حرب صفين
و من حروبه حرب صفين المشتملة
على وقائع يضطرب لها فؤاد الجليد و يشيب لهولها فود الوليد و يذوب لتسعر بأسها زبر
الحديد و يجب منها قلب البطل الصنديد و يذهب بها عناد المريد و تمرد العنيد فإنها
أسفرت عن نفوس آساد مختطفه باللهازم و رءوس أجلاد مقتطفه بالصوارم و أرواح فرسان
طائره عن أوكارها و أشباح شجعان قد نبذت بالعراء دون إدراك أوتارها و فراخ هام قد
أنهضت عن مجاثمها و ترائيب دوام أباح حرمتها من أمر بحفظ محارمها فأصبحت فرائس
الوحوش في السباسب و طعمة الكواسر و الكواسب قد ارتوت الأرض من دمائها المطلولة و
غصت البيداء بأشلائها المقتولة و رغمت أنوف حماتها و دنت حتوف
[246]
كماتها بأيدي رجالات بني هاشم الأخيار و سيوف
سروات المهاجرين و الأنصار في طاعة سيدها و إمامها و حامي حقيقتها من خلفها و
أمامها مفرق جموع الكفر بعد التيامها و مشتت طواغيت النفاق بعد انتظامها شيخ الحرب
و فتاها و سيد العرب و مولاها ذي النسب السامي و العرق النامي و الجود الهامي و
السيف الدامي و الشجاع المحامي و البحر الطامي مزيل الضيم ري الظامي مقتحم اللجج
صاحب البراهين و الحجج أكرم من دب بعد المصطفى و درج الذي ما حوكم إلا و فلج فارس
الخيل و سابق السيل و راكب النهار و الليل . تولى (عليه السلام) الحرب بنفسه النفيسة فخاض غمارها
و اصطلى نارها و أزكى أوارها و دوخ أعوانها و أنصارها و أجرى بالدماء أنهارها و
حكم في مهج القاسطين بسيفه فعجل بوارها فصارت الفرسان تتحاماه إذا بدر و الشجعان
تلوذ بالهزيمة إذا زأر عالمة أنه ما صافحت صفحة سيفه مهجة إلا فارقت جسدها و لا
كافح كتيبة إلا افترس ثعلب رمحه أسدها و هذا حكم ثبت له بطريق الإجمال و حال اتصف
به بعموم الاستدلال و لا بد من ذكر بعض مواقفه في صفين فكثرتها توجب الاقتصار على
يسيرها و كأين من حادثة يستغنى عن ثبوت طويلها بقصيرها.
فمنها أنه خرج من عسكر
معاوية المخراق بن عبد الرحمن و طلب البراز فخرج إليه من عسكر علي (عليه السلام) المؤمل بن
عبيد الله المرادي فقتله الشامي و نزل فجز رأسه و حك بوجهه الأرض و كبه على وجهه
فخرج إليه فتى من الأزد اسمه مسلم بن عبد الله فقتله الشامي و فعل به كما فعل فلما
رأى علي (عليه السلام) ذلك تنكر و الشامي واقف يطلب البراز فخرج إليه و هو لا يعرفه فطلبه
فبدره علي (عليه السلام) بضربة على عاتقه فرمى بشقه فنزل فاجتز رأسه و قلب وجهه إلى السماء , و ركب و نادى هل من مبارز ?
فخرج إليه فارس فقتله , و فعل به كما فعل , و ركب و نادى هل من
مبارز ?
فخرج إليه فارس فقتله و فعل به كما فعل , كذا إلى أن قتل سبعة ; فأحجم عنه الناس
و لم يعرفوه .
و كان لمعاوية عبد
[247]
يسمى حربا و كان شجاعا فقال
له معاوية : ويلك يا حرب اخرج إلى هذا الفارس فاكفني أمره فقد قتل من أصحابي ما قد
رأيت .
فقال له حرب : و الله إني أرى مقام فارس لو برز إليه أهل عسكرك لأفناهم عن
آخرهم , فإن شئت برزت إليه و أعلم أنه قاتلي , و إن شئت فاستبقني لغيره .
فقال معاوية : لا و الله ما أحب أن تقتل , فقف مكانك حتى يخرج إليه غيرك .
و جعل علي (عليه السلام) يناديهم و لا
يخرج إليه أحد , فرفع المغفر عن رأسه و رجع إلى عسكره .
فخرج رجل من أبطال الشام يقال
له كريب بن الصباح و طلب البراز فخرج إليه المبرقع الخولاني فقتله الشامي , و خرج
إليه آخر فقتله أيضا , فرأى علي (عليه السلام) فارسا بطلا فخرج إليه علي (عليه السلام) بنفسه فوقف قبالته و
قال له : من أنت ?
قال : أنا كريب بن الصباح الحميري .
فقال له علي : ويحك يا كريب إني أحذرك
الله في نفسك و أدعوك إلى كتابه و سنة نبيه .
فقال له كريب : من أنت ?
فقال : أنا علي بن
أبي طالب فالله الله في نفسك فإني أراك فارسا بطلا فيكون لك ما لنا و عليك ما
علينا و تصون نفسك من عذاب الله و لا يدخلنك معاوية نار جهنم .
فقال كريب : ادن مني إن
شئت , و جعل يلوح بسيفه .
فمشى إليه علي (عليه السلام) : فالتقيا ضربتين بدره علي فقتله .
فخرج إليه (عليه السلام) الحارث الحميري , فقتله , و آخر فقتله , حتى قتل أربعة و هو يقول : الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ
الْحَرامِ وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
مَعَ الْمُتَّقِينَ .
ثم صاح علي (عليه السلام) : يا معاوية هلم إلى مبارزتي و لا تفنين العرب
بيننا .
فقال معاوية : لا حاجة لي في ذلك , فقد قتلت أربعة من سباع العرب فحسبك .
فصاح شخص من أصحاب معاوية اسمه عروة بن داود , يا علي : إن كان معاوية قد كره مبارزتك فهلم إلى
مبارزتي .
فذهب علي نحوه فبدره عروة بضربة فلم تعمل شيئا .
فضربه علي فأسقطه قتيلا ثم قال انطلق إلى النار .
و كبر على أهل الشام عند قتل عروة , و جاء الليل .
و خرج علي (عليه السلام) في
يوم آخر متنكرا و طلب البراز فخرج إليه عمرو بن العاص و هو لا يعرف أنه علي و عرفه
علي (عليه السلام) فاطرد بين يديه ليبعده عن عسكره فتبعه عمرو مرتجزا :
يا قادة الكوفة من أهل الفتن *** أضربكم و لا أرى أبا الحسن
[248]
فرجع إليه علي (عليه السلام) و هو يقول :
أبو الحسين فاعلمن و الحسن *** جاءك يقتاد العنان و الرسن
فعرفه عمرو فولى ركضا و لحقه علي (عليه السلام) فطعنه طعنة وقع الرمح في فصول درعه
فسقط إلى الأرض و خشي أن يقتله علي فرفع رجليه فبدت سوأته فصرف علي (عليه السلام) وجهه و انصرف
إلى عسكره.
و جاء عمرو و معاوية يضحك منه فقال مم تضحك و الله لو بدا لعلي من
صفحتك ما بدا له من صفحتي إذا لأوجع قذالك و أيتم عيالك و أنهب مالك فقال معاوية
لو كنت تحتمل مزاحا لمازحتك فقال عمرو و ما أحملني للمزاح و لكن إذا لقي الرجل
رجلا فصد عنه و لم يقتله أ تقطر السماء دما فقال معاوية لا و لكنها تعقب فضيحة
الأبد حينا أما و الله لو عرفته لما أقدمت عليه قلت قد أجاد القائل ما شاء و أظنه
أبا فراس بن حمدان :
و لا خير في دفع الردى بمذلة *** كما ردها يوما بسوأته عمرو
و كان في أصحاب معاوية فارس مشهور بالشجاعة اسمه بسر بن أرطاة.
قلت
هذا
بسر بن أرطاة لعنه الله هو صاحب
جيش معاوية إلى اليمن و كان من شر الناس و أقدمهم على معاصي الله تعالى و سفك
الدماء المحرمة و أشد العالمين عداوة لله و لرسوله و لآل بيته و أقلهم دينا و
أكثرهم عنادا للحق و أقربهم إلى مساوئ الأخلاق و أبعدهم من خير و أعظمهم تمردا و
كفرا و تسلطا لا يميز بين حق و باطل جاهل فاسق فظ غليظ متمرد لئيم سيئ الملكة
قتال .
قال ابن الأثير في تاريخه ما هذا ملخصه : قال بعث معاوية بسر بن أرطاة في سنة
أربعين في ثلاثة آلاف فارس إلى الحجاز و اليمن فأتى المدينة و فيها أبو أيوب
الأنصاري عامل علي عليها فهرب و أتى عليا بالكوفة و دخل بسر المدينة و لم يقاتله
أحد و نادى الأنصار شيخي عهدته هنا فما فعل يعني عثمان ثم قال و الله لو لا ما عهد
إلي معاوية ما تركت بها محتلما و طلب جابر بن عبد الله ليبايع فهرب إلى أم سلمة
رضي
[249]
الله عنها فأشارت عليه بالمبايعة و خرج بسر إلى مكة
فخاف أبو موسى الأشعري أن يقتله فهرب و أكره الناس إلى البيعة و سار إلى اليمن و
عاملها من قبل علي (عليه السلام) عبيد الله بن العباس فهرب إلى علي بالكوفة و استخلف على اليمن
عبد الله بن عبد المدان الحارثي فأتاه بسر فقتله و قتل ابنه و قتل ابنين لعبيد
الله بن العباس و كانا مقيمين عند شخص بالبادية فقال أي ذنب لهما إن كنت لا بد
قاتلهما فاقتلني فقتله و قيل إنه حارب دونهما حتى قتل و كان ينشد :
الليث من يمنع حافات الدار *** و لا يزال مصلتا دون الجار
و خرجت امرأة فقالت : قتلت الرجال فعلام تقتل الذرية ? و الله ما كانوا
يقتلون في جاهلية و لا إسلام ; و الله يا ابن أرطاة إن سلطانا لا يقوم إلا بقتل
الصبي الصغير و الشيخ الكبير و نزع الرحمة و عقوق الأرحام لسلطان سوء .
و قتل بسر في
مسيره ذلك جماعة من شيعة علي باليمن و بلغ عليا الخبر فأرسل حارثة بن قدامة في
ألفي فارس و وهب بن مسعود في ألفين فسمع بهما الملعون بسر فهرب و كانت أم الصبيين
المقتولين جويرية بنت فارط و قيل عائشة بنت عبد الله بن عبد المدان قد ولهت لما
قتل ولداها فلا تعقل و لا تصغي و لا تزال تنشدهما في المواسم و تقول :
يا من أحس بابني اللذين هما *** كالدرتين تشظى عنهما الصدف
يا من أحس بابني اللذين هما *** قلبي و سمعي فقلبي اليوم مختطف
و هي أبيات مشهورة و لما سمع أمير المؤمنين بقتلهما جزع جزعا شديدا و
دعا على بسر , فقال : اللهم اسلبه دينه و عقله فأصابه ذلك و فقد عقله و كان يهدي بالسيف و يطلبه فيؤتى بسيف من خشب و يجعل بين يديه زق منفوخ فلا يزال يضربه فلم يزل كذلك حتى مات.
و لما استقر الأمر لمعاوية دخل عليه عبيد الله بن العباس و عنده
بسر بن أرطاة , فقال : وددت أن الأرض أنبتتني عندك حين قتلت ولدي .
فقال بسر : هاك
[250]
سيفي , فأهوى عبيد الله يتناوله , فأخذه معاوية , و قال لبسر
: أخزاك الله شيخا قد خرفت , و الله لو تمكن منه لبدأ بي .
قال عبيد الله : أجل ثم ثنيت به .
و قيل إن مسير بسر إلى الحجاز كان سنة اثنتين و أربعين.
رجع الحديث : فلما سمع بسر
عليا يدعو معاوية إلى البراز و معاوية يمتنع قال قد عزمت على مبارزه علي فلعلي
أقتله فأذهب في العرب بشهرته و شاور غلاما يقال له لاحق فقال إن كنت واثقا من نفسك
فافعل و إلا فلا تبرز إليه فإنه و الله الشجاع المطرق :
فأنت له يا بسر إن كنت مثله *** و إلا فإن الليث للضبع آكل
متى تلقه فالموت في رأس رمحه *** و في سيفه شغل لنفسك شاغل
فقال : ويحك هل هو إلا الموت و لا بد من لقاء الله على كل الأحوال إما
بموت أو قتل .
ثم خرج بسر إلى علي (عليه السلام) و هو ساكت بحيث لا يعرفه علي (عليه السلام) لحالة كانت صدرت
منه ; فلما نزل إليه علي (عليه السلام) حمل عليه فسقط بسر عن فرسه على قفاه و رفع رجليه و انكشف
سوأته .
فصرف علي وجهه عنه , و وثب بسر قائما ; و سقط المغفر عن رأسه .
فصاح أصحاب علي : يا أمير المؤمنين إنه بسر بن أرطاة .
فقال (عليه السلام) : ذروه عليه لعنة الله .
فضحك معاوية من بسر و قال : لا عليك فقد نزل بعمرو مثلها .
و صاح فتى من أهل الكوفة ويلكم يا أهل الشام أ ما
تستحيون لقد علمكم ابن العاص لعنه الله تعالى كشف الأستاه في الحروب و أنشد :
أ في كل يوم فارس ذو كريهة *** له عورة وسط العجاجة بادية
يكف بها عنه علي سنانه *** و يضحك منه في الخلاء معاوية
فقولا لعمرو و ابن أرطاة أبصرا *** سبيلكما لا تلقيا الليث ثانية
و لا تحمدا إلا الحيا و خصاكما *** هما كانتا و الله للنفس واقية
فلولاهما لم تنجوا من سنانه و *** تلك بما فيها من العود ثانية
و كان بسر يضحك من عمرو فعاد عمرو يضحك منه و تحامى أهل الشام عليا و
خافوه خوفا شديدا.
[251]
و كان لعثمان مولى اسمه أحمر فخرج يطلب
البراز فخرج إليه كيسان مولى علي (عليه السلام) فحمل عليه فقتله فقال علي (عليه السلام) قتلني الله إن لم
أقتلك ثم حمل عليه فاستقبله بالسيف فاتقى علي ضربته بالجحفة ثم قبض ثوبه و أقلعه
من سرجه و ضرب به الأرض فكسر منكبيه و عضديه و دنا منه أهل الشام فما زاده قربهم
إسراعا فقال له ابنه الحسن (عليه السلام) ما ضرك لو سعيت حتى تنتهي إلى أصحابك فقال يا بني إن
لأبيك يوما لن يعدوه و لا يبطئ به عنه السعي و لا يعجل به إليه المشي و إن أباك و
الله لا يبالي أ وقع على الموت أم وقع الموت عليه.
و كان لمعاوية عبد اسمه حريث و
كان فارسا بطلا فحذره معاوية من التعرض لعلي (عليه السلام) فخرج و تنكر له علي فقال عمرو بن
العاص لحريث لا يفوتك هذا الفارس و عرف عمرو أنه علي فحمل حريث فداخله علي و ضربه
ضربة أطار بها قحف رأسه فسقط قتيلا و اغتم معاوية عليه غما شديدا و قال لعمرو أنت
قتلت حريثا و غررته.
و خرج العباس بن ربيعة بن الحارث الهاشمي فأبلى و خرج فارس من
أصحاب معاوية فتنازلا و تضاربا و نظر العباس إلى وهن في درع الشامي فضربه العباس
على ذلك الوهن فقده باثنين فكبر جيش علي (عليه السلام) و ركب العباس فرسه فقال معاوية من يخرج
إلى هذا فقتله فله كذا و كذا فوثب رجلان من لخم من اليمن فقالا نحن نخرج إليه فقال
اخرجا فأيكما سبق إلى قتله فله من المال ما ذكرت و للآخر مثل ذلك فخرجا إلى مقر
المبارزة و صاحا بالعباس و دعواه إلى المبارزة فقال أستأذن صاحبي و أعود إليكما و
جاء إلى علي (عليه السلام) ليستأذنه فقال له أعطني ثيابك و سلاحك و فرسك فلبسها علي (عليه السلام) و ركب
الفرس و خرج إليهما على أنه العباس فقالا استأذنت صاحبك فتحرج من الكذب فقرأ
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى
نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ فتقدم إليه أحد الرجلين فالتقيا ضربتين ضربه علي على مراق
بطنه فقطعه باثنين فظن أنه أخطأه فلما تحرك الفرس سقط قطعتين و صار فرسه إلى عسكر
علي و تقدم الآخر فضربه علي (عليه السلام) فألحقه بصاحبه ثم جال عليهم جولة و رجع إلى موضعه و
علم معاوية أنه .
[252]
علي فقال قبح الله اللجاج إنه لقعود ما ركبته إلا
خذلت فقال له عمرو بن العاص المخذول و الله اللخميان لا أنت فقال له معاوية اسكت
أيها الإنسان ليس هذه الساعة من ساعاتك فقال عمرو فإن لم تكن من ساعاتي فرحم الله
اللخميين و لا
أظنه يفعل و من وقائع صفين ليلة الهرير التي خاضت الفرسان فيها في دماء أقرانها و
أضرمت الحرب فيها شواظ نيرانها و تعاطى الشجعان فيها كاسات الحمام فمالت بصاحبها و
سكرانها و جل الأمر عن المضاربة بسيفها و المطاعنة بسنانها فهرت لحقدها كادمة
بأنيابها عاضة بأسنانها قد شعلت بنار الحمية فطائفة تجهد في طاعتها و أخرى تدأب في
عصيانها قد صبرت هذه اتباعا لحقها و صدقها و تلك لباطلها و بهتانها قاتلت هذه حسبة
سبيل ربها و إمامها و تلك في اتباع غويها و شيطانها و هذه تعلن بتلاوة كتابها و
ترتيل قرآنها و تلك القاسطة تنادي بدعوى الجاهلية و أوثانها و الإمام (عليه السلام) قد باشرها
بنفسه فكم قتل من رجالها و أردى من فرسانها و كم أنحى على كتيبة فما عاد إلا بعد
تفريق جمعها و هد أركانها و وصل بين الحزن و أهلها و فرق بين رءوسها و أبدانها و
شتت شمل اجتماعها فجمع عليها بين وحوش الأرض و عقبانها فيا لها من ليلة خرست فيها
الشقاشق فلا تسمع إلا همهمة و خشعت لها الأصوات فلا تحس إلا غمغمة و عجزت بها
الألسن عن النطق فكان نطقها تمتمة و أرادت التقريع على فعالها فلم تستطعه فاعتاضت
عنه زئيرا و دمدمة و أظلم سواد حديدها و ليلها و غبارها فعدت بليالي و سال بأرضها
طوفان الدم فسوى بين السافل و العالي و أومضت في ظلمائها بوارق السيوف و بدور
البيض و شهب العوالي و دارت بها رحى الحرب فطحنت الأواخر و الأوالي و انتصب مالك
لتلقي روح المعادي و استبشر رضوان بروح الموالي و أمير المؤمنين فارس ذلك الجمع و
أسده و إمامه و مولاه و سيده و هادي من اتبعه و مرشده يهدر كالفحل و يزأر كالأسد و
يفرقهم و يجمعهم كفعله بالنقد لا يعترضه في إقامة الحق و إدحاض الباطل فتور و لا
يلم به في إعلاء كلمة الله و خزي أعدائه قصور يختطف النفوس و يقتطف الرءوس و يلقي .
[253]
بطلاقة وجهه اليوم العبوس و يذل بسطوة بأسه الأسود
السود و الفرسان الشئوس و يخجل بأنواره في ليل القتام الأقمار و الشموس فما لقي
شجاعا إلا و أراق دمه و لا بطلا إلا و زلزل قدمه و لا مريدا إلا أعدمه و لا قاسطا
إلا قصر عمره و أطال ندمه و لا جمع نفاق إلا فرقه و لا بناء ضلال إلا هدمه و كان
كلما قتل فارسا أعلن بالتكبير فأحصيت تكبيراته ليلة الهرير فكانت خمسمائة و ثلاثا
و عشرين تكبيرة بخمسمائة و ثلاث و عشرين قتيلا من أصحاب السعير و قيل إنه في تلك
الليلة فتق نيفق درعه لثقل ما كان يسيل من الدم على ذراعه و قيل إن قتلاه عرفوا في
النهار فإن ضرباته كانت على وتيرة واحدة إن ضرب طولا قد أو عرضا قط و كانت كأنها
مكواة بالنار قال كمال الدين بن طلحة فما تحلى بهذه المزايا و الخلال و لا أبلى
بلاؤه المذكور في النزال و لا صدرت منه هذه الأفعال إلا عن شجاعة تذل لها الأبطال
و تقل لديها الأهوام و لا تقوم بوصفها الأقلام و الأقوال و لا يحتاج في تحققها أن
يثبتها الاستدلال و على الجملة و التفصيل فمقام شجاعته لا ينال و ما ذا بعد الحق
إلا الضلال و لما أسفر صبح ليلة الهرير عن ضيائه و حسر الليل جنح ظلمائه كانت
القتلى من الفريقين ستة و ثلاثين ألف قتيل هكذا نقله مصنف كتاب الفتوح و مؤرخ
الوقائع التي نقلها بألسنة أقلامه فهي في الرواية منسوبة إليه العهدة فيها عند
تتبعها عليه و هذه الوقائع المذكورة مع أهوالها الصعاب و صيالها المصلى لظى الطعان
و الضراب هي بالنسبة إلى بقايا وقائع صفين كالقطرة من السحاب و الشذرة من السحاب
انتهى كلام ابن طلحة.
قلت و في صبيحة هذه الليلة استظهر أصحاب علي (عليه السلام) و لاحت لهم
أمارات الظفر و علائم الغلب و زحف مالك الأشتر رحمه الله بمن معه حتى ألجأهم إلى
معسكرهم و اشتد القتال ساعتئذ و رأى علي (عليه السلام) أمارات النصر من جهة الأشتر فأمده برجال
من أصحابه و حين رأى عمرو بن العاص ذلك قال لمعاوية إني أعددت لهذا الوقت رأيا
أرجو به تفريق كلمتهم و دفع هذا الأذى المعجل قال معاوية و ما
[254]
هو قال نرفع المصاحف على رءوس الرماح و ندعوهم إلى كتاب الله تعالى فقال أصبت و
رفعوها و رجع القراء عن القتال فقال لهم علي (عليه السلام) إنها فعلة عمرو بن العاص و خديعة و
فرار من الحرب و ليسوا من رجال القرآن فيدعوننا إليه فلم يقبلوا و قالوا لا بد أن
تنفذ و ترد الأشتر عن موقفه و إلا حاربناك و قتلناك أو سلمناك إليهم فأنفذ في طلب
الأشتر فأعاد إليه أنه ليس بوقت يجب أن تزيلني فيه عن موقفي و قد أشرفت على الفتح
فعرفه بالاختلاف الذي وقع فعاد و لام القراء و عنفهم و سبهم و سبوه و ضرب وجه
دوابهم و ضربوا وجه دابته و أبوا إلا الاستمرار على غيهم و انهماكا في بغيهم و
وضعت الحرب أوزارها.
و سأل علي (عليه السلام) ما الذي أردتم برفع المصاحف قالوا الدعاء إلى ما
فيها و الحكم بمضمونها و أن نقيم حكما و تقيموا حكما ينظران في هذا الأمر و يقران
الحق مقره فعرفهم أمير المؤمنين ما في طي أقوالهم من الخداع و ما ينضمون عليه من
خبث الطباع فلم يسمعوا و لم يجيبوا و ألزموه بذلك إلزاما لا محيص عنه فأجاب على
مضض.
و نصب معاوية عمرو بن العاص و عين علي (عليه السلام) على عبد الله بن العباس فلم يوافقوا
و قالوا لا فرق بينك و بينه فقال فأبو الأسود فأبوا عليه فاختاروا أبا موسى
الأشعري فقال (عليه السلام) إن أبا موسى مستضعف و هواه مع غيرنا فقالوا لا بد منه فقال إذا
أبيتم فاذكروا كلما قلت و قلتم و كان من خدع عمرو أبا موسى و حمله على خلع علي (عليه السلام) و
إقرارها على لسان عمرو في معاوية و تشاتمهما و تلاعنهما ما هو مشهور في كتب السير
و التواريخ.
و قد عمل في صفين كتاب مفرد و ليس كتابنا هذا بصدد ذكر ذلك و أمثاله و
إنما غرضنا وصف مواقف أمير المؤمنين (عليه السلام) و شدة بأسه و إقدامه و تعديد مناقبه و ذكر أيامه
و نذكر ملخصا حال معاوية عند عزمه على قتال علي فإنه شاور فيه ثقاته و أهل وده
فقالوا هذا أمر عظيم لا يتم إلا بعمرو بن العاص فإنه قريع زمانه في الدهاء .
[255]
و المكر و قلوب أهل الشام مائلة إليه و هو يخدع و
لا يخدع فقال صدقتم و لكنه يحب عليا فأخاف أن يمتنع فقالوا رغبه بالمال و أعطه
مصر.
فكتب إليه من معاوية بن أبي سفيان خليفة عثمان بن عفان إمام المسلمين و خليفة
رسول رب العالمين ذي النورين ختن المصطفى على ابنتيه و صاحب جيش المعسرة و بئر
رومة المعدوم الناصر الكثير الخاذل المحصور في منزله المقتول عطشا و ظلما في
محرابه المعذب بأسياف الفسقة إلى عمرو بن العاص صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و ثقته و أمير
عسكره بذات السلاسل المعظم رأيه المفخم تدبيره أما بعد فلن يخفى عليك احتراق قلوب
المؤمنين و فجعتهم بقتل عثمان و ما ارتكبه جاره بغيا و حسدا و امتناعه عن نصرته و
خذلانه إياه حتى قتل في محرابه فيا لها مصيبة عمت الناس و فرضت عليهم طلب دمه من
قتله و أنا أدعوك إلى الحظ الأجزل من الثواب و النصيب الأوفر من حسن المآب بقتال
من آوى قتلة عثمان.
فكتب إليه عمرو بن العاص من عمرو بن العاص صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى معاوية بن أبي سفيان أما بعد فقد وصل كتابك فقرأته و فهمته فأما ما دعوتني
إليه من خلع ربقة الإسلام من عنقي و التهور في الضلالة معك و إعانتي إياك على
الباطل و اختراط السيف في وجه علي بن أبي طالب (عليه السلام) و هو أخو رسول الله و وصيه و
وارثه و قاضي دينه و منجز وعده و زوج ابنته سيدة نساء أهل الجنة و أبو السبطين
سيدي شباب أهل الجنة و أما قولك إنك خليفة عثمان فقد صدقت و لكن تبين اليوم عزلك
من خلافته و قد بويع لغيره فزالت خلافتك و أما ما عظمتني به و نسبتني إليه من صحبة
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أني صاحب جيشه فلا أغتر بالتزكية و لا أميل بها عن الملة.
و أما ما
نسبت أبا الحسن أخا رسول الله و وصيه إلى البغي و الحسد لعثمان و سميت الصحابة
فسقة و زعمت أنه أشلاهم على قتله فهذا كذب و غواية ويحك يا معاوية أ ما علمت أن
أبا الحسن بذل نفسه بين يدي رسول الله و بات على فراشه و هو صاحب السبق إلى
الإسلام و الهجرة .
و قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : هو مني و أنا منه و هو مني بمنزلة هارون من موسى
إلا أنه لا نبي بعدي .
و قال فيه يوم
الغدير : من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه و عاد
[256]
من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله .
و قال فيه يوم حنين
: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله .
و قال فيه يوم الطير : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك فلما دخل قال و إلي و إلي .
و قال فيه يوم
النضير : علي إمام البررة و قاتل الفجرة منصور من نصره مخذول من خذله .
و قال فيه : علي
وليكم بعدي .
و أكد القول علي و عليك و على جميع المسلمين .
و قال : إني مخلف
فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي .
و قال : أنا مدينة
العلم و علي بابها .
و قد علمت يا معاوية ما أنزل الله من الآيات المتلوات في فضائله التي
لا يشركه فيها أحد كقوله تعالى يُوفُونَ بِالنَّذْرِ * إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ
وَ رَسُولُهُ * أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ
مِنْهُ * رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ * قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى .
و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أ ما ترضى أن يكون سلمك سلمي و حربك حربي و تكون أخي و
وليي في الدنيا و الآخرة يا أبا الحسن من أحبك فقد أحبني و من أبغضك فقد أبغضني و
من أحبك أدخله الله الجنة و من أبغضك أدخله الله النار .
و كتابك يا معاوية الذي هذا جوابه ليس مما ينخدع به من له عقل و دين
و السلام.
فكتب إليه معاوية يعرض عليه الأموال و الولايات و كتب في آخر كتابه .
جهلت و لم تعلم محلك عندنا *** فأرسلت شيئا من خطاب و ما تدري
فثق بالذي عندي لك اليوم آنفا *** من العز و الإكرام و الجاه و النصر
[257]
فأكتب عهدا ترتضيه مؤكدا *** و أشفعه بالبذل مني و
بالبر
فكتب إليه عمرو :
أبى القلب مني أن أخادع بالمكر *** بقتل ابن عفان أجر إلى الكفر
أبيات ليست بالشعر الجيد يطلب فيها مصر فكتب له معاوية بذلك و أنفذه
إليه ففكر عمرو و لم يدر ما يصنع و ذهب عنه النوم فقال :
تطاول ليلي بالهموم الطوارق *** فصافحت من دهري وجوه البوائق
أ أخدعه و الخدع مني سجية *** أم أعطيه من نفسي نصيحة
وامق
أم أقعد في بيتي و في ذاك راحة *** لشيخ يخاف الموت في كل شارق
فلما أصبح دعا مولاه وردان و كان عاقلا فشاوره في ذلك فقال وردان إن
مع علي آخرة و لا دنيا معه و هي التي تبقى لك و تبقى فيها و إن مع معاوية دنيا و
لا آخرة معه و هي التي لا تبقى على أحد فاختر ما شئت .
فتبسم عمرو و قال :
يا قاتل الله وردانا و فطنته *** لقد أصاب الذي في القلب وردان
لما تعرضت الدنيا عرضت لها *** بحرص نفس و في الأطباع إدهان
نفس تعف و أخرى الحرص يغلبها *** و المرء يأكل نتنا و هو غرثان
أما علي فدين ليس يشركه دنيا *** و ذاك له دنيا و سلطان
فاخترت من طمعي دنيا على بصر *** و ما معي بالذي أختار برهان
إني لأعرف ما فيها و أبصره *** و في أيضا لما أهواه ألوان
لكن نفسي تحب العيش في شرف *** و ليس يرضى بذل العيش إنسان
ثم إن عمرو أرحل إلى معاوية فمنعه ابنه عبد الله و وردان فلم يمتنع
فلما بلغ مفرق الطريقين الشام و العراق قال له وردان طريق العراق طريق الآخرة و
طريق الشام طريق الدنيا فأيهما تسلك قال طريق الشام
[258]
قلت لا
يغني عبد الله و وردان و قد قاده إلى جهنم الشيطان و باع حظه من الآخرة و شهد عليه
ما جرى على لفظه فأحله في الساحرة و كان من جملة آثاره المذمومة و أفعاله المشئومة
رفع المصاحف التي خرج بها الخوارج فتنكبوا بها عن الصراط المستقيم و أخذوا على
أمير المؤمنين الرضا بالتحكيم و انقادوا إلى امتثال أمر الشيطان الرجيم و هناك نجم
أمر الخوارج فأساءوا في التأويل ففارقوا الحق و تنكبوا سواء السبيل و عملوا
بآرائهم المدخولة فتنوعت لهم فنون الضلالات و الأباطيل و سأذكر كيفية أمرهم و
حالهم و ما جرى عليهم جزاء كفرهم و ضلالهم و ما أباحه الله على يد وليه من دمارهم
و وبالهم عند إنجازي ذكر زوائد أذكرها من أخبار صفين و على الله أتوكل و به أعتضد
و أستعين.
في هذه الحرب قتل أبو اليقظان عمار بن ياسر رضي الله عنه و قد تظاهرت
الروايات .
أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال عمار بن ياسر جلدة بين عيني تقتله الفئة الباغية .
و في صحيح مسلم عن
أم سلمة : أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعمار تقتلك الفئة الباغية .
قال ابن الأثير رحمه الله : و خرج عمار بن ياسر على الناس فقال اللهم
إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلته اللهم إنك
تعلم لو أني أعلم أن رضاك في أن أضع ظبة سيفي في بطني ثم أنحني عليها حتى تخرج من
ظهري لفعلت و إني لا أعلم اليوم عملا أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين و لو أعلم
عملا هو أرضى لك منه لفعلته و الله إني لأرى قوما ليضربنكم ضربا يرتاب منه
المبطلون و الله لو ضربونا حتى بلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق و أنهم على
الباطل ثم قال من يبتغي رضوان الله لا يرجع إلى مال و لا ولد فأتاه عصابة فقال
اقصدوا بنا هؤلاء القوم الذين يطلبون بدم عثمان و الله ما أرادوا الطلب بدمه و
لكنهم ذاقوا الدنيا و استحبوها و علموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم و بين ما
يتمرغون
[259]
فيه منها و لم تكن لهم سابقة يستحقون بها طاعة
الناس و الولاية عليهم فخدعوا أتباعهم بأن قالوا إمامنا قتل مظلوما ليكونوا بذلك
جبابرة و ملوكا فبلغوا ما ترون و لو لا هذه الشبهة لما تبعهم رجلان من الناس اللهم
إن تنصرنا فطال ما نصرت و إن تجعل لهم الأمر فادخر لهم بما أحدثوا في عبادك العذاب
الأليم ثم مضى و معه العصابة فكان لا يمر بواد من أودية صفين إلا تبعه من كان هناك
من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم جاء إلى هاشم بن عتبة بن أبي الوقاص و هو المرقال و كان
صاحب راية علي (عليه السلام) فقال يا هاشم أ عورا و جبنا لا خير في أعور لا يغشى البأس اركب يا
هاشم فركب و مضى معه و هو يقول :
أعور يبغي أهله محلا قد *** عالج الحياة حتى ملا
و عمار يقول تقدم يا هاشم الجنة تحت ظلال السيوف و الموت تحت أطراف
الأسل و قد فتحت أبواب السماء و زينت الحور العين اليوم ألقى الأحبة محمدا و حزبه
و تقدم حتى دنا من عمرو بن العاص فقال يا عمرو بعت دينك بمصر تبا لك تبا لك فقال
لا و لكن أطلب بدم عثمان قال له أشهد على علمي فيك أنك لا تطلب بشيء من فعلك وجه
الله تعالى و أنك إن لم تقتل اليوم تمت غدا فانظر إذا أعطي الناس على قدر نياتهم
ما نيتك لغد فإنك صاحب هذه الراية ثلاثا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هذه الرابعة و ما هي
بأبر و لا أتقى ثم قاتل عمار و لم يرجع و قتل .
قال حبة بن جوين العرني قلت لحذيفة
بن اليمان حدثنا فإنا نخاف الفتن فقال : عليكم بالفئة التي فيها ابن سمية .
فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال تقتله الفئة الباغية الناكبة عن الطريق .
فإن آخر رزقه ضياح من لبن قال حبة فشهدته يوم قتل يقول ائتوني بآخر
رزق لي من الدنيا فأتي بضياح من لبن في قدح أروح بحلقة حمراء فما أخطأ حذيفة بقياس
شعره فقال اليوم ألقى الأحبة محمدا و حزبه و قال
[260]
و الله لو
ضربونا حتى بلغونا سعفات هجر لعلمت أننا على الحق و أنهم على الباطل ثم قتل رضي
الله عنه قيل قتله أبو العادية و اجتز رأسه ابن جوى السكسكي .
و كان ذو الكلاع
سمع عمرو بن العاص يقول قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمار بن ياسر تقتلك الفئة الباغية و آخر
شربة تشربها ضياح من لبن .
و نقلت من مناقب الخوارزمي قال : شهد خزيمة بن ثابت الأنصاري الجمل و
هو لا يسل سيفا و صفين و قال لا أصلي أبدا خلف إمام حتى يقتل عمار فأنظر من يقتله .
فإني سمعت رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول تقتله الفئة الباغية .
قال فلما قتل عمار قال خزيمة : قد جاءت لي الصلاة ثم اقترب فقاتل حتى
قتل و كان الذي قتل عمار أبو العادية المزني طعنه برمح فسقط و كان يومئذ يقاتل و
هو ابن أربع و تسعين سنة فلما وقع أكب عليه رجل فاجتز رأسه فأقبلا يختصمان كلاهما
يقول أنا قتلته فقال عمرو بن العاص و الله إن يختصمان إلا في النار فسمعها معاوية
فقال لعمرو و ما رأيت مثل ما صنعت قوم بذلوا أنفسهم دوننا تقول لهما إنكما تختصمان
في النار فقال عمرو هو و الله ذاك و إنك لتعلمه و لوددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة
.
و بالإسناد عن أبي سعيد الخدري قال : كنا نعمر المسجد و كنا نحمل لبنة لبنة
و عمار لبنتين لبنتين فرآه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فجعل ينفض التراب عنه و يقول أ لا تحمل كما
يحمل أصحابك قال إني أريد الأجر من الله تعالى قال فجعل ينفض التراب عنه و يقول
ويحك تقتلك الفئة الباغية تدعوهم إلى الجنة و يدعونك إلى النار قال عمار أعوذ
بالرحمن أظنه قال من الفتن .
قال أحمد بن الحسين البيهقي و هذا صحيح على شرط البخاري.
و قال عبد
الله بن عمرو بن العاص لأبيه عمرو حين قتل عمار أ قتلتم عمارا ; و قد قال رسول الله
ص ما قال .
فقال عمرو لمعاوية : أ تسمع ما يقول عبد الله ?
فقال : إنما قتله من جاء به .
فسمعه أهل الشام ; فقالوا إنما قتله من جاء به .
فبلغت عليا (عليه السلام) ; فقال : أ يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) قاتل حمزة رضي الله عنه لأنه جاء به ?
[261]
و نقلت من مسند أحمد
بن حنبل عن عبد الله بن الحرث قال : إني لأسير مع معاوية في منصرفه من صفين بينه و بين عمرو بن العاص قال فقال عبد
الله بن عمرو يا أبة أ ما سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لعمار ويحك يا ابن سمية تقتلك
الفئة الباغية قال فقال عمرو لمعاوية أ لا تسمع ما يقول هذا فقال معاوية لا يزال
يأتينا نهبة أ نحن قتلناه إنما قتله الذين جاءوا به.
و من مسند أحمد أيضا عن محمد
بن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال : ما زال جدي كافا سلاحه يوم الجمل حتى قتل عمار
بصفين فسل سيفه فقاتل حتى قتل .
قال سمعت رسول الله
ص يقول : تقتل عمارا الفئة الباغية .
و من المسند عن علي (عليه السلام) : أن عمارا استأذن على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال الطيب المطيب ائذن .
و من المناقب عن
علقمة و الأسود قالا : أتينا أبا أيوب الأنصاري فقلنا يا أبا أيوب إن الله أكرمك
بنبيه إذ أوحى إلى راحلته فبركت على بابك و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ضيفا لك فضيلة فضلك
الله بها أخبرنا عن مخرجك مع علي قال فإني أقسم لكما أنه كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا
البيت الذي أنتما فيه و ليس في البيت غير رسول الله و علي جالس عن يمينه و أنا عن
يساره و أنس قائم بين يديه إذ تحرك الباب فقال علي انظر من في الباب فخرج أنس و
قال هذا عمار بن ياسر فقال افتح لعمار الطيب المطيب ففتح أنس و دخل عمار فسلم على
رسول الله فرحب به و قال إنه سيكون من بعدي في أمتي هنات حتى يختلف السيف فيما بينهم و حتى
يقتل بعضهم بعضا و حتى يبرأ بعضهم من بعض فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن
يميني علي بن أبي طالب و إن سلك الناس كلهم واديا فسلك علي واديا فاسلك وادي علي و
خل عن الناس إن عليا لا يردك عن هدى و لا يدلك على ردى يا عمار طاعة علي طاعتي و
طاعتي طاعة الله تعالى .
و روي : أن أويس القرني رحمه الله تعالى قتل مع علي (عليه السلام) في صفين و كان في
فضله و شرفه مشهورا .
و روي أن قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قال :
إني لأجد نفس
الرحمن من قبل اليمن
[262]
عنه و قيل عن الأنصار .
و روي : أنه لما رأى جيش علي (عليه السلام) قاصدا حرب معاوية فسأل فعرف فقال حضر
الجهاد و لا يمكن التخلف عنه فسار معهم و قاتل حتى قتل .
و روي : : أن عبد الله
بن عمرو بن العاص كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مجتهدا في العبادة و تزوج امرأة و اشتغل
عنها بالصيام و القيام فسألها أبوه عن حاله معها فقالت نعم الرجل عبد الله و لكنه
قد ترك الدنيا فذكر عمرو ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فدعا به و قال يا عبد الله أ تصوم النهار
قال نعم قال أ تقوم الليل قال نعم فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لكني أصوم و أفطر و أقوم و أنام و أمس
النساء يا عبد الله إن لربك عليك حقا و لعينك عليك حقا و لعرسك عليك حقا و لزورك عليك
حقا فأت كل ذي حق حقه .
فلما كان حرب صفين حضرها مع أبيه فأمره بالقتال فامتنع و قال كيف
أقاتل و قد كان من عهد رسول الله ما قد علمت فقال نشدتك الله أ ما كان آخر عهد
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إليك أن قال لك أطع عمرو بن العاص فقال بلى قال فإني قد أمرتك أن
تقاتل فقاتل عبد الله و روي أنه قاتل بسيفين و قال يصف حالهم في تلك الحرب مع أهل
العراق هذا .
و لو شهدت جمل مقامي و مشهدي بصفين يوما شاب منه الذوائبعشية جاء
أهل العراق كأنهم سحاب ربيع رفعته الجنائبو جئناهم نردي كأن خيولنا من البحر موج
مده متراكبفدارت رحانا و استدارت رحاهم سراة النهار ما تولى المناكبإذا قلت قد
ولوا سراعا بدت لنا كتائب منهم و ارجحنت كتائبفقالوا لنا إنا نرى أن تبايعوا عليا
فقلنا بل نرى أن نضارب .
يقال تردى الفرس بالفتح يردي رديا و رديانا إذا رجم الأرض رجما بين
العدو و المشي الشديد و سراة النهار وسطه و ارجحن مال و اهتز.
قلت و إنما أوردت
حديث عبد الله بن عمرو لأوضح لك غلط هؤلاء الأغنام
[263]
في
التأويل و دخولهم في الكفر و الفسق بالدليل هذا عبد الله كان زاهدا و أمره النبي
بطاعة أبيه كما ورد و هو روى أن عمارا تقتله الفئة الباغية و ما أحس أن طاعة أبيه
إنما يجب اتباعها إذا كانت في خير و طاعة أ تراه لم يسمع لا طاعة لمخلوق في عصيان
الخالق و هو كما روي أن أول كلام قاله أبو بكر رضي الله عنه حين ولي الخلافة أ و
لم يسمع قوله تعالى وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ... الآية إلى آخرها .
و قد روى أحمد في مسنده عن عبادة بن الصامت رحمه الله قال : سمعت أبا القاسم
ص يقول سيلي أموركم من بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون و ينكرونكم ما تعرفون فلا
طاعة لمن عصى الله تعالى فلا تعتلوا بربكم عز و جل .
و كذا حال كل من عاند عليا (عليه السلام) فإن منهم من عرف فضله و سابقته و شرفه
لكنهم غلبوا حب الدنيا على الآخرة و باعوا نصيبهم منها بعاجل حصل لهم فكانوا من
الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا كمعاوية و عمرو بن العاص و
أمثالهما و منهم من أخطأ في التأويل كعبد الله بن عمرو و الخوارج و منهم من قعد
عنه شاكا في حروبه و مغازيه و هم جماعة و ندموا عند موتهم حين لا ينفع الندم كعبد
الله بن عمر و غيره فإنه ندم على تخلفه عن علي (عليه السلام) حين لا ينفع الندم كما ورد و
نقلته الرواة و منهم من ظهرته أمارات الحق و أدركه الله برحمته فاستدرك الفارط كما
جرى لخزيمة بن ثابت فإنه ما زال شاكا معتزلا الحرب في الجمل و في بعض أيام صفين
فلما قتل عمار رحمه الله أصلت سيفه و قاتل حتى قتل و لا أكاد أعذر أحدا ممن تخلف
عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا أنسب ذلك منهم إلا إلى بله و قلة تمييز و عدم تعقل و غباوة عظيمة فإن
دخول علي في أمر ما دليل على حقية ذلك الأمر و صحته و ثباته و وجوب العمل به لفضله
و علمه في نفسه و لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقه أقضاكم علي أدر الحق مع علي لا يحبك إلا
مؤمن و لا يبغضك إلا منافق في أمثال لذلك كثيرة و لكن التوفيق عزيز و الله يهدي
لنوره من يشاء.
و أنشدني بعض الأصحاب هذه الأبيات و قال إنها وجدت مكتوبة على باب
[264]
مشهد بصفين :
رضيت بأن ألقى القيامة خائضا *** دماء نفوس حاربتك جسومها
أبا حسن إن كان حبك مدخلي *** جحيما فإن الفوز عندي جحيمها
و كيف يخاف النار من بات موقنا *** بأنك مولاه و أنت قسيمها