مقدمة الناشر |
1 الكلمة الكلمة ليست هي مجرد حروف ينطقها الإنسان، فتخرج من فمه لتؤدي معنى ما.. أو أنها توحي بمعنى وكفى.. بل الكلمة هي الأسيرة التي تأسرها بين شفتيك.. وتحرسها بأسنانك.. وتلوكها بلسانك.. إلا أنها إذا خرجت من أسرها (الفم) فإنك سوف تكون أسيراً لها ما حييت.. هذا يعني أنك قد تصبح - بكلك - أسير كلمة صغيرة تخرج من فيك مع الهواء الخارج منه وهي أول ما تعطي للسامع أو المتلقي للكلام مفتاح شخصيتك أنت.. فالعلم، والثقافة، ومستوى التفكير، ومدى الاستيعاب و .. و.. كلها تنكشف عند ما تطلق كلماتك في الهواء.. فتعبر عنك تعبيراً دقيقاً إلى شيء ما.. إلا من تدرّب الكذب والالتفاف والتلون حسب المجالس والظروف.. غير أنه - ومهما يكن خبيراً- فلا بد من أن ينكشف مثل هذا، كذلك بالكلام أو تقاسيم الوجه أو تفتح الوجنتين.. وقديماً قيل: (لسانك حصانك، إن صنته صانك، وإن تركته شانك) وربما أوصلك إلى القطع وإلى سيف الجلاد وحديثاً إلى حبال المشانق.. وفي الدار الآخرة يوردك الجحيم ويرديك فيها.. والعياذ بالله، وفي الحديث الشريف: (وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم)(1). فالكلمة يجب أن تكون مسؤولة.. ومسؤوليتها أن تؤدي رسالة إلى السامع والمتلقي.. وإلا فهي وبال على الاثنين معا.. وبعد ذلك نسأل.. هل يوجد من هو مسؤول.. وعالم بمسؤوليته كالإمام المعصوم(عليه السلام) فهو مسؤول عن أمة وليس عن كلمة.. وحقيقة وليست مجازاً أو اعتباراً.. وهذا الذي بين يديك هو عبارة عن كلمة مسؤولة من إمام هدى عظيم ومسؤول، ومعجزة بالحقيقة.. قاد الأمة في أول فتوته، في السابعة أو الثامنة من عمره الشريف.. ألا وهو الإمام التاسع من أئمة آل البيت الأطهار الأبرار(عليهم السلام) الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السلام) ذاك الفتى المبارك الذي جعله الله ليقود أمة كانت تملك نصف الدنيا المعروفة في ذاك العصر.. وهو ضامن ومسؤول أن يدخلها الجنة ونعيم الأبد لو سلمته زمام أمورها. إلا أنها - الأمة - أبت الجنان.. وسلمت القيادة إلى المأمون ومن بعده المعتصم العباسي.. الذي لم يعتصم بالله طرفة عين.. ولم يرع لرسول الله (صلى الله عليه وآله) رحم ولا قرابة.. فعليه من الله ما يستحق.. وما ربك بظلام للعبيد.. 2 جامع الكلمة أن تجمع شيئاً يعني أن تضمه وتؤلف فيما بين أجزائه، وتقرب بعضها إلى بعض وربما تضعها في المكان المناسب والائق لها.. فالذي يجمع الجواهر والدرر لابد أن يكون أو يصبح صائغاً للجواهر.. والذي يجمع المال وتوابعه لابد أن يصبح ثرياً وغنياً بأعين الناس.. والذي يجمع الورود والزهور لابد من أن يكون عاشقاً أو فناناً مبدعاً.. وهكذا.. ولكن لكلٍ من هذه الأنواع والأصناف لذّاتها التي يعرفها المختصون.. وكذلك لها منغصاتها.. من تعب ونصب وشوك ولسع.. كما قيل قديماً: (من يجني العسل.. فلابد من أن يتحمل لسع النحل). أما الذي يجمع الكلام.. يؤلف (موسوعة الكلمة) فلابد من أن يكون جامعاً للكثير من أطراف العلم، والأدب، واللغة، والتاريخ، والفقه، والتفسير و.. وإلا فإنه لن يستطيع أن يجمع هذه الكلمات المباركة وينسقها هذا التنسيق البديع.. وجامع الكلمة يجب أن يكون متكلماً.. وخطيباً بارعاً، وأديباً لامعاً، وأجمل إن كان شاعراً ثائراً على رواسب التخلف والظلم والعنجهية الجاهلية.. وكل هذا - وأكثر - وفّره الباري عزوجل بذاك العالم الفذ.. والأديب الكبير سماحة الإمام الشهيد حسن الشيرازي (رحمه الله) وهو أرحم الراحمين. ذاك العلامة الكبير الذي قضى عمره الشريف كله في العلم ومباحثة العلماء وتعليم من يطلب العلم.. والجهاد متنقلاً بين العراق وسورية ولبنان.. وكذلك بعض البلدان الإفريقية والآسيوية الأخرى.. ولد الشهيد في جوار جده أمير المؤمنين (عليه السلام) في النجف الأشرف عام 1354 هـ والده المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد ميرزا مهدي الشيرازي (قدس الله روحه). كان الوكيل الأول لأخيه سماحة المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي (دام ظله) أينما وكيفما تحرك.. ومحط ثقته المطلقة - وهو أهل للثقة (رحمه الله..) وقد تسأل: ماهي الصعوبات التي اعتراضت السيد حسن الشيرازي عندما جمع الكلمة؟ أقول لك: بأنه تعرض لكل أنواع الصعوبات والقهر والتعذيب النفسي والجسدي داخل السجن وخارجه.. في العراق وغير العراق.. إلى أن قضى نحبه برصاص الغدر البغيض على تراب لبنان بتاريخ: 16/6/1400 للهجرة المباركة. وهكذا كان سماحة السيد.. عملاقا عظيما.. وفكرا موسوعياً.. جمع (موسوعة الكلمة) وغيرها من المؤلفات الكثيرة.. فأجره وثوابه على مولاه لاشك أنه كبير.. ولهذا صار شهيداً.. فعليه الرحمة والرضوان.. وعلى قاتليه الخزى والعار ولعنة الديان.. 3 صاحب الكلمة الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السلام): غصن ندي من تلك الشجرة المباركة الطيبة.. التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.. فرع طيب من أصل طيب.. طابوا وطهروا من كل دنس ورجس وعيب حاشاهم العيب -فهم أصل الطيب في هذا الوجود الرحيب.. فرع رسالي من فروع المحمدية الخاتمة.. والتي شاءت الأقدار أن يكونوا اثنا عشر فرعاً مباركاً.. بتقدير وتعيين من خالق الأكوان، مغيّر الألوان مبدّل الأحوال، الله ذي الجلال. لأن الإمامة واجب من الرسالة.. باعتبار أن هذه الوصية واجبة عقلاً ونقلاً وذلك لأن فيها المصلحة كل المصلحة.. وتركها يعني المفسدة كل المفسدة للدين والدنيا.. الإمامة والإمام.. فالإمامة تابع من توابع النبوة وفروعها.. فكما يجب اتصاف النبي (عليه السلام) بجميع الكمالات والفضائل ويجب أن يكون في ذلك أفضل وأكمل من كل واحد من أهل زمانه.. لأنه قبيح من الحكيم من أن يقدم المفضول المحتاج إلى التكميل على الفاضل المكمّل عقلاً وسمعاً.. إذ يستحيل العبث.. والعبث قبيح .. والقبيح ليس مما يتعاطاه الحكيم.. فالإمامة رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا لشخص إنساني.. وكونها رئاسة في الدين ورئاسة في الدنيا، هذا يعني أن هذا الشخص هو.. 1: شخص معين معهود من رسول الله (صلى الله عليه وآله). 2: إنه لا يجوز أن يكون مستحق الرئاسة أكثر من واحد في عصر واحد بحق الأصالة.. وقلنا بحق الاصالة احترازاً عن النائب الذي يفوضه الإمام عموم الولاية.. فإن رياسته عامة (النائب) إلا أنها ليست بالأصالة وذلك لأن النائب المذكور لا رياسة له على إمامه.. وهذا ينطبق على تعريف النبوة ويزاد فيه بحق النيابة عن النبي على البشر(2). فالإمام.. أمر إلهي، وروح قدسي، ومقام عليّ، ونور جلي، وسرّ خفي، فهو ملكي الذات.. إلهي الصفات،، زائد الحسنات.. عالم بالمغيبات، خصّاً من رب العالمين ونصاً من الصادق الأمين.. وهذا كله لآل محمد (سلام الله عليهم)، لا يشاركهم فيه مشارك، لأنهم معدن التنزيل ومعنى التأويل.. والإمامة لطف إلهي واجب.. واللطف هو ما يقرب العـــبد إلى الطاعـــة ويبعـــده عن المعـــصية وهذا المعنى حاصل في الإمامة كما النبوة(3).. وكما يصف الإمام الثامن رضا الآل (عليهم السلام) فالوصف أجمل وأكمل.. عن القسم بن مسلم عن أخيه عبدالعزيز بن مسلم قال: كنا في أيام علي بن موسى الرضا (عليه السّلام) بمرو.. فاجتمعنا في جامعها في يوم جمعة في بدو قدومنا.. فأدار الناس أمر الإمامة(4).. وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها.. فدخلت على سيدي مولاي الرضا (عليه السلام) فأعلمته ما خاض الناس فيه.. فتبسم ثم قال: (يا عبدالعزيز جهل القوم وخدعوا عن دينهم، إن الله تبارك وتعالى لم يقبض نبيه(صلى الله عليه وآله) حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء.. بيّن فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام.. وجميع ما يحتاج إليه الملأ.. فقال عز وجل: (ما فرّطنا في الكتاب من شيء)(5). وأنزل في حجة الوداع وهو آخر عمره: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)(6). فأمر الإمامة من تمام الدين.. ولم يمض (صلى الله عليه وآله) حتى يبين لأمته معالم دينه، وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد الحق.. وأقام لهم علياً (عليه السلام) علماً وإماماً.. وما ترك شيئاً تحتاج إليه الأمة إلا بينه.. فمن زعم أن الله عزوجل لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب الله عزوجل.. ومن ردّ كتاب الله فهو كافر.. هل تعرفون قدر الإمامة.. ومحلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم.. إن الإمامة أجل قدراً.. وأعظم شأناً.. وأعلى مكاناً.. وأمنع جانباً.. وأبعد غوراً.. من أن يبلغها الناس بعقولهم.. أو ينالونها فيقيموها باختيارهم. إن الإمامة خصّ الله عزوجل بها إبراهيم الخليل (عليه السلام) بعد النبوة والخلة، مرتبة ثالثة وفضيلة شـــرّفه الله بها، فـــأشار بها ذكــــره فقال عــــزوجل: (إني جاعــلك للناس إمامـــا) فقال الخــــليل سروراً بها: (ومن ذريتي) قال الله وعز وجل: (لا ينال عهدي الظالمين)(7)، فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة، وصارت في الصفوة.. ثم أكرمه الله عزوجل بأن جعل ذريته أهل الصفوة والطهارة.. فقال تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلةً وكلاً جعلنا صالحين، وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين..)(8). فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض.. قرنا فقرنا.. حتى ورثها النبي (صلى الله عليه وآله) فقال الله عز وجل (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين)(9). فكانت له خاصة فقلدها النبي (صلى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) بأمرالله على رسم ما فرض الله.. فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان بقوله عـــزوجل: (وقال الذين أوتـــوا العلم والإيـــمان لقد لبثـــتم في كـــتاب الله إلى يـــوم البعث)(10)، فهي في ولد علي (عليه السلام) خاصة إلى يوم القيامة.. إذ لا نبي بعد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). فمن أين يختار هؤلاء الجهال؟ إن الإمامة.. منزلة الأنبياء وإرث الأوصياء.. إن الإمامة.. خلافة الله عزوجل وخلافة الرسول، ومقام أمير المؤمنين، وميراث الحسن والحسين.. إن الإمامة.. زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا.. وعز المؤمنين. إن الإمامة.. رأس الإسلام النامي، وفرعه السامي.. بالإمام.. تمام الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع النفور والأطراف.. الإمام.. يحل حلال الله، ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله، ويذبّ عن دين الله، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة. الإمام.. كالشمس الطالعة للعالم وهي في الأفق، بحيث لا تناله الأيدي والأبصار.. الإمام.. البدر المنير، والسراج الزاهر، والنور الساطع، والنجم الهادي في غياهب الدجى والبيداء القفار ولجج البحار.. الإمام.. الماء العذب على الظمّاء، والدال على الهدى، والمنجي من الردى.. الإمام .. النار على البقاع الحارة لمن اصطلى، والدليل على المسالك، من فارقة فهالك.. الإمام.. السحاب الماطر، والغيث الهاطل، والشمس المضيئة والأرض البسيطة، والعين الغزيرة والغدير والروضة.. الإمام.. الأمين الرفيق، والوالد الشفيق والاخ الشقيق ومفزع العباد في الداهية. الإمام.. أمين الله في أرضه، وحجته على عباده، وخليفته في بلاده، الداعي إلى الله والذاب عن حريم الله.. الإمام.. المطهر من الذنوب، المبّرأ من العيوب، مخصوص بالعلم، موسوم بالحلم، نظام الدين، وعز المسلمين، وغيظ المارقين، وبوار الكافرين.. الإمام.. واحد دهره، لا يدانيه أحد، ولا يعادله عدل، ولا يوجد له بديل، ولا له مثيل ولا نظير.. مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه ولا اكتساب، بل اختصاص من المتفضل الوهاب.. فمن ذا يبلغ معرفة الإمام؟ ويمكنه اختياره؟ هيهات.. هيهات..!!! ضلت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب، وحسرت العيون، وتصاغرت العظماء، وتحيرت الحكماء وتقاصرت الحلماء، وحصرت الخطباء، وجهلت الألباب، وكلّت الشعراء، وعجزت الأدباء، وعيّت البلغاء، عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله، فاقرت بالعجز والتقصير.. وكيف أو ينعت بكهنه، أو يفهم شيء من أمره، أو يوجد من يقوم مقامه، ويغني غناه؟ لا وكيف وأنى وهو بحيث النجم من أيدي المتناولين ووصف الواصفين.. فأين الاختيار من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟ وأين يوجد مثل هذا؟ ظنوا أن ذلك يوجد في غير آل رسول الله (صلى الله عليه وآله)!! كذبتهم - والله – أنفسهم ومنّتهم الباطل، فارتقوا مرتقاً صعباً وحصناً تزل عنه إلى الحضيض اقدامهم.. راموا إقامة الإمام بعقول حائرة باترة ناقصة وآراء مضلة فلم يزدادوا منه إلا بعداً.. قاتلهم الله أني يؤفكون.. لقد راموا صعباً، وقالوا إفكاً، وضلوا ضلالاً بعيداً.. ووقعوا في الحيرة إذ تركوا الإمام من غير بصيرة، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل.. وكانوا مستبصرين رغبوا عن اختيار رسوله إلى اختيارهم والقرآن يناديهم: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة.. سبحان الله وتعالى عما يشركون)(11). وقال عزوجل: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)(12). وقال عز-وجل: (مالكم كيف تحكمون، أم لكم كتاب فيه تدرسون، إن لكم فيه لما تخيرون، أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون، سلهم أيهم بذلك زعيم، أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين)(13). وقال عزوجل: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)(14)، و(وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون)(15)، و(قالوا سمعنا وهم لا يسمعون، إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون، ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون)(16). فكيف لهم باختيار الإمام؟ والإمام عالم لا يجهل، وراع لا ينكل، معدن القدس والطهارة، والنسك والزهادة، والعلم والعبادة، مخصوص بدعوة الرسول وهو نسل المطهرة البتول.. لامغمز فيه في نسب، ولا يدانية ذو حسب.. في البيت من قريش، والثروة من هاشم، والعترة من آل الرسول، والرضا من الله.. شرف الأشراف والفرع من عبد مناف.. نامي العلم كامل الحلم، مضطلع بالامامة، عالم بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر الله، ناصح لعباد الله حافظ لدين الله.. إن الأنبياء والأئمة يوفقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه مالا يؤتيه غيرهم.. فيكون علمهم فوق علم أهل زمانهم في قوله عزوجل: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يُهدى فمالكم كيف تحكمون)(17)، وقوله عزوجل: (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً)(18). وقوله عزوجل - في طالوت -: (ان الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليكم)(19)، وقال عزوجل لنبيه: (وكان فضل الله عليك عظيما)(20).. وقال عزوجل في الأئمة من أهل بيته وعترته: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما، فمنهم من آمن به و منهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيراً)(21). وإن العبد إذا اختاره الله لأمور عباده شرح صدره لذلك، وأودع قلبه ينابيع الحكمة، والهمهم العلم إلهاما.. فلم يعي بعده الجواب، ولا يحير فيه عن الصواب، وهو معصوم مؤيد موفق مسدد، قد أمن الخطايا والزلل والعثار.. فخصه الله بذلك ليكون حجته علي عباده، وشاهده على خلقه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.. فهل يقدرون على مثل هذا فيختاروه أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدموه تعدوا وبيت الله الحق.. ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون وفي كتاب الله: (فنبذوه وراء ظهورهم)(22). فذمهم الله ومقتهم أنفسهم فقال عزوجل: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين)(23). وقال عزوجل: (فتسعاً لهم وأضل أعمالهم)(24). وقال عزوجل: (كبرمقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار)(25). لذلك نعظم ونجل صاحب الرسالة الخاتمة، أعنى رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) من أن يكون ترك شأن وأمر هذه الأمة هملا دون أن يوصي ويبين من يقوم مقامه في أمته.. وكذلك نعظم ونجل المرسل - أعني به الله عزوجل - أن يؤخذ رسوله إلى هذه الكون وفي الرسالة نقصا أو خلالا أو أي مجال لأي متقول عن الرسالة.. لأنه قال: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتمت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)(26). فالرسالة كاملة والنعمة تامة والوصية بينة وواضحة والقيادة لها أهلها وليس كل من ادعى القيادة أو جعلوا منه قائداً فقد صار قائداً في الدين والدنيا.. وربما في الدنيا يصير.. أما في الدين فلا، لان القيادة الربانية يجب أن تكون بمستوى الرسالة والخلافة أو نيابة عن المرسل جل جلاله.. وهـــو المبدأ المعـــروف بالخــلافة الربانيـــة: (يا داود إنا جعــلناك خــليفة في الأرض فاحـــكم بين الناس)(27)، إذا داود خليفة وسليمان وموسى وهارون وبقية الأنبياء والرسل(عليهم السلام) هم خلفاء لله في هذه الأرض.. وربما في الكون.. والخليفة يجب أن يكون بمستوى المستخلف لا بمستوى المستخلف عليهم - وهذا بالمقياس البشري - بل معهم وفيهم ليكون حجة وأبلغ حجة عليهم.. فالخلافة الربانية - كما أوضحنا - مسألة إلهية بالتخصيص والتعيين من الله تعالى كما الرسالة تماما دون أية فروقات إلا بأسلوب الوحي والتلقي.. .. وهل هناك أسوأ حظا من أمة تستبدل الإمام علي (عليه السلام) بغيره؟ وهل هناك أخيب من سعي أمة تستبدل سيدة نساء العالمين بهند وأمثالها؟ وهل هناك أبشع من عمل أمة تستبدل سيدي شباب أهل الجنة بيزيد وابن زياد والحجاج وغيرهما..؟ لكن ولكن اللعنة على لكن.. ولزيادة الإيضاح ولتقريب المسألة إلى الأذهان بشكل عام وإلى الشباب المثقف بشكل خاص فلا بأس بأن نأخذ هذه الأمثلة ونقتطف هذه الكلمات لسماحة السيد الشهيد المؤلف رحمه الله.. فإنه يقول: والإمام: هو الذي يؤمر من قبل الله - بـ (الولاية التنفيذية) سواء كان الإمام رسولاً مثل إبراهيم الخليل (عليه السلام) الذي خاطبه الله تعالى بقوله: (إني جاعلك للناس إماما)(28). أو كان نبيا غير رسول مثل الألوف من الأنبياء الذين لم يصلنا حتى أسمائهم.. أولم يكن نبيا ولا رسول بل وصيا لنبي مثل آصف بن برخيا وصي سليمان بن داود(عليهم السلام).. ومثل يوشع بن نون وصي موسى بن عمران (عليهما السلام). والانبياء الأئمة كثيرون سجل القرآن الكريم بعضهم مثل إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب الذين قال عنهم: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا)(29)، والإمامة مثل الرسالة صلاحية يخولها الله كل من تنسجم مواصفاته مع (الولاية التنفيذية).. وقد ظهرت للناس آثار (الرسالة) وصلاحية (الإمامة) من الله حينما خلق الكون وضبطه بكل عوالمه وخلائقه الكثيرة المعقدة بإدارة شاملة محكمة لا تنفلت منها نبضة عصب ولا حبة مطر.. ولا حبة نسيم.. ولا أدنى من ذلك ولا أكبر.. وتظهر هذه الإدارة في حركات المجرات المخيفة.. وفي شبكات الري المنتشرة في كافة أنحاء ورقة الكرم (العنب).. وفي المهمات الحساسة التي تؤديها الخلية المجهولة في دماغك.. وفي التفاعلات الدقيقة التي تنجزها مليارات الأشعة الفاعلة في الكون. والناس عندما يجدون (الإلكترون) السالب يدور حول (الفوتون) الموجب دورة في الثانية.. يقولون: (الإلكترون السالب يدور حول الفوتون الموجب) ولكنهم يتساءلون: من الذي يدير هذه حول تلك..؟ وعندما يرون حبات المطر تتساقط هنا لا هناك.. يقولون: السيول تجتاح هذه المنطقة.. والمواشي تموت في تلك المنطقة على أثر الجفاف.. ولا يتساءلون.. من الذي اسقط المطر على هذه المنطقة وحرم منه تلك.. وعند ما يسمعون أن فجوات هوائية تحدث هنا بينما هناك يرتفع ضغط الهواء.. أو عندما يعرفون مياها جوفية هنا.. واطنان اليورانيوم هناك.. وحبات الألماس ترقد هنالك.. يكتفون بالاطلاع عليها والاستفادة منها فحسب.. ولا يحاولون التعرف على الجهاز الإداري الذي يؤدي هذه الأعمال.. ولإستيعاب الأسباب التي تنتهي بهذه التركيبات، تماما كالبدوي السائح الذي يدخل مدينة متحضرة بلا مترجم ولا دليل فيرى الشاشة الصغيرة هنا تتابع عرض مشاهدها.. وهناك هوائية جبارة جامدة تحت الشمس والمطر.. وهنالك آليات متحركة تتراكض في خطوط متشابكة من الفجر الى الفجر، وإلى جانبها غرفة تضج بأصوات آلات حديد تتحرك تلقائيا وتعج بالأسلاك متزاحمة متراكبة. وفوق البيوت أجسام كبيرة تسبح في الهواء وتزعق بلا انقطاع.. وعلى الجدران آلة صماء معلقة يأتي الناس إليها فيرون النقود في جيبها ويظلون يتكلمون ويضحكون لها وهي لا ترد عليهم فيذهب إلى نجمة كبيرة مرمية في وسط الشارع ليخطفها إلى كوخه فينقضه تيار الكهرباء.. ويحاول أن يمر الشارع فيصرخ به الرجال.. ويريد أن ينام على الرصيف فيقوده رجال الشرطة إلى موقف.. ويدخل المطعم ويختار طعاما يروق له منظره فلا يستطيع تناوله.. وتماما كالطفل الذي يجد أسلحة أبيه، فيحاول التعرف عليها والاستفادة منها في أغراضه الطفوليه فتنفجر بين يديه، فتدمره وتقضي على حياته.. لا بد أنك رايت في حياتك أو سمعت بمثل ذلك البدوي ومثل هذا الطفل.. بهذا الشكل يتعامل كبار علماء الطبيعيات مع الكون.. فيرون الأشياء كأنها مبعثرة وكأن كل شيء يتحرك ارتجاليا وبدافع ذاتي بلا هدف ولا وسيلة ولا خطة لذلك يجهدون أكثر مما ينبغي ويهدرون طاقات بشرية ومادية هائلة.. ثم يستفيدون أقل مما ينبغي.. ويأتي أدلاء الكون ومصادر الوحي فيقولون: إن الكون كله وحدة مترابطة مشدودة بأسباب ومسببات.. ومسيرة بإرادة شاملة محكمة.. فما من حبة المطر إلا ويأتي بها ملك ليضعها في موضعها المناسب.. وما من نطفة إلا ويفصل ملامحها ويخطط جغرافيتها وأعمالها ملك.. ولا تتحرك ريح ولا موج ولا نجم ولا سحاب إلا ويحركه ملك وفق خطة حكيمة.. ولا تنبض خاطرة في دماغك إلا بوحي ملك أو شيطان.. صحيح أن الله سبحانه يصمم جميع الأقدار، وأنه يستطيع أن يدير كل العوالم بلا جهاز إداري، ولكن شاء أن يديرها بجهاز إداري.. ففي بعض الحديث: (أبي الله أن يجري الأمور إلا بأسبابها).. كما إن الله قادر على أن يرزق جميع الناس من فوق رؤوسهم ومن تحت أقدامهم بلا سعي ولا حاجة أحد إلى أحد.. ولكنه شاء أن يرزق الناس بمساعــيهم، وأن يـــرزق بعـــضهم ببعـــض، (ورفعنا بعــــضهم فــــوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا)(30)، وكما أن الله قادر على أن يلهم كل واحد من الناس بمساعيهم شرائع دينه بلا واسطه، كما ألهم الحيوانات وظائفها بلا واسطة، فقال: (وأوحى ربك إلى النحل أن أتخذى من الجبال بيوتا ومن الجشر ومما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا)(31).. ولكنه شاء أن يعلمهم شرائعهم بواسطة الأنبياء والأوصياء والعلماء.. وكما أن الله قادر على أن ينزع خصائص الأرض من الناس ليعيشوا كالملائكة هوايتهم الهدى وشهوتهم العبادة.. ولكنه شاء أن يتعرضوا للتجربة حتى يبلغ كل مداه.. فقال: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين)(32). كما أن الله قادر على أن يخلق البشر من غير أبوين.. وأن يخلق الحيوان والنبات من غير اصل.. وأن يوجد جميع الأنواع ابتداء لا من شيء ولكنه شاء بحكمته البالغة التي لم يؤهلنا لا ستيعابها.. أن تكون سنة الخلق في سلسلات متوالدة. هكذا شاء الله أن يوكل الكائنات إلى جهاز إدارى هرمي.. وأن لا ينفذ شيء إلا بعلمه الدقيق وإرادته المباشرة.. إلا أن هذا الجهاز موكل بتنفيذ إرادة الله في خلقه.. فوظف مجموعات من الملائكة في هذا الجهاز اسماهم في القرآن بـ (المدبرات أمرا)(33). وجعل على كل قسم ملكا من أعظم ملائكته فوكل (رضوان) بالجنة ووكل (مالك) بجهنم.. ووكل (جبرائيل) بالرسالات والرسل وعقاب المتمردين عليها.. ووكل (إسرافيل) بنفخة الصور.. ووكل (ميكائيل) بالأرزاق.. ووكل ملكا عظيما اسمه (الروح) بالاقدار، ووكل (عزرائيل) بالأرواح ووكل ملكا بالرياح وملكا بالبحار، وملكا بالشمس، وملكا بالقمر، وملكا بالأرض، وملكا بكل سماء من السماوات.. وجعل لكل قسم من هذه الأقسام فروعا.. ووظف على كل فرع ملكا تتناسب مؤهلاته مع مهمته في تسلسل إداري دقيق.. ثم جعل فوق الملائكة الموكلين بالاقسام الرئيسية رجلا من البشر يمثل قمة الهرم.. وإذا أردنا التشبيه فمن الممكن تشبيه الرجل القمة برئيس مجلس الوزراء وأن نشبه الملائكة الموكلين بالأقسام بالوزراء.. وأن نشبه الفروع الممتدة من كل قسم بالمدير المتفرعة من كل وزارة.. والرجل القمة في جهاز الإدارة التنفيذية يطلق عليه لقب (الإمام) ويقال له: (صاحب الولاية) كما يقال له: صاحب العهد.. اقتباسا من قوله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما..)(34). وإلى جانب هذا الجهاز الإداري الشامل الدقيق الذي يتولى الجانب التكويني للكائنات، يوجد جهاز إداري شامل ودقيق آخر.. يتولى الجانب التشريعي للكائنات فيما أتاح لها الإدارة المستقله لإتمام التجربة.. وهذا الجهاز أيضا جهاز واسع له أقسام عديدة.. وعلى كل قسم ملك من أعظم ملائكة الله، ولكل قسم فروع عليها ملائكة تناسب إمكاناتهم مع مهامهم.. و تتوالى قواعده الهرمية ويكفي لمعرفة مدى سعة الجهاز أن نعلم.. 1: أن كل إنسان عليه ملكان يراقبانه ويسجلان تصرفاته حتى النفخة والنأمة أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله.. فيوظف به ملكان بالليل وآخران بالنهار.. 2: إن في قلب كل إنسان (لمتان) أي جماعتان.. جماعة من الملائكة تأمره بالخير وجماعة من الشياطين تأمره بالشر.. وهنا نقطة الاحتكاك الساخنة بين الملائكة والشياطين، وموقف الإنسان أشبه بموقف الحكيم.. فإذا مال نحو الشياطين ضعفت كتلة الملائكة، وإذا مال نحو الملائكة ضعفت كتلة الشياطين.. ومن هنا يجد الإنسان في داخله نازعة الخير ونازعة الشر.. 3: ان الله يوكل ملائكة عظام بالأنبياء والأوصياء وخيار عباده الصالحين لتسديدهم وتأييدهم.. كما يوكل بأنبيائه وأوصيائهم ملائكة يعلمونهم، ويخبرونهم عما يريدون الإطلاع عليه من غيب وفي حدود صلاحياتهم.. وبهذا يفسر قوله تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول)(35)، قوله تعالى: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء)(36). 4: إن كل نبي أو وصي يستخدم جماعات من البشر لتحمل أعباء التبليغ، وما قد يترتب عليه من احتكاك يؤدي إلى كفاح.. هذا الجهاز الواسع أيضا ركبه الله تركيبا هرميا.. ووكل بكل قسم من أقسامه ملكا من أعظم ملائكته، ثم جعل فوق الملائكة الموكلين بالأقسام الرئيسية رجلا من البشر يمثل قمة الهرم.. وهذا الرجل يكون نبيا أو وصي نبي منصوص من قبل الله.. وتشترط فيه مواصفات تبلغ درجة العصمة.. لأن الملائكة معصومون ولا يمكن أن يقود المعصومين غير معصوم..(37). وهذا التشبيه - كمالا يخفى - من أجل تقريب الفكرة إلى الأذهان وترسيخها أكثر.. العودة اليه عليه السلام وبعد هذا البحث في هذا المقام الجميل والجليل (الإمامة والإمام) لابد لنا من العودة إلى الإمام التاسع من أئمة المسلمين.. تلك الشجرة الطيبة المباركة.. التي كان أصلها الإمام علي أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء(عليهما السلام) وأبنائهما الأئمة الأطهار الأبرار المعصومين من كل خطأ.. المبرئين من كل عيب.. المشمولين باللطف والعناية الإلهية الخاصة.. ومقامهم عال علو الرسالة.. فأهل البيت(عليهم السلام) كلمة خالدة في فم الزمان.. وعنوان لامع في سماء المجد والخلود.. يرددها المسلمون بإجلال وتقديس، وتحوطها جوانحهم بالحب والوفاء.. وتهفوا إليهم قلوبهم بشوق وولاء.. ونقف أمامها الأجيال بالإعجاب والتعظيم. ومن هذه الدوحة المباركة.. وأولئك الأهل الكرام.. نتحدث عن الإمام التاسع من أئمة المسلمين.. الإمام محمد بن علي الرضا (عليهما السلام) المعروف بالجواد.. الموصوف بالجود والكرم.. وقل ما جاء الزمان بمثله وآله (عليهم السلام). النسب الشريف بعد هذه المقدمة هل نحن بحاجة إلى إطراء النسب الشريف للإمام..؟ أو هل نحن بحاجة للحديث عن هذه السلسلة الذهبية - كما سمي في التاريخ - والذي قال عنها أحدهم: (والله لو قرئت على ميت لأفاق).. فهل نحن بحاجة لذلك..؟ لا أظن ذلك.. فاذا كان الزكي من زكاة الناس، أو من زكى نفسه.. فما بالك بمن زكاه رسول الله(صلى الله عليه وآله) وزكاه رب العزة جلالة وطهره تطهيرا.. فهل بعد هذه التزكية..؟ هو الإمام محمد الجواد (عليه السلام). أبوه الإمام علي الرضا (عليه السلام) أكرم وأنعم به من أب.. وجده هو الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) ونعم الجد.. أمه (سبيكه) أو (درة) أو (سكينة) النوبية.. لأنها كانت جارية من وسط وادي النيل.. جنوب مصر(حاليا) وشمال السودان.. والمنطقة تعرف بالنوبة.. والنيل بالنيل النوبي.. ولذلك يقال: كمافي الكافي الشريف.. أنها من أهل مارية القبطية(38) زوج الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أم إبراهيم آخر ولده. وكانت جارية مبجلة مكرمة معظمة عند الإمام علي الرضا (عليه السلام) لذلك أطلق عليها اسم (خيزران) ومن هنا يقال لها أم ولد. الولادة الميمونة.. في ذاك البيت الذي ملؤه العزة والإباء.. والشوق للأبناء.. في بيت الإمام علي بن موسى الرضا(عليهما السلام) الذي انتظر هذا المولود المبارك خمس وخمسون سنة من عمره الشريف، كانت ولادة هذا النجم اللامع.. في مدينة الرسول المنورة عاصمة الإسلام الأولى.. برق نور محياه الساطع.. واختلف الرواة والمؤرخون في التوقيت والزمن. فمنهم من قال: إن ولادته (عليه السلام) كانت في ليلة الجمعة 17/ رمضان المبارك / 195 للهجرة المباركة. ومنهم من قال: بأن ولادته (عليه السلام) كانت في يوم الجمعة 10 أو 15/ من شهر أمير المؤمنين (عليه السلام) رجب المرجب من نفس العام 195 هـ والملاحظ أن الأختلاف بسيط حوالي شهرين فقط. تلقى الإمام الرضا (عليه السلام) وليده المبارك وهو يعلم ما شأنه ومكانته عند الله.. وعنده، فهو الخليفة والوصي وإمام الأمة من بعده.. فتلقاه بيديه المباركتين فأذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى وأعاذه بالمعوذتين من الشيطان اللعين الرجيم.. وعظمه بالصمدية الشريفة.. وراح ينظر إليه بحب وود وأخلاق الأنبياء.. وكأنه يقرأ الغيب ويقول: ماذا سيحل بك يا بني.. وما أعظم مهمتك.. فقد كان الإمام محمد الجواد (عليه السلام) نحيل الجسم، قوي العصب.. وأثر الوراثة من أمه (خيزران) واضح عليه.. لأنه كان أسمر شديد السمرة.. آدم. إلا أنه (عليه السلام) كان طلق المحيا.. باسم الثغر، نور النبوة والولاية يلمع بين عينيه، وسيماء الرسالة تنبىء عنه أنه من أولاد الأنبياء.. فما من أحد رآه إلا أجله وعظمه، كائنا من كان، لأن هيبته من الله عزوجل وليس من موقع سياسي أو اجتماعي أو غير ذلك.. فان العزيز من اعتز بالله فأعزه الله والجليل من كان جلاله من ذي الجلال والإكرام والفضل والإنعام تبارك الله.. وهكذا راح ينمو الإمام محمد الجواد (عليه السلام) وتحوطه رعايتان.. رعاية ربانية وفيوض رحمانية.. لأن الله سيوكل إليه دورا عما قريب وما زال حدث السن طري الزند.. وأي دور أعظم من قيادة الأمة الإسلامية كلها إلى النور فيكون إماما مفترض الطاعة.. ورعاية بشرية إمامية أبوية.. وهي رعاية الوالد العظيم الإمام علي بن موسى الرضا(عليهم السلام) وأكرم به وأنعم.. من أب ومعلم لهذا الفتى المبارك.. وفي ظل تلك الرعاية المكثفة درج الإمام الجواد (عليه السلام) فملائكة الرحمن تحفظه من كل سوء وترعاه من كل نائبة.. وأبوه الإمام الرضا (عليه السلام) يعلمه كل فضيله، ويلقنه كل علم يحتاجه.. أو تحتاجه الأمة الإسلامية.. ويؤدبه بآداب جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه.. وذلك لأنه من الأئمة المعصومين(عليهم السلام).. وهكذا حتى صار في الخامسة من عمره الشريف.. ودائع ورسائل توجيهية عندما بلغ الإمام الجواد (عليه السلام) الخامسة من عمره الشريف.. استدعى الحاكم العباسي عبدالله المأمون.. الإمام علي الرضا (عليه السلام).. إلى عاصمته الجديدة (مرو).. ولم يكن هناك أي مجال للاعتذار أو التخلف..وكان ذلك في عام 200 للهجرة الشريفة.. وأراد الإمام الرضا (عليه السلام) الرحيل إلا أنه يعلم اليقين أن لا عودة إلى تلك البقاع الطاهرة.. بعد ذهابه إلى عاصمة الحكومة الجديدة لا حيا ولا ميتا فهو غريب ومدفون في ارض غربة.. روحي فداه من غريب بعيد ما أغربه. فودع جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) والآل الكرام وصحابته العظام وتوجه لوداع بيت الله الحرام.. فأخذ بيد صغيره الكبير والوحيد الإمام محمد الجواد (عليه السلام) وقصد مكة المكرمة لتجديد العهد والحج لبيت الله الحرام.. وهو آخر حج له.. وربما بحجة الوداع تأسياً بحجة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي نصب بعد الانتهاء منها علم الأمة وراية الصدق ولواء الإمامة العادلة وسلمه إلى أمير المؤمنين الإمام الأعظم علي بن أبي طالب (عليه السلام) وذلك في عيد غدير خم كما هو مشهور ومشهود في التاريخ كله.. وكذلك الإمام علي الرضا (عليه السلام) بعد أن حج حجة الأخير سلم الراية والمواريث إلىالإمام الفتى محمد بن علي الجواد(عليهما السلام) وغادر إلى العاصمة العباسية الجديدة (مرو) وبالتفاصيل نقول: روي عن أمية بن علي قال: كنت مع أبي الحسن - أي الرضا (عليه السلام) بمكة في السنة التي حج فيها، ثم صار إلى خراسان.. ومعه أبو جعفر (الجواد) (عليه السلام) وأبو الحسن (عليه السلام) يودع البيت.. فلما قضى طوافه.. عدل إلى المقام فصلى عنده.. وأبو جعفر (عليه السلام) على عنق موفق خادمة يطوف به.. فصار إلى الحجر فجلس فيه فأطال (أي الجلوس) فقال له موفق: قم جعلت فداك.. فقال (عليه السلام): ما أريد أن أبرح مكاني هذا إلا أن يشاء الله.. واستبان (أي وضح) في وجهة الغم.. فأتى موفق أبا الحسن (عليه السلام) فقال له: جعلت فداك قد جلس أبو جعفر في الحجر وهو يأبي أن يقوم.. فقام أبو الحسن (عليه السلام) فأتى إلى أبي جعفر (عليه السلام) فقال له: قم يا حبيبي.. فقال (عليه السلام): ما أريد أن أبرح من مكاني هذا.. فقال (عليه السلام): كيف أقوم، وقد ودعت البيت وداعا لا ترجع إليه.. فقال (عليه السلام): قم يا حبيبي.. فقام معه..(39). ومن هذه الرواية تعرف مدى تعلق الأب العظيم بابنه الكريم.. والابن الكريم بالأب العطوف الرحيم.. وما أجمله من أدب.. وأعظمه من رزية على الإمامين(عليهما السلام) وهما يودعان بعضهما البعض ويعرفان أن لا تلاقيا إلا في دار الخلود والنعيم الذي لا يبلى.. وما أرهف حس الإمام (عليه السلام) الذي أدرك فداحة المصيبة وعظمة الخطر الذي ينتظرهما بعد ذلك: فقد أدرك أو علم أنهما لا يعودان إلى الحج ثانية مع بعضهما.. وهذا الاحتجاج لم ينته إلا بمبادرة كريمة من الإمام الرضا (عليه السلام) شخصيا وبكثير من الأدب والخلق المحمدي الرسالي الأصيل.. قم يا حبيبي.. كيف أقوم وقد ودعت البيت وداعا لا ترجع إليه.. إلا أنها إرادة الله سبحانة وتعالى.. أراد لهذا الإمام العظيم أن يكون بعيدا عن أهله وأحبابه وشيعته ليكون رمز للرسالة والرسالية على مدى الأيام والعصور والدهور.. ويبقى شاهدا على ظلم بني العباس وتجبرهم وتكبرهم وكفرانهم للنعمة العظمى - الإمامة - وإنكارهم الولاية لأهل الولاية والقيادة والسيادة.. لآل علي(عليهم السلام). وانتهى الحج.. وحان وقت الرحيل كل باتجاه.. الأب الإمام علي الرضا (عليه السلام) شرقا باتجاه خراسان مع جنود السلطان. الابن الإمام محمد الجواد (عليه السلام) شمالا باتجاه مدينة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتودعا.. واحتضن كل منهما الآخر وأطالا الاحتضان.. وقبل الأب وجنتي الابن وثغره.. وقبل الابن لحية والده وجبهته.. وافترقا بحرقه.. لهفي لذاك الفتى الذي بلغ الخامسة من العمر، يودع أباه وداعه الأخير.. ولذاك الأب العظيم يودع ولده الوحيد وفلذة كبده الأغلى. لهفي لذاك الجسم النحيل الذي ما قوى بعد.. يودع أباه.. لهفي لذاك الغصن الطري الذي ما صلب عوده.. يودع أهله.. لهفي لتلك العينين الذابلتين الخرينتين.. تودعان نورهما.. لهفي عليهما.. من وداع ما أصعبهُ وأمره عليهما.. وداع البعض للكل.. وداع الشعاع للشعاع.. وداع النور للنور.. وداع الأب للابن.. والابن للأب.. ويمشيان كل في طريقه، إلا أن عيون الأب ترنو إلى طريق المدينة.. لترعى أبا جعفر الحبيب (عليه السلام).. وعيون الابن تتطلع إلى طريق خراسان لتستمد النور والضياء والحب والحنان من النبع الصافي.. من الإمام الرضا (عليه السلام).. وسار كل إلى حيث أراد الله واتجه.. وما إن وصل الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) إلى (مرو) العاصمة العتيدة للحكم العباسي الجديد.. إلا وأخذ يكتب الرسائل إلى ابنه وحبيبه لأبي جعفر الجواد (عليه السلام) رسائل تعليم وتوجيه.. إلا أنها بأدب وإكبار وإعجاب.. فلم يكن يخاطب ولده إلا بكنيته (أبو جعفر) رغم صغر سنه.. فقد روى البيهقي قال حدثني محمد بن يحي الصولي قال: حدثنا الحسين بن أبي عباد.. وكان يكتب للرضا (عليه السلام)، ما كان يذكر محمدا ابنه إلا بكنيته.. يقول: - أي الإمام (عليه السلام) - كتب إلي أبو جعفر.. كنت أكتب إلى ابي جعفر (عليه السلام) وهو صبي في المدينة فيخاطبه بالتعظيم.. وكانت ترد كتب أبي جعفر في نهاية البلاغة والحسن فسمعته يقول: أبو جعفر وصيي وخليفتي في أهلي من بعدي..(40). لذلك كان الوداع صعباً.. لعلمهما أن اللقاء بعيد.. إلا أن الرسالة هي أسلوب للتخاطب والتشاور.. والتعليم والتوجيه عن بعد.. وهي من الآداب العالية، ولها أهميتها الخاصة وأسلوبها الخاص.. ورسائل الإمام الرضا (عليه السلام) كانت توجه دائما إلى أبي جعفر (عليه السلام) الحبيب وبأدب جم.. وكذلك الردود.. ومن رسائل الإمام الرضا (عليه السلام) إلى ولده الإمام الجواد (عليه السلام) الرسالة التالية كنموذج: يا أبا جعفر.. بلغني أن الموالي (العبيد والخدم) إذا ركبت أخرجوك من الباب الصغير وإنما ذلك من بخل بهم.. لئلا ينال منك أحد الخير.. فأسألك بحقي عليك.. لا يكن مدخلك ومخرجك إلا من الباب الكبير.. وإذا ركبت، فليكن معك ذهب وفضه (دينار ودرهم).. ثم لا يسألك أحد إلا أعطيته.. ومن سألك من عمومتك أن تبره.. فلا تعطيه أقل من خمسين دينارا والكثير إليك (أي إن أحببت الزيادة).. ومن سألك من عماتك فلا تعطيها أقل من خمس وعشرين دينارا والكثير إليك.. إني أريد أن يرفعك الله فانفق ولا تخش من ذي العرش اقتارا..(41). وبرسالة توجيهية أخرى للإمام الجواد (عليه السلام) ننقلها فائدة وتبركا.. بسم الله الرحمن الرحيم أبقاك الله طويلا.. وأعاذ من عدوك يا ولدي.. فداك أبوك.. قد فسرت (فوضت) لك مالي، وأنا حي سوي.. رجاء أن يمنك الله بالصلة لقرابتك.. ولموالي موسى وجعفر رضي الله عنهما.. الى أن يقول عليه السلام: وقد أوسع الله عليك كثيرا يا بني.. فداك أبوك.. لا يستر في الأمور بحسبها.. فتحظى حظك والسلام..(42). نلاحظ تكرار جملة (فداك أبوك) في رسالة الإمام الرضا (عليه السلام) إلى ولده الحبيب مرتين أو أكثر فما سر ذلك؟ فلا يفدي الغالي إلا للأغلى.. فحتى في المجاملات، فإنك لا تقول لولدك (فداك أبي) ولكنك تقول لأبيك (فداك أولادي). إن المؤمنين يقولون لرسول الله (صلى الله عليه وآله): (بأبي أنت وأمي) لأن النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم.. ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول عن فاطمة (عليها السلام): (فداها أبوها). ومع الأخذ بعين الاعتبار أن النبي (صلى الله عليه وآله) لا ينطق عن الهوى إن هو الا وحي يوحى.. فإن لهذه الكلمة تكون ظلالا بحجم الكون.. وثقلا بحجم الرسالة.. وكذلك عندما يقول الإمام علي الرضا (عليه السلام) لابنه: (فداك أبوك) ويكررها.. هذا يعني أمرا عظيما.. وسرا رساليا ينطوي عليه هذا الفتى البار.. لا يكون أقل من الولاية والإمامة والوصية له من بعده.. وبالتدبير بهاتين الرسالتين نستشف الكثير الكثير من العبر والفكر.. فالإمام الراحل البعيد.. يربد لولده الحدث السن أن يتصرف بمثل هذا التصرف وأن يعطيه هذا العطاء، ويفوض إليه هذا التفويض.. أو يوجهه هذا التوجيه الرائع حقا إنها معجز.. الإمام الرضا (عليه السلام) يرسل الرسائل وكأنما يخاطب رجلا في الثلاثين من عمره والأربعين حتى.. وهو واثق ومطمئن من التقيد والعمل وتنفيذ المطلوب بكل دقة وأمانة.. فهل يوجد في الدنيا من يخاطب ابنه الطفل في الخامسة بمثل هذا الخطاب المسؤول؟ أو هل هناك طفل يستوعب مثل هذا الخطاب؟ أو هل تحدث التاريخ عن مثل هذا الأمر؟ أستبعد ذلك، وربما أنفيه.. لأن هذا بحد ذاته معجزه.. فالإمام الجواد (عليه السلام) بسيرته، وإمامته، وأقواله، وأفعاله، وعلمه، وأخلاقه، وشهرته، وتاريخه، كان بحق معجزة كبرى.. لأن التاريخ يقول، والقول صحيح بلا شك عن الإمام محمد علي(عليهما السلام) استلم القيادة الدينية والولاية على أهل الإسلام وهو بسن الفتوة بين السابعة والثامنة من عمره الشريف وكان نعم القائد.. وخير ذائد عن حياض الإسلام والمسلمين.. وذلك بدفع أصحاب البدع والأساطير الضالين المضلين.. وما أكثرهم في عصر الإمام وسنوضح ذلك فيما بعد بإذن الله.. وكذلك الملحدين الزنادقة وغيرهم من أصحاب الآراء أو الفلسفة.. أو القياس أو الفقه أو الكلام.. وغير ذلك كثير كما ستجد.. ومنهم من يستشكل حول تسلم الإمام (عليه السلام) القيادة وهو بهذا السن القليل نسبيا.. ويقولون: أنى لمثل هذا السن أن يقوم بمثل هذا العبء الثقيل؟ وهل الفتى في السابعة أو الثامنة أن يتحمل مسؤولية قيادة أمة بأكملها؟ أقول لهؤلاء الضعفاء في اليقين.. أين أنتم من القرآن الكريم؟ وقصة السيد المسيح (عليه السلام) تشهد أنه من المهد قال الذي قال.. وهو من أنبياء أولي العزم.. ولا أحد يستطيع أن ينكر ذلك.. وكذلك نبي الله يحيى (عليه السلام) الذي (آتيناه الحكم صبيا)(43)، يقول الله.. وكذلك أبو الأنبياء(عليهم السلام) إبراهيم خليل الرحمن (عليه السلام) يقال أنه: كان فتى حدث السن حين خرج على قومه وأمرهم بتوحيد الله والكفر ببقية الآلهة المزيفة.. وسمي بطل التوحيد ويحق له.. وبعد ذلك.. نقول ما هو الإشكال في أن يكون ابن الثامنة إماما.. ما دامت الإمامة منصبا إليها لا دخل للبشرية به كما هو حال الرسالة؟ ولربما تقول بأن السيد المسيح ويحيى(عليهما السلام) معجزة بكلهما.. فأقول لك: نعم إنها معجمزة.. وكذلك الإمام الجواد (عليه السلام) معجزة بكله وبكل ما تعني هذه الكلمة من معنى.. كما أن الإمام صاحب العصر والزمان الحجة بن الحسن (عجل الله فرجه الشريف) معجزة كذلك.. إذ المعجزة هي مالا يمكن فعله من قبل البشر.. إلا أن تكرارها وارد من قبل الخالق عزوجل. الإمام والعصر والخلفاء ولد الإمام الجواد (عليه السلام) في مرحلة غاية في التوتر والحساسية والقلق من حيث الزمان ومن حيث المكان ومن حيث الشرائط.. ففي بداية حياته الشريفة كان القتال العائلي العباسي حيث قتل عبدالله المأمون أخيه الأمين واستولى على السلطة والحكم في الدولة الاسلامية.. وأريقت دماء، وكانت بلابل ومشاكل كادت أن تطيح بالدولة العباسية من أساسها.. وبذلك نقلت عاصمة الدولة إلى خارج المنطقة العربية.. ولأول مرة بحيث نقلت من بغداد إلى (مرو) في بلاد خراسان - إيران حاليا - إلا أنها أعيدت إلى بغداد بعد استقرار الحكم للمأمون العباسي.. فبعد العاصفة لابد من الهدوء النسبي.. وبعد القتال لابد من لملمة الجراح ودفن القتلى.. والذي يقتل أخاه من اجل الحكم فإنه على استعداد على أن لا يبقي ولا يذر.. فالملك عقيم كما زعموا.. والقتال بين الأقارب صعب، وبين الأخوة مستصعب.. لأن الجراح تكون في النفس والقلب بين القاتل والمقتول.. وقيل ان هذا ما سبب نقمة العائلة العباسية على عبدالله المأمون، حيث قتل أخاه الأمين وقطع رأسه وعلقه على باب القصر وأمر المارين بالتفل عليه.. واستمر ذلك إلى أن مرأحدهم فتفل عليه وشتمه بقوله: (لعنك الله ووالديك) فقال المأمون كفانا ذلك أنزلوه.. وكأنه استفاق من غفلته بهذه اللعنة وتذكر أن هذا المعلق هو أخوه.. ومنهم من أرجع سبب تقريب الإمام علي الرضا (عليه السلام) والإمام محمد الجواد (عليهما السلام) وهما عمدة البيت العلوي من قبل المأمون العباسي هو نكاية العباسيين.. فقالوا إنه راح يقرب العلويين ليكونوا له عونا وسنداً ويداً عوضا من أولئك الخونة - بنظره لأنهم وقفوا إلى جانب الأمين قبل ذلك.. إلا أنه عند التحقيق لم يكن كذلك فإن المأمون العباسي كان ذكيا ومثقفا بالنسبة إلى سائر العباسيين وكان أعلمهم بالأمور وبكيفية السيطرة على الحكم، وقد عرف أن الناس قد إستساؤوا من سلطان العباسيين ومن كثرة ظلمهم ومالوا إلى بني علي(عليهم السلام) وعرفوا بعض منزلتهم، فأراد المأمون أن يمتص هذه الظاهرة لصالحه فاستدعى الإمام (عليه السلام) حتى يكون تحت نظره المباشر، ويصور للناس بأنه محب للإمام (عليه السلام). ومن هنا رفض الإمام حتى أجبر على القبول، فوضع عبد الله المأمون ولاية العهد في عنق الإمام علي الرضا (عليه السلام). وعند ما استتب له الوضع وهدأت النفوس وقوي سلطانه من جديد.. احتال على قتل ولي عهده! الإمام الرضا (عليه السلام) فدس إليه السم حتى قضى نحبه مسموما شهيدا غريبا.. ومن أهم ما عمله الإمام الرضا (عليه السلام) أنه لم يعط أي تأييد للحكومة العباسية ولا منحها أية شرعية في ذلك، فلم ينصب أحدا ولم يعزل، ولم.. ولم.. وهكذا كان الأمر بالنسبة الى الإمام الجواد (عليه السلام) أيضا.. فالمأمون العباسي من خبثه وذكائه ومعرفته بمقام الإمام (عليه السلام) وعظمته وشرفه ومكانته عند الناس، استدعاه من المدينة المنورة إلى عاصمته بغداد ليكون قريبا من الحاكم وتحت نظره المباشر. إلا أن المأمون العباسي شغف - مكرا وخدعا - بالإمام الجواد (عليه السلام)، لما رأى من فضله ونبله وعلمه مع صغر سنه.. وبلوغه في العلم والحكمه والأدب وكمال العقل مالم يساويه فيه أحد من أهل ذاك الزمان.. فقربه وزوجه بابنته المدللة (أم الفضل زينب) وكان له من المعارضة العباسية بهذا الشأن قصص، لأنهم ماكانوا يعرفون سوء قصد المأمون في ذلك. فقد ذكر المؤرخون أنه عندما عزم المأمون العباسي على تزويج الإمام محمد بن علي الجواد(عليهما السلام) من ابنته اعترضه العباسيون اعتراضا شديدا خوفا من انتقال الخلافة إلى بني فاطمة(عليها السلام). فاجتمع من أهل بيته الأدنون وقالوا له: نناشدك الله يا أمير.. الا تقدم على هذا الأمر الذي عزمت عليه من تزويج (ابن الرضا) (عليهما السلام) فإنا نخاف أن يخرج منا أمر قد ملكناه الله عزوجل!.. وينزع منا عزا قد ألبسناه الله!.. وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديما وحديثا.. وقد كنا من خشية من عملك مع الرضا (عليه السلام) فكفانا الله لهم في ذلك.. فالله الله أن تردنا إلى غم قد انحسر عنا.. فقال لهم المأمون - وهو يكمن مافي قلبه من الحقد ضد أهل البيت(عليهم السلام): أما ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه ولو أنصفتم القوم لكانوا أولى بكم.. وأما ما كان يفعله من قبلي بهم فقد كان قاطعا للرحم.. وأعوذ بالله من ذلك.. والله ما ندمت على ماكان مني من استخلاف الرضا (عليه السلام) ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه من نفسي فأبى وكان أمر الله قدرا مقدور!(44).. وأما أبو جعفر محمد بن علي(عليهما السلام) فقد اخترته لتفوقه على أهل الفضل كافة في العلم والثقافة مع صغر سنه.. وأنا أرجعو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه فتعلمون أن الرأي ما رأيت فيه.. فقالوا: وبئس ماقالوا: ان هذا الفتى وإن راقك منه هديه فإنه صبي ولا معرفة له ولا فقه.. فأمهله ليتأدب ثم اصنع ما تراه بعد ذلك.. فقال لهم المأمون: ويلكم إني أعرف بهذا الفتى منكم، وإن أهل هذا البيت علمهم من الله تعالى ولم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة.. فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يثبت لكم به ذلك.. قالوا: قد رضينا بذلك، فخل بيننا وبينه من يسأله بحضرتك عن شيء من فقه الشريعة فإن أصاب لم يكن لنا اعتراض وظهر للخاصة والعامة سديد رأي الأمير.. فيه، فإن عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب منه.. فرضي المأمون بذلك.. وأعطاهم موعدا للقاء.. واجتمع رأيهم على (يحي بن أكثم) قاضي قضاة الديار الإسلامية في ذلك العهد أن يسأل الإمام الجواد (عليه السلام) عن المسائل الغامضة في الفقه الإسلامي. وحان الموعد واجتمع الناس.. وجاء الإمام الجواد (عليه السلام) وحضر ابن أكثم.. وجلس يحي بن أكثم بين يديه والمأمون بجانب الإمام (عليه السلام).. فالتفت ابن أكثم إلى المأمون وقال: يأذن لي أمير.. أن أسأل أبا جعفر عن مسألة؟ فقال المأمون: استأذنه في ذلك.. فأقبل عليه يحي بن أكثم قائلا: جعلت فداك.. تأذن لي في مسألة؟ قال أبو جعفر (عليه السلام): سل ما شئت.. قال يحيى: ما تقول - جعلت فداك - في محرم قتل صيداً؟ فقال الإمام أبو جعفر (عليه السلام): قتله في حل أو في حرم؟ عالما كان أو جاهلا؟ قتله عمدا أو خطأ؟ حراً كان المحرم أو عبدا؟ صغيرا كان أو كبيرا؟ مبتدئا بالقتل أو معيدا؟ من ذوات الطير كان القتل أو من غيرها؟ من صغار الطير أو من كبارها؟ مصرا على ما فعل أو نادما؟ في الليل كان قتله للصيد أو في النهار؟ محرما كان بالعمرة إذ قتله، أم بالحج كان محرما؟ فتحير يحي بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع.. ولجلج حتى عرف الحاضرون أمره.. فقال المأمون: الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي.. ثم توجه إلى أهل بيته فقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تفكرونه؟ ثم أقبل على أبي جعفر (عليه السلام) فقال له: أتخطب يا أبا جعفر؟ فقال له: نعم.. فقال له المأمون: اخطب لنفسك - جعلت فداك - قد رضيت لنفسي وأنا مزوجك (أم الفضل) ابنتي وإن رغم قوم لذلك.. فقال أبو جعفر (عليه السلام): الحمد لله إقراراً بنعمته.. ولا إله إلا الله إخلاصا لوحدانيته.. وصلى الله على محمد سيد بريته والأصفياء من عترته أما بعد: فقد كان من فضل الله على الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام فقال سبحانه: (وانكحوا الأيامي منكم والصالحين من عبادكم وامائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم)(45) ثم إن محمد بن علي بن موسى(عليهم السلام) يخطب أم الفضل بنت عبدالله المأمون وقد بذل لها من الصداق مهر جدته فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) وهو خمسمائة درهم جيادا، فهل زوجته يا مأمون بها على هذا الصداق المذكور؟ فقال المأمون: قد زوجتك يا أبا جعفر أم الفضل ابنتي على الصداق المذكور فهل قبلت النكاح؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): قد قبلت ذاك ورضيت.. وبعد الاحتفال بالزواج.. سأل المأمون الجواد (عليه السلام) عن الجواب عن السؤال وتفريعاته كلها.. فأجاب الإمام (عليه السلام) بكل دقة ووضوح عنها جميعا.. فقال المأمون: أحسنت يا أبا جعفر.. أحسن الله إليك.. فإن رأيت أن تسأل يحيى بن أكثم مسألة كما سالك.. فسأله الإمام (عليه السلام) مسألة داخ منها، ولم يدر ما يقول.. وستجدها وغيرها مفصلة في هذا الكتاب في محله بإذن الله. وبعد انتهاء المجلس.. إلتفت المأمون إلى المجتمعين قائلا: ويحكم إن أهل البيت خصوا من الخالق بما ترون من الفضل، وإن صغر السن فيهم لا يمنعهم من الكمال.. أما علمتم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو ابن عشر سنين.. وقبل منه الإسلام وحكم له به.. ولم يدع أحد في سنه غيره.. وبايع الحسن والحسين وهما ابنان دون الست سنين.. ولم يبايع صبيا غيرهما.. أولا تعلمون ما اختص الله به هؤلاء القوم؟ وإنهم ذرية بعضها من بعض يجري لآخرهم ما يجري لأولهم.. فقالوا: صدقت يا أمير..(46). والدروس.. والعبر من هذا الحدث والحديث الشيق.. والنقاط المضيئة فيه هي كثيرة إلا أننا نلمع إلى بعض منها فقط. 1: الإمام الجواد (عليه السلام) هو محط الأنظار في العالم الإسلامي كله.. ومهبط قلوب المؤمنين في شرق الأرض وغربها.. والحاكم العباسي عبدالله المأمون يعرف ذلك جيدا ويعترف به أمام الجميع. 2: عبد الله المأمون العباسي كان يعرف أولياء الله من العترة الطاهرة، ويعرف قدرها وعظيم شأنها وأنها أحق الناس بالناس.. إلا أن الملك عقيم.. قال تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا)(47). 3: العداء واضح بين العباسيين والعلويين (قديما وحديثا) كما اعترفوا بذنبهم.. والتاريخ حدثنا الكثير من خياناتهم كبارا وصغار لأئمتهم من آل علي (عليهم السلام) وهم أعلم الناس بحقيقتهم ووجوب طاعتهم.. فحقدهم دفين وحسدهم جلي لكل متتبع.. وقد اعترف المأمون العباسي حيث قال للعباسيين: بأنهم لم يكونوا منصفين مع سادتهم.. وأنهم قطعوا أرحامهم ولم يصلوها فكان الذي كان.. 4: الفكرة الخاطئة التي حاولوا إقناع أنفسهم بها وهي أن الله أعطاهم أو أن الله اختارهم ليكونوا قادة وسادة أو أمراء.. أو ما أشبه ذلك.. 5: فضل الإمام وعلو قدمه على الجميع، وبحر علمه الذي لا ينضب.. ودمائة أخلاقه، وسعة صدره وكأنه ينبئك عن الإمام علي (عليه السلام) أو حتى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله). وهل بذلك غضاضة أو شطط؟ لا.. فالوالد سر أبيه.. ومن كان أبوه عليا وجده عليا.. فيحق له أن يكون في سماء الفضائل والقيم بدرا مضيئا يتلألأ في دنيا الإنسانية.. ومن خلال الكتاب سوف ترى العجب العجاب من هذا الفتى العلوي العظيم.. وماذا بعد..؟ وبعد إعلان الزواج المبكر.. فالإمام تزوج وهو في الخامسة عشر من عمره الشريف.. فاحتفى الحاكم العباسي المأمون بالإمام الجواد (عليه السلام) أي احتفاء.. وبقي الإمام محمد الجواد (عليه السلام) في بغداد مدة غير قليلة.. إلا أنه (عليه السلام) لم يكن يرضيه التنعم في القصور العباسية تاركا أمور شيعته خاصة.. والأمة الإسلامية عامة الدينية والدنيوية وراء ظهره.. فإنه (عليه السلام) ما كان ليقيم في بغداد لولا الضغوط الشديدة عليه.. وهذا واضح من رواية أحدهم حين يقول.. دخلت عليه (عليه السلام) في بغداد ففكرت فيما هو به من نعم.. وقلت في نفسي: إن هذا الرجل لا يرجع إلى موطنه أبدا.. فأطرق رأسه ثم رفعه وقد اصفر لونه فقال: ياحسين خبز الشعير وملح جريش في حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحب إلي مما تراني فيه.. وما إن لاحت الفرصة للإمام الجواد (عليه السلام) حتى يستأذن عبدالله المأمون بالعودة إلى مدينة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) فوافقه على ذلك وودعه وداعا حارا مع ابنته أم الفضل(زينب). ومر الإمام (عليه السلام) بالكوفة وغيرها واستقبل في كل بلدة يمر بها أجمل استقبال.. وهكذا إلى أن وصل إلى حرم جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأقام فيها عاملا عالما.. مجاهدا.. معززا.. مكرما.. وتوفي المأمون بشهر رجب سنة 218 للهجرة بقرية طرسوس على الحدود الفاصلة بين الدولة الإسلامية والدولة الرومانية.. ودفن هناك بعد أن أوصى إلى أخيه (المعتصم) بتصدي الحكومة، وكان من جملة ما أوصاه ببني عمومته العلويين وذلك حفظاً للظاهر وخوفاً على سلطان بني عباس إذا أخذوا يحاربون أهل البيت(عليهم السلام).. فقال مما قال له: (هؤلاء بنو عمك من ولد أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فأحسن صحبتهم وتجاوز عن مسيئهم، وأقبل عليهم ولا تترك صلاتهم في كل سنة عن محلها فإن حقوقهم تجب من وجوه شتى..). وأخذ المعتصم يوطد حكمه.. ويرتب أمور دولته بما يضمن قوتها.. وكان الهاجس الوحيد المرعب هو الإمام محمد بن علي (عليه السلام) فهو الخطر الحقيقي له ولدولته. فهو صهر الحاكم الراحل.. وسيد أهل البيت العلوي.. وإمام الشيعة وقد أصبحوا قوة جبارة معلنة الولاء للإمام (عليه السلام) على رؤوس الأشهاد.. إذاً قد يشكل خطراً على المستقبل بل وربما على الحاضر أيضاً.. فأحضره مرة أخرى من المدينة المنورة إلى عاصمته بغداد ليكون تحت أنظار الحاكم العباسي مباشرة.. ومراقبة الشخصية له ولتحركاته كافة.. وكان ذلك في 28 محرم عام 220 هـ وبقي فيها إلى أن دس المعتصم السم إليه فوافاه الأجل الذي لا راد له، شهيدا مسموماً.. الشهادة والشاهدة الشهادة أمرعظيم.. تتطلب الصدق وتلازم الحق لتكون مقبولة لدى الجميع وبالتالي لا يمكن ردها أو نكرانها.. فتذعن لها النفوس وإن كانت كارهة وتتقبلها العقول والضمائر والحياة وإن كانت مرّة.. والشهادة تعني قتل الجسد وزهق الروح في سبيل القدس والحق.. وهل هناك قدسية وحق كوجه الحق تعالى، فلذلك كان فوق كل برٍ برّ حتى يقتل الرجل في سبيل الله.. فليس فوق هذا البربر.. والأئمة الطاهرون من آل البيت الطاهر المطهر.. هم الشهداء والأشهاد على هذه الأمة.. لأنه ما منا إلا مقتول أو مسموم.. والإمام التاسع من أئمة أهل البيت الإمام الجواد (عليه السلام) قضى نحبه وانتقل إلى ربه في بغداد عام 220 للهجرة المباركة وهو في ريعان الشباب وقمة العطاء.. لأنه لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره الشريف.. وسبب ذلك هو حقد المعتصم العباسي تجاه الإمام (عليه السلام) كما عمل المعتصم بنصيحة قاضي قضاته (ابن أبي داود) حيث نصحه بأن يتخلص من الإمام الجواد (عليه السلام) لأنه أفحمه وأفحم جميع الفقهاء - المتفقهين - في قضية سرقة.. وحكم القطع، في قصة مفصلة رواها العياشي وغيره.. فأمر المعتصم العباسي أحد وزرائه أن يدعو الإمام إلى منزله ويدس إليه السم.. وكذلك فعل وبئس ما فعل عليه اللعنة. ولما أكمل الإمام الجواد (عليه السلام) أحس بالسم يسري في جسده النحيل.. فاستدعى راحلته وخرج من المنزل اللعين وهو يقول إشفاقاً عليه!: خروجي من منزلك خير لك.. وانتقل إلى الرفيق الأعلى من تلك الليلة راضياً مرضياً.. مسموماً مظلوماً مقتولاً شهيداً.. وكان ذلك في تاريخ 5 أو 29 ذي الحجة عام 220 للهجرة، راضياً مرضياً طاهراً مطهراً.. وجهز ودفن إلي جوار جده الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) في ضاحية بغداد المسماة بالكاظمية.. روحي له الفداء من أرض ما أطهرها.. والسلام على من دفن فيها.. نعم.. لقد مضى الإمام الجواد (عليه السلام).. وله أربع أبناء. صبيان: الإمام علي الهادي (عليه السلام) وموسى. وبنتان: فاطمة، وأمامة.. وكان للإمام محمد الجواد (عليه السلام) العديد من الألقاب والنعوت عرف بها مثل: القانع، والنجيب، والتقي، والزكي.. إلا أنه عرف أكثر بـ (الجواد) وكل هذه الألقاب كما هو واضح دالة على علو شأنه وارتفاع منزلته عند الله وعند العبد.. وكان نقش خاتمه الشريف: (حسبي الله). .. إمام حق هذا جزاؤك بعد كل ما قدمت، إنك لم تُرمِ لهم إلا الخير، ولم يبغوا لك إلا الشر، فسقياً لك ورعياً.. وتعساً لهم وويلاً.. غدر والله.. ومكر والله أن يطعموك السم وأنت في ربيع أيامك.. ولكن لك في الأولين من آبائك أسوة حسنة.. ولهم في الأولين من آبائهم أسوة حسنة.. فعليك السلام.. وعليهم اللعنة والعذاب.. وفي الختام عفوك سيدي.. يا أبا جعفر الحبيب.. عفوك أيها الفتى المبارك.. وأحدث من كل من سبقه من آبائه الماضين من آل طه ويس.. يا جد الإمام الباقي رغم أنف المنكرين.. عفوك سيدي يا ضمير الوجود.. يا سر البقاء والخلود.. عفوك أيها الجواد.. يا من يجود بما في الوجود في سبيل واجب الوجود.. يا من جاد حتى ساد وبان فضله على الكون أجمع.. فأوغرت سيادته المبكرة.. وقيادته المباركة لدنيا الإسلام.. الأصاغر من الرجال، وأصحاب الكراسي والمناصب الدنيوية الفانية.. فأقض مضاجعهم.. واسهر آماقهم .. وراحوا يدبرون له المكائد والدسائس حتى تركوه شهيداً سعيداً.. راقداً إلى جوار جده العظيم موسى بن جعفر(عليهم السلام) في الكاظمية.. وشاهدا على أعمالهم.. وأعمال الأمة أجمع.. يوم الجمع الأعظم.. في صحراء المحشر.. وتقام الموازين القسط.. فخسر هنالك المبطلون.. مركز الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) للتحقيق والنشر بيروت - لبنان ــ ص ب : 5951/13 شوران |
1 - مكارم الأخلاق ص 117 ب 23. 2 - راجع الكلام الجلي في فضائل مولانا أمير المؤمنين علي (عليه السلام). 3 - الكلام الجلي في فضائل مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام). 4 - أي أخذوا يتحدثون حول الإمامة. 5 - سورة الأنعام: 28. 6 - سورة المائدة: 3. 7 - سورة البقرة: 124. 8 - سورة الأنبياء: 72 - 73. 9 - سورة آل عمران: 68. 10 - سورة الروم: 56. 11 - سورة القصص: 68. 12 - سورة الأحزاب: 36. 13 - سورة القلم: 36 - 41. 14 - سورة محمد: 24. 15 - سورة التوبة: 87. 16 - سورة الأنفال: 21 - 23. 17 - سورة ينس: 35. 18 - سورة البقرة: 113. 19 - سورة البقرة: 247. 20 - سورة النساء: 113. 21 - سورة النساء: 54. 22 - سورة آل عمران: 187. 23 - سورة القصص: 50. 24 - سورة محمد: 8. 25 - سورة المؤمن: 35، وراجع الاحتجاج للطبرسي ص 226 - 230. 26 - سورة المائدة: 3. 27 - سورة ص: 26. 28 - سورة البقرة: 124. 29 - سورة الأنبياء 73. 30 - سورة الزخرف: 32. 31 - سورة النحل: 68. 32 - سورة هود: 118. 33 - سورة النازعات: 5. 34 - سورة طه: 5. 35 - سورة الجن: 26. 36 - سورة البقرة: 255. 37 - كلمة الإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف)للسيد الشهيد (رحمه الله). 38 - إلا بعض العلماء استبعد ذلك. 39 - كشف الغمة ج 3 ص 125. 40 - عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 240، وبحار الأنوار ج 50 ص 103. 41 - عيون الأخبار: ج 2 ص 8. 42 - تفسير العياشي: ج 1 ص 131 - 132 سورة البقرة، الحديث 436. 43 - سورة مريم: 12. 44 - هذا وقد سبق أن المأمون هو الذي قتل الإمام بالسم. 45 - سورة النور 32. 46 - راجع الاحتجاج للطبرسي: ج 2 ص 245. 47 - سورة النمل 14. |