غزوة الفتح
و هي التي توطد أمر الإسلام بها و تمهد الدين بما من الله سبحانه على
نبيه فيها و إنجاز وعده في قوله إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ ...إلى آخرها
و قوله تعالى لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ... الآية و كانت الأعين إليها
ممتدة و الرقاب متطاولة و كتم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمره حين أرادها و أخبر به عليا (عليه السلام) و كان
شريكه في الرأي و أمينه على السر ثم عرف أبا بكر و جماعة من أصحابه بعد ذلك و جرى
الأمر في ذلك على حال ما زال أمير المؤمنين منفردا بالفضل فيها.
فمن ذلك أن حاطب
بن أبي بلتعة و كان من أهل مكة و شهد بدرا كتب إلى أهل مكة كتابا يطلعهم على سر
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مسيره إليهم فجاء الوحي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما فعل و كان أعطى الكتاب
امرأة سوداء كانت وردت المدينة مستميحة و أمرها أن تأخذ على غير الطريق فاستدعى (صلى الله عليه وآله وسلم ) عليا (عليه السلام) و قال إن بعض أصحابي قد كاتب أهل مكة يخبرهم بخبرنا و قد كنت سألت الله أن
يعمي أخبارنا عليهم و الكتاب مع امرأة سوداء و قد أخذت على غير الطريق فخذ سيفك و
الحقها و انتزع الكتاب منها و خلها و عد إلي و أنفذ الزبير معه فمضيا و أدركا
الامرأة و سبق إليها الزبير و سألها عن الكتاب فأنكرته و حلفت فقال الزبير ما أرى
معها كتابا يا أبا الحسن فارجع بنا إلى رسول الله نخبره ببراءة ساحتها فقال أمير
[217]
المؤمنين يخبرني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن معها كتابا و يأمرني بأخذه
و تقول لا كتاب معها ثم اخترط سيفه و قال و الله لئن لم تخرجي الكتاب لأضربن عنقك
فقالت إذا كان كذلك فأعرض عني حتى أخرجه فأعرض بوجهه فكشفت وجهها و أخرجته من
عقيصتها فأخذه أمير المؤمنين (عليه السلام) و صار به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
فأمر أن ينادى بالصلاة جامعة فنودي و اجتمعوا ثم صعد المنبر و أخذ الكتاب
فقال أيها الناس إني كنت سألت الله عز اسمه أن يخفي أخبارنا عن قريش و إن رجلا كتب
إلى أهله يخبرهم خبرنا فليقم صاحب الكتاب و إلا فضحه الوحي فلم يقم أحد فأعاد
ثانية فقام حاطب و هو يرعد كالسعفة و قال أنا صاحب الكتاب و ما أحدثت نفاقا بعد
إسلامي و لا شكا بعد يقيني فقال له (صلى الله عليه وآله وسلم) فما الذي حملك على ذلك فقال إن لي أهلا بمكة
و لا عشيرة لي بها و خفت أن تكون الدائرة لهم علينا فيكون الكتاب كفا لهم عن أهلي
و يدا لي عليهم و لم يكن لشك مني في الدين فقال عمر يا رسول الله مرني بقتله فقد
نافق فقال إنه من أهل بدر و لعل الله اطلع عليهم فغفر لهم أخرجوه من المسجد فجعل
الناس يدفعونه في ظهره و يخرجونه و هو يلتفت إلى رسول الله ليرق له فرده و قال قد
عفوت عنك فاستغفر ربك و لا تعد لمثل ما جنيت .
و هذه المنقبة لاحقة بمناقبه (عليه السلام) و فيها من جده في إخراج الكتاب من
الامرأة و عزيمته في ذلك و أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يثق في ذلك إلا به و أنفذ الزبير معه لأنه في عداد بني هاشم من قبل أمه
صفية بنت عبد المطلب فأراد أن يتولى سره أهله و كان للزبير شجاعة و فيه إقدام و
نسبه متصل بنسب أمير المؤمنين (عليه السلام) فعلم أنه يساعده على أمره و كان الزبير تابعا لعلي
مع أنه خالف الصواب في تنزيهها من الكتاب فتدارك
[218]
ذلك علي ع
و في ذلك من الفضيلة و المنقبة ما تفرد به و لم يشاركه فيه أحد و قد ذكر هذه
القضية بقريب من هذه الألفاظ جماعة غير المفيد و كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطى الراية يوم
الفتح سعد بن عبادة و أمره أن يدخل بها مكة أمامه فأخذها سعد و هو يقول :
اليوم يوم الملحمة *** اليوم تستحل الحرمة .
فقال بعض القوم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أ ما تسمع ما يقول سعد و الله إنا نخاف أن
تكون له اليوم صولة في قريش فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) أدرك يا علي سعدا فخذ الراية منه و ادخل بها
أنت قلت هكذا ذكره أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه فاستدرك به (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كاد
يفوت من صواب التدبير بتهجم سعد و إقدامه على أهل مكة و علم أن الأنصار لا توافق
على عزل سيدها و أخذ الراية منه إلا بمثل علي (عليه السلام) و لأن حاله في ذلك كما لو أخذها
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في جلالة قدره و رفيع مكانه و هذا عزل خير من ولاية فإن من كان بحيث لا
يقوم مقامه و لا يسد مسده إلا علي (عليه السلام) فله أن يطاول الأفلاك و يفاخر الأملاك و لو
كان في الصحابة من يوافق الأنصار على عزل صاحبها به لاختاره لذلك و ندبه إليه و
لكنه أبو الحسن (عليه السلام) القائم مقام نفسه المشارك له في نوعه و جنسه صلى الله عليهما و
آلهما الطاهرين.
و كان عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يقاتلوا بمكة إلا من قاتلهم سوى نفر
كانوا يؤذونه فقتل أمير المؤمنين (عليه السلام) منهم الحويرث بن نفيل بن كعب و كان يؤذي رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة و بلغه (عليه السلام) أن أخته أم هانئ قد آوت ناسا من بني مخزوم فيهم الحرث بن
هشام و قيس بن السائب فقصد (عليه السلام) دارها و هو مقنع بالحديد فنادى أخرجوا من آويتم فخرجت
إليه أم هانئ و هي لا تعرفه فقالت يا عبد الله أنا أم هانئ بنت عم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و
أخت علي بن أبي طالب انصرف عن داري فقال أخرجوهم فقالت و الله لأشكونك إلى رسول
الله فرفع المغفر عن رأسه فعرفته فجاءت تشتد حتى التزمته و قالت فديتك حلفت
لأشكونك إلى رسول الله فقال اذهبي فبري قسمك فإنه بأعلى الوادي قالت فجئت إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو في قبة يغتسل و فاطمة تستره
[219]
فلما سمع رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلامي قال مرحبا بك يا أم هانئ و أهلا قلت بأبي أنت و أمي أشكو إليك ما
لقيت من علي اليوم فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أجرت من أجرت فقالت فاطمة إنما جئت يا أم
هانئ تشكين عليا في أنه أخاف أعداء الله و أعداء رسوله فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد شكر الله
سعي علي و أجرت من أجارت أم هانئ لمكانها من علي.
و لما دخل (صلى الله عليه وآله وسلم) المسجد وجد فيه
ثلاثمائة و ستين صنما بعضها مشدود ببعض بالرصاص فقال :
أعطني يا علي كفا من الحصى فناوله كفا فرماها به و هو يقول جاء الحق و زهق
الباطل إن الباطل كان زهوقا .
فلم يبق فيها صنم إلا خر لوجهه و أخرجت من المسجد و كسرت .