next page

fehrest page

back page

غزوة حنين

ثم كانت غزوة حنين فاستظهر فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بكثرة الجمع فخرج و معه عشرة آلاف من المسلمين فظن أكثرهم أن لن يغلبوا لما شاهدوا من كثرة جمعهم و عددهم و عدتهم و أعجب أبا بكر الكثرة يومئذ فقال لن يغلب اليوم من قلة فكان الأمر بخلاف ما ظنوه و عانهم أبو بكر فلما التقوا لم يلبثوا و انهزموا بأجمعهم و لم يبق مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا تسعة من بني هاشم و عاشرهم أيمن ابن أم أيمن و قتل رحمه الله و ثبت التسعة الهاشميون و رجعوا بعد ذلك و تلاحقوا و كانت الكرة لهم على المشركين فأنزل الله في إعجاب أبي بكر بالكثرة وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يريد عليا (عليه السلام) و من ثبت معه من بني هاشم أمير المؤمنين و ثمانية العباس بن عبد المطلب عن يمين رسول الله و الفضل بن العباس عن يساره و أبو سفيان بن الحارث ممسك بسرجه عند نفر بغلته و أمير المؤمنين بالسيف بين يديه و نوفل بن حرث و ربيعة بن الحرث و عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب و عتبة و معتب ابنا أبي لهب حوله و في ذلك يقول مالك بن عبادة الغافقي :

لم يواس النبي غير بني هاشم *** عند السيوف يوم حنين

‏هرب الناس غير تسعة رهط *** فهم يهتفون بالناس أين

‏ثم قاموا مع النبي على الموت *** فأبوا زينا لنا غير شين

[222]

و ثوى أيمن الأمين من القوم *** شهيدا فاعتاض قرة عين

و قال العباس بن عبد المطلب في هذا المقام :

نصرنا رسول الله في الحرب تسعة *** و قد فر من قد فر عنه فاقشعوا

و قولي إذا ما الفضل شد بسيفه على *** القوم أخرى يا بني ليرجعوا

و عاشرنا لاقى الحمام بنفسه *** لما ناله في الله لا يتوجع

يعني به أيمن ابن أم أيمن و لما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هزيمة القوم قال للعباس و كان رجلا جهوريا صيتا ناد في الناس و ذكرهم العهد فنادى العباس يا أهل بيعة الشجرة يا أصحاب سورة البقرة إلى أين تفرون اذكروا العهد الذي عاهدكم عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و القوم على وجوههم قد ولوا مدبرين و كانت ليلة ظلماء و رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) في الوادي و المشركون قد خرجوا عليه من جنبات الوادي و شعابه و مضايقه بسيوفهم و عمدهم فنظر إلى الناس ببعض وجهه فأضاء كأنه القمر ليلة البدر ثم نادى أين ما عاهدتم الله عليه فأسمع أولهم و آخرهم فلم يسمعها رجل إلا رمى بنفسه إلى الأرض و انحدروا إلى حيث كانوا من الوادي حتى لحقوا بالعدو فواقعوه و جاء رجل من هوازن على جمل و معه راية سوداء في رأس رمح طويل أمام القوم إذا أدرك ظفرا من المسلمين أكب عليهم و إذا فاته الناس رفعه لمن وراءه من المشركين فاتبعوه و هو يرتجز :

أنا أبو جرول لا براح *** حتى نبيح القوم أو نباح

فصمد له أمير المؤمنين فضرب عجز بعيره فصرعه ثم ضربه فقطره.

يقال قطره أي ألقاه على أحد قطريه أي جانبيه.

[223]

ثم قال .

قد علم القوم لدى الصباح *** أني في الهيجاء ذو نضاح

فكانت هزيمة المشركين بقتل أبي جرول لعنه الله ثم التأم المسلمون و صفوا للعدو فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : اللهم إنك أذقت أول قريش نكالا فأذق آخرهم وبالا وتجالدوا فقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ركائبه فقال الآن حمي الوطيس.

الوطيس التنور و استعير للحرب إذا اشتدت و يقال إنها لم تسمع إلا منه (عليه السلام) .

و قال أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب

فما كان أسرع من أن ولى القوم أدبارهم و جي‏ء بالأسرى مكتفين و لما قتل أمير المؤمنين أبا جرول و وضع المسلمون سيوفهم فيهم قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) منهم أربعين رجلا ثم كانت الهزيمة و الأسر حينئذ و كان أبو بكر الذي عانهم و علي (عليه السلام) الذي أعانهم و كان أبو سفيان صخر بن حرب في جملة من انهزم من المسلمين .

فروي عن معاوية قال : لقيت أبي منهزما مع بني أبيه من أهل مكة فصحت به يا ابن حرب و الله ما صبرت من ابن عمك و لا قاتلت عن دينك و لا كففت هؤلاء الأعراب عن حريمك .

فقال : من أنت ?

فقلت : معاوية .

قال : ابن هند ?

قلت : نعم .

فقال : بأبي و أمي ثم وقف و اجتمع معه ناس من أهل مكة و انضممت إليهم و حملنا على القوم فضعضعناهم و ما زال المسلمون يقتلون و يأسرون حتى تعالى النهار.

و في هذه الغزاة قسم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) الغنائم و أجزل القسم للمؤلفة قلوبهم كأبي سفيان و معاوية ابنه و عكرمة بن أبي جهل و رجال منهم و أعطى الأنصار شيئا يسيرا فغضب ناس من الأنصار و بلغه عنهم مقال فأسخطه فجمعهم و قال :

اجلسوا و لا يجلس

[224]

معكم أحد غيركم فجاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و معه أمير المؤمنين فجلس وسطهم فقال إني سائلكم فأجيبوني : أ لم تكونوا ضالين فهداكم الله بي ?

قالوا : بلى فلله المنة و لرسوله .

قال : أ لم تكونوا على شفا حفرة من النار فأنقذكم الله بي ?

قالوا بلى فلله المنة و لرسوله .

قال : أ لم تكونوا قليلا فكثركم الله بي ?

قالوا : بلى فلله المنة و لرسوله .

قال : أ لم تكونوا أعداء فألف الله بين قلوبكم بي ?

قالوا : بلى فلله المنة و لرسوله .

ثم سكت (صلى الله عليه وآله وسلم) هنيئة , و قال : أ لا تجيبون بما عندكم ?

قالوا : بم نجيبك فداك آباؤنا و أمهاتنا , قد أجبنا بأن لك المن و الفضل و الطول علينا .

قال : أما لو شئتم لقلتم و أنت جئتنا طريدا فآويناك , و خائفا فآمناك , و مكذبا فصدقناك , فارتفعت أصواتهم بالبكاء و قام شيوخهم و ساداتهم فقبلوا يديه و رجليه , و قالوا : رضينا بالله و عنه و برسوله و عنه و هذه أموالنا بين يديك فإن شئت فاقسمها على قومك و إنما قال من قال منا على غير وغر صدر و غل في قلب و لكنهم ظنوا سخطا عليهم و تقصيرا بهم و قد استغفروا من ذنوبهم فاستغفر لهم يا رسول الله فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) اللهم اغفر للأنصار و لأبناء الأنصار و لأبناء أبناء الأنصار ; يا معشر الأنصار أ ما ترضون أن يرجع غيركم بالثناء و النعم و ترجعون أنتم و في سهمكم رسول الله ?

قالوا : بلى رضينا .

قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : الأنصار كرشي و عيبتي لو سلك الناس واديا و سلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار .

الكرش معروفة يقال لها كرش و كرش و العيبة ما يجعل فيه الثياب و الجمع عيب و كان المعنى هم موضع سري أودع عندهم منه و ما أريد حفظه و الانتفاع به و كتمانه كما يودع الكرش و العيبة ما يترك فيهما للانتفاع و الحفظ و هذا أنسب من كون الكرش يراد بها الجماعة من الناس كما قال الجوهري فإنه قال الكرش الجماعة من الناس و منه الحديث الأنصار كرشي و عيبتي فيخلو الكلام من

[225]

المناسبة و المدح على قوله و كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) أعطى العباس بن مرداس أربعة من الإبل يومئذ فسخطها و قال يومئذ :

أ تجعل نهبي و نهب العبيد *** بين عيينة و الأقرع‏

و ما كان حصن و لا حابس *** يفوقان شيخي في مجمع‏

و ما كنت دون امرئ منهم *** و من يوضع اليوم لا يرفع

فبلغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك فأحضره و قال :أنت القائل :

أ تجعل نهبي و نهب العبيد *** بين الأقرع و عيينة

فقال له أبو بكر بأبي أنت و أمي لست بشاعر .

قال : و كيف قال ?

قال :

... ... ... *** بين عيينة و الأقرع

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين (عليه السلام) : قم يا علي إليه فاقطع لسانه .

قال : فقال العباس فو الله لهذه الكلمة كانت أشد علي من يوم خثعم حين أتونا في ديارنا ; فانطلق بي و إني لأود أن أخلص منه , فقلت : أ تقطع لساني ?

قال : إني ممض فيك قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ; فما زال حتى أدخلني الخطائر , و قال : خذ ما بين أربع إلى مائة .

فقلت : بأبي أنت و أمي ما أكرمكم و أحلمكم و أعلمكم .

فقال : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطاك أربعا و جعلك مع المهاجرين فإن شئت فخذها و إن شئت فخذ المائة و كن مع أهل المائة .

قال : قلت أشر علي ?

قال : إني آمرك أن تأخذ ما أعطاك و ترضى .

قلت : فإني أفعل .

و لما قسم (صلى الله عليه وآله وسلم) غنائم حنين جاء رجل طوال أدم أحنى الأدمة السمرة و رجل أحنى الظهر و امرأة حنياء و حناء في ظهرها احديداب و الطول بالضم الطويل فإذا فرط قيل طوال شدد بين عينيه أثر السجود فسلم و لم يخص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قال رأيتك و ما صنعت في هذه الغنائم فقال و كيف رأيت قال لم أرك عدلت فغضب رسول الله و قال ويلك

[226]

إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون فقال المسلمون أ لا نقتله فقال دعوه فإنه سيكون له أتباع يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية يقتلهم الله على يدي أحب الخلق إليه من بعدي فقتله أمير المؤمنين فيمن قتل من الخوارج يوم النهروان .

فانظر إلى مفاخر أمير المؤمنين في هذه الغزاة و مناقبه و جل بفكرك في بدائع فضله و عجائبه و احكم فيها برأي صحيح الرأي صائبه و اعجب من ثباته حين فر الشجاع على أعقابه و لم ينظر في الأمر و عواقبه و اعلم أنه أحق بالصحبة حين لم ير مفارقة صاحبه و تيقن أنه إذا حم الحمام لم ينتفع المرء بغير أهله و أقاربه فإذا صح ذلك عندك بدلائله و بيناته و عرفته بشواهده و علاماته فاقطع أن ثبات من ثبت من نتائج ثباته و أنهم كانوا أتباعا له في حروبه و مقاماته و أن رجوع من رجع من هزيمته فإنما كان عند ما بان لهم من النصر و أماراته و قتله ذلك الطاغية في أربعين من حماته حتى أذن الله بتفرقة ذلك الجمع و شتاته و اقتسم المسلمون ما أفاءه الله عليهم من غنائم ذلك الجيش اللهام و إصلاحه أمر العباس حين فهم عن رسول الله فحوى الكلام و رده بلطف توصله إلى الرضا بقسم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فصح له باتباع رأيه الثبات على الإسلام ثم كلام ذلك الشقي الذي اعترض على قسمة النبي و نطق الشيطان على لسانه فسام نفسه في المرعى الوبيل الوبي و حكم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه من جرز سيف الوصي و نبه بذلك على فضله و أنه على الصراط السوي و أنه على الحق و الحق معه إخبارا من الله العلي. و سار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الطائف فحاصرها و أنفذ أمير المؤمنين في خيل و أمره أن يطأ ما وجد و يكسر كل صنم وجده فسار و لقيته خيل من خثعم في جمع كثير و برز إليه رجل منهم اسمه شهاب في وقت الصبح فقال (عليه السلام) :

إن على كل رئيس حقا *** أن يروي الصعدة أو تندقا .

[227]

و ضربه فقتله و هزم جمعه و كسر الأصنام و عاد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو على الطائف فخلا به و ناجاه طويلا قال جابر فقال عمر بن الخطاب أ تناجيه و تخلو به دوننا فقال يا عمر ما أنا انتجيته و لكن الله انتجاه و خرج من حصن الطائف نافع بن غيلان في خيل من ثقيف فلقيه أمير المؤمنين ببطن وج فقتله و انهزم المشركون و دخلهم الرعب فنزل منهم جماعة و أسلموا و كان حصار الطائف بضعة عشر يوما.

next page

fehrest page

back page