فصل في ذكر كراماته و ما جرى على لسانه من إخباره بالمغيبات
قال ابن طلحة رحمه الله : اعلم أكرمك الله بالهداية إليه أن الكرامة
عبارة عن حالة تصدر لذي التكليف خارقة للعادة لا يؤمر بإظهارها و بهذا القيد يظهر
الفرق بينها و بين المعجز فإن المعجزة مأمور بإظهارها لكونها دليل صدق النبي في
دعواه النبوة فالمعجزة مختصة بالنبي لازمة له إذ لا بد له منها فلا نبي إلا و له
معجزة و الكرامة مختصة بالولي إكراما له لكن ليست لازمة له إذ توجد الولاية من غير
كرامة فكم من ولي لم يصدف عنه شيء من الخوارق إذا عرفت هذه المقدمة فقد كان علي ع
من أولياء الله تعالى و كان له (عليه السلام) كرامات صدرت خارقة للعادة أكرمه الله بها.
فمنها
إخباره (عليه السلام) بحال الخوارج المارقين و أن الله تعالى أطلعه على أمرهم
[274]
فأخبر به قبل وقوعه و خرق به العادة و كان كرامة له (عليه السلام) و ذلك أنهم لما
اجتمعوا و أجمعوا على قتاله و ركب إليهم لقيه فارس يركض فقال له يا أمير المؤمنين
إنهم سمعوا بمكانك فعبروا النهروان منهزمين فقال له (عليه السلام) أنت رأيتهم عبروا فقال نعم
فقال (عليه السلام) و الذي بعث محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يعبرون و لا يبلغون قصر بنت كسرى حتى تقتل مقاتلتهم
على يدي فلا يبقى منهم إلا أقل من عشرة و لا يقتل من أصحابي إلا أقل من عشرة و ركب
و قاتلهم كما تقدم و جرى الأمر على ما أخبر في الجميع و لم يعبروا النهر و هي
مسطورة في كراماته نقلها صاحب تاريخ فتوح الشام .
و منها ما أورده ابن شهرآشوب في كتابه : أن عليا (عليه السلام) لما قدم الكوفة وفد عليه الناس و كان فيهم فتى
فصار من شيعته يقاتل بين يديه في مواقفه فخطب امرأة من قوم فزوجوه فصلى أمير
المؤمنين (عليه السلام) يوما الصبح و قال لبعض من عنده اذهب إلى موضع كذا تجد مسجدا إلى جانبه
بيت فيه صوت رجل و امرأة يتشاجران فأحضرهما إلي فمضى و عاد و هما معه فقال لهما
فيم طال تشاجركما الليلة فقال الفتى يا أمير المؤمنين إن هذه المرأة خطبتها و
تزوجتها فلما خلوت بها وجدت في نفسي منها نفرة منعتني أن ألم بها و لو استطعت
إخراجها ليلا لأخرجتها قبل النهار فنقمت على ذلك و تشاجرنا إلى أن ورد أمرك فصرنا
إليك فقال (عليه السلام) لمن حضره رب حديث لا يؤثر من يخاطب به أن يسمعه غيره فقام من كان
حاضرا و لم يبق عنده غيرهما فقال لها علي (عليه السلام) أ تعرفين هذا الفتى فقالت لا فقال ع
إذا أنا أخبرتك بحالة تعلمينها فلا تنكريها قالت لا يا أمير المؤمنين قال أ لست
فلانة بنت فلان قالت بلى قال (عليه السلام) أ لم يكن لك ابن عم و كل منكما راغب في صاحبه قالت
بلى قال أ ليس أن أباك منعك عنه و منعه عنك و لم يزوجه بك و أخرجه من جواره لذلك
قالت بلى قال أ ليس قد خرجت ليلة لقضاء الحاجة فاغتالك و أكرهك و وطئك فحملت و
كتمت أمرك عن أبيك و أعلمت أمك فلما آن الوضع أخرجتك أمك ليلا فوضعت ولدا
[275]
فلففته في خرقة و ألقيته من خارج الجدران حيث قضاء الحوائج فجاء كلب
يشمه فخشيت أن يأكله فرميته بحجر فوقعت في رأسه فشجته فعدت إليه أنت و أمك فشدت
رأسه أمك بخرقة من جانب مرطها ثم تركتماه و مضيتما و لم تعلما حاله فسكتت فقال لها
تكلمي بحق فقالت بلى و الله يا أمير المؤمنين إن هذا الأمر ما علمه مني غير أمي
فقال قد أطلعني الله عليه فأصبح فأخذه بنو فلان فربي فيهم إلى أن كبر و قدم معهم
الكوفة و خطبك و هو ابنك ثم قال للفتى اكشف رأسك فكشفه فوجد أثر الشجة فقال (عليه السلام) هذا
ابنك قد عصمه الله تعالى مما حرمه عليه فخذي ولدك و انصرفي فلا نكاح بينكما .
و له في هذه الواقعة (عليه السلام) ما يقضي بولايته و يسجل بكرامت .
و منها ما رواه
الحسن بن ذكردان الفارسي قال : كنت مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب و قد شكا إليه
الناس و أنا زيادة الفرات و أنها قد أهلكت مزارعهم و تحب أن تسأل الله أن ينقصه
عنا فقام و دخل بيته و الناس مجتمعون ينتظرونه فخرج و عليه جبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و
عمامته و برده و في يده قضيبه فدعا بفرسه فركبها و مشى و معه أولاده و الناس و أنا
معهم رجالة حتى وقف على الفرات فنزل عن فرسه فصلى ركعتين خفيفتين ثم قام و أخذ
القضيب بيده و مشى على الجسر و ليس معه سوى ولديه الحسن و الحسين (عليهما السلام) و أنا فأهوى
إلى الماء بالقضيب فنقص ذراعا فقال أ يكفيكم فقالوا لا يا أمير المؤمنين فقام و
أومأ بالقضيب و أهوى به إلى الماء فنقصت الفرات ذراعا آخر هكذا إلى أن نقصت ثلاثة
أذرع فقالوا حسبنا يا أمير المؤمنين فركب (عليه السلام) فرسه و عاد إلى منزله و هذه كرامة
عظيمة و نعمة من الله جسيمة .
قلت : فكان هو (عليه السلام) أولى و أحق بقول القائل :
لو قلت للسيل دع طريقك و *** الموج عليه كالهضب يعتلج
[276]
لارتد أو ساخ أو لكان له *** في جانب الأرض عنك منعرج
و منها إخباره (عليه السلام) بقصة قتله : و ذلك أنه لما فرغ من قتال الخوارج عاد
إلى الكوفة في شهر رمضان فأم المسجد فصلى ركعتين .
ثم صعد المنبر فخطب خطبة حسناء ثم التفت إلى ابنه الحسن فقال يا أبا محمد
كم مضى من شهرنا هذا فقال ثلاثة عشر يا أمير المؤمنين ثم سأل الحسين (عليه السلام) فقال يا أبا
عبد الله كم بقي من شهرنا يعني رمضان هذا فقال سبع عشرة يا أمير المؤمنين فضرب يده
إلى لحيته و هي يومئذ بيضاء فقال ليخضبنها بدمها إذ انبعث أشقاها ثم قال :
أريد حباءه و يريد قتلي *** خليلي من عذيري من مراد
و عبد الرحمن بن ملجم المرادي لعنه الله يسمع فوقع في قلبه من ذلك
شيء فجاء حتى
وقف بين يدي علي (عليه السلام) و قال أعيذك
بالله يا أمير المؤمنين هذه يميني و شمالي بين يديك فاقطعهما أو فاقتلني فقال علي (عليه السلام) و كيف أقتلك و لا ذنب لك و لو أعلم أنك قاتلي لم أقتلك و لكن هل كانت لك حاضنة
يهودية فقالت لك يوما من الأيام يا شقيق عاقر ناقة ثمود قال قد كان ذلك يا أمير
المؤمنين .
فسكت علي (عليه السلام) فلما كانت ليلة ثلاث و عشرين من الشهر قام ليخرج من داره
إلى المسجد لصلاة الصبح و قال إن قلبي يشهد بأني مقتول في هذا الشهر ففتح الباب
فتعلق الباب بمئزره فجعل ينشد :
اشدد حيازيمك للموت *** فإن الموت لاقيك
و لا تجزع من الموت *** إذا حل بناديك
[277]
فخرج فقتل (صلى الله عليه وآله وسلم) قال ابن طلحة رحمه الله و هذه من جملة
الكرامات المضافة إليه و لم أصرف الهمة إلى تتبع ما ينسب إليه من كراماته و ما
أكرمه الله به من خوارق عاداته لكثرة غيرها من مزاياه و تعدد مناقب مقاماته :
إذا ما الكرامات اعتلى قدر ربها *** و حل بها أعلى ذرى عرفاته
فإن عليا ذا المناقب و النهى *** كراماته العليا أقل صفاته
هذا آخر كلام ابن طلحة رحمه الله تعالى .
و روي عن جندب بن عبد الله
الأزدي قال : شهدت مع علي الجمل و صفين و لا أشك في قتالهم حتى نزلنا النهروان
فدخلني شك و قلت قراؤنا و خيارنا نقتلهم إن هذا الأمر عظيم فخرجت غدوة أمشي و معي
إداوة حتى برزت عن الصفوف فركزت رمحي و وضعت ترسي إليه و استترت من الشمس فإني
لجالس إذ ورد علي أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال يا أخا الأزد معك طهور قلت نعم فناولته
الإداوة فمضى حتى لم أره و أقبل و قد تطهر فجلس في ظل الترس فإذا فارس يسأل عنه
فقلت هذا يا أمير المؤمنين فارس يريدك قال فأشر إليه فأشرت إليه فجاء فقال يا أمير
المؤمنين قد عبر القوم و قد قطعوا النهر فقال كلا ما عبروا قال بلى و الله لقد
فعلوا قال كلا ما فعلوا قال فإنه لكذلك إذ جاء آخر فقال يا أمير المؤمنين قد عبر القوم
قال كلا ما عبروا قال و الله ما جئت حتى رأيت الرايات في ذلك الجانب و الأثقال قال
و الله ما فعلوا و إنه لمصرعهم و مهراق دمائهم ثم نهض و نهضت معه فقلت في نفسي
الحمد لله الذي بصرني هذا الرجل و عرفني أمره هذا أحد رجلين إما كذاب جريء أو على
بينة من أمره و عهد من نبيه اللهم إني أعطيك عهدا تسألني عنه يوم القيامة إن أنا
وجدت القوم قد عبروا أن أكون أول من يقاتله و أول من يطعن بالرمح في عينه و إن
كانوا لم يعبروا لم آثم على المناجزة و القتال
[278]
فدفعنا إلى
الصفوف فوجدنا الرايات و الأثقال بحالها فأخذ بقفاي و دفعني و قال يا أخا الأزد أ
تبين لك الأمر قلت أجل يا أمير المؤمنين قال فشأنك بعدوك فقتلت رجلا ثم قتلت آخر
ثم اختلفت أنا و رجل آخر يضربني و أضربه فوقعنا جميعا فاحتملني أصحابي فما أفقت
حتى فرغ من القوم و هذا خبر شائع مستفيض قد نقله الجماء الغفير و فيه إخبار بالغيب
و إبانة عن علم الضمير و معرفة بما في النفوس و الآية فيه باهرة لا يعادلها إلا ما
ساواها في معناها من عظيم المعجز و جليل البرهان.
و من ذلك : حديث ميثم التمار و
إخباره إياه بحاله و صلبه و موضعه و النخلة التي يصلب عليها و القصة مشهورة .
و من ذلك
: أن الحجاج طلب كميل بن زياد فهرب منه فقطع عطاء قومه فلما رأى ذلك قال إني أنا شيخ
كبير قد نفد عمري فلا ينبغي أن أحرم قومي أعطياتهم فخرج إلى الحجاج فقال قد كنت
أحب أن أجد عليك سبيلا فقال له كميل لا تصرف علي أنيابك فما بقي من عمري إلا
القليل فاقض ما أنت قاض فإن الموعد لله و بعد القتل الحساب و لقد أخبرني أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنك قاتلي فضرب عنقه و هذا نقله العامة و الخاصة و هو
من البراهين الواضحة و المعجزات الباهرة.
و من ذلك : أن الحجاج قال ذات يوم أحب أن
أصيب رجلا من أصحاب أبي تراب فأتقرب إلى الله بدمه فقيل له ما نعلم أحدا أطول صحبة
لأبي تراب من قنبر مولاه فطلبه فأتي به فقال أنت قنبر قال نعم قال مولى علي بن أبي
طالب قال الله مولاي و أمير المؤمنين علي ولي نعمتي قال ابرأ من دينه قال دلني على
دين أفضل منه قال إني قاتلك فاختر أي قتلة أحب إليك قال قد صيرت ذلك إليك قال لم
قال لا تقتلني قتلة إلا قتلتك مثلها و لقد خبرني أمير المؤمنين (عليه السلام) أن منيتي تكون
ذبحا ظلما بغير حق فأمر به فذبح و هذا أيضا من الأخبار التي صحت عن أمير المؤمنين
و دخلت في باب المعجز القاهر و الدليل
[279]
الباهر و العلم الذي
خص الله به حججه من أنبيائه و رسله و أوصيائه (عليه السلام) و هو لاحق بما قدمناه .
و من ذلك أنه قال للبراء بن عازب : يا براء يقتل ولدي الحسين (عليه السلام) و أنت حي فلا
تنصره فلما قتل الحسين (عليه السلام) قال البراء صدق علي (عليه السلام) قتل الحسين و لم أنصره و أظهر
الحسرة على ذلك و الندم .
و من ذلك : أنه وقف
في كربلاء في بعض أسفاره ناحية من عسكره فنظر يمينا و شمالا و استعبر باكيا ثم قال
هذا و الله مناخ ركابهم و موضع منيتهم فقلنا يا أمير المؤمنين ما هذا الموضع قال
هذه كربلاء يقتل فيه قوم يدخلون الجنة بغير حساب ثم سار و لم يعرف الناس تأويل قوله
حتى كان من أمر الحسين (عليه السلام) ما كان .
و من ذلك ما رواه الناس : أنه لما توجه (عليه السلام) إلى صفين و احتاج أصحابه إلى الماء
فالتمسوه يمينا و شمالا فلم يجدوه فعدل بهم أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الجادة قليلا فلاح
لهم دير في البرية فسار و سأل من فيه عن الماء .
فقال : بيننا و بين الماء فرسخان و ما
هنا منه شيء و إنما يجلب لي من بعد و أستعمله على التقتير و لو لا ذلك لمت عطشانا .
فقال أمير المؤمنين : اسمعوا ما يقول الراهب .
فقالوا : تأمرنا أن نسير إلى حيث أومأ
إلينا لعلنا ندرك الماء و بنا قوة .
فقال (عليه السلام) : لا حاجة بكم إلى ذلك ; و لوى عنق بغلته نحو
القبلة و أشار إلى مكان بقرب الدير أن اكشفوه .
فكشفوه , فظهرت لهم صخرة عظيمة تلمع .
فقالوا : يا أمير المؤمنين هنا صخرة لا تعمل فيها المساحي .
فقال : هذه الصخرة على الماء
فاجتهدوا في قلعها ; فإن زالت عن موضعها وجدتم الماء .
فاجتمع القوم و راموا تحريكها
فلم يجدوا إلى ذلك سبيلا , و استصعبت عليهم .
فلما رأى ذلك لوى رجله عن سرجه و حسر عن
ساعده و وضع أصابعه تحت جانب الصخرة فحركها و قلعها بيده ; و دحا بها أذرعا كثيرة
فظهر لهم الماء فبادروه و شربوا فكان أعذب ماء شربوه في سفرهم و أبرده و أصفاه ;
فقال تزودوا و ارتووا .
ففعلوا ثم جاء إلى
[280]
الصخرة فتناولها
بيده و وضعها حيث كانت , و أمر أن يعفى أثرها بالتراب ; و الراهب ينظر من فوق ديره .
فنادى , يا قوم أنزلوني .
فأنزلوه , فوقف بين يدي أمير المؤمنين (عليه السلام) , فقال : يا هذا أنت نبي مرسل ?
قال : لا .
قال : فملك مقرب .
قال : لا .
قال : فمن أنت ?
قال : أنا وصي رسول الله محمد بن عبد
الله خاتم النبيين .
قال : ابسط يدك على يدي أسلم على يدك .
فبسط أمير المؤمنين يده و قال له : اشهد الشهادتين .
فقال : أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا رسول الله و
أشهد أنك وصي رسول الله و أحق الناس بالأمر من بعده .
فأخذ عليه شرائط الإسلام , و قال له : ما الذي دعاك إلى الإسلام بعد إقامتك على دينك طول المدة ?
فقال : يا أمير المؤمنين
إن هذا الدير بني على طلب قالع هذه الصخرة و مخرج الماء من تحتها ; و قد مضى على ذلك عالم قبلي لم يدركوا ذلك فرزقنيه الله عز و جل ; إنا نجد في كتبنا و نأثر على
علمائنا أن في هذا الموضع عينا عليها صخرة عظيمة لا يعرفها إلا نبي أو وصي نبي ; و أنه لا بد من ولي الله يدعو إلى الحق آيته معرفة مكان هذه الصخرة و قدرته على قلعها ; و لما رأيتك قد فعلت ذلك تحققت ما كنا ننتظره و بلغت الأمنية و أنا اليوم
مسلم على يدك و مؤمن بحقك و مولاك .
فلما سمع أمير المؤمنين ذلك بكى حتى اخضلت لحيته
من الدموع , و قال : الحمد لله الذي لم أكن عنده منسيا ; الحمد لله الذي كنت في كتبه
مذكورا .
ثم دعا الناس , فقال اسمعوا ما يقول أخوكم المسلم : فسمعوا و حمدوا الله و
شكروه إذ ألهمهم أمير المؤمنين (عليه السلام) و سار و الراهب بين يديه و قاتل معه أهل الشام و
استشهد فتولى أمير المؤمنين الصلاة عليه و دفنه و أكثر من الاستغفار له و كان إذا
ذكره يقول ذاك مولاي .
و في هذا الخبر ضروب من المعجز أحدها علم الغيب و القوة التي خرق بها
العادة و تميزه بخصوصيتها من الأنام مع ما فيه من ثبوت البشارة به في كتب الله
الأولى و في ذلك يقول إسماعيل بن محمد الحميري المعروف بالسيد في قصيدته البائية :
[281]
و لقد سرى فيما يسير بليلة *** بعد العشاء بكربلاء في موكب
حتى أتى متبتلا في قائم *** ألقى قواعده بقاع مجدب
فدنا فصاح به فأشرف ماثلا *** كالنسر فوق شظية من مرقب
هل قرب قائمك الذي بوأته *** ماء يصاب , فقال ما من مشرب
إلا بغاية فرسخين و من لنا *** بالماء بين نقا و قي سبسب
فثنى الأعنة نحو وعث فاجتلى *** ملساء تلمع كاللجين المذهب
قال اقلبوها إنكم إن تقلبوا ترووا *** و لا تروون إن لم تقلب فاعصوصبوا في قلبها فتمنعت *** منهم تمنع صعبة لم تركب
حتى إذا أعيتهم أهوى لها كفا *** متى يرد المغالب تغلب
فكأنها كرة بكف حزور عبل *** الذراع دحا بها في ملعب
فسقاهم من تحتها متسلسلا *** عذبا يزيد على الألذ الأعذب
حتى إذا شربوا جميعا ردها *** و مضى فخلت مكانها لم يقرب
أعني ابن فاطمة الوصي و *** من يقل في فضله و فعاله لم يكذب
شرح غريب هذه الأبيات : الشظية الفلقة من العصا و نحوها في الأصل و
أراد بها هنا عقبة دقيقة ذات حرف تشبيها بها و المرقبة و المرقب الموضع المشرف و
ماثلا قائما منتصبا النقا بالقصر الكثيب من الرمل و تثنيته نقوان و نقيان أيضا و
القي القفر و كذلك القوا و القواء بالمد و القصر و منزل قواء لا أنيس به و السبسب
المفازة و بلد سبسب و سبساب الوعث المكان السهل الكثير الدهس تغيب فيه الأقدام و
يشق على من يمشي فيه و أوعثوا وقعوا في الوعث و الدهس و الدهاس المكان السهل اللين
لا يبلغ أن يكون رملا و ليس هو بتراب و لا طين و اللجين الفضة جاء مصغرا كالثريا و
الكميت اعصوصبوا اجتمعوا و اشتدوا و الصعبة الناقة التي لم ترض و لم تذلل الحزور
بالتخفيف و التشديد الغلام إذا اشتد و قوي و خدم و الجمع الحزاورة
[282]
و دحا بها رمى بها.
و مما رواه أصحابنا من الآيات التي ظهرت على يديه
الشاهدة بما تدل مناقبه و مزاياه عليه رد الشمس عليه مرتين في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرة و
بعد وفاته مرة .
روت أسماء بنت عميس و أم سلمة رضي الله عنهما و جابر بن عبد الله الأنصاري
و أبو سعيد الخدري في جماعة من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ذات يوم في منزله و
علي (عليه السلام) بين يديه إذ جاءه جبرئيل (عليه السلام) يناجيه عن الله سبحانه فلما تغشاه الوحي توسد فخذ
أمير المؤمنين (عليه السلام) و لم يرفع رأسه حتى غابت الشمس فصلى العصر جالسا إيماء فلما أفاق
قال لأمير المؤمنين (عليه السلام) فاتتك العصر قال صليتها قاعدا إيماء فقال ادع الله يرد عليك
الشمس حتى تصليها قائما في وقتها فإن الله يجيبك لطاعتك لله و لرسوله فسأل الله في
ردها فردت عليه حتى صارت في موضعها من السماء وقت العصر فصلاها ثم غربت قالت أسماء
و أم سلمة أما و الله سمعنا لها عند غروبها كصرير المنشار .
و بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين أراد أن يعبر الفرات ببابل و اشتغل كثير من أصحابه
بتعبير دوابهم فصلى هو (صلى الله عليه وآله وسلم) مع طائفة من أصحابه العصر و فاتت جمهورهم فتكلموا في ذلك
: فلما سمع , سأل الله في ردها ليجتمع كافة أصحابه على الصلاة فأجابه الله تعالى و
ردها فكانت كحالها وقت العصر فلما سلم بالقوم غابت و سمع لها وجيب شديد هال الناس
و أكثروا التسبيح و التهليل و الاستغفار و الحمد لله على نعمته التي ظهرت فيهم و سار
خبر ذلك في الآفاق و في ذلك يقول السيد إسماعيل بن محمد الحميري :
ردت عليه الشمس لما فاته *** وقت الصلاة و قد دنت للمغرب
حتى تبلج نورها في وقتها *** للعصر ثم هوت هوي الكوكب
و عليه قد ردت ببابل مرة *** أخرى و ما ردت لخلق معرب
[283]
إلا ليوشع أو له من بعده *** و لردها تأويل أمر معجب
و من ذلك : أن عليا (عليه السلام) اتهم رجلا يقال له الغيرار برفع أخباره إلى
معاوية فأنكر ذلك و جحده فقال أمير المؤمنين لتحلف بالله أنك ما فعلت قال نعم و
بدر فحلف فقال علي (عليه السلام) إن كنت كاذبا فأعمى الله بصرك فما دارت عليه الجمعة حتى عمي و
أخرج يقاد و قد أذهب الله بصره.
و من ذلك : أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) نشد الناس من سمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول من
كنت مولاه فعلي مولاه فشهد اثنا عشر رجلا من الأنصار و أنس بن مالك في القوم لم
يشهد فقال له أمير المؤمنين يا أنس ما منعك أن تشهد و قد سمعت ما سمعوا قال يا
أمير المؤمنين كبرت و نسيت فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) اللهم إن كان كاذبا فاضربه ببياض
أو بوضح لا تواريه العمامة قال طلحة بن عمير فأشهد بالله لقد رأيتها بيضاء بين
عينيه و من ذلك أنه نشد الناس فقال أنشد الله رجلا سمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول من كنت مولاه
فعلي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه فقام اثنا عشر بدريا ستة من الجانب
الأيسر و ستة من الجانب الأيمن فشهدوا بذلك قال زيد بن أرقم و كنت فيمن سمع ذلك
فكتمته فذهب الله ببصري و كان يتندم على ما فاته من
[284]
الشهادة و يستغفر.
و من ذلك : أن أمير المؤمنين قال على المنبر :
أنا عبد الله و أخو رسول الله ورثت نبي الرحمة و نكحت سيدة نساء أهل الجنة
و أنا سيد الوصيين و آخر أوصياء النبيين لا يدعي ذلك غيري إلا أصابه الله بسوء
فقال رجل من عبس من لا يحسن أن يقول هذا أنا عبد الله و أخو رسول الله فلم يبرح من
مكانه حتى تخبطه الشيطان فجر برجله إلى باب المسجد فسألنا قومه هل تعرفون به عرضا
قبل هذا قالوا اللهم لا .
و من ذلك ما نقلته من كتاب لطف التدبير صنعه الشيخ أبي عبد الله محمد
بن عبد الله الخطيب قال : حكي أن معاوية بن أبي سفيان قال لجلسائه بعد الحكومة كيف
لنا أن نعلم ما تئول إليه العاقبة في أمرنا قال جلساؤه ما نعلم لذلك وجها قال فأنا
أستخرج علم ذلك من علي رضي الله عنه فإنه لا يقول الباطل فدعا ثلاثة رجال من ثقاته
و قال لهم امضوا حتى تصيروا جميعا من الكوفة على مرحلة ثم تواطوا على أن تنعوني
بالكوفة و ليكن حديثكم واحدا في ذكر العلة و اليوم و الوقت و موضع القبر و من تولى الصلاة علي و غير ذلك حتى لا تختلفوا في
شيء ثم ليدخل أحدكم فليخبر بوفاتي ثم ليدخل الثاني فيخبر بمثله ثم ليدخل الثالث
فيخبر بمثل خبر صاحبه و انظروا ما يقول علي.
فخرجوا كما أمرهم معاوية ثم دخل أحدهم
و هو راكب مغذ شاحب فقال له الناس بالكوفة من أين جئت قال من الشام قالوا له الخبر
قال مات معاوية فأتوا عليا (عليه السلام) فقالوا رجل راكب من الشام يخبر بموت معاوية فلم يحفل
علي (عليه السلام) بذلك ثم جاء آخر من الغد و هو مغذ فقال له الناس ما الخبر فقال مات معاوية و
خبر بمثل ما خبر صاحبه فأتوا عليا (عليه السلام) فقالوا رجل راكب آخر يخبر من موت معاوية بمثل
ما خبر صاحبه و لم يختلف كلامهما
[285]
فأمسك علي (عليه السلام) ثم دخل الآخر
في اليوم الثالث فقال الناس ما وراءك قال مات معاوية فسألوه عما شاهد و لم يخالف
قول صاحبه فأتوا عليا (عليه السلام) فقالوا يا أمير المؤمنين صح الخبر هذا راكب ثالث قد خبر
بمثل ما خبر صاحبيه فلما كثروا عليه قال علي (صلى الله عليه وآله وسلم) كلا أو تخضب هذه من هذه يعني لحيته
من هامته و يتلاعب بها ابن آكلة الأكباد فرجع الخبر بذلك إلى معاوية.
و رأيت له (صلى الله عليه وآله وسلم ) خطبة يذكر فيها واقعة بغداد كأنه يشاهدها و يقول فيها .
كأني و الله أنظر إلى القائم من بني العباس و هو يقاد بينهم كما يقاد
الجزر إلى الأضحية لا يستطيع دفعا عن نفسه ويحه ما أذله فيهم لاطراحه أمر ربه و
إقباله على أمر دنياه يقول فيها و الله لو شئت لأخبرتكم بأسمائهم و كناهم و حلاهم
و مواضع قتلاهم و مساقط رءوسهم .
إلى غير ذلك من أخباره بالغيوب و أخباره التي جرت في كل الأحوال على
أسلوبه و اطلاعه على الحقائق و إتيانه بالأمور الخوارق و معجزاته التي أربت على
الأواخر و الأوائل و وقف عند صفاتها بيان كل قائل .
و قد روى الحافظ
العالم محب الدين محمد بن محمود بن الحسن بن النجار في كتابه في ترجمة أحمد بن
محمد الدلا عن رجال ذكرهم قال : سمعت أسماء بنت عميس تقول سمعت سيدتي فاطمة (عليها السلام) تقول
ليلة دخل بي علي بن أبي طالب أفزعني في فراشي فقلت أ فزعت يا سيدة النساء قالت
سمعت الأرض تحدثه و يحدثها
[286]
فأصبحت و أنا فزعة فأخبرت والدي
ص فسجد سجدة طويلة ثم رفع رأسه و قال يا فاطمة أبشري بطيب النسل فإن الله فضل بعلك
على سائر خلقه و أمر الأرض أن تحدثه بأخبارها و ما يجري على وجهها من شرق الأرض
إلى غربها .
و قال بعض أرباب الطريقة إن عليا (عليه السلام) إنما قال لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا .
في أول أمره و ابتداء حاله و أما في آخر أمره فإن الغطاء كشف له و
الحجاب رفع دونه.
و على الجملة أي مناقبه أردت وصفها و أي مآثره ابتغيت وصفها
وجدتها بحر لا يدرك ساحله و لا يطمع في المفاخرة مساجله فاقتصرت على هذا القدر
اقتداء بمن اقتصر و كففت عن عزب القلم و ما به من قصور و لا قصر و ذللت على ما لم
أذكره بما ذكرته و قد يستدل على الشجرة بالواحدة من الثمر .