الصفحة
179
الكريهة !
هذا نافع يخبرني الساعة بكيت وكيت ، وقد خلف أخت سيدكم وبقايا عياله يتشاكين
ويتباكين . أخبروني عما أنتم عليه ؟
فجردوا صوارمهم ، ورموا عمائمهم ، وقالوا : يا حبيب ! والله الذي من علينا بهذا
الموقف ! لئن زحف القوم لنحصدن رؤوسهم ، ولنلحقنهم بأشياخهم أذلاء ، صاغرين ولنحفظن
وصية رسول الله في أبنائه وبناته !
فقال : هلموا معي .
فقام يخبط الأرض (1) ، وهم يعدون خلفه حتى وقف بين أطناب الخيم ، ونادى :
(يا أهلنا
ويا سادتنا ! ويا معشر حرائر رسول الله ! هذه صوارم فتيانكم آلوا أن لا يغمدوها إلا
في رقاب من يبغي السوء بكم ، وهذه أسنة غلمانكم أقسموا أن لا يركزوها إلا
ــــــــــــــــــــ
(1) يخبط الأرض : يضرب الأرض برجليه ضرباً شديداً ، وهو مأخوذ من ضرب البعير الأرض
برجله . قال الخليل في كتاب (العين) : الخبط : شدة الوطئ بأيدي الدواب . وجاء في
(المعجم الوسيط) خبط الشيء : وطأه وطئاً شديداً . ولعل المقصود : سرعة الركض ، أو
نوع خاص من المشي العشائري . . يكون مزيجاً مع ضرب الأرجل بالأرض ، كنوع من التدريب
للقتال قبل الحرب ، أو لإيجاد الحماس ورفع المعنويات .
المحقق
الصفحة
180
في صدور من يفرق ناديكم (1)!
فقال الإمام الحسين (عليه السلام) : أخرجهن عليهم يا آل الله !
فخرجن ، وهن ينتدبن (2) ويقلن : حاموا أيها الطيبون عن الفاطميات ، ما عذركم إذا
لقينا جدنا رسول الله ، وشكونا إليه ما نزل بنا ؟
وكان حبيب وأصحابه حاضرين يسمعون وينظرون ، فو الله الذي لا إله إلا هو ، لقد ضجوا
ضجة ماجت منها الأرض ،
ــــــــــــــــــــ
(1) أسنة : رماح .
يركزوها : الركز : غرزك شيئاً منتصباً . . كالرمح ونحوه ، يقال ركزه ركزاً في مركزه
إي : ثبته في مكانه . كما في (لسان العرب) . ناديكم : محل اجتماعكم . النادي : مجلس
القوم ماداموا مجتمعين فيه .
(2) وفي نسخة : يندبن .
ينتدبن: الإنتداب: بمعنى الإسراع ، وبمعنى تلبية الطلب، فيكون المعنى :
(يتسارعن) في خروجهن من الخيام ، أو : (يلبين) أمر الإمام لهن بالخروج لهم . قال
الطريحي في (مجمع البحرين): ندبه لأمر فانتدب : أي : دعاء لأمر فأجاب .
وذكر في بعض كتب اللغة : أن الإنتداب : هو طلب شيء من شخص في حالة الحرب وإسراع
الشخص في تلبية الطلب . كما يستفاد هذا المعنى من كتاب (العين) للخيل ، وكتاب
(المحيط في اللغة) للصاحب بن عباد .
المحقق
الصفحة
181
واجتمعت لها خيولهم وكان لها جولة واختلاف صهيل ، حتى كأن كلاً ينادي صاحبه وفارسه
(1) ، (2).
وروي عن فخر المخدرات السيدة زينب (عليها السلام) أنها قالت : (لما كانت ليلة عاشر
من المحرم خرجت من خيمتي لأتفقد أخي الحسين وأنصاره ، وقد أفرد له خيمة ، فوجدته
جالساً وحده ، يناجي ربه ، ويتلو القرآن .
فقلت ـ في نفسي ـ : أفي مثل هذه الليلة يترك أخي وحده ؟ والله لأمضين إلى إخوتي
وبني عمومتي وأعاتبهم بذلك .
فأتيت إلى خيمة العباس ، فسمعت منها همهمة ودمدمة (3)،
ــــــــــــــــــــ
(1) الظاهر أن المراد : حتى كأن كل واحد من الخيل ينادي ـ في صهيله ـ صاحبه وفارسه
. . لركوب استعداداً للإنطلاق والقتال .
المحقق
(2) كتاب (الدمعة الساكبة) ج 4 ص 273 ، المجلس الثاني : فيما وقع في ليلة عاشوراء ،
نقلاً عن الشيخ المفيد ، رضوان الله عليه . وكتاب (معالي السبطين) للشيخ محمد مهدي
المازندراني ، المجلس الرابع : وقائع ليلة عاشوراء .
(3) الهمهمة : هو الصوت الذي يسمع ولايفهم معناه ، بسبب خفائه أو اختلاطه مع أصوات
أخرى . قال إبن منظور في (لسان العرب) : الهمهمة : الكلام الخفي ، وهمهم الرجل :
إذا لم يبين كلامه ، والهمهمة : الصوت الخفي ، وقيل : هو صوت معه بحح .
وقال ابن دريد في (جمهرة اللغة) : الهمهمة : الكلام الذي لا يفهم .
المحقق
الصفحة
182
فوقفت على ظهرها (1) فنظرت فيها ، فوجدت بني عمومتي وإخوتي وأولاد إخوتي مجتمعين
كالحلقة ، وبينهم العباس بن أمير المؤمنين ، وهو جاث على ركبتيه كالأسد على فريسته
؛ فخطب فيهم خطبة ـ ما سمعتها إلا من الحسين ـ : مشتملة على الحمد والثناء لله
والصلاة والسلام على النبي وآله .
ثم قال ـ في آخر خطبته ـ : يا إخوتي ! وبني إخوتي ! وبني عمومتي ! إذا كان الصباح
فما تقولون ؟
قالوا : الأمر إليك يرجع ، ونحن لا نتعدى لك قولاً (2).
فقال العباس : إن هؤلاء (أعني الأصحاب) قوم غرباء ، والحمل ثقيل لا يقوم إلا بأهله
، فإذا كان الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم .
نحن نقدمهم إلى الموت لئلا يقول الناس : قدموا أصحابهم ، فلما قتلوا عالجوا الموت
بأسيافهم ساعة بعد ساعة (3).
فقامت بنو هاشم ، وسلوا سيوفهم في وجه أخي العباس ، وقالوا : نحن على ما أنت عليه !
ــــــــــــــــــــ
(1) ظهرها : أي ظهر الخيمة ، بمعنى خلفها وورائها .
(2) لا نتعدى : لا نتجاوز من رأيك إلى رأي غيرك .
(3) عالجوا : حاولوا التخلص من الموت بسيوفهم .. محاولةً بعد محاولة ، ومرةً بعد
اخرى .
الصفحة
183
قالت زينب : فلما رأيت كثرة إجتماعهم ، وشدة عزمهم ، وإظهار شيمتهم ، سكن قلبي
وفرحت ، ولكن خنقتني العبرة ، فأردت أن أرجع إلى أخي الحسين وأخبره بذلك ، فسمعت من
خيمة حبيب بن مظاهر همهمة ودمدمة ، فمضيت إليها ووقفت بظهرها ، ونظرت فيها ، فوجدت
الأصحاب على نحو بني هاشم ، مجتمعين كالحلقة ، بينهم حبيب بن مظاهر ، وهو يقول :
(يا اصحابي ! لم جئتم إلى هذا المكان ؟ أوضحوا كلامكم ، رحمكم الله) .
فقالوا : أتينا لننصر غريب فاطمة !
فقال لهم : لم طلقتم حلائلكم ؟
قالوا : لذلك .
قال حبيب : فإذا كان الصباح فما أنتم قائلون ؟
فقالوا : الرأي رأيك ، لا نتعدى قولاً لك .
قال : فإذا صار الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم ، نحن نقدمهم للقتال ولا نرى
هاشمياً مضرجاً بدمه وفينا عرق يضرب ، لئلا يقول الناس : قدموا ساداتهم للقتال ،
وبخلوا عليهم بأنفسهم .
فهزوا سيوفهم على وجهه ، وقالوا : نحن على ما أنت عليه .
قالت زينب : ففرحت من ثباتهم ، ولكن خنقتني العبرة ،
الصفحة
184
فانصرفت عنهم وأنا باكية ، وإذا بأخي الحسين قد عارضني (1) ، فسكنت نفسي
(2) ،
وتبسمت في وجهه .
فقال : أخيه .
قلت : لبيك يا أخي.
فقال : يا أختاه ! منذ رحلنا من المدينة ما رأيتك متبسمة ، أخبريني : ما سبب تبسمك
؟
فقلت له : يا أخي ! رأيت من فعل بني هاشم والأصحاب كذا وكذا .
فقال لي : يا أختاه ! إعلمي أن هؤلاء أصحابي من عالم الذر ، وبهم وعدني جدي رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
هل تحبين أن تنظري إلى ثبات أقدامهم ؟
ــــــــــــــــــــ
(1) عارضني : واجهني .
(2) هناك احتمالان في كيفية قراءة (فسكنت نفسي) هما :
1 ـ سكنت نفسي : بمعنى أنها حاولت أن تتغلب على ما بها من البكاء ، وتمسح آثار
الحزن والكآبة عن ملامحها . . لكي لا تزيد من هموم الإمام . وعلى هذا . . لا تكون
الجملة تكملة . . بل جملة مستأنفة .
2 ـ سكنت نفسي : بمعنى أنه زال القلق عن نفسها ، وارتاح قلبها . . بما رأته وسمعته
من موقف بني هاشم وموقف الأصحاب . فتكون الجملة تكملة ل(ففرحت من ثباتهم) .
المحقق
الصفحة
185
فقلت : نعم .
فقال : عليك بظهر الخيمة .
قالت زينب : فوقفت على ظهر الخيمة ، فنادى أخي الحسين : (إين إخواني وبنو أعمامي) ؟
فقال الحسين : أريد أن أجدد لكم عهداً .
فأتى أولاد الحسين وأولاد الحسن ، وأولاد علي وأولاد جعفر وأولاد عقيل ، فأمرهم
بالجلوس ، فجلسوا .
ثم نادى : أين حبيب بن مظاهر ، أين زهير ، أين نافع بن هلال ؟ أين الأصحاب ؟
فأقبلوا ، وتسابق منهم حبيب بن مظاهر ، وقال : لبيك يا أبا عبد الله !
فأتوا إليه وسيوفهم بأيديهم ، فأمرهم بالجلوس فجلسوا .
فخطب فيهم خطبةً بليغة ، ثم قال :
(يا أصحابي ! إعملوا أن هؤلاء القوم ليس لهم قصد سوى قتلي وقتل من هو معي ، وأنا
أخاف عليكم من القتل ، فأنتم في حل من بيعتي ، ومن أحب منكم الإنصراف فلينصرف في
سواد هذا الليل .
الصفحة
186
فعند ذلك قامت بنو هاشم ، وتكلموا بما تكلموا ، وقام الأصحاب وأخذوا يتكلمون بمثل
كلامهم .
فلما رأى الحسين حسن إقدامهم ، وثبات أقدامهم ، قال : إن كنتم كذلك فارفعوا رؤوسكم
، وانظروا إلى منازلكم في الجنة .
فكشف لهم الغطاء ، ورأوا منازلهم وحورهم وقصورهم فيها ، والحور العين ينادين :
العجل العجل ! فإنا مشتاقات إليكم .
فقاموا بأجمعهم ، وسلوا سيوفهم ، وقالوا : يا أبا عبد الله ! إئذن لنا أن نغير على
القوم ، ونقاتلهم حتى يفعل الله بنا وبهم ما يشاء .
فقال : إجلسوا رحمكم الله ، وجزاكم الله خيراً .
ثم قال : ألا ومن كان في رحله إمرأة فلينصرف بها إلى بني أسد (1).
فقام علي بن مظاهر وقال : ولماذا يا سيدي ؟
فقال : إن نسائي تسبى بعد قتلي ، وأخاف على نسائكم من السبي .
فمضى علي بن مظاهر إلى خيمته ، فقامت زوجته إجلالاً له ، فاستقبلته وتبسمت في وجهه
.
ــــــــــــــــــــ
(1) الرحل : ما تستصحبه في السفر . . من الأثاث أو الزوجة أو غير ذلك ، كما يستفاد
من (لسان العرب) .
الصفحة
187
فقال لها : دعيني والتبسم !
فقالت : يا بن مظاهر ! إني سمعت غريب فاطمة ! خطب فيكم وسمعت في آخرها همهمة ودمدمة
، فما علمت ما يقول ؟
قال : يا هذه ! إن الحسين قال لنا : ألا ومن كان في رحله إمرأة فليذهب بها إلى بني
عمها ، لأني غداً أقتل ، ونسائي تسبى .
فقالت : وما أنت صانع ؟
قال : قومي حتى ألحقك ببني عمك : بني أسد .
فقامت ، ونطحت رأسها بعمود الخيمة ، وقالت :
(والله ما انصفتني يا بن مظاهر ، أيسرك أن تسبى بنات رسول الله وأنا آمنة من السبي
؟ !
أيسرك أن تسلب زينب إزارها من رأسها وأنا استتر بإزاري ؟ !
أيسرك أن يبيض وجهك عند رسول الله ويسود وجهي عند فاطمة الزهراء ؟ !
والله أنتم تواسون الرجال ، ونحن نواسي النساء) .
فرجع علي بن مظاهر إلى الإمام الحسين (عليه السلام) وهو يبكي .
الصفحة
188
فقال له الحسين : ما يبكيك ؟
قال : سيدي .. أبت الأسدية إلا مواساتكم !!
فبكى الإمام الحسين ، وقال : جزيتم منا خيراً (1).
ــــــــــــــــــــ
(1) معالي السبطين للمازندراني ج 1 ، المجلس الثالث في وقائع ليلة عاشوراء .
الصفحة189
أزمة الماء
كانت السيدة زينب (عليها السلام) ركناً مهماً في الأسرة الشريفة
الطيبة ، وانطلاقاً من صفة العاطفة المثالية التي كانت تمتاز بها ، فقد
كانت تشعر بالمسؤلية عن كل ما يرتبط بحياة الأسرة . . بجميع أفرادها .
فكانت مفزعاً للكبار والصغار ، وملاذاً لجميع أفراد العائلة ، ومعقد
آمالهم ، فلعلها كانت تدخر شيئاً من الماء منذ بداية أزمة الماء عندهم
.
فكان بعض العائلة يأملون أن يجدوا عندها الماء ، جرياً على عادتها
وعادتهم ، ولهذا قالت سكينة بنت الإمام الحسين (عليه السلام) :
الصفحة190
(عز ماؤنا ليلة التاسع من المحرم (1)
، فجفت الأواني ، ويبست الشفاه (2) حتى
صرنا تنوقع الجرعة من الماء فلم نجدها .
فقلت ـ في نفسي ـ : أمضي إلى عمتي زينب ، لعلها أدخرت لنا شيئاً من
الماء ! !
فمضيت إلى خيمتها ، فرأيتها جالسة ، وفي حجرها أخي عبد الله الرضيع
، وهو يلوك بلسانه من شدة العطش ، وهي تارةً تقوم ، وتارةً تقعد .
فخنقتني العبرة ، فلزمت السكوت خوفاً من أن تفيق
(3) بي عمتي فيزداد حزنها .
فعند ذلك إلتفتت عمتي وقالت : سكينة ؟
قلت : لبيك .
قالت : ما يبكيك ؟
قلت : حال أخي الرضيع أبكاني .
ثم قلت : عمتاه ! قومي لنمضي إلى خيم عمومتي ،
ــــــــــــــــــــ
(1) عز ماؤنا : صار قليلاً جداً ، أو صار عزيزاً لنفاده .
المحقق
(2) وفي نسخة : السقاء :
يعني القربة .
(3) تفيق : تشعر .
الصفحة191
وبني عمومتي ، لعلهم ادخروا شيئاً من الماء !
قالت : ما أظن ذلك .
فمضينا واخترقنا الخيم ، بأجمعهم ، فلم نجد عندهم شيئاً من الماء .
فرجعت عمتي إلى خيمتها ، فتبعتها من نحو عشرين صبي وصبية ، وهم
يطلبون منها الماء ، وينادون : العطش العطش . . . .)
(1)
ــــــــــــــــــــ
(1) كتاب (معالي السبطين) للمازندراني ج 1 ، ص 320 ، المجلس الثامن :
في عطش أهل البيت ، نقلاً عن كتاب (اسرار الشهادة) للدربندي .
الصفحة192
الصفحة193
الفصل التاسع
يوم عاشوراء
مقتل سيدنا علي الأكبر (عليه السلام)
مقتل أولاد السيدة زينب (عليها اسلام)
مقتل سيدنا أبي الفضل العباس (عليه
السلام)
مقتل الطفل الرضيع (عليه السلام)
الصفحة194
الصفحة195
يوم عاشوراء
أصبح الصباح من يوم عاشوراء ، واشتعلت نار الحرب وتوالت المصائب ،
الواحدة تلو الأخرى ، وبدأت الفجائع تترى !
فالأصحاب والأنصار يبرزون إلى ساحة الجهاد ، ويستشهدون زرافات
ووحدانا ، وشيوخاً وشباناً .
ووصلت النوبة إلى أغصان الشجرة النبوية ، ورجالات البيت العلوي ،
الذين ورثوا الشجاعة والشهامة ، وحازوا عزة النفس ، وشرف الضمير ،
وثبات العقيدة ، وجمال الإستقامة .
الصفحة196
الصفحة197
مقتل سيدنا علي الأكبر
(عليه السلام)
وأول من تقدم منهم إلى ميدان الشرف : هو علي بن الحسين الأكبر
(عليهما السلام) ، فقاتل قتال الأبطال ، وأخيراً . . إنطفأت شمعة حياته
المستنيرة ، وسقط على الأرض كالوردة التي تتبعثر أوراقها .
وتبادر الإمام الحسين (عليه السلام) إلى مصرع ولده ، ليشاهد شبيه
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مقطعاً بالسيوف إرباً إرباً .
ولا أعلم كيف علمت السيدة زينب بهذه الفاجعة المروعة ، فقد خرجت
تعدو ، وهي السيدة المخدرة اللمحجبة الوقورة !
خرجت من الخيمة مسرعة وهي تنادي : (وا ويلاه ، يا حبيباه ، يا ثمرة
فؤاداه ، يا نور عيناه ، يا أخياه وابن أخياه ، واولداه ، واقتيلاه ،
واقلة ناصراه ، واغريباه ، وامهجة قلباه .
الصفحة198
ليتني كنت قبل هذا اليوم عمياء ، ليتني وسدت الثرى) .
وجاءت وانكبت عليه ، فجاء الإمام الحسين (عليه السلام) فأخذ بيدها ،
وردها إلى المخيم ، وأقبل بفتيانه إلى المعركة وقال : إحملوا أخاكم ،
فحملوه من مصرعه وجاؤا به حتى وضعوه عند الخيمة التي كانوا يقاتلون
أمامها (1).
ــــــــــــــــــــ
(1) كتاب (معالي السبطين) للشيخ المازندراني ، ج 1 ، الفصل التاسع ،
المجلس الثالث عشر .
الصفحة199
مقتل أولاد السيدة زينب
(عليها السلام)
وإلى أن وصلت النوبة إلى أولاد السيدة زينب عليها السلام وأفلاذ
كبدها .
أولئك الفتية الذين سهرت السيدة زينب لياليها ، وأتبعت أيامها ،
وصرفت حياتها في تربية تلك البراعم ، حتى نمت وأورقت .
إنها قدمت أغلى شيء في حياتها في سبيل نصرة أخيها الإمام الحسين
عليه السلام .
وتقدم أولئك الأشبال يتطوعون ويتبرعون بدمائهم وحياتهم في سبيل نصرة
خالهم ، الذي كان الإسلام متجسداً فيه وقائماً به .
وغريزة حب الحياة إنقلبت ـ عندهم ـ إلى كراهية تلك الحياة .
ومن يرغب ليعيش في أرجس مجتمع متكالب ، يتسابق على إراقة دماء أطهر
إنسان يعتبر مفخرة أهل السماء والأرض ؟ !
الصفحة200
وكان عبد الله بن جعفر ـ زوج السيده زينب ـ قد أمر ولديه : عوناً
ومحمداً ان يرافقا الإمام الحسين (عليه السلام) ـ لما أراد الخروج من
مكه ـ والمسير معه ، والجهاد دونه .
فلما انتهى القتال إلى الهاشميين برز عون بن عبد الله بن جعفر ، وهو
يرتجز ويقول :
إن تنكروني فأنا ابن جعفر
شهيد صدق في الجنان أزهر
يطيـر فيها بجناح أخضر
كفى بهذا شـرفاً في المحشر
فقتل ثلاثة فرسان ، وثمانية عشر راجلاً ، فقتله عبد الله بن قطبة
الطائي (1). ثم برز أخوه محمد بن عبد الله بن جعفر ، وهو ينشد :
أشكـو إلى الله من العدوان
فعال قوم في الردى عميان
قـد بدلـوا معـالم القرآن
ومحكـم التنزيـل والتبيان
وأظهروا الكفر مع الطغيان
فقتل عشرة من الأعداء ، فقتله عامر بن نهشل التميمي
(2).
ــــــــــــــــــــ (1) وفي نسخة :
عبد الله بن قطنة الطائي .
(2) كتاب (مناقب آل ابي
طالب) لابن شهر آشوب ، ج 4 ص 106 . وبحار الأنوار ج 45 ص 33 .
الصفحة201
ولقد رثاهما سليمان بن قبة بقوله :
و سـمي النبي غودر iiفيهم قـد علوه بصارم iiمصقول
فإذا ما بكيت عيني iiفجودي بـدموع تـسيل كل iiمسيل
واندبي إن بكيت عوناً iiأخاه ليس فيما ينوبهم بخذول(1) أقول : لم أجد في كتب المقاتل أن السيدة زينب الكبرى (عليها السلام)
صاحت أو ناحت أو صرخت أو بكت في شهادة ولديها، لا في يوم عاشوراء
ولابعده.
ومن الثابت أن مصيبة ولديها أوجدت في قلبها الحزن العميق ، بل
والهبت في نفسها نيران الأسى وحرارة الثكل ، ولكنها (عليها السلام)
كانت تخفي حزنها على ولديها ، لأن جميع عواطفها كانت متجهة إلى الإمام
الحسين عليه السلام (2).
ــــــــــــــــــــ
(1) كتاب (مقاتل الطالبيين) لأبي الفرج الأصفهاني ، ص 91 .
(2) وقد جاء ذكر هذين
السيدين الشهيدين في إحدى الزيارات الشريفة ، التي ذكرت فيها أسماء
شهداء كربلاء في يوم عاشوراء ، ومنها هذه الكلمات :
(. . . السلام على عون بن
عبد الله بن جعفر الطيار في الجنان ، حليف الإيمان ، ومنازل الأقران ،
الناصح للرحمن ، التالي للمثاني والقرآن ، لعن الله قاتله عبد الله بن
قطبة النبهاني .
السلام على محمد بن عبد
الله بن جعفر ، الشاهد مكان إبيه ، والتالي لأخيه ، وواقيه ببدنه ، لعن
الله قاتله عامر بن نهشل التميمي . . .) .
الصفحة202
وهناك وجه آخر قد يتبادر إلى الذهن : وهو أن بكاءها على ولديها قد
كان يسبب الخجل والإحراج لأخيها الإمام الحسين ، باعتبار أنهما قتلا
بين يديه ودفاعاً عنه ، فكان السيدة زينب ـ بسكوتها ـ تريد أن تقول
للإمام الحسين (عليه السلام) : ولداي فداء لك، فلا يهمك ولا يحرجك
أنهما قتلا بين يديك. والله العالم .
وأما مصدر هذه الزيارة ، فقد حكى الشيخ المجلسي في كتاب (بحار
الأنوار) طبع لبنان ، عام 1403 هـ ، ج 98 ص 269 ، وص 271 ، عن كتاب
(إقبال الأعمال) عن الشيخ الطوسي . . . قال : خرج من الناحية سنة 252
على يد الشيخ محمد بم غالب : (بسم الله الرحمن الرحيم ، إذا أردت زيارة
الشهداء (رضوان الله عليهم) فقف عند رجلي الحسين (عليه السلام) وهو قبر
علي بن ا لحسين ، فاستقبل القبلة بوجهك ، فإن هناك حومة الشهداء . . .)
.
والمقصود من جملة (خرج من الناحية): هو كلما كان يصل إلى الشيعة من
جانب الإمام علي الهادي ، ثم الإمام الحسن العسكري ، ثم الإمام المهدي
(صلوات الله عليهم). والذي يناسب التاريخ المذكور ـ وهو سنة 252 ـ أن
تكون الزيارة قد صدرت من ناحية الإمام علي الهادي عليه السلام، والله
العالم .
المحقق
الصفحة203
مقتل سيدنا أبي الفضل العباس
(عليه السلام)
لقد كانت العلاقات الودية بين السيدة زينب وبين أخيها أبي الفضل
العباس (عليهما السلام) تمتاز بنوع خاص من تبادل المحبة والإحترام ،
فقد كانت السيدة زينب تكن إخوتها من أبيها كل عكاطفة وود ، وكان ذلك
العطف والتقدير يظهر من خلال كيفية تعاملها مع إخوانها الأكارم .
وكان سيدنا أبو الفضل العباس ـ بشكل خاص ـ يحترم أخته زينب احتراماً
كثيراً جداً .
وفي طوال رحلة قافلة الإمام الحسين (عليه السلام) من مكة نحو العراق
. . كان العباس هو الذي يقوم بشؤون السيدة زينب ، من مساعدتها حين
الركوب أو النزول من المحمل ويبادر إلى تنفيذ الأوامر والطلبات بكل
سرعة . . ومن القلب .
فالسيدة زينب (عليها السلام) محترمة ومحبوبة عند الجميع ،
الصفحة204
يحبونها لعواطفها وأخلاقها المثالية ، يضاف إلى ذلك : أنها عميدة
الأسرة ، وعقيلة بني هاشم ، وابنة فاطمة الزهراء ، وسيدة نساء أهل
البيت .
ومنذ وصول قافلة الإمام الحسين إلى أرض كربلاء في اليوم الثاني من
شهر محرم ، إختار سيدنا العباس بن أمير المؤمنين (عليهما السلام) لنفسه
نوعاً خاصاً من العبادة : وهي أنه كان إذا جن الليل يركب الفرس ويحوم
حول المخيمات لحراسة العائلة .
والعباس : إسم لامع وبطل شجاع ، تطمئن إليه نفوس العائلة والنساء
والأطفال ، ويعرفه الأعداء أيضاً ، فقد ظهرت منه ـ يوم صفين ـ شجاعة
عظيمة جعلت إسمه يشتهر عند الجميع بالبطولة والبسالة ، ولا عجب من ذلك
فهو ابن أسد الله الغالب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام .
وفي يوم عاشوراء ، لما قتل أكثر أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام)
أقبل العباس إلى أخيه الحسين واستأذنه للقتال ، فلم يأذن له ، وقال :
(أخي أنت صاحب لوائي ، فإذا غدوت يؤول جمعنا إلى الشتات) .
فقال العباس : يا سيدي لقد ضاق صدري وأريد أخذ الثأر من هؤلاء
المنافقين .
فقال له الإمام الحسين (عليه السلام) : (إذن . . فاطلب
الصفحة205
لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء) (1).
فأقبل العباس وحمل القربة وتوجه نحو النهر ليأتي بالماء . . . . ،
وإلى أن وصل إلى الماء وملأ القربة ، وتوجه نحو خيام الإمام الحسين
(عليه السلام) . فجعل الأعداء يرمونه بالسهام ـ كالمطر ـ حتى صار درعه
كالقنفذ ، ثم قطعوا عليه الطريق وأحاطوا به من كل جانب ، فحاربهم
وقاتلهم قتال الأبطال ، وكان جسوراً على الطعن والضرب .
فكمن له زيد بن ورقاء من وراء نخلة وضربه بالسيف على يمينه فقطعها ،
فأخذ السيف بشماله واستمر في القتال ، فضربه لعين على شماله فقطع يده ،
وجاءته السهام والنبال من كل جانب ، وجاء سهم وأصاب القربة فأريق ماؤها
، وضربه الأعداء بعمود من حديد على رأسه ، فسقط على الأرض صريعاً ،
ونادى ـ بأعلى صوته ـ : أدركني يا أخي !
وكان الإمام الحسين (عليه السلام) قد وقف على ربوة عند باب الخيمة .
. وهو ينظر إلى ميدان القتال ، وكانت السيدة زينب واقفة تنظر إلى وجه
أخيها ، وإذا بالحزن قد غطى ملامح الإمام الحسين ! فقالت زينب : أخي
مالي أراك قد تغير وجهك ؟
ــــــــــــــــــــ (1) كتاب (تظلم
الزهراء) ص 210 .
الصفحة206
فقال : أخيه لقد سقط العلم وقتل أخي العباس !
فكان السيدة زينب إنهد ركنها ، وجلست على الأرض وصرخت : وا أخاه !
وا عباساه !
وا قلة ناصراه ، واضيعتاه من بعدك يا أبا الفضل !
فقال الإمام الحسين : (إي والله ، من بعده وا ضيعتاه ! وا إنقطاع
ظهراه !
وأقبل الحسين ـ كالصقر المنقض ـ حتى وصل إلى أخيه فرآه صريعاً على
شاطئ الفرات ، فنزل عن فرسه ووقف عليه منحنياً ، وجلس عند رأسه ، وبكى
بكاءً شديداً ، وقال : (يعز ـ والله ـ علي فراقك ، الآن إنكسر ظهري ،
وقلت حيلتي ، وشمت بي عدوي) .
الصفحة207
مقتل الطفل الرضيع
(عليه السلام)
قال السيد ابن طاووس (1) : لما رأى
الحسين (عليه السلام) مصارع فتيانه وأحبته عزم على لقاء القوم بمهجته ،
ونادى :
هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله ؟
هل من موحد يخاف الله فينا ؟
هل من مغيث يرجو الله بإغاثتنا ؟
هل من معين يرجو ما عند الله بإعانتنا ؟
فارتفعت اصوات النساء بالعويل، فتقدم الإمام (عليه السلام) إلى باب
الخيمة وقال لأخته زينب : ناوليني ولدي الرضيع حتى أودعه .
ــــــــــــــــــــ (1) في كتاب
الملهوف ص 168 / وذكر في كتاب بحار الأنوار ج 45 ص 46 .
الصفحة208
فأخذه وأوما إليه ليقبله فرماه حرملة بن كاهل بسهم فوقع في نحره
فذبحه .
فقال الحسين لأخته زينب : خذيه .
ثم تلقى الدم بكفيه فلما امتلأتا رمى بالدم نحو السماء وقال : هون
علي ما نزل بي أنه بعين الله .
قال الإمام الباقر (عليه السلام) : فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى
الأرض (1).
وفي رواية أخرى : أن الإمام الحسين (عليه السلام) حينما طلب طفله
الرضيع ليودعه ، أقبلت السيدة زينب (عليها السلام) بالطفل ، وقد غارت
عيناه من شدة العطش ، فقالت : يا أخي هذا ولدك له ثلاثة أيام ما ذاق
الماء ، فاطلب له شربة ماء .
فأخذه الإمام الحسين (عليه السلام) على يده ، وأقبل نحو أهل الكوفة
وقال : (يا قوم : قد قتلتم أخي وأولادي وأنصاري ، وما بقي غير هذا
الطفل ، وهو يتلظى عطشاً ، من غير ذنب أتاه إليكم ، فاسقوه شربةً من
الماء ، ولقد جف اللبن في صدر أمه !
يا قوم ! إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل ، فبينما
ــــــــــــــــــــ (1) كتاب (معالي
السبطين) ، ج 1 ، ص 259 ، المجلس السادس عشر .
الصفحة209
هو يخاطبهم إذا أتاه سهم فذبح الطفل من الأذن إلى الأذن !!
فجعل الإمام الحسين (عليه السلام) يتلقى الدم حتى امتلأت كفه ، ورمى
به إلى السماء ، وخاطب نفسه قائلاً : (يا نفس اصبري واحتسبي فيما
أصابك) ثم قال : إلهي ترى ما حل بنا في العاجل ، فاجعل ذلك ذخيرةً لنا
في الآجل) (1)
. وجاء في بعض كتب التاريخ : أن الإمام الحسين (عليه السلام) لما رجع
بالرضيع مذبوحاً إلى الخيام ، رأى الأطفال والبنات ـ ومعهن أم الرضيع ـ
واقفات بباب الخيمة ينتظرن رجوع الإمام ، لعلهن يحصلن على بقايا من
الماء الذي قد يكون الإمام سقاه لطفله .
فلما رأى الإمام الحسين ذلك ، غير طريقه ، وذهب وراء الخيام ، ونادى
أخته زينب لتأتي وتمسك جثمان الرضيع لكي يخرج الإمام خشبة السهم من نحر
الطفل !!
ويعلم الله ماذا جرى على قلب الإمام الحسين وقلب السيدة زينب
(عليهما السلام) ساعة إخراج السهم من نحر الطفل .
ثم إن الإمام حفر الأرض ودفن طفله الرضيع تحت التراب .
ــــــــــــــــــــ (1) كتاب (معالي
السبطين) ، ج 1 ، ص 259 ، المجلس السادس عشر .
الصفحة210
الصفحة211
الفصل العاشر
الإمام الحسين (عليه السلام) يودع ولده المريض
الإمام الحسين (عليه السلام) يودع السيدة زينب
(عليها السلام)
الإمام الحسين (عليه السلام) يخرج إلى ساحة الجهاد
عودة فرس الإمام الحسين (عليه السلام) إلى المخيم
ذهاب السيدة زينب (عليها السلام) إلى المعركة
الصفحة212
الصفحة213
الإمام الحسين (عليه السلام) يودع ولده
المريض
كانت ساعات يوم عاشوراء تقترب نحو العصر ، دقيقة بعد دقيقة ،
والإمام الحسين (عليه السلام) يعلم باقتراب تلك اللحظة التي يفارق فيها
الحياة بأفجع صورة وأفظع كيفية .
وها هو ينتهز تلك اللحظات ليقوم بما يلزم ، فقد جاء ليودع ولده
البار المريض : الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام .
وكانت السيدة زينب عليها السلام ـ والتي تفايضت صحيفة أعمالها
بالحسنات ـ قد أضافت إلى حسناتها حسنةً أخرى ، وهي تمريض الإمام زين
العابدين (عليه السلام) وتكفل شؤونه .
ودخل الإمام الحسين على ولده في خيمته ، وهو طريح على
الصفحة214
نطع الأديم (1) ، فلا سرير ولا فراش
وثير ، قد امتص المرض طاقات بدنه ، لا طاقات روحه المرتبطة بالعالم
الأعلى .
فدخل عليه ، وعنده السيدة زينب تمرضه ، فلما نظر علي بن الحسين إلى
أبيه أراد أن ينهض فلم يتمكن من شدة المرض ، فقال لعمته :
(سنديني إلى صدرك ، فهذا ابن رسول الله قد أقبل) .
فجلست السيدة زينب خلفه ، وسندته إلى صدرها .
فجعل الإمام الحسين (عليه السلام) يسأل ولده عن مرضه ، وهو يحمد
الله تعالى ، ثم قال : يا أبت ما صنعت اليوم مع هؤلاء المنافقين ؟
فقال له الحسين (عليه السلام) : (يا ولدي إستحوذ عليهم الشيطان ،
فأنساهم ذكر الله ، وقد شب القتال بيننا وبينهم ، حتى فاضت الأرض بالدم
منا ومنهم) .
فقال : يا أبتاه أين عمي العباس ؟
فلما سأل عن عمه إختنقت السيدة زينب بعبرتها، وجعلت تنظر إلى أخيها
كيف يجيبه؟ لأنه لم يخبره ـ قبل ذلك ـ بمقتل العباس خوفاً من أن يشتد
مرضه .
ــــــــــــــــــــ (1) النطع : بساط
من الجلد يفرش تحت الإنسان . الأديم : الجلد المدبوع .
الصفحة215
فقال : (يا بني إن عمك قد قتل ، وقطعوا يديه على شاطئ الفرات) .
فبكى علي بن الحسين بكاءً شديداً حتى غشى عليه ، فلما افاق من غشيته
جعل يسأل أباه عن كل واحد من عمومته ، والحسين (عليه السلام) يقول له :
قتل .
فقال : وأين أخي علي ، وحبيب بن مظاهر ، ومسلم بن عوسجة وزهير بن
القين ؟
فقال له : يا بني ! إعلم أنه ليس في الخيام رجل إلا أنا وأنت ، وأما
هؤلاء الذين تسأل عنهم فكلهم صرعى على وجه الثرى .
فبكى علي بن الحسين بكاءً شديداً ، ثم قال ـ لعمته زينب ـ : يا
عمتاه علي بالسيف والعصا .
فقال له أبوه : وما تصنع بهما ؟
قال : أما العصا فاتوكأ عليها ، وأما السيف فأذب به بين يدي أبن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه لا خير في الحياة بعده .
فمنعه الحسين (عليه السلام) عن ذلك وضمه إلى صدره ، وقال له : يا
ولدي ! أنت أطيب ذريتي ، وأفضل عترتي ، وأنت خليفتي على هؤلاء العيال
والأطفال ، فإنهم غرباء ،
الصفحة216
مخذولون ، قد شملتهم الذلة (1) ،
واليتم ، وشماتة الأعداء ، ونوائب الزمان (2).
سكتهم إذا صرخوا ، وآنسهم إذا استوحشوا ، وسل خواطرهم بلين الكلام ،
فإنه ما بقي من رجالهم من يستأنسون به غيرك ، ولا أحد عندهم يشتكون
إليه حزنهم سواك .
دعهم يشموك وتشمهم ، ويبكوا عليك وتبكي عليهم) .
ثم لزمه بيده وصاح بأعلى صوته : (يا زينب ! ويا أم كلثوم ، ويا رقية
! ويا فاطمة !
إسمعن كلامي ، وأعلمن أن إبني هذا خليفتي عليكم وهو إمام
ــــــــــــــــــــ (1) الذلة على
قسمين : ظاهرية وواقعية ، ولا شك أن المراد من الذلة ـ هنا ـ : الذلة
الظاهرية . . وليست الوكاقعية ، وعلى هذا المعنى يحمل قول الإمام الرضا
(عليه السلام) : (إن يوم الحسين . . . . أذل عزيزن) .
ولعل المقصود من الذلة :
هو وقوع حفيدات النبوة وبنات الإمامة في أسر الأعداء ، ومعاناتهن من
التعامل القاسي من أولئك .
المحقق
(2) النوائب ـ جمع نائبة
ـ : المصائب والمتاعب التي يراها الإنسان طوال حياته . سميت
ب(النوائب) لأن الإنسان كلما تخلص من مصيبة ظهرت في حياته مصيبة أخرى
ومن نوع آخر ، فكأن المصيبة اللاحقة نابت عن المصيبة السابقة ، وحلت
مكانها ، فسميت ب(النائبة) .
المحقق
الصفحة217
مفترض الطاعة) .
ثم قال له : (يا ولدي بلغ شيعتي عني السلام ، وقل لهم : إن أبي مات
غريباً فاندبوه ، ومضى شهيداً فابكوه) (1).
ــــــــــــــــــــ (1) كتاب (الدمعة
الساكبة) للبهبهاني ، طبع لبنان ، عام 1409 هـ ، ج 4 ، ص 351 ـ 352 .
المحقق
الصفحة218
الصفحة219
الإمام الحسين (عليه السلام) يودع السيدة زينب
(عليها السلام)
يعتبر التوديع نوععاً من التزود من الرؤية ، فالمسافر يتزود من رؤية
من سيفارقهم وهم يتزودون من رؤيته ، والوداع يخفف ألم البعد والفراق ،
لأن النفس تكون قد استوفت قسطاً من رؤية الغائب ، وتوطنت على المفارقة
ومضاعفاتها .
ولهذا جاء الإمام الحسين (عليه السلام) ليودع عقائل النبوة ،
ومخدرات الرسالة ، وودائع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
ليودع النساء والأخوات والبنات وأطفاله الأعزاء ، وليخفف عنهم صدمة
مصيبة الفراق .
قد تحدث في هذا العالم حوادث وقضايا يمكن شرحها ووصفها ، وقد تحدث
أمور يعجز القلم واللسان عن شرحها ووصفها ، بل لا يمكن تصورها .
إنني أعتقد أن تلك الدقائق واللحظات ـ من ساعات
|