زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد

 
 

الصفحة220

التوديع ـ كانت تجاوزت حدود الوصف والبيان .

فالأحزان قد بلغت منتهاها ، والقلق والاضطراب قد بلغ أشده ، والعواطف قد هاجت هيجان البحار المتلاطمة ، والدموع متواصلة تتهاطل كالمطر ، وأصوات البكاء لا تنقطع ، والقلوب ملتهبة ، بل مشتعلة ، والهموم والغموم متراكمة مثل تراكم الغيوم .

فبعد أن قتل جميع أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) وبنو هاشم ، ولم يبق من الرجال أحد ، عزم الإمام على لقاء الله تعالى ، وعلى ملاقاة الأعداء بنفسه المقدسة ، فأقبل إلى المخيم للوداع ، ونادى : (يا سكينة ويا فاطمة ، يا زينب ويا أم كلثوم : عليكن مني السلام ، فهذا آخر الإجتماع ، وقد قرب منكن الإفتجاع !

فعلت أصواتهن بالبكاء ، وصحن : الوداع . . الوداع ، الفراق . . الفراق ، فجاءته عزيزته سكينة وقالت : يا أبتاه إستسلمت للموت ؟ فإلى من أتكل ؟

فقال لها : (يا نور عيني كيف لا يستسلم للموت من لا ناصر له ولا معين ، ورحمة الله ونصرته لا تفارقكم في الدنيا والآخرة ، فاصبري على قضاء الله ولا تشكي ، فإن الدنيا فانية ، والآخرة باقية .

قالت : أبه ردنا إلى حرم جدنا رسول الله ؟


الصفحة221

فقال الإمام الحسين : هيهات ، لو ترك القطا لغفا ونام .

فبكت سكينة فأخذها الإمام وضمهما إلى صدره ، ومسح الدموع عن عينيها .

ثم إن الإمام الحسين (عليه السلام) دعى النساء بأجمعهن ، وقال لهن : (إستعدوا للبلاء ، واعلموا أن الله حافظكم وحاميكم ، وسينجيكم من شر الأعداء ويجعل عاقبة أمركم إلى خير ، ويعذب أعاديكم بأنواع العذاب ، ويعوضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة ، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم) .

ثم أمرهن بلبس أزرهن ومقانعهن ، فسألته السيدة زينب عن سبب ذلك ، فقال : (كأني أراكم عن قريب كالإماء والعبيد يسوقونكم أمام الركاب ويسومونكم سوء العذاب !!

فلما سمعت السيدة زينب ذلك بكت ونادت : واوحدتاه ، واقلة ناصراه ، ولطمت على وجهها !

فقال لها الإمام الحسين : (مهلاً يا بنة المرتضى ، إن البكاء طويل) !!

ثم أراد الإمام أن يخرج من الخيمة فتعلقت به السيدة زينب وقالت : (مهلاً يا أخي ، توقف حتى أتزود منك ومن


الصفحة222

نظري إليك ، وأودعك وداع مفارق لا تلاقي بعده) ؟ فجعلت تقبل يديه ورجليه .

فصبرها الإمام الحسين ، وذكر لها ما أعد الله للصابرين .

فقالت : يا بن أمي طب نفساً وقر عيناً فإنك تجدني كما تحب وترضى .

فقال لها الإمام الحسين : (أخيه إيتيني بثوب عتيق لا يرغب فيه أحد ، اجعله تحت ثيابي لئلا أجرد بعد قتلي ، فإني مقتول مسلوب ، فارتفعت اصوات النساء بالبكاء .

ولما أراد الإمام أن يخرج نحو المعركة نظر يميناً وشمالاً ونادى : هل من يقدم إلي جوادي ؟

فسمعت السيدة زينب ذلك ، فخرجت وأخذت بعنان الجواد ، وأقبلت إليه وهي تقول : لمن تنادي وقد قرحت فؤادي ؟ ! (1)

وقد جاء في التاريخ : أن الإمام الحسين (عليه السلام) أوصى أخته السيدة زينب قائلاً : (يا أختاه ! لا تنسيني في نافلة الليل) (2)

ــــــــــــــــــــ

(1) كتاب (معالي السبطين) ج 2 ص 13 ـ 14 ، المجلس السادس .
(2) كتاب (زينب الكبرى) للشيخ جعفر النقدي ، ص 58 .

الصفحة223

الإمام الحسين (عليه السلام) يخرج إلى ساحة الجهاد

كانت تلك اللحظات من أصعب الساعات في حياة السيدة زينب ، من هول قرب الفاجعة والمستقبل المخيف المرعب .

وهل يستطيع القلم واللسان من وصف تلك الدقائق ، وتأثيرها على قلب السيدة زينب عليها السلام ؟

لقد توجه أخوها إلى ساحة القتال بعد أن قدم أعز أصحابه ، وأشرف شبابه ، وأكرم عشيرته ضحايا في سبيل الله ، ولم يبق له ومعه أحد من الرجال سوى ولده العليل .

ونتيجة الذهاب إلى المعركة معلومة : القتل والشهادة ! !

لقد ترك الإمام الحسين (عليه السلام) أغلى ما عنده ، وهم عائلته الذين هم أشرف عائلة على وجه الأرض ، وأكثرها عفافاً وخفارة ، وهن مخدرات الرسالة وعقائل النبوة ، اللاتي كانت حياتهن مشفوعة بالعز والإحترام .


الصفحة224

تركهم في وسط البر الأقفر ، قد أحاط بهن سفلة المجتمع ، وأراذل الناس ، من باعة الضمائر ، والهمج الرعاع ، وفاقدي الفضيلة . أولئك الذين سلموا أنفسهم واستسلموا لأقذر سلطة في التاريخ ، وأرجس جهاز حاكم في العالم .

والعائلة المكرمة تعرف إتجاه أولئك الأشرار الأوباش ، ونفسياتهم ، فالمخاوف والأخطار تهاجم قلوب العائلة الشريفة من كل جانب .

فمن ناحية : الإحساس باقتراب الخطر من حياة الإمام الحسين (عليه السلام) .

ومن ناحية أخرى : ترقب إستيلاء العدو الشرس المتوحش على سرادق الوحي ومخيمات النبوة .

ومضاعفات هذه الاحتمالات من العواصف والأعاصير التي سوف تجتاح حياة السيدات . . كلها أمور تدعو إلى القلق والخوف والوحشة .

والآن . . نقرأ ما جاء في كتب التاريخ حول ذهاب الإمام الحسين إلى ساحة المعركة :

ولما قتل جميع أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) ورجال أهل بيته ، ولم يبق منهم أحد ، عزم الإمام على لقاء القوم بنفسه ، فدعى ببردة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فالتحف بها ، وأفرغ عليها درعه الشريف ، وتقلد


الصفحة225

سيفه ، واستوى على متن جواده ، ثم توجه نحو ميدان الحرب والقتال ، فوقف أمام القوم وجعل يخاطب أهل الكوفة بقوله :

(ويلكم على م تقاتلونني ؟ !

على حق تركته ؟ !

أم على شريعة بدلتها ؟ !

أم على سنة غيرته) ؟ !

فقالوا : بل نقاتلك بغضاً منا لأبيك ، وما فعل بأشياخنا يوم بدر وحنين (1).

وجاء في بعض كتب التاريخ : أن الإمام الحسين (عليه السلام) وقف أمام القوم وسيفه مصلت في يده ، آيساً من الحياة ، عازماً على الموت ، وهو يقول :

أنـا ابن علي الطهر من آل هاشم    كفانـي بهذا مفخـراً حين أفخر

وجـدي رسول الله أكرم من مشى    ونحن سراج الله في الخلق نزهر

ــــــــــــــــــــ

(1) معالي السبطين ، ج 2 ص 5 ، الفصل العاشر ، المجلس الثاني .

الصفحة226

و فـاطم أمي من سلالة أحمـد    و عمي يدعى ذا الجناحين جعفر

و فينـا كتـاب الله أنزل صادقاً    وفينا الهدى والوحي بالخير يذكر

ونحـن أمان الله للنـاس كلهـم     نسـر بهذا فـي الأنـام ونجهر

ونحن ولاة الحوض نسقي ولاتنا     بكأس رسول الله مـا ليس ينكر

وشيعتنا في الحشر أكرم شيعـة     و مبغضنـا يوم القيـامة يخسر

فطـوبى لعبد زارنا بعد موتنـا      بجنة عدن صفوها لا يكدر (1)

فصاح عمر بن سعد : (الويل لكم ! أتدرون لمن تقاتلون ؟ ! هذا ابن الأنزع البطين ، هذا ابن قتال العرب ، إحملوا عليه من كل جانب) . فحملوا عليه وحمل عليهم كالليث المغضب ، فقتل منهم مقتلةًَ عظيمة ، وكانت الرجال تشد عليه فيشد عليها ، فتنكشف عنه كالجراد

ــــــــــــــــــــ

(1) بحار الأنوار للشيخ المجلسي ، ج 45 ، ص 48 ـ 49 .

الصفحة227

المنتشر ! (1)

فحمل على ميمنة عسكرهم وهو يقول :

الموت أولى من ركوب العار   والعـار أولى من دخول النار

ثم حمل على ميسرة الجيش وهو يقول :

أنـا الحسين بن علـي    آليـت أن لا أنـثنـي

أحمـي عيـالات أبي     أمضي على دين النبي

فجعلوا يرشقونه بالسهام والنبال حتى صار درعه كالقنفذ ، فوقف ليستريح وقد ضعف عن القتال ، فبينما هو واقف إذ أتاه حجر فأصاب جبهته المقدسة ، فسال الدم على وجهه ، فأخذ الثوب ليسمح الدم عن عينه ، فأتاه سهم محدد مسموم له ثلاث شعب ، فوقع السهم على صدره قريباً من قلبه ، فقال الإمام الحسين : (بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله) ، ورفع رأسه إلى السماء وقال : (إلهي . . إنك تعلم أنهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن نبي غيره) !

ثم أخذ السهم وأخرجه من قفاه فانبعث الدم كالميزاب ، فوضع يده على الجرح فلما امتلأت دماً رمى به إلى السماء ، ثم وضع يده على الجرح ثانياً فلما امتلأت لطخ به

ــــــــــــــــــــ

(1) بحار الأنوار للشيخ المجلسي ، ج 45 ص 50 .

الصفحة228

رأسه ولحيته ، وقال : (هكذا أكون حتى القى جدي رسول الله وأنا مخضوب بدمي وأقول : يا رسول الله قتلني فلان وفلان) (1).

فعند ذلك طعنه صالح بن وهب بالرمح على خاصرته طعنةً ، سقط منها عن فرسه إلى الأرض على خده الأيمن ، وهو يقول : (بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله) ثم جعل يجمع التراب بيده ، فيضع خده عليها ثم يناجي ربه قائلاً : (صبراً على قضائك وبلائك ، يا رب لا معبود سواك) .

ثم وثب ليقوم للقتال فلم يقدر ، فبكى بكاءً شديداً ونادى : (واجداه وامحمداه ، وا أبتاه واعلياه ، واغربتاه ، واقلة ناصراه !!

ءأقتل مظلوماً وجدي محمد المصطفى ؟!

ء أذبح عطشاناً وأبي علي المرتضى ؟ !

ءأترك مهتوكاً وأمي فاطمة الزهراء) ؟ ! (2)

فخرج عبد الله بن الإمام الحسن (عليه السلام) وهو غلام لم يراهق (في الحادية عشر من عمره) من عند النساء ،

ــــــــــــــــــــ

(1) بحار الأنوار ، ج 45 ، ص 53 .
(2) نفس المصدر .

الصفحة229

فشد حتى وقف إلى جنب عمه الحسين ، فلحقته زينب بنت علي لتحسبه ، فأبى وامتنع عليها إمتناعاً شديداً وقال : والله لا أفارق عمي وجاء حتى جلس عند الإمام ، وجعل يطلب منه أن ينهض ويرجع إلى المخيم ، وفي هذه الأثناء . . أقبل أبحر بن كعب إلى الحسين والسيف مصلت بيده ، فقال له الغلام : ويلك يا بن الخبيثة اتقتل عمي ! فضربه أبحر بالسيف فاتقاه الغلام بيده (1) وأطنها إلى الجلد فإذا هي معلقة ، ونادى الغلام : يا عماه ، فأخذه الإمام الحسين وضمه إليه وقال : (يا بن أخي إصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الأجر ، فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين) ، فرماه حرملة بسهم فذبحه في حجر عمه الحسين (2) .

وبقي الإمام الحسين (عليه السلام) مطروحاً على الأرض . . والشمس تصهر عليه ، فنادى شمر بالعسكر : ما وقوفكم ؟ ! إحملوا عليه .

ــــــــــــــــــــ

(1) لعل المعنى: أن الغلام مد يده على جسم عمه الحسين لكي لا تصل الضربة إليه، لكن العدو أنزل السيف ولم يرحم الغلام. أطنها: قطعها. أي: قطع السيف يد الغلام إلى الجلد.
(2) بحار الأنوار ، ج 45 ، ص 53 ـ 54 .

الصفحة230

فحملوا عليه من كل جانب ، وضربه زرعة بن شرؤيك بالسيف على كتفه ، وطعنه الحصين بن نمير بالرمح في صدره .

فصاح عمر بن سعد : ويلكم أنزلوا وحزروا رأسه ! وقال لرجل : ويلك إنزل إلى الحسين وأرحه !

فأقبل عمرو بن الحجاج ليقتل الحسين ، فلما دنى ونظر إلى عينيه ولى راجعاً مدبراً ، فسألوه عن سبب رجوعه ؟ قال : نظرت إلى عينيه كأنهما عينا رسول الله !!

وأقبل شبث بن ربعي فارتعدت يده ورمى السيف هارباً . . . .


الصفحة231

عودة فرس الإمام الحسين (عليه السلام) إلى المخيم

وكان فرس الإمام الحسين . . فرساً أصيلاً من جياد خيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وقد بقي حياً إلى ذلك اليوم ـ فلما رأى ما جرى على صاحبه (أي سقوط الإمام عن ظهره إلى الأرض) جعل يحمهم ويصهل ويشم الإمام الحسين ويمرغ ناصيته بدمه ، ثم توجه نحو خيام الإمام (عليه السلام) بكل سرعة . . وهو هائج هياجاً شديداً ، وقد ملأ البيداء صهيلاً عظيماً ، فلما وصل إلى المخيم جعل يضرب الأرض برأسه عند خيمة الإمام الحسين ، وكأنه يريد إخبار العائلة بما جرى على راكبه ، حتى سقط على الأرض عند باب الخيمة .

فخرجت النساء والأطفال من الخيام فرأين الفرس خالياً من راكبه ، فارتفعت صياح النساء ، وخرجن حافيات باكيات ،


الصفحة232

يضربن وجوههن ، لما نزل بهن من المصيبة والبلاء ، وهن يصحن : (وا محمداه ، واعلياه ، وافاطماه ، واحسناه ، واحسيناه) .

وصاحت سكينة : (قتل ـ والله ـ أبي الحسين ، ونادت : واقتيلاه ، وا أبتاه ، واحسيناه ، واغربتاه) (1).

ــــــــــــــــــــ

(1) معالي السبطين ، ج 2 ، الفصل العاشر ، المجلس الرابع عشر ، رواه عن كتاب (تظلم الزهراء) .

الصفحة233

ذهاب السيدة زينب (عليها السلام) إلى المعركة

ولما سقط الإمام الحسين (عليه السلام) على الأرض خرجت السيدة زينب من باب الخيمة نحو الميدان ، وهي تنادي : وا أخاه ، واسيداه ، وا أهل بيتاه ، ليت السماء أطبقت على الأرض ، وليت الجبال تدكدكت على السهل .

ثم وجهت كلامها إلى عمر بن سعد ، وقالت : يا بن سعد ! أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه ؟ !

فلم يجبها عمر بشيء .

فنادت : ويحكم !! ما فيكم مسلم ؟ ! (1)

فلم يجبها أحد بشيء .

ثم انحدرت نحو المعركة وهي تركض مسرعةً ، فتارةً تعثر

ــــــــــــــــــــ

(1) وفي نسخة : أما فيكم مسلم ؟

الصفحة234

بأذيالها ، وتارةً تسقط على وجهها من عظم دهشتها حتى وصلت إلى وسط المعركة ، فجعلت تنظر يميناً وشمالاً ، فرأت أخاها الحسين (عليه السلام) مطروحاً على وجه الأرض ، وهو يخور في دمه ، ويقبض يميناً وشمالاً ، ويجمع رجلاً ويمد أخرى ، والدماء تسيل من جراحاته ، فجلست عنده وطرحت نفسها على جسده الشريف ، وجعلت تقول :

ءأنت الحسين ؟ !

ءأنت أخي ؟ !

ءأنت ابن أمي ؟ !

ءأنت نور بصري ؟ !

ءأنت مهجة فؤادي ؟ !

ءأنت حمانا ؟ !

ءأنت رجانا ؟ !

ءأنت ابن محمد المصطفى ؟ !

ءأنت ابن علي المرتضى ؟ !

ءأنت ابن فاطمة الزهراء ؟ (1)

ــــــــــــــــــــ

(1) أقول : يحتمل أن السيدة زينب قالت هذه الكلمات بصيغة السؤال ..
ومن منطلق الإستغراب حيث رأت أخاها العزيز وهو بتلك الحالة المؤلمة ، خاصةً .. وأنها عارفة بعظمته ، وجلالة قدره .

الصفحة235

كل هذا ، والإمام الحسين لا يرد عليها جواباً ، لأنه كان مشغولاً بنفسه ، وقد استولى عليه الضعف الشديد بسبب نزف الدم وكثرة الجراحات .

فقالت : أخي ! بحق جدي رسول الله إلا ما كلمتني ، وبحق أبي : علي المرتضى إلا ما خاطبتني ، وبحق أمي فاطمة الزهراء إلا ما جاوبتني .

يا ضياء عيني كلمني .

يا شقيق روحي جاوبني .

فعند ذلك جلست خلفه ، وأدخلت يديها تحت كتفه وأجلسته حاضنةً له بصدرها .

فانتبه الإمام الحسين من كلامها ، وقال لها ـ بصوت ضعيف ـ : (أخيه زينب ! كسرتي قلبي ، وزدتيني كرباً على كربي ، فبالله عليك إلا ما سكنت وسكت) .

فصاحت : (وايلاه ! يا أخي وابن أمي ، كيف أسكن وأسكت ، وانت بهذه الحالة ، تعالج سكرات الموت ؟ !

روحي لروحك الفداء ! نفسي لنفسك الوقاء) .

ويحتمل أنها قالت هذه الكلمات لا بصيغة السؤال أو منطلق الإستغراب ، بل من منطلق العاطفة والحنان ، ولعلها تحصل على كلمة جوابية منه (عليه السلام) فتعلم أنه لا زال حياً .

المحقق


الصفحة236

فبينما هي تخاطبه ويخاطبها ، وإذا بالسوط يلتوي على كتفها ، وقائل يقول : تنحي عنه ، وإلا الحقتك به ، فالتفت وإذا هو شمر بن ذي الجوشن (لعنه الله) .

فاعتنقت أخاها ، وقالت : والله لا أتنحى عنه ، وإن ذبحته فأذبحني قبله .

فجذبها عنه قهراً ، وقال : والله إن تقدمت إليه لضربت عنقك بهذا السيف .

ثم جلس اللعين على صدر الإمام ، فتقدمت السيدة زينب إليه ، وجذبت السيف من يده .

وقالت : يا عدو الله ! إرفق به لقد كسرت صدره ، واثقلت ظهره ، فبالله عليك إلا ما أمهلته سويعةً لا تزود منه .

ويلك ! أما علمت أن هذا الصدر تربى على صدر رسول الله وصدر فاطمة الزهراء ؟ !

ويحك ! هذا الذي ناغاه جبرئيل ، وهز مهده ميكائيل ! !

. . . . دعني أودعه ، دعني أغمضه ، . . . فلم يعبأ اللعين بكلامها ، ولا رق قلبه عليها (1).

ــــــــــــــــــــ

(1) كتاب (تظلم الزهراء) للسيد رضي بن نبي القزويني ، ص 232 ، طبع بيروت ـ لبنان ، عام 1420 هـ .

الصفحة237

ويستفاد من بعض كتب المقاتل أن السيدة زينب (عليها السلام) لم تكن هناك حين مجيء الشمر ، بل أسرعت إلى المخيم ، إمتثالاً لأمر الإمام الحسين (عليه السلام) حيث أمرها بالرجوع إلى الخيام .

ووقعت الفاجعة العظمى والرزية الكبرى ، ألا وهي : مقتل الإمام المظلوم أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) .

فبدأت الأرض ترتجف تحت أرجل الناس ، وانكسفت الشمس ، وأمطرت السماء دماً عبيطاً (1) وتراباً أحمر .

فاقبلت العقيلة زينب إلى مخيم الإمام زين العابدين (عليه السلام) وقالت : يا بن أخي : ما لي أرى الكون قد تغير ؟ والشمس منكسفة ؟ والأرض ترجف ؟ !

فقال لها : يا عمة : أنا عليل مريض لا أستطيع النهوض إرفعي جانب الخيمة وسنديني إلى صدرك لا نظر ما الذي جرى !

فنظر إلى المعركة وإذا بفرس أبيه الحسين يجول في الميدان خالي السرج وملقى العنان ، ورأي رمحاً عليه رأس الإمام الحسين !

فقال يا عمة : إجمعي العيال والأطفال ، لقد قتل أبي

ــــــــــــــــــــ

(1) الدم العبيط : هو الدم الطري غير المتخثر .

الصفحة238

الحسين ، قتل أسد الله الباسل ، قتل إبن سيد الأوصياء ، قتل إبن فاطمة الزهراء ، ثم غشي عليه وسقط على الأرض مكبوباً على وجهه .

فأخذت السيدة زينب رأسه ووضعته في حجرها ونادت :

إجلس تفديك عماتك .

إجلس تفديك أخواتك .

إجلس يا بقية السلف .

إجلس يا نعم الخلف .

وهو لا يجيب نداها ، ولا يسمع شكواها ، فعند ذلك إنكبت عليه ومسحت التراب عن خديه ونادت : يا زين العباد ، يا مهجة الفؤاد ، ففتح عينيه .... (1).

ـــــــــــــــــــــ

(1) كتاب (تظلم الزهراء) ص 233 ـ 234 .

الصفحة239

الفصل الحادي عشر

الهجوم على المخيمات لسلب النساء

إحراق خيام الإمام الحسين (عليه السلام)

السيدة زينب تجمع العيال والأطفال

ليلة الوحشة

ترحيل العائلة من كربلاء

نياحة السيدة زينب (عليها السلام) على سيد الشهداء (عليه السلام)


الصفحة240


الصفحة241

الهجوم على المخيمات لسلب النساء

وبعد ما قتل الإمام الحسين (عليه السلام) بمدة قصيرة . . هجم جيش الأعداء بكل وحشية على خيام الإمام الحسين (عليه السلام) ، وهم على خيولهم ! ! حتى سحق سبعة من الأطفال تحت حوافر الخيل . . ساعة الهجوم (1) وقد سجل التاريخ أسماء خمسة منهم ، وهم :

بنتان للإمام الحسن المجتبى عليه السلام (2).

طفلان لعبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب ، وإسمهما :

ــــــــــــــــــــ

(1) كتاب (معالي السبطين) ج 2 ص 135 ، الفصل الخامس عشر ، المجلس الثاني عشر .
(2) معالي السبطين ، ج 2 ص 140 .

الصفحة242

سعد وعقيل (1).

عاتكة بنت مسلم بن عقيل ، وكان عمرها سبع سنوات (2).

محمد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب وكان له من العمر سبع سنوات (3).

نعم ، لقد كان الهجوم على العائلة ـ المفجوعة لتوها ـ بعيداً عن الرحمة والإنسانية ، وقد وصف التاريخ ذلك الهجوم بقوله :

وتسابق القوم على نهب بيوت آل الرسول ، وقرة عين الزهراء البتول ، حتى جعلوا ينزعون ملحفة المرأة عن ظهرها ! ! (4).

وكانت المرأة تجاذب على إزارها وحجابها . . حتى تغلب على ذلك (5).

ــــــــــــــــــــ

(1) معالم السبطين ، ج 2 ، ص 135 .
(2) نفس المصدر ، ص 135 .
(3) نفس المصدر .
(4) الملحفة : الملاءة التي تلتحف بها المرأة ، كما في (أقرب الموارد) . ويعبر عنها ـ حالياً ـ بالعباءة والإزار .
المحقق
(5) كتاب معالي السبطين ، الفصل الثاني عشر ، المجلس الثاني . أي :

الصفحة243

وخرجن بنات آل الرسول وحريمه يتساعدن على البكاء ، ويندبن لفراق الحماة والأحباء (1).

قال حميد بن مسلم : رأيت امرأة من بني بكر بن وائل ـ كانت مع زوجها في عسكر عمر بن سعد ـ فلما رأت القوم قد اقتحموا على نساء الإمام الحسين في خيامهن ، وهم يسلبونهن ، أخذت سيفاً وأقبلت نحو الخيام وقالت :

(يا آل بكر بن وائل

اتسلب بنات رسول الله ؟ !

لا حكم إلا لله ! !

يا لثارات رسول الله ! !)

فأخذها زوجها ، وردها إلى رحله (2).

قالت فاطمة بنت الإمام الحسين عليه السلام :

(كنت واقفة بباب الخيمة ، وأنا أنظر إلى أبي وأصحابه

كانت المرأة تمسك عباءتها وحجابها بقوة ، وكان الأعداء يسحبون ويجذبون عنها ذلك ، ويضربونهن على أيديهن بالعصي والسياط لكي يستطيعوا سلب ما عليهن من أزر ومقانع ! !

المحقق

ــــــــــــــــــــ

(1) كتاب (الملهوف) لابن طاووس ، ص 181 .
(2) نفس المصدر .

الصفحة244

مجزرين كالأضاحي على الرمال ، والخيول على أجسادهم تجول ! !

وأنا أفكر فيما يقع علينا بعد أبي . . من بني أمية !

أيقتلوننا أم يأسروننا ؟

فإذا برجل على ظهر جواده ، يسوق النساء بكعب رمحه ، وهن يلذن بعضهن ببعض ، وقد أخذ ما عليهن من أخمرة وأسورة (1) وهن يصحن : (وا جداه ! وا أبتاه ! وا علياه ! وا قلة ناصراه ! واحسيناه !

أما من مجير يجيرنا ؟

أما من ذائد يذود عنا ؟)

قالت : فطار فؤادي ، وارتعدت فرائصي ، فجعلت أجيل بطرفي (2) يميناً وشمالاً على عمتي أم كلثوم خشيةً منه أن يأتيني .

فبينا أنا على هذه الحالة وإذا به قد قصدني، ففررت منهزمة، وأنا أظن أني أسلم منه !! وإذا به قد تبعني، فذهلت خشيةً منه، وإذا بكعب الرمح بين كتفي، فسقطت على وجهي

ــــــــــــــــــــ

(1) أخمرة ـ جمع خمار ـ : ما تغطي به المرأة رأسها .
أسورة ـ جمع سوار ـ : حلية ـ كالطوق ـ تلبسها المرأة في زندها أو معصمها ، ويعبر عنها ـ أيضاً ـ : بالمعاضد .
(2) أجيل بطرفي : أدبر بعيني وبصري .

الصفحة245

فخرم أذني ، وأخذ قرطي ومقنعتي ، وترك الدماء تسيل على خدي ، ورأسي تصهره الشمس ، وولى راجعاً إلى المخيم وأنا مغشي علي ! !

وإذا بعمتي عندي تبكي ، وهي تقول :

قومي نمضي ، ما أعلم ما جرى على البنات ، وعلى أخيك العليل ؟

فما رجعنا إلى الخيمة إلا وهي قد نهبت وما فيها .

وأخي : علي بن الحسين مكبوب على وجهه ، لا يطيق الجلوس من كثرة الجوع والعطش والأسقام ، فجعلنا نبكي عليه ويبكي علينا ! ! (1)

وروي عن السيدة زينب (عليها السلام) أنها قالت : كنت ـ في ذلك الوقت ـ واقفة في الخيمة إذ دخل رجل أزرق العينين (2) فأخذ ما كان في الخيمة ، ونظر إلى علي بن الحسين وهو على نطع من الأديم (3) وكان مريضاً فجذب النطع من تحته ، ورماه إلى الأرض ! !

ــــــــــــــــــــ

(1) بحار الأنوار للمجلسي ج 45 ص 61 .
(2) وهو خولى بن يزيد الأصبحي . كما في كتاب (اسرار الشهادة) للدربندي الطبعة الحديثة ، ج 3 ص 129 .
(3) النطع : بساط من الجلد يفرش تحت الإنسان . الأديم : الجلد المذبوغ .

الصفحة246

قال حميد بن مسلم : انتهيت إلى علي بن الحسين ، وهو مريض ومنبسط على فراش ، إذ أقبل شمر بن ذي الجوشن ومعه جماعة من الرجالة ، وهم يقولون [له] : ألا تقتل هذا العليل ؟

فهم اللعين بقتله ، فقلت : سبحان الله ! أتقتل الصبيان ؟ ! إنما هو صبي .

فلم يمتنع اللعين وسل سيفه ليقتله ، فألقت زينب (عليها السلام) بنفسها عليه وقالت : والله لا يقتل حتى أقتل .

فأخذ عمر بن سعد بيده وقال : أما تستحي من الله ، تريد أن تقتل هذا الغلام المريض ؟ !

فقال شمر : قد صدر أمر الأمير عبيد الله بن زياد أن أقتل جميع أولاد الحسين .

فبالغ عمر في منعه ، فكف عنه (1) .

ــــــــــــــــــــ

(1) كتاب معالي السبطين ج 2 ، الفصل الثاني عشر ، المجلس الثاني . وكتاب أسرار الشهادة ج 3 ص 129 .

الصفحة247

إحراق خيام الإمام الحسين عليه السلام

ولما فرغ القوم من النهب والسلب ، أمر عمر بن سعد بحرق الخيام .

فأضرموا الخيم ناراً ، ففررن بنات رسول الله من خيمة إلى خيمة ، ومن خباء إلى خباء . .

وذكر في بعض كتب المقاتل : أن زينب الكبرى (عليها السلام) أقبلت إلى الإمام زين العابدين (عليه السلام) وقالت :

يا بقية الماضين وثمال الباقين ! (1) قد أضرموا النار في مضاربنا (2) فما رأيك فينا ؟

ــــــــــــــــــــ

(1) الثمال ـ على وزن كتاب ـ : الغياث الذي يقوم بأمر قومه ، يقال : فلان ثمال قومه : أي غياث لهم . كتاب (مجمع البحرين) للطريحي .
(2) المضارب : الخيام .

الصفحة248

فقال (عليه السلام) : عليكن بالفرار .

ففررن بنات رسول الله صائحات باكيات .

قال بعض من شهد ذلك : رأيت امرأة جليلة واقفة بباب الخيمة ، والنار تشتعل من جوانبها ، وهي تارةً تنظر يمنة ويسرة ، وتارةً أخرى تنظر إلى السماء ، وتصفق بيديها ، وتارةً تدخل في تلك الخيمة وتخرج .

فأسرعت إليها وقلت : يا هذي ! ما وقوفك ها هنا والنار تشتعل من جوانبك ؟ ! وهؤلاء النسوة قد فررن وتفرقن ، ولم لم تلحقي بهن ؟ ! وما شأنك ؟ !

فبكت وقالت : يا شيخ إن لنا عليلاً في الخيمة ، وهو لا يتمكن من الجلوس والنهوض ، فكيف أفارقه وقد أحاطت النار به ؟ (1)

وعن حميد بن مسلم قال : رأيت زينب ـ حين إحراق الخيام ـ قد دخلت في وسط النار ، وخرجت وهي تسحب إنساناً من وسط لهيب النار ، فظننت أنها تسحب ميتاً قد احترق ، فاقتربت لأنظر إليه ، فإذا هو زين العابدين علي بن الحسين (2).

ــــــــــــــــــــ

(1) معالي السبطين ج 2 ، الفصل الثاني عشر ، المجلس الثالث .
(2) كتاب (الطراز المذهب في أحوال سيدتنا زينب) .

الصفحة249

أيها القارئ الكريم : أنظر إلى هذه العملية الفدائية ، وهذه التضحية بالحياة ! !

كيف تقتحم هذه السيدة الجليلة المكان المشحون بلهيب النار ، لتنقذ ابن أخيها ـ، وإن شئت فقل : إمام زمانها ـ من بين أنياب الموت ؟ !

فهل تعرف نظيراً لهذه السيدة فيما قامت به من الخطوات والأعمال ؟ !

إنها مغامرة بالحياة من أجل الدين .

إنها إبنة ذلك البطل العظيم الذي كان يخوض غمار الموت ـ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ للدفاع عن الإسلام والمحافظة على حياة نبي الإسلام .

إنها إبنة أسد الله الغالب الإمام علي بن أبي طالب (عليهما السلام) .


الصفحة250


الصفحة251

السيدة زينب (عليها السلام) تجمع العيال والأطفال

لقد أوصى الإمام الحسين أخته السيدة زينب بالمحافظة على العيال والأطفال بعد استشهاده (عليه السلام) ، ويعلم الله كم كان تنفيذ هذه الوصية أمراً صعباً ، وخاصةً بعد الهجوم الوحشي على مخيمات الإمام الحسين (عليه السلام) وعبد إحراق الخيام وتبعثر النساء والأطفال في الصحراء !

ففي ساعة الهجوم على الخيام كانت النساء تلجأ إلى السيدة زينب ، وتخفي أنفسهن خلفها ، وكان الأطفال ـ أيضاً ـ يفزعون إليها ويتسترون وراءها خوفاً من الضرب بالسياط والعصي ، فكانت السيدة زينب (عليها السلام) تحافظ عليهم ـ كما يحافظ الطير على فراخه حين هجوم الصقور على عشه ـ فتجعل جسمها مانعاً من ضرب النساء والأطفال ، وقد إسود ظهرها ـ في مدة زمنية قصيرة ـ بسبب الضرب المتوالي على جسمها !


الصفحة252

وبعد الهجوم والإحراق بدأت السيدة زينب تتفقد النساء والأطفال ، وتنادي كل واحدة منهن باسمها ، وتعدهم واحدةً واحدة ، وتبحث عمن لا تجده مع النساء والأطفال !

ونقرأ في بعض الكتب : أن السيدة زينب (عليها السلام) لما بدأت بجمع العيال والأطفال ، لم تجد طفلين منهم ، فذهبت تبحث عنهما هنا وهناك ، وأخيراً . . وجدتهما معتنقين نائمين ، فلما حركتهما فإذا هما قد ماتا من الخوف والعطش ! !

ولما سمع العسكر بذلك قالوا لا بن سعد : رخص لنا في سقي العيال .... (1).

وذكر في بعض الكتب أن طفلين لعبد الرحمن بن عقيل كانا مع الحسين ، إسمهما : سعد وعقيل ، وأنهما ماتا من شدة العطش ومن الدهشة والذعر ، بعد مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) وهجوم الأعداء على المخيم للسلب . وأمهما : خديجة بنت الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام (2).

ــــــــــــــــــــ

(1) كتاب (الإيقاد) للسيد محمد علي الشاه عبد العظيمي ، الطبعة الحديثة ، ص 139 .
(2) معالي السبطين ج 2 ، الفصل 12 ، المجلس الرابع .

الصفحة253

ليلة الوحشة

باتت العائلة المفجوعة ليلة الحادية عشرة من المحرم بحالة لا يستطيع أي قلم شرحها ووصفها ، ولا يستطيع اي مصور أن يصور جانباً واحداً من جوانب تلك الليلة الرهيبة .

قبل أربع وعشرين ساعة من تلك الليلة باتت العائلة المكرمة وهي تملك كل شيء ، وهذه الليلة أظلمت عليها وهي لا تملك شيئاً .

رجالها صرعى مرملون بدمائهم ، وأطفالها مذبحون ، والأموال قد نهبت ، والأزر والمقانع سلبت ، والظهور والمتون قد سودتها السياط وكعاب الرماح .

ليس لهم طعام حتى يقدموه إلى من تبقى من الأطفال ، ولا تسأل عن المراضع اللواتي جف اللبن في صدورهن جوعاً وعطشاً .

واستولت على العائلة ـ وخاصةً الأطفال ـ حالة الفواق ، وهي


الصفحة254

حالة تشنج تحصل للإنسان حينما يبكي كثيراً ، فتتشنج الرئة ، ويخرج النفس متقطعاً .

يا للفاجعة ، يا للمأساة ، يا للمصائب .

لا غطاء ، ولا فراش ، ولا ضياء ، ولا أثاث ، ولا طعام .

قد أحدقت السيدات بالإمام زين العابدين (عليه السلام) وهو بقية الماضين ، وثمال الباقين ، وهن يتفكرن بما خبأ لهن الغد من أولئك السفاكين .

فالفاجعة لم تنته بعد ، والظلم ـ بجميع أنواعه ـ بالنتظار آل رسول الله الطيبين الطاهرين ، والحوادث المؤلمة سوف تمتد إلى غد وما بعد غد ، وإلى أيام وشهور ، مما لا بالبال ولا بالخاطر .

وسوف تبدأ رحلة طويلة مليئة بالآلام والأهات والدموع .

وحكي أن السيدة زينب (عليها السلام) تفقدت العائلة في ساعة من ساعات تلك الليلة ، وإذا بالسيدة الرباب لا توجد مع النساء ، فخرجت السيدة زينب ومعها أم كلثوم ، وهما تناديان : يا رباب . . يا رباب .

فسمعها رجل كان موكلاً بحراسة العائلة ، فسألها ماذا تريدين ؟ !

فقالت السيدة زينب : إن إمرأةً منا مفقودة ولا توجد مع النساء .


الصفحة255

فقال الرجل : نعم ، قبل ساعة رأيت امرأة منكم إنحدرت نحو المعركة !

فأقبلت السيدة زينب حتى وصلت إلى المعركة ، وإذا بها ترى الرباب جالسة عند جسد زوجها الإمام الحسين (عليه السلام) وهي تبكي عليه بكاءً شديداً وتنوح ، وتقول في نياحتها :

وا حسيناه وأين مني حسين    أقصـدته أسنة الأدعيـاء

غادروه فـي كربلاء قتيلاً     لا سقى الله جانبي كربلاء

فأخذت السيدة زينب (عليها السلام) بيدها وأرجعتها معها إلى حيث النساء والأطفال .

وفي هذا الجو المتوتر ، والوضع المقرح للفؤاد ، يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام) : (فتحت عيني ليلة الحادية عشر من المحرم ، وإذا أنا أرى عمتي زينب تصلي نافلة الليل وهي جالسة ، فقلت لها : يا عمة أتصلين وأنت جالسة) ؟

قالت : نعم يابن أخي ، والله إن رجلي لا تحملني ! ! (1)

ــــــــــــــــــــ

(1) كتاب (زينب الكبرى) للشيخ جعفر النقدي ، ص 58 .

الصفحة256


الصفحة257

ترحيل العائلة من كربلاء

لقد جاءوا بالنياق المهزولة لترحيل آل رسول الله ، فلا غطاء ولا وطاء ! !

آل رسول الله ، أشرف أسرة وأطهرها وأتقاها على وجه الأرض ، وكأنهن سبايا الكفار والمشركين ! !

لقد كان تعامل الأعداء معهن في منتهى القساوة والفظاظة وكأنهم يحاولون الإنتقام منهن ، ويطلبون بثارات بدر وحنين !

وهل أستطيع أن أكتب ـ هنا ـ شيئاً من مواقف بني أمية تجاه آل رسول الله ؟ !

والله .. إنها وصمة خزي وعار لا تمحى ولا تزول بمرور القرون .

لقد وصموا بها جبهة التاريخ الإسلامي النزيه المشرق الوضاء .

 
الصفحة السابقةالفهرسالصفحة اللاحقة

 

طباعة الصفحةأعلى