next page

fehrest page

back page

فصل

و لما انتشر أمر الإسلام بعد الفتح و ما ولاه من الغزوات وفدت الوفود على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و كان ممن وفد عليه أبو حارثة أسقف نجران في ثلاثين رجلا من النصارى منهم العاقب و السيد و عبد المسيح فقدموا المدينة فصارت إليهم اليهود فتساءلوا بينهم فقالت النصارى لهم لستم على شي‏ء و قالت اليهود لهم لستم على شي‏ء و في ذلك أنزل الله وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ‏ءٍ ... إلى آخرها .

فلما صلى النبي العصر جاءوا إليه يقدمهم الأسقف , فقال يا محمد : ما تقول في السيد المسيح ?

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : عبد الله اصطفاه و انتجبه .

فقال الأسقف : أ تعرف له أبا ولده ?

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم ) : لم يكن عن نكاح فيكون له والد .

فقال : كيف تقول إنه عبد مخلوق و أنت لا ترى عبدا بغير أب ?

فأنزل الله تعالى الآيات من سورة آل عمران إلى قوله إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ.

فتلاها على النصارى و دعاهم إلى المباهلة و قال إن الله أخبرني أن العذاب ينزل على المبطل عقيب المباهلة و يبين الله الحق من الباطل .

فاجتمع الأسقف و أصحابه و تشاوروا و اتفق رأيهم على استنظاره إلى صبيحة غد .

فلما رجعوا إلى رحالهم , قال الأسقف : انظروا محمدا فإن غدا بأهله و ولده فاحذروا مباهلته و إن غدا بأصحابه فباهلوه فإنه

[233]

على غير شي‏ء .

فلما كان الغد جاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) آخذا بيد علي (عليه السلام) و الحسن و الحسين (عليهما السلام) يمشيان بين يديه و فاطمة تمشي خلفه فسأل الأسقف عنهم فقالوا هذا علي ابن عمه و هو صهره و أبو ولده و أحب الخلق إليه و هذان الطفلان ابنا بنته من علي و هما أحب الخلق إليه و هذه الجارية فاطمة ابنته و هي أعز الناس عنده و أقربهم إلى قلبه .

فنظر الأسقف إلى العاقب و السيد و عبد المسيح و قال لهم :انظروا قد جاء بخاصته من ولده و أهله ليباهل بهم واثقا بحقه ; و الله ما جاء بهم و هو يتخوف الحجة عليه ; فاحذروا مباهلته , و الله لو لا مكانة قيصر لأسلمت له , و لكن صالحوه على ما يتفق بينكم و ارجعوا إلى بلادكم و ارتئوا لأنفسكم .

فقالوا : رأينا لرأيك تبع .

فقال الأسقف : يا أبا القاسم إنا لا نباهلك و لكنا نصالحك فصالحنا على ما ننهض به .

فصالحهم على ألفي حلة قيمة كل حلة أربعون درهما جيادا فما زاد أو نقص كان بحساب ذلك و كتب لهم به كتابا.

ففي هذه القضية بيان لفضل علي (عليه السلام) و ظهور معجز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن النصارى علموا أنهم متى باهلوه حل بهم العذاب فقبلوا الصلح و دخلوا تحت الهدنة و إن الله تعالى أبان أن عليا هو نفس رسول الله كاشفا بذلك عن بلوغه نهاية الفضل و مساواته للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الكمال و العصمة من الآثام و إن الله جعله و زوجته و ولديه مع تقارب سنهما حجة لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و برهانا على دينه و نص على الحكم بأن الحسن و الحسين أبناؤه و أن فاطمة (عليها السلام) نساؤه و المتوجه إليهن الذكر و الخطاب في الدعاء إلى المباهلة و الاحتجاج و هذا فضل لم يشاركهم فيه أحد من الأمة و لا قاربهم .

و نقلت من كتاب الكشاف للزمخشري في تفسير هذه الآية ما صورته : يقال بهله الله على الكاذب منا و منكم و البهلة بالضم و الفتح اللعنة و بهله الله لعنه و أبعده من رحمته من قولك أبهله إذا أهمله و ناقة باهل لا صرار عليها.

قلت الصرار خيط يشد على خلفها لئلا يرضعها ولدها.

[234]

قال و أصل الابتهال هذا , ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه و إن لم يكن التعانا و روي أنه لما دعاهم إلى المباهلة قالوا حتى نرجع و ننظر فلما تخالوا قالوا للعاقب و كان ذا رأيهم يا عبد المسيح ما ترى فقال و الله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل و لقد جاءكم بالفضل من أمر صاحبكم و الله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم و لا نبت صغيرهم و لئن فعلتم لتهلكن فإن أبيتم إلا إلف دينكم و الإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل و انصرفوا إلى بلادكم .

فأتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد غدا محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن و فاطمة تمشي خلفه و علي خلفها و هو يقول إذا أنا دعوت فأمنوا .

فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو شاء الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا و لا يبق على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة فقالوا يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك و أن نقرك على دينك و نثبت على ديننا قال (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين و عليكم ما عليهم فأبوا قال فإني أناجزكم فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة و لكن نصالحك على أن لا تغزونا و لا تخيفنا و لا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة ألفا في صفر و ألفا في رجب و ثلاثين درعا عادية من حديد فصالحهم على ذلك .

و قال و الذي نفسي بيده إن الهلاك [العذاب] قد تدلى على أهل نجران و لو لاعنوا لمسخوا قردة و خنازير و لاضطرم الوادي عليهم نارا و لاستأصل الله نجران و أهله حتى الطير على رءوس الشجر و لما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا .

و عن عائشة : أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج و عليه مرط مرجل من شعر أسود فجاء الحسن فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله ثم فاطمة ثم علي ثم قال إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.

فإن قلت ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه و من خصمه و

[235]

ذلك أمر يختص به و بمن يكاذبه فما معنى ضم الأبناء و النساء.

قلت ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله و استيقانه بصدقه حيث استجرأه على تعريض أعزته و أفلاذ كبده و أحب الناس إليه لذلك لم يقتصر على تعريض نفسه له و على ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته و أعزته هلاك الاستئصال إلى أن تمت المباهلة و خص الأبناء و النساء لأنهم أعز الأهل و ألصقهم بالقلوب و ربما فداهم الرجل بنفسه و حارب دونهم حتى يقتل ثم من ثم كانوا يسوقون مع أنفسهم الضغائن في الحروب لتمنعهم من الحرب يسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق و قدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم و قرب منزلتهم و ليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها و فيه دليل لا شي‏ء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء (عليه السلام) و فيه برهان واضح على صحة نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه لم يرو أحد من موافق و لا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك انتهى كلام الزمخشري .

next page

fehrest page

back page