فصل
و كانت غزاة الأحزاب بعد غزاة بني النضير و هي غزاة الخندق و ذلك
أن جماعة من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق النضري و حي بن أخطب و
[202]
غيرهما و نفر من بني والية خرجوا حتى قدموا مكة و صاروا إلى أبي سفيان
لعلمهم بعداوته للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تسرعه إلى قتاله فذكروا له ما نالهم منه و سألوه المعونة
على قتاله فقال أنا لكم حيث تحبون فاخرجوا إلى قريش فادعوهم إلى حربه و اضمنوا لهم
النصرة و الثبوت معهم حتى تستأصلوه فطافوا على وجوه قريش و دعوهم إلى حرب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) فقالوا أيدينا مع أيديكم و نحن معكم حتى نستأصله فقالت قريش يا معشر اليهود أنتم
أهل الكتاب الأول و العلم السابق و قد عرفتم ما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و ما نحن عليه من
الدين فديننا خير أم دينه فقالوا بل دينكم و أنتم أولى بالحق منه فنشطت قريش إلى
حربه (صلى الله عليه وآله وسلم) و قال لهم أبو سفيان قد مكنكم الله من عدوكم و اليهود تقاتله معكم و لا
تفارقكم حتى تستأصلوه و من اتبعه فقويت نفوسهم و عزائمهم على الحرب ثم جاء اليهود
غطفان و قيس غيلان فدعوهم إلى حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و ضمنوا لهم النصرة و المعونة و
أخبروهم بموافقة قريش لهم على ذلك و اجتمعوا و خرجت قريش و قائدها أبو سفيان و
خرجت غطفان و قائدها عيينة بن حصن في بني فزارة و الحارث بن عوف في بني مرة و وبرة
بن طريف في قومه من أشجع.
فلما سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) باجتماع الأحزاب على قصد المدينة
استشار أصحابه فأجمعوا على المقام بالمدينة و حربهم على أنقابها و أشار سلمان
الفارسي بحفر الخندق فحفره و عمل فيه بنفسه و عمل المسلمون و أقبلت الأحزاب
بجموعهم فهالت المسلمون و ارتاعوا من كثرتهم و نزلوا ناحية من الخندق و أقاموا
مكانهم بضعا و عشرين ليلة و لم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل و الحصاة.
فلما رأى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ضعف قلوب أكثر المسلمين من حصارهم و وهنهم في حربهم بعث إلى عيينة بن
حصن و الحارث بن عوف قائدي غطفان يدعوهم إلى .
[203]
الصلح و الكف عنه و الرجوع بقومهما عن حربه على أن
يعطيهما ثلث ثمار المدينة و استشار سعد بن معاذ و سعد بن عبادة فيما بعث به إليهما
فقالا إن كان هذا أمر أمر الله به و لا بد منه فافعل و إن كنت تفعله من أجلنا كان
لنا فيه رأي فقال (عليه السلام) لم يأتني فيه وحي و لكني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة و
جاءوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم فقال سعد بن معاذ قد كنا و نحن
على الشرك بالله و عبادة الأوثان لا نعبد الله و لا نعرفه و لم نكن نطعمهم من
ثمرنا إلا قرى أو بيعا فالآن حين أكرمنا الله بالإسلام و أعزنا بك نعطيهم أموالنا
ما لنا إلى ذلك حاجة و الله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا و بينهم فقال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد عرفت ما عندكم فكونوا على ما أنتم عليه فإن الله لن يخذل نبيه و لن
يسلمه حتى ينجز وعده.
ثم جعل (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو المسلمين إلى جهاد عدوهم يشجعهم و يعدهم النصر
فانتدب فوارس من قريش للبراز منهم عمرو بن عبد ود و عكرمة بن أبي جهل و هبيرة بن
أبي وهب المخزوميان و ضرار بن أبي الخطاب و مرداس الفهري و أقبلوا تعنق بهم خيولهم
حتى وقفوا على الخندق و قالوا هذه مكيدة لا تعرفها العرب ثم يمموا مكانا ضيقا من
الخندق فاقتحموه و صاروا في السبخة و خرج أمير المؤمنين (عليه السلام) في نفر من المسلمين
فأخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموها فتقدم عمرو بن عبد ود و قد أعلم ليرى مكانه و
قال هل من مبارز فبرز إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له عمرو ارجع يا ابن أخي فما أحب
أن أقتلك فقال له علي قد كنت يا عمرو عاهدت الله أن لا يدعوك رجل إلى إحدى خلتين
إلا اخترت إحداهما منه قال أجل فما ذلك قال إني أدعوك إلى الله و رسوله و الإسلام
فقال لا حاجة لي بذلك قال فإني أدعوك إلى النزال قال ارجع فقد كان بيني و بين أبيك
خلة و ما أحب أن أقتلك فقال له أمير المؤمنين لكني أحب أن أقتلك ما دمت آبيا للحق
فحمى عمرو و نزل عن فرسه و ضرب وجهه حتى نفر و أقبل على علي مصلتا سيفه و بدره
بالسيف فنشب سيفه في ترس علي (عليه السلام) و ضربه أمير المؤمنين فقتله و انهزم من كان
[204]
معه و عاد علي (عليه السلام) إلى مقامه الأول و قد كانت قلوب
أصحابه الذين
خرجوا معه تطير جزعا و أنشد الأبيات البائية التي ذكرتها آنفا .
و روى محمد بن عمرو
الواقدي مرفوعا إلى الزهري قريبا منه .
و طلب عمرو المبارزة مرة بعد أخرى و أنشد و :
لقد بححت من النداء *** ... ... ...
و في كل ذلك يقوم علي (عليه السلام) فيأمره بالجلوس انتظارا لحركة غيره من
المسلمين و كان على رءوسهم الطير لخوفهم من عمرو و من معه و طال نداء عمرو بطلب
البراز و تتابع قيام علي (عليه السلام) ; فقال له : ادن مني يا علي .
فدنا , فنزع عمامته من رأسه و
عممه بها , و أعطاه سيفه ; و قال امض لشأنك , ثم قال : اللهم أعنه .
فسعى نحو عمرو و معه
جابر بن عبد الله الأنصاري لينظر ما يكون منه و من عمرو فلما انتهى إليه قال ; يا عمرو إنك كنت
في الجاهلية تقول لا يدعوني رجل إلى ثلاث إلا قبلتها أو واحدة منها . قال : أجل .
قال : فإني أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله و أن تسلم لرب العالمين .
قال : يا ابن أخي , أخر هذا عني .
قال (عليه السلام) : أما إنها خير لك لو أخذتها ; قال فهاهنا أخرى .
قال : و ما هي ?
قال : ترجع من حيث جئت .
قال : لا تحدث عني نساء قريش بهذا أبدا .
قال : فهنا أخرى .
قال : ما هي ?
قال : تنزل فتقاتلني .
فضحك عمرو , و قال : إن هذه الخصلة ما كنت أظن
أن أحدا من العرب يرومني عليها ; إني أكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك و قد كان أبوك لي نديما .
قال علي (عليه السلام) : لكني أحب أن أقتلك ; فانزل إن شئت .
فأسف عمرو , و نزل فضرب وجه فرسه
حتى رجع .
قال جابر رحمه الله : و ثارت بينهما قترة فما رأيتهما ; و سمعت التكبير فعلمت أن عليا (عليه السلام) قتله , و انكشف أصحابه و عبروا الخندق و تبادر المسلمون حين سمعوا التكبير
ينظرون ما صنع القوم ; فوجدوا نوفل بن عبد الله في جوف الخندق لم ينهض به فرسه فرموه
بالحجارة .
فقال لهم : قتلة أجمل من هذه ينزل بعضكم أقاتله .
فنزل إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) فضربه حتى قتله ; و لحق هبيرة فأعجزه فضرب قربوس سرجه و سقطت درعه ; و فر عكرمة ; و هرب
ضرار بن الخطاب .
[205]
قال جابر : فما شبهت قتل علي عمرا إلا بما قص الله من قصة داود و
جالوت .
و عن ربيعة السعدي قال : أتيت حذيفة بن اليمان فقلت له يا أبا عبد الله إنا
لنتحدث عن علي و مناقبه فيقول لنا أهل البصرة إنكم تفرطون في علي فهل أنت محدثي
بحديث فيه ?
فقال حذيفة : يا ربيعة و ما تسألني عن علي و الذي نفسي بيده لو وضع جميع
أعمال أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في كفة الميزان منذ بعث الله محمدا إلى يوم القيامة و وضع عمل
علي في الكفة الأخرى لرجح عمل علي على جميع أعمالهم .
فقال ربيعة : هذا الذي لا يقام
له و لا يقعد .
فقال حذيفة : يا لكع ! و كيف لا يحمل و أين كان أبو بكر و عمر و حذيفة و
جميع أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم عمرو بن عبد ود و قد دعا إلى المبارزة فأحجم الناس كلهم ما
خلا عليا (عليه السلام) فإنه برز إليه فقتله الله على يده ; و الذي نفس حذيفة بيده لعمله ذلك
اليوم أعظم أجرا من عمل أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يوم القيامة ; و أنشد الأبيات و فيها بعد :
اليوم يمنعني الفرار حفيظتي *** ... ...
أرديت عمرا إذ طغى بمهند *** صافي الحديد مجرب قضاب
و لما قتل عمرا أقبل نحو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و وجهه يتهلل .
فقال له عمر بن الخطاب : هلا سلبته يا علي درعه فما لأحد درع مثلها .
فقال : إني استحييت أن أكشف عن سوأة ابن عمي.
و روي : أنه لما قتل عمرا اجتز رأسه و ألقاه بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقام
أبو بكر و عمر فقبلا رأس علي (عليه السلام) و قال أبو بكر بن عياش لقد ضرب علي ضربة ما كان في
الإسلام ضربة أعز منها يعني ضربة علي لعمرو بن عبد ود و لقد ضرب علي ضربة ما كان
في الإسلام أشأم منها يعني ضربة ابن ملجم لعنه الله.
و رأيت في بعض الكتب و لم
يحضرني الكتاب عند جمعي هذا .
أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال ; حين بارز علي عمرو بن عبد ود : خرج الإسلام كله إلى الشرك كله .
[206]
و في هذه الغزاة نزل قوله تعالى إِذْ
جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ... الآيات إلى آخرها و لم يخلص
من العتب إلا علي (عليه السلام) و لما قتل هؤلاء النفر :
قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : الآن يغزوهم و لا يغزوننا .
و روي أن عبد الله بن مسعود كان يقرأ : و كفى الله المؤمنين القتال
بعلي و كان الله قويا عزيزا و في قتل عمرو يقول حسان :
أمسى الفتى عمرو بن عبد يبتغي *** بجنوب يثرب غارة لم تنظر
فلقد وجدت سيوفنا مشهورة *** و لقد وجدت جيادنا لم تقصر
و لقد رأيت غداة بدر عصبة *** ضربوك ضربا غير
ضرب المخسر
أصبحت لا تدعى ليوم عظيمة *** يا عمرو أو لجسيم أمر منكر
و لما بلغ شعر حسان بني عامر أجابه فتى منهم فقال يرد عليه فخره :
كذبتم و بيت الله لا تقتلوننا *** و لكن بسيف الهاشميين فافخروا
بسيف ابن عبد الله أحمد في الوغى *** بكف علي نلتم ذاك فاقصروا
فلم تقتلوا عمرو بن ود و لا ابنه *** و لكنه الكفؤ الجسور الغضنفر
علي الذي في الفخر طال بناؤه *** فلا تكثروا الدعوى علينا
فتحقروا
ببدر خرجتم للبراز فردكم *** شيوخ قريش جهرة و تأخروا
فلما أتاهم حمزة و عبيدة و *** جاء علي بالمهند يخطر
فقالوا نعم أكفاء صدق و أقبلوا *** إليهم سراعا إذ بغوا و تجبروا
فجال علي جولة هاشمية *** فدمرهم لما عتوا و تكبروا
فليس لكم فخر علينا بغيرنا *** و ليس لكم فخر يعد فيذكر
و قالت أخت عمرو و قد نعي إليها أخوها : من ذا الذي اجترأ عليه ?
قالوا : علي بن أبي طالب .
فقالت : لو لم يعد يومه إلا على يد كفو كريم لا رقأت
[207]
دمعتي عليه إن هرقتها عليه ; قتل الأبطال و بارز الأقران و كانت منيته على
يد كريم قومه , ما سمعت أفخر من هذا يا بني عامر , و أنشدت البيتين :
لو كان قاتل عمرو غير قاتله *** ... ...
و قد تقدمتا و قالت أيضا ترثي أخاها و تذكره و عليا (عليه السلام) .
أسدان في ضيق المكر تصاولا *** فكلاهما كفو كريم باسل
فتخالسا مهج النفوس كلاهما *** وسط المدار محامل و مقاتل
و كلاهما حضر القراع حفيظة *** لم يثنه عن ذاك شغل شاغل
فاذهب علي فما ظفرت بمثله *** قول سديد ليس فيه تحامل
فالثار عندي يا علي لو أنني *** أدركته و العقل مني كامل
ذلت قريش بعد مقتل فارس *** و الذل مهلكها و خزي شامل
ثم قالت : و الله لا ثأرت قريش بأخي ما حنت النيب .