلك أنّه قد تكرّرت في هذا اليوم معاركُ الأنبياء ومشاهد الصالحين ، عَبْرَ التاريخ ، وبخاصّة مغازي النبيّ محمّد صلّى الله عليه واَله وسلّم في بدرٍ وأُحُد والأحزاب وغيرها ، ومشاهد عليّ عليه السلام في الجمل وصفّين والنهروان .

فكلّ الأنبياء والأئمّة والأولياء والصالحين ، والشهداء والمجاهدين ، يشتركون بأهدافهم وآمالهم وبدمائهم ، وتشخَصُ أعيُنهم على نتائج المعركة في عاشوراء .

وكلّ جهود الكفر والنفاق والفجور والفسق والرذيلة والخيانة ، والجهل والغرور والإلحاد ، تركّزتْ في جيش بني أُميّة ، تُحاول أنْ تنتقم لكلّ تاريخها الأسود ، من هذه الكوكبة التي تدور حول الحسين عليه السلام ,يريدون ليُطفئوا نور الله بسيوفهم وأسنّة رماحهم !

وأمّا ألَم عاشوراء ، الذي أقرحَ جفونَ أهل البيت ، وأسبلَ دموعَهم ، وأورثهم حُزْناً ، فهو من التوحُّش الذي أبداه الأعداء مع تلك الأبدان الطاهرة ومن الظلم الذي جرى على ممثّل الرسول والرسالة ، في وَضَح النهار المضيىء ، وأمامَ أعين الأُمّة المدّعية للإسلام ، من دون نكيرٍ ، بل استهلّوا فرحاً بالتهليل والتكبير

وما أفظع الظلم والقهر والألم بأنْ يُعتدى على ابن بنت رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، وعلى يد أُمّته ، من المسلمين كما يتظاهرون ، ومن العرب كما يزعمون ، وبأمر من الخلفاء والولاة كما يدّعون !

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص164 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إنّها الردّةُ الحقيقيّةُ ، لا عن الإسلام فحَسْبُ ، بلْ عن كلّ دين مزعومٍ ، وعن كلّ معنىً والتزام إنسانيّ ، أو قوميّ ، أو وطنيّ ، أو انتماء طائفيّ ، أو تبعيّة ، أو أيّ معنىً آخر معقول .

بل ليس ما جرى في يوم عاشوراء قابلاً للتفسير إلاّ على أساس الجاهليّة ، والعمى ، والغَباء ، والغرور ، والغطرسة ، والحماقة ، وحُبّ سفك الدم الطاهر ، وروح الاعتداء والانتقام ، والرذالة ، والخسّة ، والعناد للحقّ الظاهر ، وركوب الرأس ، والعنجهية ، وخُسران الدنيا والاَخرة .

فحقّاً كانت معركةُ عاشوراء ، معركة الفضيلة كلّها ضدّ الرَذيلة كلّها .

لكن لم ينته الظلم على آل محمّد بانتهاء عاشوراء ، بل امتدّ مدى التاريخ الظالم ، على يد حكّامه ، وعلى يد كُتّابه ، وعلى يد الأشرار الّذين ناصبوا آل محمّدٍ العداءَ والبغضَ والكراهيةَ ، وورثوا كلّ ذلك من أسلافهم ، الّذين صنعوا مأساة عاشوراء .

أليس من الظلم البيّن والخيانة المفضوحة أن يُفْصَلَ يوم عاشوراء ومجرياته التاريخيّة ، عن تاريخ الإمام الحسين عليه السلام؟

هذا الذي وقع - فعلاً - في كتاب تاريخ دمشق لابن عساكر، ونحنُ نربؤ بابن عساكر نفسه ، ذلك المؤرّخ الشهير ، أن يكون قد أغفلَ ذكر أحداث كربلاء ويوم عاشوراء بالذات ، عن تاريخه الكبير ، إذ لا يخفى عليه أنّ تاريخ الحسين عليه السلام إنّما يتركّز في عاشوراء ، ويعلم أنّ مثل ذلك العمل سيؤدّي إلى أنْ يُنتقدَ بلا ريب من قبل المؤرّخين ، والفضلاء ، والنبلاء .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 165 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لكنّ يداً آثمة امتدّتْ إلى هذا الكتاب العظيم ، لتفرّغه من ذكر أحداث يوم عاشوراء , إذْ ليس في ذكر تلك الأحداث ، إلاّ ما يَكشف عن مدى الألم والظلم والاعتداء الذي جرى على أهل البيت ، ممّا لا يمكن إنكارهُ ولا دفعُه ولا توجيهُه ولا تفسيرهُ إلاّ على أساس ما قُلنا

وتلك اليد الآَثمة الخائنة للعلم والتراث تريد أنْ تبرّىء ساحة بني أُميّة ، أسلافها ، من الجرائم المرتكبة يومذاك ، تلك الجرائم السوداء البشعة ، التي لم يغسل عارَها مرورُ الأيّام ,ولا ينمحي بحذف هذه الأحاديث من هذه النسخة أو تلك !

ولئن امتدّت يدُ الخيانة إلى تاريخ ابن عساكر ، فحذفتْ منه حوادثَ يوم عاشوراء ، فإنّ مؤرّخي الإسلام ، ومؤلّفي المسلمين ، قد أفعموا كتب التاريخ بذكر تلك الحوادث ، وجاء ذكر ذلك في العديد من الكتب التاريخيّة واُلّف لذلك ، خاصةً ، ما يُسمّى بكتب المقاتل

ولعلّ نسخةً من أصل تاريخ ابن عساكر توجدُ هناك أو هنا ، فيعرّفها مطّلعٌ ، أو يطّلع عليها منصِفٌ ، فيُخرجها إلى النور ، فيَبْهَتُ الخائنون الّذين ظلموا الإسلام ، وظلموا آل محمّد ، وظلموا التاريخ ، وظلموا التُراث ، وظلموا المسلمين بالتعتيم عليهم ، وكتمان ما جرى على أرض الواقع عنهم .

كما فعلوا مثل هذا الحذف والتحريف في كثير من كتب التُراث والحديث والدين ، فأبادوها بالدفن والإماثة بالماء ، والإحراق(153)

ولكن الحقائق ، وإنْ خالوها تخفى على الناس ، فإنّها لابُدّ وأن تُعْلَم مهما طال الزمن(154)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(153)إقرأ عن ذلك : تدوين السنة الشريفة للمؤلّف .

(154)مثل الطبقات الكبرى لابن سعد كاتب الواقدي ، فإنّه ذكر في ترجمة الإمام الحسين عليه السلام مقتله ، وما جرى عليه يوم عاشوراء بتفصيل وافٍ ، ولابدّ أنّ ابن عساكر قد أورده في تاريخه ، لأنه لا يغفل ما رواه ابن سعد في الطبقات ، فكيف يتجاوز هذا المقتل ? إلاّ أنّ ترجمة الإمام الحسين عليه السلام من كتاب الطبقات لابن سعد ، هي الاُخرى حاولَ إغفالَها الطابعون للطبقات ، فلم يُوردوها في المطبوع - لا الطبعة الاُوروبيّة ولا البيروتيّة ؟

لكنّ الله ادّخر منها نسخةً في مكتبة أحمد الثالث في إستانبول - وهي النسخة الأصل التي اعتمدها طابع النسخة الاُوروبية - وحقّقها أخيراً سماحة صديقنا المحقّق المرحوم السيّد عبد العزيز الطباطبائيّ في نشرة تراثنا في العدد (10) ونشر مستقلاً أيضاً . كما أورد محقّق كتاب ابن عساكركلّ ما يرتبط بالمقتل منه في هامش مطبوعته من تاريخ ابن عساكر ، ليتلافى النقص في ترجمة الإمام عليه السلام منه ، فجزاهما الله خيراً .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص166 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ونحن - لمّا التزمنا في كتابنا هذا بإيراد ما رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق في ترجمة الإمام الحسين عليه السلام , فقطْ - لا نحاولُ أنْ نخرجَ عن هذا الالتزام ، فلا نَستعرض حوادث السيرة ، اكتفاءً بما جاء في المقاتل القديمة والحديثة من ذكرها ، وأملاً في أنْ نوفّق لعرضها في كتاب مستقلّ بعون الله .

ولكنَا نورد في ما يلي ما رواه ابن عساكر من خُطب الإمام في يوم عاشوراء ،

وفيها من العِبَر ما هو كفاية للمعتبرين .

إتمام الحُجّة :

وإذا كان الحسين عليه السلام يمثّل الرُسُلَ والرسالات الإلهيّة ، فلابُدّ أنْ ينحوَ منحاهم في تبليغها ، فلقد كانوا يقضون أكثر أوقاتهم في إبلاغها ، وإتمام الحجّة على أقوامهم ، قبل أنْ ينزلوا معهم إلى المعارك الحاسمة, وهكذا فعل الحسين عليه السلام .

فإذا كان في المحلّلين التاريخيين مَنْ يعتذر لجيش الكوفة ويزعم : أنّ شعبَ الكوفة الذي حاربَ الحسين ، لم يكنْ يعرفه ، ولا يعرفُ عن أهدافه شيئاً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص167 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فإنّ ذلك ليس إلاّ تحريفاً للحقائق من وجهٍ آخر ، فكيفَ يدّعى على أُمّة أنّها لم تعرفْ سبط نبيّها بعد خمسين سنة ,فقط من وفاته ? فعليها العفاءُ من أُمَةٍ غبيّة! و بالخصوص أهل الكوفة الّذين عاشَ الحسين عليه السلام بينَهم طوال خمس سنين ، مدّة وجود أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام في الكوفة (36 - 40 ) فما أغباهم من أُمّةٍ لو نَسوا ابنَ إمامهم ? وجاءوا يقاتلوه بعد عشرين سنة فقط؟! إنّه عذرٌ أقبحُ من الجرم ، بمرّاتٍ !

ومع هذا ، فإنّ الإمام الحسين عليه السلام قطعَ أوتار هذا العُذْر ، فوقفَ كما وقفَ الأنبياء ، والدعاة إلى الله ، ناصحاً ، ومعرّفاً بنفسه ، ومتمّاً للحّجة عليهم .

قال الرواة : لمّا نزلَ عمر بن سعد بحسين ، وأيقنَ أنّهم قاتلوه ، قامَ الحسينُ عليه السلام في أصحابه خطيباً ، فحمدَ الله وأثنى عليه ، ثمّ قال :

[271] قد نزل بنا ما ترونَ من الأمر ، وإنّ الدنيا قد تغيّرتْ وتنكّرتْ وأدبرَ معروفُها ، واستمْرَتْ حتّى لم يبقَ منها إلاّ صبابةٌ كصبابة الإناء ، إلاّ خسيسُ عيشٍ (155) كالمرعى الوبيل, ألا ترونَ الحقَ لا يُعمل به ، والباطلَ لا يُتناهى عنه؟! ليرغبَ المؤمنُ في لقاء الله .

وإنّي لا أرى الموتَ إلاّ سعادةً ، والحياةَ مع الظالمين إلاّ بَرَماً(156)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(155) في مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور : حشيش عَلَس .

(156)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 146 ) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 168 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ففي أقصر عبارة ، وأوفاها في الدلالة ، جمعَ الإمامُ بينَ الإشارة إلى الماضي والتعريف بالحاضر . فذكر الحقَّ وترك الأمّة له ، والباطلَ والالتزام به . وذكّر بلقاء الله منتهى أمل المؤمنين ورغّبهم فيه . وذكرَ السعادة ، وجعل الحياة مع الظالمين ضدّها ,وأهمّ ما في الخطبة التذكيرُ بالتغيّر الحاصل في الدنيا ، و إدبار المعروف ? ألا يكفي السامعَ أنْ يتنبّهَ إلى الفرق بين دُنيا يوم عاشوراء ، عن الدنيا قبلها ، وما هو التغيّر الحاصل فيها ? الذي يؤكّد عليه الإمامُ كيْ يعتبرَ ؟

وأظنّ أنّ كلّ مفردةٍ من المفردات التي أوردها الإمامُ في خطبته هذه , تكفي لأنْ يعيَ السامعون ، ويبلغوا الرشدَ , إنْ لم تكنْ على القلوب أقفالُها

وفي غداة يوم عاشوراء ، خطب الإمامُ أصحابه: [272] فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثمّ قال : عبادَ الله ، اتّقوا الله ، وكونوا من الدنيا على حَذَرٍ ، فإنّ الدنيا لو بقيتْ لأحدٍ ، أو بقي عليها أحدٌ ، كانت الأنبياءُ أحقَ بالبقاء ، وأولى بالرضا ، وأرضى بالقضاء . غير أنّ الله تعالى خلقَ الدنيا للبلاء ، وخلق أهلها للفناء ، فجديدُها بالٍ ، ونعيمُها مضمحلّ ,وسرورُها مُكْفَهِرٌّ . والمنزلُ بُلْغةٌ ، والدارُ قلعةٌ ( وَتَزَوَدُواْ فَإِنَ خَيْرَ الزَادِ التَقْوَى وَاتَقُونِ يَا اُوْلِي الأَلْبابِ)

فهو عليه السلام ذكر الدنيا، وحذّر منها ، وذكر الأنبياء، ليدلّ على حضورهم في الأهداف معه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص169 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وذكر البلاء والفناء و البلى واضمحلال نعيمها واكفهرار سرورها لعلّ كلماته تبلغ مسامعَ أهل الكوفة فتندكّ بها ، فيرعوون عمّا هم عليه مقدمون

ولّما لم يجدْ منهم أُذناً صاغيةً ، وكان صباح عاشوراء , توجّه بهذا الدعاء :

[270] لمّا صبّحت الخيلُ الحسينَ بن عليّ ، رفع يديه فقال: اللّهُمَ ، أنتَ ثقتي في كلّ كَرْبٍ ، ورجائي في كلّ شدّةٍ ، وأنتَ لي في كلّ أمرٍ نَزَلَ بي ثقةٌ وعُدّة ، فكمْ من هَمّ يضعفُ فيه الفؤادُ ، وتقلّ فيه الحيلةُ ، ويخذل فيه الصديقُ ، ويشمتُ فيه العدو ، فأنزلتُه بك وشكوتُه إليك رغبةً فيه إليك عمّن سواك ، ففرّجْتَهُ ، وكشَفْتَهُ ، وكفيتَنيه . فأنتَ وليُّ كلّ نعمةٍ ، وصاحبُ كلّ حسنةٍ ، ومنتهى كلّ غايةٍ(157)

وفي هذا الدعاء توجيهٌ للسامعين إلى الله ، وإيحاءٌ بالثقة والرجاء والأمل والفرج والكشف والكفاية . وتحديد للعدوّ والصديق ، وتذكيرٌ بالنعمة والحسنة والغاية ، التي هي لقاءُ الله .

أمّا إذا لم ينفع التذكيرُ ، ولم ينجع النصحُ ، لقومٍ غفلوا عن الله ، وهم عُمي صُم بُكم ، لا يفقهون حديثاً ، ولا يعون شيئاً . فإنّ الإمام عليه السلام لمّا وَجَدَ نفسه مُحاطاً بالأعداء ، ووجدهم مصمّمين على تنفيذ الجريمة العُظمى لا يرعوون ، كاشفهم بكلّ الظواهر والبواطن ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(157)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 146 ) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص170 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأوضح لهم الواضحات ، لئلاّ يبقى عذرٌ لمعتذرٍ ، قال الرواة [273]: لما استكفَ الناس بالحسين ، ركب فرسه ، ثمّ استنصتَ الناسَ فأنصتوا له ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على النبي صلّى الله عليه واَله وسلّم ، فقال:تبّاً لكم ، أيّتُها الجماعةُ ، وترحاً . أحينَ استصرختمونا وَلِهينَ ، فأصرخناكم موجِفينَ ، شحذتُم علينا سيفاً كان في أيماننا ، وحششتُم علينا ناراً قدحناها على عدوّكم وعدوّنا ، فأصبحتُم إلْباً على أوليائكم ، ويَداً عليهم لأعدائكم ? بغير عدلٍ رأيتموه بثّوه فيكم ، ولا أمَلٍ أصبحَ لكم فيهم . ومن غير حَدَثٍ كان منّا ، ولا رأيٍ يُفَيّل فينا , فهلاّ - لكم الويلاتُ - إذْ كَرِهتمونا تركتمونا ، والسيفُ مشيمٌ ، والجأشُ طامنٌ ، والرأيُ لم يستخفّ ,ولكن استصرعتم إلينا طيرة الدنيا ، وتداعيتم إلينا كتداعي الفراش . قيحاً وحكةً وهلوعاً وذلّةً لطواغيت الأُمّة ، وشذّاذ الأحزاب، ونَبَذة الكتاب، وعُصبَة الاَثام، وبقيّة الشيطان، ومحرّفي الكلام ، ومطفي السنن ، وملحقي العهر بالنسب، وأسف المؤمنين، ومزاح المستهترين، الّذين جعلوا القُرآن عضين ( لَبِئْسَ مَا قَدَمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ)

فهؤلاء تعضدون ? وعنّا تتخاذلون ؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص171 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أجَلْ - والله - الخذلُ فيكم معروفٌ ، وشجتْ عليه عروقُكم ، واستأزرتْ عليه أُصولُكم وفروعُكم . فكنتمْ أخبثَ ثمرةِ شجرةٍ للناظر ، وأكلة للغاصب ألا فلعنةُ الله على الناكثين ( وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً)ألا ، وإنّ البَغيَ قد ركزَ بين السِلّةِ والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة (158) أبى الله ذلك ورسولهُ والمؤمنون ، وحجورٌ طابتْ ، وبطونٌ طهرتْ ، وأُنوفٌ حميّةٌ ، ونفوسٌ أبيّةٌ ، تُؤْثِرُ مصارعَ الكرام على ظآر اللئام .

ألا ، وإنّي زاحِفٌ بهذه الأُسْرة ، على قِلّة العدد ، وكثرة العدوّ ، وخذلة الناصر

فإنْ نَهْزِمْ فهزّامون قِدْماً * وإن نُهْزَم فغير مُهَزَمينا

وما إنْ طِبنا جُبْنٌ ولكــنْ * منايانا وطعــــمة آخرينا

ألا ، ثمّ لا تلبثون إلاّ ريثما يُركبُ فرس، حتّى تدار بكم دورَ الرحا ، ويُفلق بكم فلقَ المحور ، عهداً عهده النبي إلى أبي ( فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَ كُمْ ، ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَةً ثُمَ اقْضُواْ إِلَيَ وَلاَ تُنْظِرُونِ ) . [ سورة يونس :71]

(إِني تَوَكَلْتُ عَلَى اللهِ رَبي وَرَبكُم مَا مِن دَابَةٍ إِلاَ هُوَ آخِذ بِنَاصِيَتِهَا إِنَ رَبي عَلَى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(158)وفي نسخة : الدنيّة ,بدل: الذلّة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص172 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فإنْ كان في سامعي هذه الخطبة مَنْ عنده مثقالُ ذرّة من خيرٍ ، اكتسَبه بعرفٍ أو تعلّمه من درسٍ أو دينٍ ، أو كان له ضميرٌ ووجدانٌ ، أو من يرجع إلى عقلٍٍ ونظرٍ لنفسه ، لكانتْ له مُرشدةً إذْ أنّ الإمام عليه السلام قد استعملَ كلّ ذلك , فحرّك الأعراف القائمة على الوفاء بالعهد ، والإحسان بالمثل . وبصّرهم بالبؤس الذي غمرهم ، فهم في غمرته ساهون ، فلا عدلَ ولا أملَ في الحكم الذي تحت نيره يرزحون ، وهم لا يشعرون , وقرأ لهم الشعر الحماسيّ الذي تمثّل به أبطال العرب ، وسارت به الأمثال , وأوضح لهم مفاسد الموقف من خلال عروض البغيّ ابن البغيّة ، كيْ تتحرّك عندهم خيوط الوجدان ، ويتبصّروا مواقع أقدامهم ، وأهدافهم لَعلّهم يهتدون , كما عرّفهم - بأقوى نصٍّ - بنفسه وأصله وفصله ، والجماعة الّذين معه ، الّذين عبّر عنهم بهذه الأُسرة , تعبيراً عن اندماجهم وتكتّلهم ووحدتهم ، في المسير والمصير ، وأنّهم ليسوا مّمن يتوقّع نزولهم على رغبة الأعداء ، هيهات !

وذكر في خُطبته الأنبيَاء ، والنبيّ ، وأباه .

وقرأ لهم الآَيات مستشهداً بها . ألم يكن الجمع قد سمعوا آيات القرآن ? وهم الاَن يسمعون الإمام يتلوها عليهم ؟

فإن لم يقرأوا القرآن فكيف يدّعون الإسلام؟

وإن قرأوه ، فهل حجّة أتمّ عليهم من آياته ؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص173 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومن أعظم المواقف إثارةً ، وأتمّ الخُطَب حجّةً ، ما نقله الرواة ، قالوا : [274 - 275] إنّ الحسين بن عليّ لمّا أرهقه السلاحُ ، قال : ألا تقبلون منّي ما كان رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم يقبل من المشركين ؟

قالوا : وما كان رسول الله يقبل من المشركين ؟

قال : إذا جنحَ أحدُهم ، قبِلَ منه قالوا : لا .

قال : فدعوني أرجع قالوا : لا .

قال : فدعوني آتي التُركَ ، فأُقاتلهم حتّى أموت(159)

وبدلاً أن يتعاطفوا مع هذا العرض ، تمادوا في الغيّ . . فأخذَ له رجلٌ السلاحَ ، وقال له : أبشر بالنار فقال الحسينُ عليه السلام : بل - إن شاء الله - برحمةِ ربّي عزّ وجلّ، و شفاعة نبيّي صلّى الله عليه واَله وسلّم .

إنّها منتهى الضراوة والوحشية من جيش الكوفة ، ولكنّها منتهى الغاية في إتمام الحجّة عليهم من الإمام الحسين عليه السلام .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(159) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7/ 146)تحتوي الروايتان اللتان رواهما ابن عساكر على طلب الإمام المسير إلى يزيد,لكنّ الروايات الصحيحة خالية من ذلك ، بل روى عُقبة بن سَمعان قال: صاحبتُ الحسين من المدينة إلى مكّة ومن مكّة إلى كربلاء، ولم أُفارقه في حالٍ من الحالات ، فما سمعتُ منه أن يقول : دعوني آتي يزيد .فلاحظ تاريخ دمشق ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ( ص220 هامش ) مع أنّه لو أُضيفتْ تلك إلى الخيارات لكانتْ أربعةً بينما المتن ينصّ على أنّها ثلاثةٌ , ولاحظ الهامش الآَتي .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص174 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لقد كشفَ الإمامُ بعرض هذه الأُمور ، عن مدى قساوة هؤلاء ، كما كشفَ عن جهلهم بسُنّة الرسول ، التي يدّعون الانتماء إليها والدفاع عنها .

وحين رفضوا الخيارات التي عرضها بكلمة النفي (لا ) فإنّ الخيار الثالث - مهما كانت صيغته - فإنّه لم يقابَلْ إلاّ بالسلاح (160)

وهذا لا يصدرُ ممّن له وجدانٌ ، وضميرٌ ، وإنسانيةٌ ، فضلاً عن الّذين يدّعون الانتساب إلى الإسلام دين الرحمة والسلام والحقّ والعدل إنّ عروضَ الحسين عليه السلام هذه تكشف بجلاء عن مدى بُعْدِ الأُمّة المسلمة ، عن دين الإسلام ، ولمّا يمضِ على وفاة النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم ، نصفُ قرن ، خمسون عاماً فقطْ! وأنّ المسلمين لم يتعمّقوا في فهم التعاليم القيّمة التي جاء بها الإسلام ولم يتخلّوا تماماً من روح الجاهليّة الأُولى الكامنة في نفوسهم , فلا زالوا يتحرّّكون بها ، ولازالتْ أعراف الجاهليّة وعاداتها في حبّها لسفك الدماء، وهتك الأعراض ، وخيانة الوعود ، ونبذ العهود ، وخفور الجوار ، وهتك الذمار ، تملأ نفوسهم ، وتعشعش في عقولهم وأبان الإمام الحسين عليه السلام أنّ المسلمين - يومذاك - قد استولى عليهم الحكّام إلى حدّ الانقياد لهم في معصية الله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(160) لقد اختلف الرواة في صيغة الخيار الثالث الذي عبّر عنه الإمام الحسين عليه السلام فقال الأكثرون أنه عَرَضَ عليهم الرجوع إلى مدينة جدّه الرسول ، فقوبل بالسلاح ، ولكن الأُمويين افتأتوا صيغةً أخرى حاصلها أنْ يذهبَ إلى يزيد فيضع يده في يده ، أو يرى فيه رأيَه! لكن مقابلتهم لهذا الخيار بالسلاح دليل على عدم صدق هذا الافتيات ، إذْ معنى هذا الخيار هو التسليم والوقوع في أيديهم ، فما لهم لا يقبلونه منه ؟! ولم لا يقابلونه إلاّ بالسلاح ؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص175 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وإلى حدّ الذُلّ والخضوع والطاعة لمن بيده القوّة - حبّاً للحياة الدنيا - مهما كان الحاكم في شخصه ، وفعله ، وتصرّفه ، وقوله ، وفكره : خِسّةً وضعة, وشناعةً وقباحةً ، وفسادا ًوجوراً ، وجهلاً وبطلاناً !!

وفي كلّ هذا الردّ الكافي عَلى الرأي القائل بأنّ للأُمّة عِصْمةً في تعيين مصير الحكم و رأياّ في السياسة ، التي تتعلّق بدين الناس ودنياهم ، وتبنى عليها شؤون الأعراض ، والأموال ، والنفوس.

فقد كشف الإمامُ الحسين عليه السلام بخطاباته ، ومواقفه ، وبشهادته : أنّ الأُمّة المسلمة ، إذا كانت بعد مضيّ خمسين عاماً ، لم تعِ ، ولم تدركْ ما عرضَ عليها من الحقائق الواضحة ، وقد أوغلوا في الجهل إلى حدّ الإقدام على قتل سبط نبيّهم وأسر بناته وأهله , فإذا بلغَ وَعْيُ الأُمّة بعد خمسين سنة من حكم الخلفاء باسم الإسلام , إلى هذا الحدّ المتردّي ، من الجهل والتدنّي والانحطاط والوحشيّة ، الذي هو عين اللاوعي , بالرغم من تكاثف الأعوام وتكرّر المفاهيم التي جاء بها الإسلام بقرآنه وسُنّته ، وسيرة أصحابه ، أمامَ مرأى الأُمّة ومسامعها, فكيف بهذه الأُمّة ، قبل خمسين عاماً ، وفي السنة التي توفّي فيها نبيّهم صلّى الله عليه واَله وسلّم حين يُدّعى أنّها أجمعتْ - لو تمّ ثَمّ إجماعُ - على تنصيب خليفةٍ لأنفسهم ، يقومُ مقام الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم ، ذلك المقام الجليل المقدّس والمهمّ؟!

فإذا كانت الأُمّة في عصر الحسين عليه السلام ، لم تبلغْ الرشد - في عامها الخمسين - أنْ تعيَ من الخليفة والولاة ، يزيد وابن زياد ، ما يبعثها على رفضهما ، والابتعاد عن خطّتهما ، أو الانعزال والتبرّؤ من أعمالهما ، بل بلغَ بها الجهلُ والغيُّ أنْ أطاعتهما إلى حدّ الإقدام على قتل سيّد شباب أهل الجنّة ، سبط النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص176 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فكيف تكون راشدةً في اختيار خليفة للرسول ، فور وفاته قبل خمسين عاماً ، وهي في حال الصِغَر ؟!

إنّ إثبات هذه الحقيقة الدامغة ، كان واحداً من نتائج ما قام به الإمام الحسين عليه السلام من إتمام الحجّة ، يوم عاشوراء.

ومهما تكن آثار جهود الإمام في خُطبه ، إلاّ أنّ الأرض لا تخلو من حجّة ، وقد برز من بين تلك الجموع الكثيفة ، الغارقة في جهلها ، مَنْ وَعَى نداآت الحسين عليه السلام ، وتحرّك وجدانُه ، وأحسّ ضميرُه .

فقد جاء في نهاية حديث عرض الإمام عليه السلام للخيارات الثلاثة ومواجهة جيش الكوفة لها بالرفض والسلاح ، أنّه [ ص220] كان مع عمر قريبٌ من ثلاثين رجلاً من أهل الكوفة فقالوا : يعرض عليكم ابنُ بنت رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ثلاث خصال ، فلا تقبلون شيئاً منها ? فتحوّلوا مع الحسين ، فقاتلوا .

إنّ هؤلاء أبلغُ حجّةٍ ، علىكلّ القوم ، حيثُ دلّ تحولهم على أنّ كلام الحسين قد بلغ جيش الكوفة ، لكن رانَ على قلوبهم حبُّ الدنيا ، ونخوة الجاهليّة ، والعمى عن الحقّ ، فهم لا يهتدون .

أيَحِقُّ - بعد هذا كلّه- لهذه الجماعة ، أنْ تدّعي أنّها أُمّة محمّد رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، وأنّها آمنت بدينه الإسلام ، وتريد أنْ تدخل الجنّة ?

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص177 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقد أشار إلى هذه المفارقة بعضهم لمّا قال : [323] لو كنتُ في من قَتَلَ الحسين ، ثمّ أُدخلتُ الجنّة ، لاستحييتُ أنْ أنظر إلى وَجْهِ النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم .

ولم يصرّح ، لأنّ مثل هذا الفرض قد قيل في بيئةٍ لم يستبعد فيها لقاتل الحسين عليه السلام أن يدخلَ الجنّة , وهذا هو واحدٌ من أوجه التردّي في الضلال ، والتقهقر في الوعي ، والتخلّف في الشعور ، والبعد عن الإسلام فكيف يحتمل أن يدخلَ الجنّة قاتل الحسين - سيّد شبابها - ? بينما القؤأن الكريم يقول: ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَمُ خَالِداً فِيهَا ) كما يقول القرآن ?

العُريان:

وقبل أن نغادر كربلاء ، ونودعَ عاشوراء بآلامه وشجاه ، لابُدّ أن نلقي نظرة وداعٍ على تلك الجثث الطاهرة ، المضرّجة بدمائها ، في سبيل الإسلام ورسالته الكبرى , فإذا بِنا نواجه مشهداً فظيعاً ، جسمَ الحسين ، حبيبَ النبيّ ، ملقىً ، عارياً عن كلّ ما يورايه عن حرّ الشمس

ولقد جاء في الحديث أنّ الحسين نفسه كان قد توقّع من لؤم القوم أن يجرّدوه من ثيابه : [277] قال الحسين بن عليّ حين أحسَ بالقتل : ابغوني ثوباً لا يُرْغَبُ فيه ، أجعله تحتَ ثيابي ,لا أُجَرَد !!!

فأخذ ثوباً ، فخرقه ، فجعله تحت ثيابه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص178 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فلمّا قُتِلَ ، جُردَ صلوات الله عليه ورضوانه(161)

واحسرتاه ، على هذه الأُمّة إلى أيّ حدّ وصلت إليه من اللؤم ، والرذالة ، والخبث ، والنذالة ، وهم يدّعون الانتماء إلى أفضل دينٍ عرفتْه البشريّة بتعاليمه الإنسانية القيّمة.

أربعة آلاف في بداية القتال ، بلغوا اثني عشر ألفاً على بعض الأقوال ، وثلاثين ألفاً على أوسط الأقوال ، وأكثر على أقوال أُخر ، جنود الدولة الإسلامية ، ليس فيهم مَنْ يعرفُ من الإسلام أوّليّات واجباته الأخلاقيّة !!؟؟، حقّاً ، إنّ من المستنكَر أن يدّعي أحدهم الإسلام !

وقد ذُهلوا عن هذه الدعوى ، لمّا واجهتهم أُختُ الحسين ، بمثل هذا السؤال : أما فيكم مسلمٌ ? فلم يُجبْها أحد منهم.

وكيف يجرؤ على ادّعاء الإسلام مَنْ يُقدِمُ على هذا الإجرام ، الذي تأبى نفوس أحقر الناس وأفقرهم عن ارتكابه : تجريد ابن بنت رسول الله من ثوب ممزّق ، ملطّخ بالدم !!

ولماذا؟

إنّه أمر يقزّز الشعور ، ويجرح العاطفة ، ويستدرّ العَبْرة .

لكنّهم فعلوا كلّ ذلك ، وهم يزعمون أنّهم مسلمون عَرَب !!

أمّا الحسين عليه السلام فقد فَنَدَ بمواقفه وتضحياته مزاعمهم ، كما صرّح في خطاباته بانتفائهم عن كلّ ما ينتمون إليه حين صاح بهم :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(161)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 147) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص179 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ويْحَكُم ، يا شيعة آل أبي سفيان ! إنْ لم يكنْ لكم دينٌ ، وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم ، إن كنتم عَرَباً كما تزعمُون(161)

فقد نفى عليه السلام أن يكون لهم دين يعتقدون بأحكامه ، أو يكونوا مسلمين يخافون المعاد الذي يخافُه كلّ ملّي معتقد ، فيمتنع من ارتكاب الأصغر من تلك الجرائم النكراء البشعة .

ونفى أن يكونوا عرباً , لأن للعُروبة عند أهلها قوانين وسُنناً وآداباً وموازين ، أقلّها الشعورُ بالتحرّر والإباء والحميّة والمروءة والتأنف من ارتكاب المآثم الدنيئة والاعتداءات الحقيرة .

أمّا هؤلاء المسلمونَ !و العَرَبُ !! فهم الممسوخُون ، المغمُورون في الرذيلة إلى حدّ الغباء، والعمى ، لبعدهم عن الحقّ ، وانضوائهم تحت لواء الباطل .

وظلّت كربلاء ، ويوم عاشوراء ، وصمةَ عارٍٍ على جَبينِ التاريخ الإسلاميّ وعلى جبين أهل القرن الأوّل ، لا يمحوها الدهر ، ولا يغسلها الزمن .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(161) رواه أصحاب المقاتل ، انظر: الإيقاد: ص 129 ومقتل الحسين عليه السلام للمقرّم:( ص 275 ).