المسألة المنبرية
و ذلك أنه كان على
منبر الكوفة فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين إن ابنتي قد مات زوجها و لها من
تركته الثمن و قد أعطوها التسع فأسألك الإنصاف فقال (عليه السلام) خلف صهرك بنتين قال نعم قال
و أبواه باقيان قال نعم قال صار ثمنها تسعا فلا تطلب سواه إرثا ثم مضى في خطبته .
فانظر إلى استحضاره الأجوبة في أسرع من رجع الطرف و اعلم أنه (عليه السلام) قد
تجاوز غايات الوصف.
و أما علوم الأحياء فكان (صلى الله عليه وآله وسلم) فارس ميدانها و سابق حلباتها و حاوي
قصبات رهانها و مبين غوامضها و صاحب بيانها و الفارس المتقدم عند إحجام فرسانها و
تأخر أقرانها و يكفي في إيضاح ذلك ما نقل عنه (عليه السلام) :
أنه قال : علمني رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ألف باب من العلم فانفتح لي من كل باب ألف باب .
أما علم القرآن فقد استفاض بين الأمة أن أعلمهم بالتفسير عبد الله بن
العباس
[133]
و كان تلميذا لعلي (عليه السلام) مقتديا به آخذا عنه.
و أما
القراءة فإمام الكوفيين فيها عاصم و قراءته مشهورة في الدنيا و هو تلميذ أبي عبد
الرحمن السلمي و أبو عبد الرحمن هذا تلميذ علي (عليه السلام) و علي أخذها عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أما
النحو فقد عرف الناس قاطبة أن عليا (عليه السلام) هو الواضع الأول الذي اخترعه و ابتدعه و نصبه
علما لأبي الأسود و وضعه .
و أما علم البلاغة و البيان فهو فارسه المجلى في ميدانه
و الناطق الذي تقر الشقاشق عند بيانه و البحر الذي يقذف بجواهره و يحكم على القلوب
باتباع نواهيه و أوامره و يدل على الخيرات بترغيباته و ينهى عن المنكرات بقوارعه و
زواجره و متى شئت أن تجعل الخبر عيانا فدونك نهج البلاغة فهو دليل واضح و نهج إلى
البلاغة لائح و لو لا اشتهاره و وجوده لأفردت لشيء منه فصلا يعرف منه مقداره و
يعلم أنه الجواد الذي لا يدرك شأوه و لا يشق غباره.
و أما علم تصفية الباطن و
تزكية النفس فقد أجمع أهل التصوف من أرباب الطريقة و أصحاب الحقيقة أن انتساب
خرقتهم إليه و معولهم في سلوك طرقهم عليه.
و أما علم التذكير بأيام الله و التحذير
من عذابه و عقابه فالمقتدي به في ذلك الحسن البصري و كان تلميذا له (عليه السلام) و بذلك كان
شرفه و فخره و به طلع بين المذكرين فجره.
و أما علم الزهد و الورع فقد كان في
الصحابة جماعة من الزهاد كأبي الدرداء و أبي ذر و سلمان الفارسي رضي الله عنهم و
كانوا جميعا تلامذة لعلي بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) اهتدوا و بعلي اقتدوا و سأذكر فصلا في زهده (عليه السلام) إن
شاء الله.
و أما علم مكارم الأخلاق و حسن الخلق فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بلغ في ذلك الغاية القصوى
حتى قال عنه أعداؤه فيه دعابة و إنه امرؤ تلعابة و إنما كانت سهولة أخلاقه مع
[134]
ذوي الدين و صالحي المؤمنين و أما من كان من غيرهم فإنه كان يوليه
غلظة و شدة طلبا لتأديبه و رغبة في تهذيبه فكان (عليه السلام) في ذلك من الموصوفين بقوله تعالى
فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ.
و أما الشجاعة و النجدة و القوة
فاتصافه بذلك أشهر من النهار و أظهر من الشمس لذوي الأبصار أقر بذلك المؤالف و
المخالف و اعترف به العدو و المخالف و شهد به الولي و الحسود و أسجل بصحته السيد و
المسود و ذل لسطوته و صرامته الأساود و الأسود هو الذي دوخ الفرسان و أذل الشجعان
و كان و كان من كأبي حسن إذا احمر البأس و حام الناس قسوا و لانوا فلهم هذه و هذه
في العنف و الرفق و سأذكر في تضاعيف هذا الكتاب من ذلك ما يكون عبرة لأولي
الألباب.
و أما علم القضاء و الأحكام و معرفة الحلال و الحرام فقد تقدم من ذكره ما
لعله كاف شاف و بما يراد من الغرض واف و قضاياه التي اشتهرت و أحكامه التي ظهرت
تشهد بمكانه و محله و تنبئ عن شرفه و نيله و تقضي بعلو مكانه و فضله.